أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-8-2019
4519
التاريخ: 13-8-2019
4717
التاريخ: 7-8-2019
6439
التاريخ: 10-8-2019
2904
|
قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة : 103 - 106] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة : 103-105] .
خاطب سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمره بأخذ الصدقة من أموالهم ، تطهيرا لهم ، وتكفيرا لسيئاتهم ، فقال : {خذ} يا محمد {من أموالهم} أدخل {من} للتبعيض ، لأنه لم يجب أن يصدق بالجميع ، وإنما قال : {من أموالهم} ، ولم يقل من مالهم ، حتى يشتمل على أجناس المال كلها . وهذا يدل على وجوب الأخذ من سائر أموال المسلمين ، لاستوائهم في أحكام الدين ، إلا ما خصه الدليل .
{صدقة} : قيل أراد بها الأمر بأن يأخذ الصدقة من أموال هؤلاء التائبين ، تشديدا للتكليف ، وليست بالصدقة المفروضة ، بل هي على سبيل الكفارة للذنوب التي أصابوها ، عن الحسن ، وغيره . وقيل : أراد بها الزكاة المفروضة عن الجبائي ، وأكثر أهل التفسير ، وهو الظاهر لأن حمله على الخصوص بغير دليل ، لا وجه له ، فيكون أمرا بأن يأخذ من المالكين للنصاب الزكاة من الورق إذا بلغ مائتي درهم ، ومن الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا ، ومن الإبل إذا بلغت خمسا ، ومن البقر إذا بلغت ثلاثين ، ومن الغنم إذا بلغت أربعين ، ومن الغلات والثمار إذا بلغت خمسة ، أو ستة .
{تطهرهم وتزكيهم بها} معناه : تطهرهم تلك الصدقة عن دنس الذنوب ، وتزكيهم أنت بها أي : تنسبهم إلى الزكاة ، وتدعو لهم بما يصيرون به أزكياء . وقيل : معناه تطهرهم أنت ، وتزكيهم أنت بها ، فيكون كلا الفعلين مضافا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
{وصل عليهم} هذا أمر من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أن يدعو لمن يأخذ منه الصدقة ، ومعناه : أدع لهم بقبول صدقاتهم ، كما يقول الداعي : آجرك الله فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت .
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه كان إذا أتاه قوم بصدقتهم ، قال : اللهم صل عليهم . وقال عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة ، فأتاه ابن أبي أوفى بصدقة فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى ، أورده البخاري ، ومسلم في الصحيح . {إن صلاتك سكن لهم} أي : إن دعواتك مما تسكن نفوسهم إليه .
وقيل : رحمة لهم ، عن ابن عباس . وقيل : وقار وطمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم ، عن قتادة والكلبي . وقيل : تثبيت لهم عن أبي عبيدة {والله سميع عليم} يسمع دعاءك لهم ، ويعلم ما يكون منهم في الصدقات .
{ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} استفهام يراد به التنبيه على ما يجب أن يعلم ، فالمخاطب إذا رجع إلى نفسه ، وفكر فيما نبه عليه ، علم وجوبه ، وإنما وجب أن يعلم أن الله يقبل التوبة ، لأنه إذا علم ذلك ، كان ذلك داعيا إلى فعل التوبة ، والتمسك بها ، والمسارعة إليها . وما هذه صورته يجب العلم به ليحصل به الفوز بالثواب ، والخلاص من العقاب . والسبب فيه أنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أن يأخذ من أموالهم ما يكون كفارة لذنوبهم ، امتنع من ذلك انتظارا لإذن من الله سبحانه فيه ، فبين الله أنه ليس قبول التوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن ذلك إلى الله ، عز اسمه ، فإنه الذي يقبلها .
{ويأخذ الصدقات} أي : يتقبلها ، ويضمن الجزاء عليها . قال الجبائي : جعل الله أخذ النبي والمؤمنين للصدقات ، أخذا من الله على وجه التشبيه والمجاز ، من حيث كان بأمره . وقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال : إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل . والمراد بذلك أنها تنزل هذا التنزيل ترغيبا للعباد في فعلها ، وذاك يرجع إلى تضمن الجزاء عليها {وأن الله هو التواب الرحيم} عطف على ما قبله ، ولذلك فتح {أن} وقد مر تفسيره {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} : هذا أمر من الله سبحانه لنبيه أن يقول للمكلفين : اعملوا ما أمركم الله به ، عمل من يعلم أنه مجازى على فعله ، فإن الله سيرى عملكم ، وإنما أدخل سين الاستقبال ، لأن ما لم يحدث لا يتعلق به الرؤية ، فكأنه قال : كل ما تعملونه يراه الله تعالى . وقيل : أراد بالرؤية هاهنا العلم الذي هو المعرفة ، ولذلك عداه إلى مفعول واحد ، أي : يعلم الله تعالى ذلك فيجازيكم عليه ، ويراه رسوله أي : يعلمه فيشهد لكم بذلك عند الله تعالى ، ويراه المؤمنون : قيل : أراد بالمؤمنين الشهداء . وقيل : أراد بهم الملائكة الذين هم الحفظة الذين يكتبون الأعمال .
وروى أصحابنا : إن أعمال الأمة تعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، في كل اثنين وخميس ، فيعرفها ، وكذلك تعرض على أئمة الهدى عليهم السلام فيعرفونها ، وهم المعنيون بقوله : {والمؤمنون} وإنما قال {سيرى الله} مع أنه سبحانه عالم بالأشياء قبل وجودها ، لأن المراد بذلك أنه سيعلمها موجودة بعد أن علمها معدومة ، وكونه عالما بأنها ستوجد ، هو كونه عالما بوجودها إذا وجدت ، لا يتجدد حال له بذلك {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} أي : سترجعون إلى الله الذي يعلم السر ، والعلانية . {فينبئكم} أي : يخبركم {بما كنتم تعملون} ، ويجازيكم عليه .
- { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 106] .
عطف سبحانه على ما قبله من قوله : {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} فقال : {وآخرون مرجون لأمر الله} أي : مؤخرون موقوفون لما يرد من أمر الله تعالى فيهم {إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} لفظة {إما} وقوع أحد الشيئين ، والله سبحانه عالم بما يصير إليه أمرهم ، ولكنه سبحانه خاطب العباد بما عندهم ، ومعناه : ولكن كان أمرهم عندكم على هذا أي : على الخوف والرجاء .
وهذا يدل على صحة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة ، لأنه سبحانه بين أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى الله تعالى ، إن شاء عذبهم ، وإن شاء قبل توبتهم ، فعفا عنهم ، ويدل أيضا على أن قبول التوبة تفضل من الله سبحانه ، لأنه لو كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة {والله عليم} بما يؤول إليه حالهم {حكيم} فيما يفعله بهم .
________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج5 ، ص 117-120 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :
{ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها } . اتفقوا على أن ضمير ( بها ) يعود إلى الصدقة ، واختلفوا في ضمير ( أموالهم ) ، فقيل : يعود إلى الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . وقيل : بل يعود إلى جميع الأغنياء ، لأن الآية نزلت في الزكاة المفروضة . وهذا القول أقرب إلى الاعتبار ، وعليه يكون المعنى خذ يا أيها الرسول الزكاة من أموال الأغنياء فإنها مطهرة لهم من دنس البخل بحق اللَّه . وتكلمنا عن الزكاة عند تفسير الآية 60 من هذه السورة ، وفي ج 1 ص 428 عند تفسير الآية 274 من سورة البقرة .
{ وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } . المراد بالصلاة هنا الدعاء ، والسكن راحة النفس ، والمعنى ادع أيها الرسول لمن يؤدي الزكاة بالبركة والمغفرة فإنه يغتبط بدعائك ، وترتاح نفسه إليه { واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يسمع ويستجيب دعاءك للمزكين ، ويعلم نية من يؤدي الزكاة عن طيب نفس تقربا إلى اللَّه وحده .
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهً هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ } . ويومئ السياق إلى أن التوبة ذكرت هنا للإشارة إلى أن من منع الزكاة ، ثم تاب وأداها كاملة فإن اللَّه يقبل توبته ، ويأخذ صدقته ، ومعنى أخذه لها انه جلَّت كلمته يثيب عليها ، فقد جاء في الحديث : « ان الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل » . وكف الرحمن كناية عن قبوله لها { وأَنَّ اللَّهً هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } أي يقبل التوبة ، ويرحم التائبين .
{ وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ } . ذكر هذه الآية محيي الدين بن العربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية ، وشرحها بكلام هذا توضيحه وتلخيصه : ان معنى الرؤية يختلف باختلاف الرائي ، فمعنى الرؤية من اللَّه للشيء ان يحيط به علما من جميع جهاته ، ومعناها من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ان يعلم الشيء المرئي من وجهة الوحي الذي نزل عليه ، ومعناها من المؤمن العارف أن يعلمه بقدر ما علم وفهم من الوحي المنزل على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) . . وعلى هذا فمن عمل للَّه فان اللَّه يعلم حقيقة عمله ، ويرضى عنه ، والرسول يعلم أيضا أن هذا العمل مرضي عند اللَّه ، والمؤمن العارف أيضا يعلم أنه مرضي عند الرسول ، والنتيجة الحتمية لذلك ان من يعمل صالحا فهو مرضي عند اللَّه والرسول والمؤمنين .
{ وسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . تقدم نظيره مع تفسيره في الآية 94 من هذه السورة .
{ وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } . ذكر سبحانه في الآية 100 وما بعدها أربعة أصناف : السابقين إلى الهجرة والنصرة ، والتابعين لهم بإحسان ، والمنافقين ، والمعترفين بذنوبهم . . وأشار في هذه الآية إلى قوم لم يحددهم بصفاتهم كما فعل في الأصناف الأربعة ، ولم يصرح بحكمهم في هذه الآية ، وانما قال : انهم مؤجّلون إلى عذاب اللَّه أو مغفرته ، أي ان أمرهم موكول إليه وحده ، وقد أبهمه عليهم وعلى الناس ، وقد تكون الحكمة في هذا الإبهام ان يترددوا بين الخوف والرجاء ، فلا يطمعوا ولا ييأسوا { واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } عليم بما يصلح هؤلاء وغيرهم ، وحكيم في إرجاء النص على حكمهم ، وفي كل ما يفعل .
وقال كثير من المفسرين : ان هذه الآية نزلت في جماعة من المسلمين تخلفوا عن الرسول في غزوة تبوك ، ثم ندموا . . وقد نصت الآية الآتية 118 على أن ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن الخروج إلى تبوك مع رسول اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم تابوا ، وان اللَّه قبل توبتهم ، وأعلن قبولها ، ولم يدعهم في التردد بين الخوف والرجاء . .
هذا ما بدا لنا عند تفسير الآية التي نحن بصددها ، ولا ندري ما نجد من المعاني حين يسيطر جو الآية 118 . فإلى هناك .
_____________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 98-99 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم﴾ التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشيء ليصفى وجوده ويستعد للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته ، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات كالشجر يقطع الزوائد من فروعها فتزيد في حسن نموها وجودة ثمرتها فالجمع بين التطهير والتزكية في الآية من لطيف التعبير .
فقوله : ﴿خذ من أموالهم صدقة﴾ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الصدقة من أموال الناس ولم يقل : من مالهم ليكون إشارة إلى أنها مأخوذة من أصناف المال ، وهي النقدان : الذهب والفضة ، والأنعام الثلاثة : الإبل والبقر والغنم ، والغلات الأربع : الحنطة والشعير والتمر والزبيب .
وقوله : ﴿تطهرهم وتزكيهم بها﴾ خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وليس وصفا لحال الصدقة ، والدليل عليه ضمير بها الراجع إلى الصدقة أي خذ يا محمد من أصناف أموالهم صدقة تطهرهم أنت وتزكيهم بتلك الصدقة أي أخذها .
وقوله : ﴿وصل عليهم﴾ الصلاة عليهم هي الدعاء لهم والسياق يفيد أنه دعاء لهم ولأموالهم بالخير والبركة وهو المحفوظ من سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان يدعو لمعطي الزكاة ولماله بالخير والبركة .
وقوله : ﴿إن صلاتك سكن لهم﴾ السكن ما يسكن إليه الشيء والمراد به أن نفوسهم تسكن إلى دعائك وتثق به وهو نوع شكر لسعيهم في الله كما أن قوله تعالى في ذيل الآية : ﴿والله سميع عليم﴾ سكن يسكن إليه نفوس المكلفين ممن يسمع الآية أو يتلوها .
والآية تتضمن حكم الزكاة المالية التي هي من أركان الشريعة والملة على ما هو ظاهر الآية في نفسها ، وقد فسرتها بذلك أخبار متكاثرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وغيرهم .
قوله تعالى : ﴿ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وإن الله هو التواب الرحيم﴾ استفهام إنكاري بداعي تشويق الناس إلى إيتاء الزكاة ، وذلك أنهم إنما يؤتون الصدقة لله وإنما يسلمونها إلى الرسول أو إلى عامله وجابيه بما أنه مأمور من قبل الله في أخذها فإيتاؤه إيتاء لله ، وأخذه أخذ من الله فالله سبحانه هو الأخذ لها بالحقيقة ، وقد قال تعالى في أمثاله : ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم﴾ [الفتح : 10] وقال : ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ [الأنفال : 13] وقال قولا عاما : ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ [النساء : 80] .
فإذا ذكر الناس بمثل قوله : ﴿ألم يعلموا أن الله﴾ الآية ، انبعثت رغباتهم واشتاقوا أن يعاملوا ربهم فيصافحوه ويمسوا بأيديهم يده تنزه عن عوارض الأجسام وتعالى عن ملابسة الحدثان .
ومقارنته الصدقة بالتوبة لما أن التوبة تطهر وإيتاء الصدقة تطهر فالتصدق بصدقة توبة مالية كما أن التوبة بمنزلة الصدقة في الأعمال والحركات ، ولذلك عطف على صدر الآية قوله ذيلا : ﴿وإن الله هو التواب الرحيم﴾ فذكر عباده باسميه التواب والرحيم ، وجمع فيهما التوبة والتصدق .
وقد بان من الآية أن التصدق وإيتاء الزكاة نوع من التوبة .
قوله تعالى : ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾ الآية ، الآية على ظاهر اتصالها بما قبلها كأنها تخاطب المؤمنين وتسوقهم وتحرضهم إلى إيتاء الصدقات .
غير أن لفظها مطلق لا دليل على تخصيص خطابها بالمتصدقين من المؤمنين ولا بعامة المؤمنين بل هي تشمل كل ذي عمل من الناس من الكفار والمنافقين والمؤمنين ولا أقل من شمولها للمنافقين والمؤمنين جميعا .
إلا أن نظير الآية الذي مر أعني قوله في سياق الكلام على المنافقين : ﴿وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ [التوبة : 94] حيث ذكر الله ورسوله في رؤية عملهم ولم يذكر المؤمنين لا يخلو من إيماء إلى أن الخطاب في الآية التي نحن فيها للمؤمنين خاصة فإن ضم إحدى الآيتين إلى الأخرى يخطر بالبال أن حقيقة أعمال المنافقين أعني مقاصدهم من أعمالهم لما كانت خفية على ملإ الناس فإنما يعلم بها الله ورسوله بوحي من الله تعالى ، وأما المؤمنون فحقائق أعمالهم أعني مقاصدهم منها وآثارها وفوائدها التي تتفرع عليها وهي شيوع التقوى وإصلاح شئون المجتمع الإسلامي وإمداد الفقراء في معايشهم وزكاة الأموال ونماؤها يعلمها الله تعالى ورسوله ويشاهدها المؤمنون فيما بينهم .
لكن ظهور الأعمال بحقائق آثارها وعامة فوائدها أو مضراتها في محيط كينونتها وتبدلها بأمثالها وتصورها في أطوارها زمانا بعد زمان وعصرا بعد عصر مما لا يختص بعمل قوم دون عمل قوم ، ولا مشاهدتها والتأثر بها بقوم دون قوم .
فلو كان المراد من رؤية المؤمنين أعمالا لعاملين ظهور آثارها ونتائجها وبعبارة أخرى ظهور أنفسها في ألبسة نتائجها لهم لم يختص المشاهدة بقوم دون قوم ولا بعمل قوم دون عمل قوم فما بال الأعمال يراها المؤمنون ولا يراها المنافقون وهم أهل مجتمع واحد؟ وما بال أعمال المنافقين لا يشاهدها المؤمنون وقد كونت في مجتمعهم وداخلت أعمالهم؟ .
وهذا مع ما في الآية من خصوص السياق مما يقرب الذهن أن يفهم من الآية معنى آخر فإنه قوله : ﴿وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ يدل أولا على أن قوله : ﴿فسيرى الله عملكم﴾الآية ناظر إلى ما قبل البعث وهي الدنيا لمكان قوله : ﴿وستردون﴾ فإنه يشير إلى يوم البعث وما قبله هو الدنيا .
وثانيا : أنهم إنما يوقفون على حقيقة أعمالهم يوم البعث وأما قبل ذلك فإنما يرون ظاهرها ، وقد نبهنا على هذا المعنى كرارا في أبحاثنا السابقة ، وإذ قصر علمهم بحقائق أعمالهم على إنبائه تعالى إياهم بها يوم القيامة وذكر رؤية الله ورسوله والمؤمنين أعمالهم قبل يوم البعث في الدنيا وقد ذكر الله مع رسوله وغيره وهو عالم بحقائقها وله أن يوحي إلى نبيه بها كان المراد بها مشاهدة الله سبحانه ورسوله والمؤمنون حقيقة أعمالهم ، وكان المراد بالمؤمنين شهداء الأعمال منهم لا عامة المؤمنين كما يدل عليه أمثال قوله تعالى ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ [البقرة : 143] وقد مر الكلام فيه في الجزء الأول من الكتاب .
وعلى هذا فمعنى الآية : وقل يا محمد اعملوا ما شئتم من عمل خيرا أو شرا فسيشاهد الله سبحانه حقيقة عملكم ويشاهدها رسوله والمؤمنون - وهم شهداء الأعمال - ثم تردون إلى الله عالم الغيب والشهادة يوم القيامة فيريكم حقيقة عملكم .
وبعبارة أخرى : ما عملتم من عمل خير أو شر فإن حقيقته مرئية مشهودة لله عالم الغيب والشهادة ثم لرسوله والمؤمنين في الدنيا ثم لكم أنفسكم معاشر العاملين يوم القيامة .
فالآية مسوقة لندب الناس إلى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أن لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر ، وإن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها ، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم كما قال : ﴿لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد﴾ [ق : 22] ففرق عظيم بين أن يأتي الإنسان بعمل في الخلوة لا يطلع عليه أحد ، وبين أن يعمل ذلك العمل بعينه بين ملإ من الناظرين جلوة وهو يرى أنه كذلك .
هذا في الآية التي نحن فيها ، وأما الآية السابقة : ﴿يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾ فإن وجه الكلام فيها إلى أشخاص من المنافقين بأعيانهم يأمر الله فيها نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد إليهم اعتذارهم ، ويذكر لهم أولا أن الله قد نبأهم أي النبي والذين معه من المؤمنين في جيش الإسلام أخبارهم بنزول هذه الآيات التي تقص أخبار المنافقين وتكشف عن مساوي أعمالهم .
ثم يذكر لهم أن حقيقة أعمالهم غير مستورة عن الله سبحانه ولا خفية عليه وكذلك رسوله وحده ولم يكن معه أحد من شهداء الأعمال ثم الله يكشف لهم أنفسهم عن حقيقة أعمالهم يوم القيامة .
فهذا هو الفرق بين الآيتين مع اتحادهما في ظاهر السياق حيث ذكر في الآية التي نحن فيها : الله ورسوله والمؤمنون ، وفي الآية السابقة : الله ورسوله ، واقتصر على ذلك .
فهذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية ومن لم يقنع بذلك ولم يرض دون أن يصور للآية معنى ظاهريا فليقل إن ذكره تعالى ﴿الله ورسوله﴾ في خطاب المنافقين إنما هو لأجل أنهم إنما يريدون أن يكيدوا الله ورسوله ولا هم لهم في المؤمنون ، وأما ذكره تعالى : ﴿الله ورسوله والمؤمنين﴾ في الخطاب العام فإنما الغرض فيه تحريضهم على العمل الصالح في مشهد من الملإ الصالح ولم يعبأ بحال غيرهم من الكفار والمنافقين .
فتدبر ، قوله تعالى : ﴿وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم﴾ الإرجاء التأخير ، والآية معطوفة على قوله : ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ ومعنى إرجائهم إلى أمر الله أنهم لا سبب عندهم يرجح لهم جانب العذاب أو جانب المغفرة فأمرهم يئول إلى أمر الله ما شاء وأراد فيهم فهو النافذ في حقهم .
وهذه الآية تنطبق بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم كالبرزخ بين المحسنين والمسيئين ، وإن ورد في أسباب النزول أن الآية نازلة في الثلاثة الذين خلفوا ثم تابوا فأنزل الله توبتهم على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيجيء إن شاء الله تعالى .
وكيف كان فالآية تخفي ما يئول إليه عاقبة أمرهم وتبقيها على إبهامها حتى فيما ذيلت به من الاسمين الكريمين : العليم والحكيم الدالين على أن الله سبحانه يحكم فيهم بما يقتضيه علمه وحكمته ، وهذا بخلاف ما ذيل قوله : ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ حيث قال : ﴿عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾ .
________________________
1 . تفسير الميزان ، ج9 ، ص 314-318 .
تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [التوبة : 103-105] .
الزّكاة مطهرة للفرد والمجتمع :
في الآية الأولى من هذه الآيات إشارة إلى أحد الأحكام الإسلامية المهمّة ، وهي مسألة الزكاة ، حيث تأمر النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بشكل عام أن {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} .
إنّ كلمة (من) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكل- دائما- جزءا من الأموال ، لا أنّها تستوعب جميع الأموال ، أو الجزء الأكبر منها .
ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة ، حيث تقول : {تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِها} فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية ، ومن حبّ الدنيا وعبادتها ، ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق ، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم . وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إلى وجود طبقة محرومة ، كل هذه الأمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإلهية وأدائها ، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به ، وكذلك سيفعّل التكافل الاجتماعي ، وينمو ويتطور الإقتصاد في ظل مثل هذه البرامج .
وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أخرى ، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضا ، ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ ما يمكن قوله في الزكاة ، فهي تزيل الشوائب من جهة ، ووسيلة للتكامل من جانب آخر .
ويحتمل أيضا في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهّرهم) هو الزكاة ، وفاعل (تزكيهم) (النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم) ، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو: إنّ الزكاة تطهرهم ، وإن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم هو الذي يربيهم ويزكيهم .
إلّا أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ، كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية ، رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة .
ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم {وصَلِّ عَلَيْهِمْ} . إنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم ، حتى إذا كان ما يؤدونه واجبا عليهم وحكما شرعيا يقومون به ، وترغيبهم بكل الطرق ، وخاصّة المعنوية والنفسية ، ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عند ما كانوا يأتون بالزكاة إلى النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يدعو لهم يقول : «اللهم صل عليهم» «2» .
ثمّ تقول الآية : {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإلهية عليهم ، وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها .
مضافا إلى ثناء النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم ، بحيث يشعرون بأنّهم إن فقدوا شيئا بحسب الظاهر ، فإنّهم قد حصلوا- قطعا- على ما هو أفضل منه .
اللطيف في الأمر ، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم ، إلّا أنّ هذا الحكم الذي شرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإسلامية يعكس عمق الجانب الإنساني في هذه الأحكام .
وفي نهاية الآية نقرأ : {واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ، إذ أن اللّه سبحانه يسمع دعاء النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة .
ولمّا كان بعض المذنبين- كالمتخلفين عن غزوة تبوك- يصرّون على النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم في قبول توبتهم ، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطا بالنّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ، بل باللّه الغفور الرحيم ، لذا قالت : {أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} . ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول اللّه لها ، بل إنّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأخرى التي يعطيها العباد تقربا إليه ، أو تكفيرا لذنوبهم : ويَأْخُذُ الصَّدَقاتِ .
لا شكّ في أنّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم أو الإمام المعصوم عليه السّلام أو خليفة المسلمين وقائدهم ، أو الأفراد المستحقون ، وفي كلّ هذه الأحوال فإنّ اللّه تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهرا ، ولكن لمّا كانت يد النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم والنّواب الحقيقيين يد اللّه سبحانه- لأنّهم خلفاء اللّه ووكلاؤه- قالت الآية: إنّ اللّه يأخذ الصدقات . وكذلك العباد المحتاجون ، فإنّهم يأمر اللّه يأخذون مثل هذه المساعدات ، وهم في الحقيقة وكلاء اللّه ، وعلى هذا فإنّ يدهم يد اللّه أيضا .
إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي- أي الزكاة- فبالرغم من ترغيب كلّ المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة ، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إليه ، لأنّ من يأخذها هو اللّه عزّ وجلّ ، وإنّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال ، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين ، أو إعطائه الزكاة بشكل يؤدي إلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة ، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلّ أدب وخضوع ، كما يوصل العبد شيئا إلى مولاه .
ففي رواية عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم: «إنّ الصدقة تقع في يد اللّه قبل أن تصل إلى يد السائل» «3» !
وفي حديث آخر عن الإمام السّجاد عليه السّلام: «إنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب» «4» .
بل إنّ رواية صرّحت بأنّ كلّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلّا الصدقة ، فإنّها تصل مباشرة إلى يد اللّه سبحانه «5» .
هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيت عليهم السّلام بعبارات مختلفة ، ونقل أيضا عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم عن طريق العامّة ، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري: «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب- ولا يقبل اللّه إلّا الطيب- إلّا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت تمرة ، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» «6» .
إنّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات ، والعظيم المعنى ، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإسلامية .
لقد وردت عبارات حديثية أخرى في هذا المجال ، وهي مهمّة وملفتة للنظر إلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم ، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته .
فمثلا نجد في بعض الأحاديث ، أن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام كانوا أحيانا يقبلون الصّدقة احتراما وتعظيما للصدقة ، ثمّ يعطونها الفقراء ، أو إنّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إليه ، لماذا ؟ لأنّهم وضعوها في يد اللّه سبحانه ! وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير ، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة ، بل ويرمون مساعدتهم أحيانا بلا أدب وخلق ؟!
وكما قلنا في محلّة ، فإنّ الإسلام يسعى بكلّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإسلامي ، إلّا أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلّ مجتمع أفرادا عاجزين أطفال ، يتامى ، مرضى . . . وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل ، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء ، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم .
ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد : {وأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
- { وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 106] .
في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيدا عاقبة أمرهم ، فلا هم مستحقون حتما للرحمة الإلهية ، ولا من المغضوب عليهم حتما ، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم : {وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} .
«مرجون» مأخوذ من مادة (إرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف ، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل ، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئا ما أحيانا رجاء تحقق هدف من هذا التأخير ، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير ، إلّا أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل .
إنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة ، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يكتبون من الأشقياء ، بل يوكل أمرهم إلى اللطف الإلهي كيف سيعامل هؤلاء ، وهذا طبعا حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم .
وتضيف الآية- بعد ذلك- أنّ اللّه سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ، بل يقتضي بعلمه وحكمته : {واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
سؤال :
وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية ، وهو ما الفرق بين هذه الفئة ، والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية (102) من هذه السورة؟ فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين ، وكلا المجموعتين تابوا ، لأنّ المجموعة الأولى اعترفوا بذنوبهم ، وأظهروا الندم عليها ، والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى : {وإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} . وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء .
وللجواب على هذا السؤال نقول: إنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين :
1- إنّ الطائفة الأولى تابوا بسرعة ، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة ، فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد ، وبعبارة موجزة : إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم صريحا ، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت .
أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية ، ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم ، ولم يظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم ، فهم في الواقع كانوا يطمحون إلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر .
إنّ هؤلاء- ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أشير إليهم ، وسيأتي بيان وضعهم- بقوا في حالة الخوف والرجاء ، ولهذا نرى أنّ النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم ، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل ، ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية ، فقد بقي النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم في انتظار الوحي ، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوما أو أقل .
ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأولى قد ختمت بقوله : {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وهو دليل على قبول توبتهم ، أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة : {واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التي لا تدل من قريب أو بعيد على قبول توبتهم .
ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافيا لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة ، خاصّة في عصر نزول الآيات ، بل يشترط مع ذلك الإقدام على الاعتراف الصريح بالذنب ، والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته ، وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة .
2- الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين ، هو أنّ الطائفة الأولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير ، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إلى الأعداء ، إلّا أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء ، ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل اللّه توبتهم . غير أن قتل حمزة وأمثاله لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه ، ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر اللّه وإرادته ، إمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم .
وعلى أي حال ، فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول ، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك ، أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ، والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما «7» .
ولو دققنا النظر حقا لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين ، ويمكن أن يكون كل منهما مقصودا في تفسير الآية .
_______________________
1. تفسير الأمثل ، ج5 ، ص 349-360 .
2. نيل الأوطار للشوكاني ، ج4 ، ص 217 .
3. مجمع البيان ، ذيل الآية .
4. تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية .
5. تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية .
6. تفسير المنار ، ج 11 ، ص 33 . وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيت عليهم السّلام عن الإمام الصادق عليه السّلام أيضا .
7. للاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 265 ، وتفسير البرهان ، ج 2 ، ص 106 .
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|