أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-02-2015
12534
التاريخ: 24-02-2015
1842
التاريخ: 25-02-2015
24310
التاريخ: 24-02-2015
1780
|
أقسم سبحانه بلفظ « رب » بصور مختلفة :
تارة حلف به بلفظ « فلا وربك »
وأُخرىٰ حلف به مقروناً بلفظ ( لا ) وقال : « فلا أُقسم ».
وثالثة حلف به بلفظ « فوربّك ».
ورابعة بلفظ « بلى وربّي ».
وخامسة بلفظ « اي وربي ».
وسادسة بلفظ « فوربّ السماء والأرض ».
وعلى أية حال فالمقسم به هو الرب ، وإليك الآيات :
1. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء : 65].
2. {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [المعارج : 40، 41].
3. { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم : 68].
4. {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر: 92، 93].
5. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ : 3].
(صلى الله عليه واله). { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن : 7].
7. {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس : 53].
8. {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات : 23].
تشير الآية الأُولىٰ إلى مقام من مقامات النبي (صلى الله عليه واله) ، فانّ له ـ حسب ما دلّ عليه الكتاب والسنة في إدارة رحى المجتمع ـ مقامات ثلاثة :
أ : السياسية وتدبير الأُمور : يقول سبحانه : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج : 41]. ويقول في حقّ النبي خاصة : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب : 6] وليس الأولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم فضلاً عن أموالهم غير السائس الحاكم العام.
ب : القضاء وفضُّ الخصومات : يقول سبحانه في حقّ داود : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص : 26] وفي حقّ النبي (صلى الله عليه واله) بقوله : {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة : 42].
ج : الإفتاء وبيان الأحكام : يقول سبحانه : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } [النساء : 176] وقد كان الرسول ـ بنص هذه الآيات ـ جامعاً لهذه المقامات الثلاثة فكان سائساً وحاكماً ، وقاضياً وفاضّاً للخصومات ، ومفتياً ومبيّناً للأحكام.
ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقق إلاّ بقضاء قاض مطاع رأيه ونافذ فصله ، وقد كان بعض المنتمين إلى الإسلام لم يعيروا أهمية لقضائه ، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وانّ كلّ رسول واجب الطاعة. يقول سبحانه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء : 64].
ثمّ تشير الآية التالية إلى أنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع والتسليم القلبي لما يقضي به النبي (صلى الله عليه واله) ، فمن شهد الشهادتين وأذعن بهما ، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبي (صلى الله عليه واله) وأمره فليس بمؤمن ، يقول سبحانه : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء : 65] فالآية تدل على أنّ الإيمان لا يكتمل بنفس الإذعان واليقين بالتوحيد والرسالة ما لم ينضم إليه التسليم القلبي ، ولذلك ترى أنّ أمير المؤمنين علياً 7 يصف الإسلام بالنحو التالي ، ويقول : « لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم » (1).
وتشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين ( خَيْرًا مِّنْهُمْ ) ، من دون أن يكون مغلوباً ، قال : {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج : 40، 41].
فجواب القسم قوله ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) وقوله ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) عطف علىٰ جواب القسم ، والمراد بالسبق الغلبة ، أي وما نحن بمغلوبين ويمكن أن يكون السبق بمعناه والمراد : وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.
والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أنّ للشمس في كل يوم من أيام السنة الشمسية مشرقاً ومغرباً لا تعود إليهما إلىٰ مثل اليوم من السنة القابلة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها.
ومن عجيب الأمر أنّ في الآية علىٰ قصرها وجوهاً من الالتفات.
ففي قوله : ( فَلا أُقْسِمُ ) التفات من التكلم مع الغير الوارد في قوله : { إِنَّا خَلَقْنَاكُم } إلى التكلم وحده ، والوجه فيه تأكيد القسم باسناده إلى الله نفسه.
وفي قوله : { بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ } التفات من التكلم وحده إلى الغيبة ، والوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل ، وهي ربوبيته للمشارق والمغارب ، فانّ الشروق بعد الشروق ، والغروب بعد الغروب ، يلازم مرور الزمان الذي له مدخلية تامّة في تكوّن الإنسان جيلاً بعد جيل وسائر الحوادث العرضية المقارنة له.
وفي قوله : ( إِنَّا لَقَادِرُونَ ) التفات (2) من الغيبة إلى التكلم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة ، وفي ذكر ربوبيته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شيء من الحوادث التي هي أفعاله ، عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، والله سبحانه لا شريك له في أمر التدبير (3).
وأمّا الآية الثالثة : فلما ذكر سبحانه الوعد والوعيد والبعث والنشور أردفه بقول منكر البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال : { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم : 67] والمراد أو لا يذكر أنّ النشأة الأُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ، ثمّ أكده بقوله : « فوربك » يا محمد « لنحشرنّهم والشياطين » أي لنجمعنهم ولنبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين.
وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يندد بالمقتسمين ، ويقول : {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر: 90] ثمّ يصفهم بقوله : {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر : 91] والعضين جمع عضّة والتعضية التفريق ، فهم الذين جزّأوا القرآن أجزاء فقالوا تارة : سحر ، وأُخرى : أساطير الأوّلين ، وثالثة : مفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين الله ، وعلى ذلك يكون المراد من المقتسمين هم كفار قريش.
ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى الذين فرّقوا القرآن أجزاء وأبعاضاً ، وقالوا : نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وعلىٰ أيّة حال الذين كانوا بصدد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ليصدوا عن سبيل الله فهؤلاء هم المقصودون ، ثمّ حلف سبحانه وقال : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر : 92، 93] من تبعيض القرآن وصد الناس عن الإيمان به.
وأمّا الآية الخامسة : فتذكر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه سبحانه وعلمه بكلّ شيء.
وقد كان سبب إنكارهم هو زعمهم أنّ الإنسان يبلىٰ جسده بعد الموت وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى على نحو لا تتميز ، فكيف يمكن إعادته ؟ فأجاب سبحانه في الآية مشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ : 3].
فقوله : { لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } حكاية لقول المشركين.
وقوله : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي } أمر للنبي (صلى الله عليه واله) بأن يجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي.
وأمّا ما تشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض فهو أمر سهل أمام سعة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فهو يعلم بذرات بدن كلّ إنسان ويميّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين لا تتغير ولا تتبدل.
وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه : {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن : 7].
تشير الآية إلى إنكار الوثنيين الذين كانوا ينكرون البعث ، فأمر النبي (صلى الله عليه واله) بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نفوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقسم واللام والنون وقال : { وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ }.
وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالىٰ ، وانّ ما طرحوه من شبهات حول البعث فهي ـ في الواقع ـ شبهات لا تصمد أمام قدرة الله وعلمه الواسع.
وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس : 53].
سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبي (صلى الله عليه واله) عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يجيب مؤكداً ، فقال : { قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ } وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية ، و « انّ » المشبهة و « اللام ، » ثم أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال : {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ، وفي سورة المعارج قال مكانه : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }.
وأمّا الآية الثامنة : {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات : 23].
فالضمير في قوله : « إنّه » يعود إلى الرزق والوعد الواردين في الآية المتقدّمة ، قال سبحانه : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } والمراد من الوعد هو الجنة.
ثمّ أشار { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } وكما أنّ العلم بهذا الأمر ـ أي النطق ـ أمر ملموس لا شبهة فيه ، فهكذا الرزق والوعد من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
حكى الزمخشري عن الأصمعي قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليّ فتلوت « والذاريات » فلمّا بلغت قوله : { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ } قال : « حسبك » ، فقام إلى ناقته ، فنحرها ووزّعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولّىٰ ، فلما حججت مع الرشيد ، طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ فسلّم عليَّ واستقرأ السورة ، فلمّا بلغت الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } فصاح ، وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤه إلى اليمين ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نفسه (2).
إلى هنا تمّ تفسير الآيات التي أقسم فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المقسم به ، والمقسم عليه.
إنّ المقسم به في هذه الآيات الثمان هو الرب ، والربّ أصله من ربب ، يقول صاحب القاموس : ربّ كلّ شيء مالكه ومستحقه وصاحبه ، يقال : ربّ الأمر أصلحه.
يقول ابن فارس : الرب ، المالك ، الخالق ، الصاحب ، والرب المصلح للشيء ، يقال : ربّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها.
والربّ المصلح للشيء ، والله جلّ ثناؤه ، الرب لأنّه مصلح أحوال خلقه ، والراب الذي يقوم على أمر الربيب.
هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرب معاني مختلفة ، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ، وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن ، ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد والجميع مصاديق متعددة لهذا المعنى أو صور مبسطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :
1. التربية : مثل رب الولد ، رباه.
2. الإصلاح والرعاية : مثل رب الضيعة.
3. الحكومة والسياسة : مثل فلان قد ربّ قومه ، أي ساسهم وجعلهم ينقادون له.
4. المالك : كما جاء في الخبر ، عن النبي (صلى الله عليه واله) أرب غنم أم رب إبل.
5. الصاحب : مثل قوله : رب الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش : 3].
لا ريب انّ هذه اللفظة قد استعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو من فوض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها ربّ الدار ، فلأنّ أمرها مفوض إليه ، ولو أطلق على المصلح والسائس ، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرف ، فلو قال يوسف في حقّ عزيز مصر : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف : 23] ، فلأجل انّ يوسف نشأ في إحضانه وقام بشؤونه.
ولو وصف القرآن اليهود والنصارىٰ بأنّهم اتخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال : {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } [التوبة : 31] ، فلأجل انّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا.
إنّه سبحان وصف نفسه ، بقوله : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرعد : 16] وقال أيضاً : {رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم : 49] كلّ ذلك لانّه تعالىٰ مدبرها ومديرها ومصلح شؤونها والقائم عليها.
وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرب ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد. أعني : من فوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق والتدبير والتربية ، وبذلك يعلم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فانّه خلط بين المعنى ولازمه فالخالق ليس من معاني الرب.
نعم خالق كلّ شيء يعدّ مربياً ومدبراً.
وثمة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيين قسَّموا التوحيد إلى التوحيد في الربوبية والتوحيد في الالوهية ، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقية ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ؛ وفسروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبود واحد ولكنّهم اخطأوا في كلا الاصطلاحين.
أمّا الأوّل : فلأنّ التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية ، فانّ الخالقية شيء والتدبير والإصلاح شيء آخر ، والله سبحانه وإن كان خالقاً ومدبراً لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومين في الخارج.
فالعرب في عصر الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية ، وكان منطق الجميع ، ما حكاه سبحانه بقوله : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف : 9].
وفي الوقت نفسه لم يكونوا موحدين في الربوبية ، يقول سبحانه : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم : 81] فكانوا يعتقدون بأنّ العزّة والتدبير من شؤون المدبر ، قال سبحانه : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ } [يس : 74]. فكانوا يرون أنّ النصر بيد الإلهة ، خلافاً للموحد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزّة والنصر بيد الله سبحانه : قال تعالى : {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر : 10] وقال تعالى : {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران : 126] إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشرك في أمر التدبير.
وأمّا الثاني : فلأنّ التوحيد في الالوهية غير العبادة ، فهو مبني علىٰ أنّ الإله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الإله.
ولكنّه بعيد عن الصواب ، لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المتبادر من لفظ الإله ، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كلي وإن لم يوجد له مصداق آخر.
والذي يدل على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود هو أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكلية والوصفيّة دون العلمية ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه : {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام : 3].
فإنّ وزان هذه الآية وزان ، قوله سبحانه :
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف : 84].
{وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } [النساء : 171] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر : 22 - 24].
ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يشابهها يراد منه ما يرادف الإله
علىٰ وجه الكلية ( أي ما معناه أنّه هو الإله الذي يتصف بكذا وكذا ).
ويقرب من الآية الأُولىٰ ، قوله سبحانه :
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء : 110].
فإنّ جعل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربما يشعر بخلوّه عن معنى العلمية ، وتضمنه معنى الوصفية الموجودة في لفظ : « الإله » وغيره ، ومثله قوله سبحانه :
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء : 110] فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلية لا العلمية الجزئية ، كما هو الظاهر لمن أمعن فيها.
إنّ المقسم عليه عبارة عن جواب القسم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :
أ : الدعوة إلى تحكيم النبي (صلى الله عليه واله) والتسليم أمام قضائه (صلى الله عليه واله). {لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء : 5] .
ب : التأكيد على قدرته سبحانه علىٰ أن يأتي بخير منهم : {لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء : 65]
ج : التأكيد على حشرهم وحشر الشياطين : {لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم : 68].
د : التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر : 92]
ه : التأكيد علىٰ إتيان الساعة : { لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ...} [سبأ : 3].
و : التأكيد على بعثهم وآبائهم : { لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ...} [التغابن : 7].
ز : التأكيد على وقوع البعث : {إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ...} [يونس : 53].
ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ : {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات : 23].
الصلة بينهما واضحة ، فانّ المقسم عليه في هذه الآيات ، كان يدور حول أحد أمرين :
أ : الدعوة إلى التحكيم إلى النبي والتسليم أمام قضائه.
ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال ، أمراً حقّاً.
ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبية ، فإنّ الربّ إذا كان سائساً ومدبراً فهو أعلم بصلاح المدبر فيجب أن يكون مسلماً لأمر النبيّ (صلى الله عليه واله) ونهيه.
كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرب دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرب عند الدعوة إلى الحشر والنشر.
وبعبارة أُخرىٰ : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البعث والنشر ، ولما كان الجميع من شؤون الربوبية حلف بالرب تأكيداً لربوبيته.
ثمّ إنّ المقسم به فيما مضى من الآيات هو لفظ الجلالة أو لفظ الرب ، المشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال.
وثمة آيات ربما يستظهر منها أنّ المقسم به هو سبحانه تبارك وتعالى لكن بلفظ مبهم ك « ما » الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :
1. { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس : 5].
2. { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس : 6].
3. {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [الشمس : 7].
4. {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل : 3].
وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير لفظة « ما » ، فالأكثرون على أنّها « ما » موصولة كناية عن الله سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : والسماء والذي بناها ، والأرض والذي طحاها ، ونفس والذي سواها ، والواو للقسم.
وهناك من يذهب إلى أنّها « ما » مصدرية ، وكأنّه يقول : أُقسم بالسماء وبنائها ، والأرض وطحائها ، والنفس وتسويتها.
ولكن الرأي الأوّل هو الأقرب لأنّ سياق الآية يؤيد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس : 8] فالفاعل هو الضمير المستتر الراجع إلى « ما » الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدمة. والذي يصلح للفاعلية هو الموصول من « ما » لا المصدر ، وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلف بما ورد في هذه الآيات.
__________________
(1) نهج البلاغة : قسم الحكم ، الحكمة 125.
(2) الالتفات في علم البيان عبارة عن الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم كما في قوله سبحانه : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة : 4، 5] وقوله سبحانه : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس : 22] وقوله سبحانه : {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9] ففي الآية الأُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلم.
(3) الميزان : 20 / 22.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|