المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

العلاقة بين البيئة و التنمية
NaN-undefine
[نزول آية أجعلتم سقاية فيه]
22-10-2015
وقت صلاة الكسوف
2024-07-10
الشكل والإعجام
15-11-2020
المعيار المعتبر في تحديد حجم المسكن الشرعي
6-2-2016
probe (n.)
2023-11-01


أديب إسحاق  
  
2793   01:29 مساءً   التاريخ: 4-8-2018
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : نشأة النثر الحديث و تطوره
الجزء والصفحة : ص:70-82
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-09-2015 6145
التاريخ: 13-08-2015 1816
التاريخ: 4-6-2017 3517
التاريخ: 25-12-2015 11979


ومن تلاميذ جمال الدين الذين وثبوا بالنثر وثبات عالية، وكان له فيه أثر واضح بأسلوبه الأنيق، وحماسته العارمة، وأفكاره الجريئة، ومحبته للحرية والعدل، أديب إسحاق، ظهرت براعم أدبه ببيروت حين أخذ يحرر جريدة التقدم بيد أنها لم تزدهر، ويفوح شذاها العطر إلا بعد أن نقلت إلى مصر، فتنفست هواءها، وسقيت ماءها.
كان أديب إسحاق أول أمره يسجع شأن أدباء الشام جميعًا، ولكن سجعه كان ذا لون خاص، إذ كان يحاول أن يحاكي أدباء العباسيين، وبخاصة مدرسة ابن العميد، ويعمد إلى الخيال المجنح، ويكسب كلامه قوة ما فيه من عاطفة جياشة، تفيض من قلب مليء بالإخلاص والمحبة لوطنه الكبير، وكان كذلك كثير الاقتباس من آي الذكر الحكيم، فأسبغ على كلامه طلاوة جعلت سجعه مقبولًا.
كان أديب إسحاق يحيل كل موضوع يتناوله قلمه إلى قطعة أدبية، فيها كل مقومات الأسلوب الأدبي، حتى المقالة السياسية، داخلية كانت أم خارجية دع جانبًا كلماته عن كل ما يعلى شأن الوطن قوميًا أو اجتماعيًا، وإذا كانت جريدتاه مصر، والتجارة تعدان من الصحابة اليومية السياسية، فإن روحه الأدبية وأسلوبه الجميل جعلهما مصدرًا من مصادر الأدب في تلك الحقبة.
أصدر أديب هاتين الصحيفتين بإيعاز من أستاذه جمال الدين، وما لبثنا أن تبوأنا مكانة ممتازة في عالم الصحافة الحرة الجريئة التي تسعى لخير مصر بخاصة والأمة العربية بعامة، وتقض مضاجع حاكم السوء الذي كان يتبوأ عرش مصر حينذاك، يظاهره وزراء باعوا ضمائرهم للشيطان، ولذلك تعرضتا لسخطه ومقته، واضطر أديب بعد أن أغلقتا إلى الهجرة إلى باريس، ولكن لم تثنه الغربة ولوعة النفي عن متابعة الجهاد، فأصدر في جريدة القاهرة، وظل يصدرها على الرغم مما يلاقي من صعوبات حتى اشتدت عليه علة الصدر فغادرها إلى لبنان.
ولنستمع إليه يحدثنا عن بعض المشكلات السياسية والخارجية، من ذلك حديثه عن مؤتمر برلين سنة 1878، وفيه يقول: "وهذه الدولة العثمانية قد أكرهت على ما تكره، وتضامنت لحكم الزمان، فتقلص ظل مجدها، وأقل نجم سعدها وأصبحت بين الروسية، وإنجلترا كالسفينة بين عاصفتين، فلجأت إلى الثانية رجاء أن تشد أزرها، وتؤيد أمرها، فكانت كالمستجير بالنار من الرمضاء، إذا استولت إنجلترا على أحسن جزائرها، وقبضت على زمام الإدارة في بلادهم الآسيوية، وألقت الوحشة بينها وبين دولة إسلامية مهمة، وجعلتها بين داخلية ممزقة بالفتن، وخارجية مشوهة بالعداوة والإحن".

ولنستمع إليه مرة ثانية يحدثنا عن بعض الشئون الداخلية عقب سقوط وزارة رياض، وتولية شريف، وكان رياض من ألد أعداء الصحافة الحرة والأقلام الجريئة، وقد سقطت وزارته حين أمر بفض مجلس النواب، فلما جاء شريف ألغى هذا الأمر فحياه أديب بمقال استهله بقوله:
ولي وطن آليت ألا أبيعه ... وألا أرى غيري له الدهر مالكا
ثم يقول فيه للمصريين: "لقد نهضتم من ورطة الذل بما تم لكم من إقامة الحكومة الوطنية، وتأييد الهيئة الثورية، فصار الأمر منكم وإليكم، وتبعته لكم وعليكم، لتنظروا إلى مستقبلكم نظر الآمن، وتستعملوا ما حصل لكم من الحقوق، وما رد إليكم من الحرية فيما يجلب لكم الخير، ويدفع عنكم الضير، ولا تكونوا كمن وجد كنزًا فأدهشه المال، فلم يودعه مكانًا أمينًا، فأتاه السارق على غرة، فأفاق يطلب الكنز فرأى الأرض قفرًا والمزار بعيدًا".
وقال أديب يوم افتتاح مجلس النواب سنة 1881، معبرًا عن فرحته منددًا بمحرر جريدة البرهان الشيخ حمزة فتح الله حين دعا إلى حكم الفرد:
صفحا لهذا الدهر عن هفواته ... إن كان هذا اليوم حسناته
وكيف لا؟ وهو حاجة النفس، وأمنية القلب، منذ توجه الخاطر إلى السياسة الوطنية، وانصرف العزم إلى إحياء الهمم، وانعقدت النية على حفظ الحقوق، واتحدت الوجهة في القيام بالواجبات، وهو النشأة التي كست الوطن رداء الفتوة قشيبا، وهو البغية التي غرست للأمة غصن الأمل رطيبًا، وهو ما رجوناه زمانه، ودافعنا الزمن فيه، وتمنيناه أعوامًا، وغالبنا الحدثان عليه، فيا حسنه من يوم رد فائت البهاء، وأحيا ميت الرجاء وأعاد شباب الأمة، وسدل ستور النعمة، وأظهر مقاصد الأمير، وأيد مساعي الوزير، وقضى لبانات النبهاء، وحقق أماني النزهاء".
ولنستمع إليه كذلك يقول عن الحزب الوطني الذي أنشئ في أوائل عهد توفيق وما يتعلق به من أماني، موضحًا سياسته، وأنه "يريد أن يكون المصري في مقام الإنسان، مستقلًا بوجوده، متمتعًا باستقلاله، فائزًا بحقوقه ناهضًا بواجباته، وتريدونه بمنزلة الحيوان، يساق للموت، فإن عجز فللسلخ، ويطلب أن يكون الوطني آمنًا في داره، مساويًا لجاره، يستغل زرعه، ويستدر ضرعه، وتلتمسون أن يكون غريبًا في آله، مصادرًا بماله، يطعم من يحرمه، ويؤمن من يروعه، ويحفظ من يضيعه":
فِإذا عطلت جريدة النهار لحملاتها القاسية على رياض ساق إلينا أديب هذا الخبر في أسلوب عال، مفصحًا عن شعوره إزاء هذا التعطيل، منوها بما أوتي من عزم وجلد، وثبات للشدائد، وفي ذلك يقول: "ولئن ساءنا أن جاءنا ذلك الإخطار بلوم، وعقاب أليم، لقد سرنا أن تكون الجرائد موضعًا للنظر، ومجالًا للنقد، ولم نر في القصاص شيئًا يستعين به اللائم، أو مصابًا يعتضد به الشامت، فإن التجارة تحسب حب الوطن دينا، والمدافعة عنه جهادًا، فإن عاشت فهي سعيدة، وإن ماتت فهي شهيدة، ولقد أتاها الله النعمتين، وأتاح لها الحسنيين، فعاشت به، وماتت عليه، وستبعث بعد أسبوعين، رافلة في ثوب الشهادة، مزينة بحلى السعادة، على الرغم من أنوف حاسديها، الذين أولوا كلامنا إلى ما لا نقصد، وسعوا فيها بما لم يخطر على قلوبنا، وحاولوا إطفاء نور الحق، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المبطلون".
وقد لا يروق هذا الأسلوب كتاب الصحافة اليوم، ولكن "أديب" كما ذكرنا كان يسلك دائمًا المسلك الخطابي الحماسي في كل ما يتناوله من موضوعات، ويضفي عليه من طلاوة أسلوبه، ما يحيله إلى قطعة أدبية يسجع، ويزاوج، وينتقي الكلمات ذات الجرس الموسيقي المناسب للموضوع، ولجارتها من الكلمات، مع عاطفة حارة دائمًا تسبغ على الكلام قوة وحيوية مع بعض ألوان من الخيال والأمثال.
وتراه وهو في باريس لا تنسيه الغربة مصر، بل يكتب في "القاهرة" معبرًا عن حبه لمصر، وعن ذكرياته بها، ولا بدع ففيها رفع ذكره، وشهر أمره، وقدر أدبه، وعلى قدره، وتفتحت مواهبه، ولذلك يقول عنها وهو في غربته: "مصر، ولا حياء في الحب، بلد تركت فيه زهرة أيام الشباب، وخلفت غرس الآداب، وهززت غصن الأماني رطيبًا، وليست ثوب الآمال قشيبًا، فما عدلت بي عن حبها النكبة، ولا أنستني عهدها الغربة، ولست أول محب زاده الحب وجدا، ولم ينكث على العهد عهدًا، فحذار أهل مصر فإن العدو لكم بالمرصاد، وإنكم لمحفوفون بالعيون والأرصاد".
ومع أن هذا الكلام مسجوع، فإن غير مصطنع أو متكلف، وإن وردت فيه عبارات محفوظة كثيرًا ما نراه يرددها مثل "غصن الأماني الرطيب، وثوب الآمال القشيب".
وتراه أحيانًا وهو في غربته، يذوب أسى وكمدا حينما يوازن بين ما يراه من نعمة سابغة يتقلب فيها الفلاح الفرنسي، وما يلاقيه فلاح مصري في سبيل ما يقيم الأود، ويسد المسغبة من ذل وإرهاق، وكيف يعيش عيشة الحرمان قريبًا من عيشة الحيوان، مثل قوله تحت عنوان "نفثة مصدور":
"
وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة بين أهل الحرية أسمع ألحانًا في مجلس العدل، فأذكر قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوح الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجًا بسواد القلب فأكتب إليهم: يا قوم! ظلمتم غير معذورين وصبرتم غير مأجورين، وسعيتم غير مشكورين، فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلًا، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حليًا، وتخفضون للظالمين جناح الذل، حتى يقول من يراكم ما هؤلاء بشرًا إن هؤلاء إلا آلة سخرت للناس يفلحون بها الأرض ويزرعون، يقلب الجائرون عليكم أنواع المكايد وأصناف الحيل، وألوان الخدائع فيما يختلسون، كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون.
رأيت فلاحهم في حقله الصغير يتناول الطعام أكلًا مريئًا، وينام القيلولة نومًا هنيئًا، ويأوي إلى البيت فيأكل بين عائلته، ويتلو عليهم صحيفة النهار، ثم ينام ملء عينيه، لا يحلم بسوط المأمور، ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي، والأنهار تشتغلون سحابه اليوم لتجتمعوا على القصعة السوداء، فتلتهموا فئات الشعير، وتنكبوا على الترع فتشربوا الماء الكدر، تعودون إلى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها، لتنصرفوا إلى أكواخ بالية تشبه قبورًا توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم صغار لا تعرف أبدانهم الوفاء، ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالبًا، والشيخ غاضبًا، والمدير ناهيًا، فأنتم في بلاء مستقر، وعناء مستمر، تحصدون البر ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون".
فهذا تصوير أدبي رافع لحال الفلاح المصري المزرية، وكيف كان يستغله السادة، وكيف استنام للذل، ورضى بالعيش الدون مع لمحة خاطفة عن حال الفلاح الفرنسي، وما يتمتع به من ألوان الهناءة، وفي ذلك تحريض ولا شك لفلاحي مصر كي يخلعوا نير العبودية، وينشدوا حياة أقوم وأحسن.
ونلحظ في هذا النص أنه أكثر من استخدام الطباق، وأنه كان يعتمد الإتيان به، وأن بعض استعاراته ليست مطبوعة، وإنما عليها مسحة من التكلف مثل قوله: "فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممزوجًا بسواد القلب"، ومع هذا فالنص في جملته قوى ولا سيما تلك العبارات التي اتكأ فيها على الجمل القرآنية.
ولكن أديب حاول التخلص من السجع، وبخاصة في نثره الصحفي، وإن ظلت عبارته مرتفعة، بل نراه أحيانًا ينعى على السجع وتكلفه، ويدعو إلى النثر المرسل، ولعل هذا كان بتأثير من أستاذه جمال الدين، أو؛ لأنه رأى أن السجع يفوت عليه المعنى المراد، ويدعوه إلى التكلف وترديد عبارات محفوظة، وفي هذا يقول من مقال بعنوان، "صناعة الكتابة".
والنثر هو الكلام المطلق المرسل عفو القريحة بلا كلفة، ولا صنعة إلا ما يكون من وضع الكلام في مواضعه، وإيثار ما يألفه السمع والطبع منه فهو من هذه الوجهة مقدم على سائر أنواع الكلام، بل هو الأصل في الإنشاء، وما سواه فرع منه، فإنه طبيعي أصيل، وما دونه صناعي حادث، والأصل في الطبيعة لا محالة، يدل على أن هذا الكلام المقفى الذي يسمونه سجعًا لا يكاد يوجد في غير اللسان العربي، فلو كان طبيعيًا لوجب أن يكون في جميع اللغات، أو في المعدودة منها أصولًا على الأقل.
ويبين لنا المواطن التي يحسن فيها السجع كما يرى فيقول: وهو وإن حسن في بعض الأماكن كصدور الخطب، ومقاطع الكلام بما فيه من تناسب الألفاظ وتناسب الفواصل التي يحسن وقعها في الأسماع، إلا أنه في الجملة دون المرسل البليغ بهجة وصفاء، وموافقة لمقتضى الحال، لقيد الكاتب فيه بلفظ لا بد منه أو من أخيه، فلا ينبغي استعماله في بيان الحقائق العلمية، ولا في إيضاح الأصول الأدبية، ولا في غير ذلك من مواضع النقد والسرد إلا إذا جاء عفوًا غير مقصود بالذات".
وأورد أديب ما ذكره ابن خلدون عن السجع وكيف نشأ، وكيف صار صنعة وتكلفًا، وأبدى إعجابه برأي ابن خلدون وذكر نموذجًا من كتابته المرسلة تأييدًا لهذا الرأي الجديد، ثم يقول: "وجل كلام ابن خلدون ولا سيما في مقدمة تاريخه على هذا النحو من السلامة، ومناعة التكلف".
وذكر بعد هذا رأي علي بن الرماني في وصف البلاغة، وأنها: "ما حط التكلف عنه وبنى على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه من القافية، وجمع سهولة
المخرج من قرب المتناول، وعذوبة اللفظ مع رشاقة المعنى".
ثم ذكر بعض ما استحسنه من الكلام المسجوع كمقامات الحريري، ورسائل بديع الزمان الهمذاني، وقطع كثيرة للقاضي الفاضل، وجملة غير يسيرة لكتاب مصر من بعدهم إلى انقراض الدولة الفاطمية.
ثم اشتد في حملته على الموروث من هذا السجع حتى عصره فقال: "ولم يدخل هذا السجع كلام القدماء في الجاهلية، وصدر الإسلام إلا ما كان منه عفو القريحة، فواصل غير مقفاة، أو يعزى إلى الكهان، والمشعوذين مما يراد به الإيهام والإبهام، فلما استولت العجمة على الألسن، وضعفت قوة الاختراع في الأذهان سرى داؤه في المكاتبة إلى هذا العهد، فعدل الكتاب عن الكلام الفحل واللفظ الساذج، والأسلوب الطبيعي إلى هذه الأسجاع الملفقة البالية، يتناقلونها خلفًا عن سلف، ويطيلون بها الكلام بلا طائل سترًا لقصورهم في ابتداه المعاني، وإيضاح وقائع الحال من طريقة البلاغة والإيجاز، حتى صارت من العادات، وحصلت بين الملكات، فدخلت في المراسلات الإخوانية، والمكاتبات من الملوك والأمراء في عظائم الأمور، وسقط من ورائها الكلام المرسل إلى غاية السفالة والركاكة، فصار ما يكتب منه رطانة يفهمها بعض الجهلاء، وتعمى على الراسخين في العلم".
ثم بين لنا بعد هذه الطريقة التي يرتضيها متخذًا من نصيحة ابن أبي الإصبع نهجًا يسلكه، قال ابن أبي الإصبع: "لا تجعل كلامك كله مبنيًا على السجع، فتظهر عليه الكلفة، ويتبين فهي أثر المشقة، وتتكلف لأجل السجع ارتكاب المعنى الساقط واللفظ النازل، وربما استدعيت كلمة للقطع رغبة في السجع، فجاءت نافرة من أخواتها قلقة في مكانها، بل اصرف كل النظر إلى تجويد الألفاظ وصحة المعاني، واجهد في تقويم المباني، فإن جاء الكلام مسجوعًا عفوًا من غير قصد، وتشابهت مقاطعه من غير كسب كان، وإن عز ذلك فاتركه، وإن اختلفت أسجاعه وتباينت مقاطعه، فقد كان المتقدمون لا يحتفلون بسجع جملة، ولا يتقصدونه إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متساوية، ومعانيهم لاصقة، وعبارتهم رائقة، وفصولهم متقابلة وجعل كلامهم متماثلة".
وقد رأينا من النماذج التي أوردناها لأديب أنه كان يوافق أحيانًا في سلوك هذا النهج، فيأتي كلامه في القطعة الواحدة مسجوعًا وغير مسجوع، ولكنه يختار كلماته بدقة، متناسبة في جرسها، وتأتي جملة قصيرة الفواصل إن لم تكن مسجوعة، ففيها ازدواج وهوة الترادف الصوتي شأن الأسلوب الخطابي الممتاز لا يوفق أحيانًا، فتأتي سجعاته متكلفة وإن كان ذلك نادرًا، وإن كفلت؟؟؟ وبديع خياله لكلامه في عمومه شيئًا من الطلاوة والجمال.

ولم يكتف أديب في مقاله هذا عن صناعة الكتابة بالوقوف عند حد الأسلوب، ولكنه تكلم عن الكاتب وصفاته، وبين أن ما ذكره الأقدمون من شروط يجب أن تتوفر في الكاتب صالحة لزمانهم، وأما ما يشترطه هو في الكاتب "فهو من جهة الأدب: الاجتهاد والثبات، والاستقامة، ورعاية الحقوق، وحفظ الواجبات، ومؤدى قول الحكيم الفرنسي الموجه إلى كل الناس:
ذاتك احفظ وتفقه واعتدل ... واحي للناس ليحي الناس لك
فهو هنا يخرج بالكتابة الفنية إلى معنى جديد، ويبعدها عن الذاتية، ويريد من الكاتب أن يشغل نفسه بقضايا قومه وما يهمهم في حياتهم، مع الاعتدال، والتمكن من أصول الصنعة، واحترام النفس ومراعاتها وحفظها.
ولا بد للكاتب أن يعلم أصول اللغة ليعصم لسانه عن الخطأ ما أمكنت العصمة لإنسان، ويكون على حظ من العلم والأدب.
ولأديب إسحق بجانب ميادينه القومية، والسياسية قطع نثرية وصفية تتناول أحيانًا أمورًا معنوية وأحيانًا أمورًا مادية، فيقول مثلًا عن الحرب:
"
عرف الإنسان مضار الحرب ولم يتجنبها، فهل تلك طبيعة وجدت في كيانه الحيواني أو عادة تمكنت فيه بالاستمرار، فصارت ملكه يتعذر التخلص منها، وهي مسألة تؤدي إلى النظر في: هل طبع على الخير أو الشر، أو كان من عجائبه أن اجتمع فيه النقيضان، يجني على نفسه الحرب وهي بلية، حتى إذا بلغت منه مبلغها بادر إلى تخفيف مضارها، فمنه الداء والدواء، والسم والدرياق، وهو بالجملة أو العجب، أما تراه قد فتح في القرن التاسع عشر سوق حرب، راجت فيها النفوس، ولم يكن السياق أو البسوس، وإنما هي ثمرة الهوى ونتيجة للغرور، فلما أنشبت فيها أظفارها وأضرمت في حماه نارها، طلب الماء لإطفاء اللهيب فهو الهادم والباني، والزارع، والجاني".
ويقول عن جرحى الحرب وما يعانون في أسلوب تتراكم فيه الاستعارات والتشابيه، فناء بها ونبا عن الذوق السليم: "في معترك أو مضت فيه بروق المرهفات، ولعلعت رعود المدافع، فتلتها غيوث الكرات، وسكرت السيوف بخمر من الدم فعربدت في الرؤوس، وعقد العثير لملك الموت سرادق مطنبة بالقنا، والخيل ساغبة تقبل ثقالًا وتعود خفافًا، وكأنها وقد أعياها الفارس حربًا قد غضبت على الإنسان فداست هامه انتقامًا، وقد استحيت الشمس من خشونة الإنسان، فاحتجبت بحجاب الضباب، وتململت الأرض من أعماله فزلزلت زلزالها، وكادت تخرج أثقالها، فارتعد الرعديد وثبت الصنديد، ونادى منادي الحرب: من فر من الموت في الموت وقع، ومن كان ينوي أهله فلا رجع ... إلخ".
فتلك الاستعارات والتشابيه المتلاحقة كالحلى المكدسة من غير ذوق، أو نظام على صدر فتاة تغض من جمالها وتزري بشأنها بدلًا من أن يزيد من مفاتنها وتبرز من محاسنها، أو كالألوان المتراكمة الصارخة على صفحة الصورة لا توضح سماتها، وتجلي معالمها وإنما تزيدها غموضًا.
لقد كان أديب يلجأ إلى هذا الأسلوب الغاص بالأخيلة حين يشتد انفعاله، وحين يدبج قطعة أدبية كتلك التي كتبها يطري عيشة الخلاء وفيها يقول: "لقد سكن الهواء، وفتر الماء، ووقعت سهام الشمس على الرأس، وثقلت وطأة الليل على النفس، فما لطلاب الهناء سوى الخلاء، وما لإخوان الصفا غير القضاء، فاهجر هواجر الحواضر، وذر مفاسد المحاشد، وسر بي بسرب الآداب، وصحبة أولي الألباب، نلتمس في الجبال نسيمًا بليلًا، وفي الأودية ظلًا ظليلًا".
فالسجع والاستعارات، وتعمد المحسنات ولا سيما الجناس غير التام ظاهرة واضحة في مثل هذه القطع الأدبية، وكثيرًا ما كان يطرزها بأبيات من الشعر.
ومثل ذلك ما كتبه في مجاعة حلت عام 1880 حيث يقول: "هو الظلم حتى تمطر السماء بلاء، فتنبت الأرض عناء، فلا تجد على سطحها إلا جسومًا ضاوية في ديار خاوية، وقلوبًا تحترق في بلاد تحت رق، وهو الجهل حتى تضيع الأخطار، وتفنى الأقدار، وتبطل الهمم، وتزول القيم، ويعفو العلم. ويدرس الفهم، ويستعلي الخامل، ويستولي الجاهل، وتنخفض الرؤوس وتنقبض الأنفس وحتى نرى:

بكل أرض في شرقنا أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه ... وكان يبرى بظفره القلم
لقد مثل أديب مرحلة هامة من مراحل تطور النثر الحديث، في أسلوبه القوي وكلامه الطلي، وخروجه بالأدب عن الذاتية إلى الموضوعية، وجعله كل شئون الحياة مجالًا لقلمه، واهتمامه بالفكرة بجانب العبارة، وبمحاولته في المقال الصحفي الابتعاد عن السجع إلا ما جاء عفو الخاطر، والارتفاع به إلى المستوى الأدبي الرفيع، ووضعه أصولًا وقواعد للمقالة الأدبية بعد أن كان الكتّاب لا يفرقون بين المقالة والمقامة، وحتى بعد أن عرفوا المقالة الحديثة، كانوا يستهلونها بمقدمات تستهلك جزءًا من طاقة الكاتب والقارئ، ويطيلها بعضهم حتى تبلغ العشرين صفحة، ويتناول أحدهم قلمه ويتكره على سجيته مقتفيًا أثر انفعاله، فيسيح بنا سياحة وجدانية، ويستطرد إلى شتى الميادين، وقد يلذ لنا ما يكتب ولكن لا نكاد ننتهي من القراءة حتى لا نجد وحدة تجمع شتات الموضوع، وإنما هي خطرات واستطرادات، وأفكار مبعثرة هنا وهناك كما كان حال النديم في مقالاته، وأحيانًا نرى الفكرة المنطقية، والاتجاه العقلي، والميل إلى الحيدة في الأحكام وفي سرد الحقائق كما نرى في مقالات محمد عبده و اللقاني.
أما أديب فكان يدين بالنظام والترتيب، فالمقالة وإن كانت ذاتية تعبر عن رأي الكاتب في موضوع من الموضوعات، إلا أنها في أشد الحاجة إلى التنسيق "فإنه لا يكفي أن يكون هناك خاطر، بل لا بد من ملاحظة النظام في كيفية إيضاحه، فإنه لا جلاء بدون تنسيق، وعوضًا عن الإفادة والإعجاب، والتأثير والإقناع يتعب القارئ عبثًا، وقبل الكتابة لا بد من وضع رسم، ولو رؤوس أقلام، فإذا إذا لم يوضع الرسم يرتبك الذكي، ولا يعرف كيف يبتدئ، وكذلك يدخل في تفاصيل مملة، ويضيع المسألة المهمة ويصبر مظلمًا كلما اجتهد في الإيضاح، ومن أين له أن قارئيه يصبرون إلى أن يعود ليهتدي سبيله، وفي الكتابة القصيرة لا يستغني البتة عن هذا الاسم، ولكن العادة تجعله مصورًا في الذهن.

على الفور، بحيث إن الكاتب يسلك سبيله المعلوم بلا دليل، وكيف كان، ففي التنسيق ثلاثة أمور ضرورية: وحدة الموضوع، وتلاحم الأجزاء، واستقلالها التدريجي".
وبمثل هذا المنهج وضع أديب أصول المقالة الحديثة، ولدق كان يبالغ أحيانًا فيقسم المقالة إلى فقرات، ويضع لكل فقرة رقمًا، وربما أراد بهذا هداية كتاب المقالة في بادئ الأمر، حتى يلتزموا الطريق السوي في الكتابة، وعلى الرغم من أن أديب نادى بالأسلوب المرسل، والتخلص من السجع إلا ما جاء عفو القريحة، فإن للعادة تأثيرًا كبيرًا، وظل السجع غالبًا على مقالاته وقطعه الأدبية حتى أخريات حياته.
لقد كان تلاميذ جمال الدين ثلاثة أنماط: منهم من يعذب الفكرة على العاطفة في كتابته كالشيخ محمد عبده، واللقاني وسعد زغلول، ومنهم من ينهج المنهج الخطابي الخالص، فيترك لعاطفته العنان تروج به هنا، وهناك في أسلوب يعلو تارة حتى يصير وقفًا على الخاصة، ويسف أحيانًا ليكون مفهومًا من العماية كعبد الله نديم، ومنهم من يقف بين بين، يشتعل حماسة ويتأجج عاطفة، ويأتي بالمعنى الغزير والفكرة المستقيمة، ومع هذا يمسك عنان عاطفته حتى لا تجمح به، ويقود يراعه بصرامة، وحزم في طريق مرسوم، ومهيع معلوم، مثل أديب إسحاق.
وقبل أن أنهي الكلام عنده أذكر له خاصتين تميز بهما عن سواه: إحداهما أنه كان يجيد الفرنسية، ويكثر في كتابته من الاستشهاد بكلام أعلامها أمثال فولتير ورسوا وهوجو وأضرابهم، وكان يتكئ في معانيه على أفكارهم وبخاصة في حديثه عن الحرية والمساواة، وحقوق الشعب وسلطة الحاكم، كما كان يترجم القصص والمسرحيات للمسرح الذي شارك فيه سليم نقاش، ولا شك أنه بترجماته، واقتباسه من معاني الأدب الغربي قد أثرى الأدب العربي، ومزج بحذق ودراية بين ثقافته العربية المتينة، وثقافته الغربية الواسعة، فكان بذلك نموذجًا للكتّاب الذين نهلوا من الثقافتين.

والخاصية الثانية أنه كان واسع الأفق في نظرته إلى قضايا الأمة العربية، فعلى الرغم من مقامه بمصر وحبه لها ودفاعه عنها، واهتمامه بكل شأن من شئونها، إذ كان يراها قلب الأمة العربية القوي، إلا أنه كان من أول الدعاة إلى الوحدة العربية التي تضم الشمل وتوحد الجهود، وتنسق القوى، وترهب الأعداء، وتسر الأصدقاء، في وقت كان أقصى ما يصبو إليه أحرار المفكرين أن تستقل الشعوب العربية استقلالًا ذاتيًا ضمن وحدة عثمانية، أما أديب فكان لسلامة فطرته، ويعد نظرته وعمق وطنيته يرى رأيًا آخر هو ما عبر عنه بقوله: "ما ضر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى ما كان يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصوات متفقة المقاصد كأنها من فم واحد: قد جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، وهبت الحاصبة تليها العاصفة، فذرت حقوقنا فصارت هباء منثورًا، ولمت بنا القارعة ووقعت الواقعة، فصرنا كأن لم تغن بالأمس، ولم تكن شيئًا مذكورًا، فلم تنشد الضالة وتطلب المنهوب لا تقوم بأمر ذلك فئة بدون فئة، ولا نتعصب لمذهب دون مذهب، فنحن في الوطن إخوان، تجمعنا جامعة اللسان، وكلنا وإن تعدد الأفراد إنسان.
أيحسبون أن ذلك الصوت لا يكون له صدى، أم يخافون أن يذهب ذلك الاجتهاد سدى، أم يعلمون أن مثل هذا الاجتماع، منزها عن المقاصد الدينية منحصرًا في العصبية الجنسية والوطنية، مؤلفًا من أكثر النحل العربية، يزلزل الدنيا اضطرابًا ويستميل الدول جذبًا وإرهابًا، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون، والحقوق التي يطلبون، ولا خوف على زعمائهم ولا هم يحزنون".
فهذا ولا ريب تفكير مشرق سبق به أديب الزمن بنحو قرن، ونادى نداء لو استجاب له العرب منذ تلك الآونة ما أصابهم ما ابتلوا به من المحن، والأرزاء على يد المستعمرين وأذنابهم.

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.