أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-1-2017
1494
التاريخ: 24-10-2016
1954
التاريخ: 13-1-2017
2575
التاريخ: 14-1-2017
1548
|
الامبراطورية الآشورية الأولى
"أدد ــ نيراري" الثاني:
تدهورت اوضاع الدولة الآشورية من بعد موت الملك الآشوري القوي "ثجلاثبليزر" الأول (1077 ق.م) حيث حلت في تأريخ الآشوريين فترة مظلمة عصيبة أحاقت بهم فيها عدة أخطار جسيمة، دامت زهاء (166) عاماً.
وكان رجل الساعة الذي خلص بلاد آشور من الأخطار المحدقة بها الملك "أدد ــ نيراري" الثاني (891 – 911 ق.م). ولذلك يصح اعتبار حكمه بداية عصر جديد في تأريخ الدولة الآشورية، هو العصر الذي أطلقنا عليه اسم العهد الآشوري الحديث الذي دام إلى نهاية كيان الآشوريين السياسي من بعد سقوط نينوى في العام 612 ق.م أي إنه دام زهاء ثلاثة قرون. تسهيلاً لإيجاز الاحداث التأريخية في هذا العصر الجديد نقسمه إلى دورين متميزين، تكون في منهما امبراطورية كبرى، هم الامبراطورية التي وضع اسسها املك "ادد ــ نيراري" الثاني وانتهت في حدود العام 745 ق.م فتكون قد دامت زهاء القرن ونصف القرن (744 – 911 ق.م)، وحكم فيها تسعة ملوك، من حكم أدد ــ نيراري إلى حكم "ثجلاثبليزر" الثالث (744 – 727)، وشعلت الامبراطورية الثانية البقية الباقية من التاريخ الآشوري أي من عام 745 إلى 612 ق.م، وأشهر من حكم فيها ملوك السلالة السرجونية (سرجون وخلفاؤه).
ومما يقال عن هذا العصر الجديد بوجه عام إن الآشوريين بلغوا فيه من القوة العسكرية مبلغاً كبيراً مكنهم من أن يسيطروا على حياة الشرق الادنى طوال معظم القرون الثلاثة التي دامها هذا العصر، وكونوا امبراطورية كبرى كانت اوسع ما مر بنا من الامبراطوريات في تأريخ العراق وتأريخ الشرق القديم. وقد شغل أوائل ملوك هذا العهد كما قلنا في القضاء على الخطر الآرامي من جواد بلاد آشور نفسها، ثم انتقلوا بعد فترة من الزمن إلى تسديد الضربات المميتة إلى الدويلات الآرامية. وصار من مستلزمات السياسة الحربية للآشوريين تكرار غزواتهم وفتوحهم بالاتجاهات الشمالية والشمالية الغربية: إلى بلاد الشام حيث الدويلات الآرامية، وإلى آسية الصغرى وإلى الجهات الشرقية والشمالية الشرقية، على الأقوام الجبلية في جبال "زاجروس" ، التي كانت مصدر خطر دائم على الآشوريين. اما من الجهة الجنوبية فإن بلاد بابل أصبحت في هذا العهد الذي نتكلم عنه عاجزة ضعيفة، بحيث أدخلت تحت السيطرة الآشورية المباشرة وغير المباشرة.
ولحسن حظ الآشوريين أن الدول الاخرى في الشرق الأدنى في العصر الآشوري الحديث كانت دولاً ضعيفة عاجزة إزاء قوتهم المتعاطفة. فقد زالت الدولة الحثية من الوجود في القرن الثاني عشر ق.م على أثر هجرات الأقوام "الهندية ــ الأوروبية" الجديدة إلى بلاد اليونان وآسياً الصغرى. أما المملكة المصرية فقد سبق أن حل الضعف فيها قبل العصر الآشوري الحديث فلم تستطيع منافستها في توسعها إلى بلاد الشام.
ويمكن القول إنه لم يكد ينتهي القرن التاسع قبل الميلاد، حتى شملت الامبراطورية الآشورية جميع الشرق الأدنى. وصادف قيام هذه الأمبراطورية انتشار استعمال معدن الحديد في الشرق الأدنى، فاستغله الآشوريون في تكوين أضخم جهاز حربي عرفه العالم القديم، إذ صنعوا منه أسلحتهم الفتاكة وآلات الحصار الضخمة كالدبابات والعربات مما ستتكرر الإشارة إليها في كلامنا على حروب ملوكهم المشهورين (1).
خلفاء " أدد ــ نيراري"
" توكلتي ــ ننورتا" الثاني (884 – 890 ق.م)
خلف " أدد ــ نيراري" على العرش الآشوري ابنه "توكلتي ننورتا" الثاني لم يكن أقل من أبيه نشاطاً وقدره، ولكن فترة حكمه القصيرة لم تمكنه من مد رفعة المملكة الآشورية أبعد مما كانت عليه في عهد أبيه. وكان من بين أعماله التي وصلت إلينا أخبارها بناؤه أسوار العاصمة "آشور"، وتكرار الحملات الحربية إلى الجهات الشمالية الغريبة، على المناطق أو المستوطنات الآرامية. وكانت إحدى حملاته الحربية مجرد مظاهر عسكرية ضخمة بغية الإرهاب ونشر الرعب بين الشعوب. فبدأ في مسيرته العسكرية من العاصمة واتجه غرباً لإرهاب المستوطنات الآرامية، وتجديد فرض الطاعة عليها، ثم عاد وسار إلى الاجزاء الجنوبية من بلاب بابل معيداً فرض السلطان الآشوري عليها. وقد دونت أخبار هذه الحملة في حولياته تدويناً مفصلاً، وتعد على قدر كبير من الأهمية التاريخية، ولا سيما الجغرافية التاريخية للعراق وبعض أجزاء الشرق الأدنى، لما ورد فيها من ذكر الاماكن التأريخية والمدن المهمة التي مرت بها جيوش هذا الملك.
وعن الاخبار الواردة في التوراة راجع بوجه خاص سفر الملوك ولا سيما الثاني وسفر الأيام الثاني أسفار الأنبياء.
لما توفي الملك "توكلتي ــ ننورتا" الثاني في العام 884 كانت تخوم الامبراطورية الآشورية موطدة مستقرة، من شمالي العراق إلى جميع أطراف ما بين النهرين العليا، وإلى جبال "زاجروس" شرقاً.
آشور ناصر بال الثاني (859 – 883 ق.م)
ورث آشور ناصر بال الثاني عن أبيه "توكلتي ــ ننورتا" الثاني مملكة واسعة، وقوية موطدة. وقد جمع هذا الملك الآشوري الصفات الانموذجية للملك الآشوري العسكري، والفاتح القاسي والإداري المنظم، والبناء الكبير. وتشير ملامحه المعبر عنها في تماثيله التي وجدت في "نمرود" (كالح القديمة) إلى شخصية قوية حازمة وقياسية (2). وكما جرت العادة بالنسبة إلى معظم الملوك الآشوريين الأقوياء، لم تخل أعوام حكمه من تكرار الحملات الحربية إلى الجهات المختلفة من الشرق الأدنى، وقد بلغ في إحدى حملاته إلى إقليم الفريجيين (مشكي) في شرقي الأناضول، وحصل على الغنائم والأسلاب الكثيرة، كما حارب الحثيين الذي أقاموا في شمالي سورية دولة من بعد زوال مملكتهم في آسية الصغرى (القرن الثاني عشر ق.م). وشيد جملة قلاع وحصون عسكرية في تخوم الامبراطورية الشمالية. ونذكر من بين حملاته الحربية المشهورة تلك التي وجهها على بلاد الشام، وقد مهد لها بضرب بعض المنشقين عن طاعته في منطقة جبال "كاشياري" (طور عبادين ــ ماردين)، كما ضرب القبائل الجبلية في إقليم "زامواً" أو "ساموا" (منطقة السليمانية)، ومن بعد ذلك اتجه إلى بلاد الشام في عام حكمه الرابع (877 ق.م)، واكتسح بعض الدويلات الآرامية في طريقه، ثم سار من "كركميش" (جرابلس) إلى سهل إنطاكية، وعبر نهر العاصي وسار بمحاذاة جبال لبنان إلى "البحر العظيم، بحر الاموريين" (البحر المتوسط). وهنا يكرر "آشور ناصر بال" ما جرى عليه الملوك الآشوريين الفاتحون في "غسل سلاحه" في هذا البحر وتقديم القرابين إلى الآلهة، وتقبل جزية المدن الساحلية مثل صور وصيدا وجبيل وأرواد وغيرها. وتضمنت الجزية الذهب والفضة والقدير والنحاس وأنسجة الكتان ذات الالوان الزاهية، وقردة صغيرة وكبيرة، والعاج والاخشاب النفيسة مثل الأبنوس والبقس والأرز. ورجعت الجيوش الآشورية عن طريق مرتفعات "أمانوس"، حيث اقتطعت الأخشاب الجيدة منها وأرسلت إلى العاصمة آشور.
على أن تلك الحملات الحربية لم تشبع تعطش هذا العاهل الآشوري لسفل الدماء والقتل، فأضاف إلى ذلك صيد الحيوانات الوحشية كالأسود والثيران الوحشية. وخلف عن ذلك سجلاً حافلاً في أخباره المدونة وفي صور منحوتاته الكثيرة التي عثر عليها في قصره في مدينة كالح (نمرود). واشتهر أيضاً بولعه في جمع النباتات والحيوانات الغريبة في أثناء حملاته إلى الأقطار البعيدة وجلبها إلى عاصمة مملكته.
تجديد مدينة "كالح"
من الأعمال العمرانية التي اضطلع بها آشور ناصر بال الثاني في السنوات الأولى من حمكه إعادة بناء المدينة القديمة كالح (نمرود) التي أسسها الملك القديم "شيلمنصر" الأول (1245 – 1274 ق.م)، ولكنها أهملت من بعده فحل فيها الخراب. ولذلك عزم آشور ناصر بال على تجديدها وإعادة بنائها واتخاذها عاصمة، وعلى الأخص عاصمته العسكرية، لتكون فيها ثكنات الجند والمعدات الحربية، ومنها كانت تسير الحملات الحربية. وكان موقع هذه المدينة، مثل العاصمة القديمة آشور، يتميز بأهمية استراتيجية خاصة، فإن دجلة يحميها من جانبها الغربي، ومن جهتها الجنوبية الزاب الأعلى الذي يتصل بدجلة بمسافة قصيرة جنوب نمرود، في الموضع الذي يسمى "المخلط".
وقد بذل هذا الملك جهوداً كبيرة في مشروعه هذا بحيث يصح القول إنه أسس المدينة من جديد، فقد سوى انقاضها القديمة بالأرض ووسع من رقعة أبنيتها، وشيد حولها سوراً ضخماً مدعماً بالحصون وأبراج الدفاع بلغ محيطه زهاء (8) كيلومترات، والمدينة مستطيلة الشكل تقريباً مساحتها زهاء (3,5) كيلو متر مربع، واختار أحد المرتفعات الطبيعية في إحدى زوايا هذا المستطيل ليكون بمثابة "اكروبوليس"، حيث موضع "زقورة" المدينة (البرج المدرج) ومعابد المدينة وقصره الملكي. وجلب إلى المدين جدول ماء من الزاب الاعلى لزيادة حمايتها والإفادة منه في الري أيضاً في السهل الزراعي المجاور. وكانت نمرود من اولى الموقع الأثرية التي جرت فها تنقيبات أوائل المنقبين، كما ذكرنا في الفصل الخاص بتأريخ التنقيبات، حيث حفر فيها "ليرد" ما بين عام 1852 و1854، ثم أعقبه "هرمز رسام"، ولوفتس (1855 – 1854) و "جورج سميث" (1872). واستخرجت من قصور المدينة المنحوتات الضخمة الكثيرة، من بينها الثيران المجنحة الشهيرة والأسود وما يسمى "الملاكات الحارسة"، وأعداد كثيرة من صائح الحجر المنحوتة، وكثير من النقوش الكتابية، إلى غير ذلك من البقايا الأثرية النفسية التي هي الآن من الكنوز المهمة في المتحف البريطاني. وبعد مضي ما يربو على القرن الواحد على تحريات "ليرد" استأنفت التنقيبات في المدينة بعثة بريطانية برئاسة الأستاذ "ملوان" (1961 – 1949)، فأعادت التحري في قصر آشور ناصر بال وفي حصن شيلمنصر الثالث، ابن آشور ناصر بال، الكائن في الركن الجنوبي الشرقي من المدينة، وهو حصن ضخم (300× 200م)، كشف فيه عن مجموعات كثيرة من الآثار العاجية النفيسة. وإلى جانب هذه الآثار وغيرها من البقايا المعمارية الكثيرة، وجدت جملة منحوتات مهمة من بينها مسلة منحوتة للملك آشور ناصر، وهي منقوشة بكتابة تدون أعماله ووصف الولائم الملكية الفخمة التي أقيمت في المدينة احتفالاً بإكمال بنائها (879 ق.م) وقد بلغ عدد الضيوف، بحسب ما جاء في تلك المسلة، (69,574) شخصاً، أي سكان المدن والصناع والعمال والسفراء، ودامت طوال عشر أيام (3) وتحرى المنقبون أيضاً حصن شيلمنصر الثالث، في الأجزاء المهمة منه، من بينها الثكنات للدريب والعرض العسكري، ومخازن الأسلحة ومواضع إقامة الضباط والجند (4).
شيلمنصر الثالث (824 – 858 ق.م)
خلف شليمنصر الثالث أباه "آشور ناصر بال "، وقد ورث عنه امبراطورية واسعة برهن على أنه كفوء ليس في المحافظة عليها حسب، بل إنه وسعها إلى حدود بعيدة لم تبلغها من قبل. وكان حكمه الذي دام خمسة وثلاثين عاماً سلسلة من حملات حربية جعلته سيد الشرق الأدنى وآسية الغربية من الخليج العربي ومناطقه جنوباً إلى جبال أرمينية شمالاً، ومن تخوم الأراضي الميدية (المادية) شرقاً إلى سواحل البحر المتوسط غرباً، كما دخلت بلاد بابل تحت سيطرته. وفي حقل البناء والتعمير جدد الأبنية في العواصم الآشورية الثلاث، آشور ونينوى وكالح. وقد أضاف في المدينة الأخيرة، أي كالح، إلى أعمال أبيه سواء كان ذلك في قصورها، ام في بنائه القصر أو الحصن الضخم الذي نوهنا به في كلامنا على تجديد هذه المدينة في زمن أبيه، واستمرت العناية بهذا الحصن من جانب الملوك الآشوريين الذي جاؤوا من بعده لأنه كان، كما قلنا، مركز الجيوش الآشورية ومخازن أسلحتها وعدتها وذخيرتها، ومستودعاً لغنائم الملوك من حروبهم الخارجية. ونذكر من آثار شليمنصر الفنية الأبواب البرونزية الجميلة التي اكتشفت في الموضع المسمى "بلاوات"، وهي "أمر بيل" القديمة (على بعد بضعة كيلومترات شمال شرقي نمرود). وقد تحرى في هذا الموضع "هرمز رسام"، مساعد "ليرد" (في عام 1878)، وظهر انه كان احد القصور التي شيدها آشور ناصر بال وجدد بناءه ابنه شليمنصر. وكانت الصفائح البرونزية المكشفة تغلف أبواب القصر الخشبية، وقد مثلث فيها بأسلوب الطرق (Rupouse) ومشاهد من حملات شليمنصر الحربية وكتابات قصيرة في شرحها (5).
وعثر في نمرود أثناء التنقيبات القديمة التي أجراها "ليرد" على مسلة حجرية مهمة تعود إلى شليمنصر، وقد سميت باسم المسلة السوداء، لأنها من الحجر المرمر الأسود، وهي الآن من آثار المتحف البريطاني المهمة (6)، ويبلغ ارتفاعها ستة أقدام وقد نحتت على هيئة البرج المدرج. ونقشت بكتابة مطولة عن خلاصة حملات شليمنصر الحربية منذ اعتلائه العرش إلى عام حكمه الواحد والثلاثين. وزينب بخمسة أنطقة من المنحوتات البارزة في كل جانب من جوانبها تمثل مشاهد تقديم الخضوع والجزية من جانب الملوك والحكام والأمراء من مختلف الأقطار، وقد صور البعض منهم وهو ساجد أمام صورة الملك العظيم، وبضمنهم ملك إسرائيل المسمى "يهو" او "ياهو". وعثر في أثناء التنقيبات التي أجريت في نمرود حديثاً على تمثال جميل للملك شليمنصر، وهو في وضعية صلاة وتعبد (هو الآن في المتحف العراقي).
ونستطيع مما خلفه شليمنصر من أخبار مدونة (7)، وآثار فنية منحوتة، ان نتتبع حملاته الحربية طوال الواحد والثلاثين عاماً من حكمه البالغ (35) عاماً. وقد وسع فيها من رقعة الامبراطورية، وبلغ في فتوحه أقاليم لم تصل إليها الجيوش الآشورية من قبل: في جهات أرمينية، وجبال زاجروس وكيليكية (في آسية الصغرى)، وإلى قلب جبال طوروس وإلى أبعد الأجزاء الجنوبية في منطقة الخليج. ووجد إلى بلاد الشام عدة حملات حربية، وجرت معارك مع الدويلات المتحالفة أشهرها موقعة "القرقار"، على نهر العاصي في عام 853 ق.م. وقد ورد في اخبار هذه المعركة ذكر اسم العرب، لعله لأول مرة في أخبار ملوك العراق القديم، حيث كان من بين الأمراء المتحالفين "جندبو" العربي، ونذكر من أخباره الحربية الطريفة أنه قصد في إحدى حملاته الحربية إلى ينابيع الفرات ودجلة، وأقام عندها نصباً تذكارياً. ووجه شليمنصر في عام 851 ق.م على بلاد بابل حملة حربية في عهد سلالتها الثامنة، لنجدة الملك البابلي "مردوخ زاك رشومي" الذي كانت تهدده الدويلات الآرامية في الأجزاء الجنوبية من بلاد بابل، فدحر شليمنصر المعتدين ودخل مدينة بابل وقدم القرابين لكبير آلهتها مردوخ في معبده "أي ــ ساكلاً" كما زار المعابد الأخرى واحسن إليها، وطارد فلول الآراميين من قبائل "الكلدو" (الكلدانيين) إلى سواحل الخليج (النهر المر بحسب تعبيره).
فترة ضعف الدولة الآشورية
انتهى حكم شليمنصر الثالث بثورة داخلية في بلاد آشور تزعمها أحد أبنائه المسمى "آشور ــ دانن ــ أبلى" وانحازت إلى جانبه سبع وعشرون مدينة، من بينها مدينة "آشور" ونينوى وأربيل وأرابخا (كركوك). وبالنظر إلى شيخوخة الملك عهد إلى أبنه المسمى "شمسي ــ أدد" مهمة محاربة الثوار وإخماد الثورة. وقد دامت هذه الثورة والحرب الأهلية التي نجمت عنها أربع سنوات مات الملك الشيخ في أثنائها. فاعتلة العرش الآشوري "شمسي ــ أدد" في عام 824 ق.م، وقد سببت هذه الحرب الداخلية الضعف والوهن في المملكة الآشورية، وحلت فترة ضعف وانكماش دامت زهاء الثمانين عاماً، أي منذ حكم الملك شمسي ــ أدد إلى حكم ثجلاثبليزر الثالث (727 – 744 ق.م)، وعلى الرغم من إخماد الثورة من جانب "شمسي ــ أدد" فإن الحرب الأهلية الطويلة استنزفت قوى الدولة ففقدت سلطتها في الأقاليم التابعة لها، حيث اغتنم الكثيرة منها فرصة اضطراب الأحوال في داخل بلاد آشور فنبذت تبعيتها وولاءها للملوك الآشوريين. كما أن الأسباب التي نشبت من جرائها تلك الثورة والحرب الاهلية كانت بالدرجة الأولى متأنية من ظلم كبار الموظفين والنبلاء وحكام الأقاليم واستغلالهم السكان الأحرار ولا سيما الفلاحين والزراعين.
حكم "شمسي ــ أدد" الخامس اثني عشر عاماً (811 – 828 ق.م) وقد سعي لإعادة هيبة الحكم والسلطان الآشوري في الأقاليم التابعة ولكن لم يوتاه النجاح التام. ومع أنه استطاع أن بعيد الاستقرار في داخل البلاد بيد أنه لم يفلح في القضاء على عوامل التذمر والسخط بين الناس، ومما زاد الطين بلة أن الذي خلقه على العرش كان ابنه الصغير المسمى "أدد ــ نيراري" الثالث (783 – 810 ق.م)، وكان هذا قاصراً فصارت امه الملكة المسماة "سمو ــ رمات" وصية على العرش وحكمت المملكة بالنيابة عنه طوال خمس سنوات. ولما أن بدأ يحكم من بعد فترة الوصاية أظهر قدراً من الكفاءة وقوة الشخصية، فقد استطاع ان يوجه حملة عسكرية إلى سورية، معيداً بذلك خضوع عدد من الأقاليم التابعة. ويدعي في أخباره المدونة بأنه أخضع عدداً من الأقاليم التابعة إلى الامبراطورية. وقد حكم من بعده أربعة ملوك هم أبناؤه الذين ازداد في عهده ضعف المملكة، فانتهز الفرصة معظم الأقاليم التابعة الموالية للانسلاخ عن التبعية الآشورية، مثل بلاد بابل، وتجرأت الدويلات الآرامية على التحرش ببلاد آشور نفسها، فلم يبد من هذا الملك سوى اتخاذ موقف الدفاع. وأعقبه في الحكم "آشور دان" الثالث (754 – 771 ق.م)، واستمر في عهده تدهور جملة مدن آشورية، كما حدث في زمنه كسوف للشمس، ذكرته أثبات "اللمو"، وقد سبق أن ذكرنا كيف أن الحساب الفلكي الحديث استطاع أن يحدد زمن ذلك الكسوف في شهر حزيران عام 763 ق.م، فكان هذا التأريخ من أهم النقاط الزمنية الثابتة لتحديد أدوار التأريخ الآشوري بالنسبة إلى عهد ثابت، هو العهد الميلادي.
جاء إلى العرش الآشوري من بعد "آشور دان" الثالث الملك المسمى "آشور ــ نيراري" الخامس (746 – 753 ق.م)، والمرجح ان ثورة اندلعت عليه في مدينة "كالح" (نمرود)، تولى العرش من بعدها أخوه المسمى "ثجلاثبليزر" الثالث (7227 – 744 ق.م) وسنوجز أخبار هذا الملك في كلامنا على الامبراطورية الآشورية الثانية.
سميــراميس
يكاد يكون من المؤكد أن الملكة الآشورية "سمو ــ رمات" التي ذكرناها على أنها كانت زوج الملك "شمسي ــ أدد" الخاص وتولت الوصاية على ابنها الصغيرة "أدد ــ نيراري" الثالث هي الملكة الاسطورية التي ذكرتها المصادر الكلاسيكية باسم الملكة "سميراميس" الشهيرة (وبالصيغة الآرامية شميرام) (8)، ونشأت حولها أساطير طريفة، كما نسبت إليها أعمال عجيبة في الفتوحات والبناء. فإليها نسب بناء بابل وإقامة جنائنها المعلقة، وبناء السدود ومشاريع الري العجيبة وفتح بلاد مصر والهند، واشتهرت كذلك بجمالها المنقطع النظير وحدة شهوتها ودعارتها وجبروتها وقسوتها، إلى غير ذلك من الأعمال العجيبة والصفاة الممتازة بحيث يصح القول إن أعمال كثيرة من الملوك السابقين والمتأخرين قد نسبت إليها، وصارت رمزاً وعنواناً لأمجاد حضارة وادي الرافدين. ولعل أشهر أسطورة نسجت حول شخصيتها الاسطورة التي تجعلها ابنة آلهة نصفها سمكة ونصفها الآخر حمامة، كانت تعبد في مدينة "عسقلان" (عسقلون)، وبعد ان وضعت ابنتها سميراميس تخلت عنها فأخذها طير الحمام (9) ورياها ثم عثر عليها كبير رعاة الملك فتولى تربيتها ولما كبرت ورآها حاكم مدينة نينوى المسمى "أونيس" أحبها وتزوجها، غير أن الملك "نينوس" هام بها أيضاً فأكره زوجها أن يتخلى عنها، ففعل ذلك وانتحر حزناً وكمدا، وتزوجها الملك ونالت عنده حظوة ومقاماً رفيعاً وعظم نفوذها وشأنها في المملكة. واستغلت سميراميس مكانتها فاستعطف زوجها الملك أن يتوجها على عرش المملكة مدة قصيرة، ففعل ذلك، ولكنها سرعان ما سجنت زوجها أو انها قتلته، وتفردت بالملك وحكمت اكثر من أربعين عاماً وقامت بمثل تلك الأعمال الخارقة الأسطورية التي نوهنا بها.
وهنا يرد إلى الذهن تساؤل هو أنه إذا صحت المطابقة ما بين الملكة الآشورية التاريخية "سمو ــ رمات" وبين سميراميس الاسطورية فكيف تجمعت تلك الشهرة الضخمة العجيبة حول تلك الملكة الآشورية التي لم تحكم سوى بضع سنوات بصفتها وصية على ابنها الصغير، كما أنها لم تترك لها أثراً مهماً في سجلات الملوك الآشوريين (10)؟. الواقع من الأمر أن هذا من الألغاز التاريخية المحيرة، وقد ارتأى أحد الباحثين (11) تفسيراً محتملاً في أن هيرودوتس الذي كان أقدم من دون أسطورة سميراميس استقى معلوماته عنها من كهنة بابل. وإذا صح أن أصلها أميرة بابلية تزوجها الملك الآشوري "شمسي ــ أدد" فإن اعتزاز التي رووها لهيرودوتس، وأضاف هيرودوتس بدوره من خياله القصصي الخصب أشياء اخرى، وتراكمت الأعمال العجيبة من بعد هيرودوتس وانتشرت شهرتها إلى أمم وأقطار بعيدة، حتى أن أحد الانهار في أرمينية بالقرب من وان سمي بنهر "سميراميس".
ويجدر أن نذكر بصدد كلامنا على "سميراميس" أن هيرودوتس يذكر ملكة أخرى حكمت بلاد بابل من بعدها وساماها "نيتوكرس" (Nitocris) ونسب إليها أعمالاً جسيمة في البناء والتشييد ولا سيما أعمال الري والسدود، من بينها حفر خزان واسع في منطقة بابل وتحويل مجرى الفرات عند بابل، وأن حملة الملك كورش الفارسي على بابل وفتحه لها كانت في عهد ابنها الذي سماه "الابينيتوس" Labynetus، وهو بلا شك تحريف اسم الملك البابلي "نبونيدس" (آخر ملوك الدولة البابلية الحديثة). هذا ولا يعلم أصل اسم هذه الملكة أي "تيتوكرس"، لا سيما وأسم أم "نبونيدس" ذكر في نص شاهد قبر لها وجد في حران بهيئة "أدد ــ كبي" (Adad – Guppi) (ANET, 1969 وهيرودوتس ، الكتاب الأول: 188-184).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ندرج فيما يأتي المراجع الأساسية عن التأريخ الآشوري:
1- CAH.
2- Olmstead, History of Assyria, (1923).
3- S, Smith, Early History of Assuria , (1928).
4- ARAB.
5- Wateman, Royal Correspondence…. (1930 – 6).
6- IRAQ, vols. 1950ff.
(2) حول تماثيل "آشور ناصر بال" انظر: AAO A. parrot, Assur, (1961).
(3) عن كتابة مسلة "آشور" ناصر بال" انظر:
Wiseman, in IRAQ, XIV (1952), 24ff.
عن التنقيبات القديمة في نمرود انظر:
A – H Lxyard, Nineveh and its Remains (1849).
A – H Lyard, Nineveh and Babylon (1882).
وعن نتائج التنقيبات البريطانية الحديثة راجع مجلة IRAQ منذ مجلد 1950 وأيضاً
D. Oates, "Ford Shalmanesre, IRAQ, XXI (1959). IBID.. XXII, (1961), I ff
(4) للمقارنة ما بين مساحة مدينة "كالح" وبين المدن الأخرى القديمة المشهورة، راجع وصف مدينة بابل في الفصل التالي (التاسع).
(5) عن بوابات "بلوات" البرونزية راجع:
King, Bronze Reliefs From The Gate of Shalmaneser, Frankfort, AAo, Pls. 91-2
(6) عن كتابة المسلة راجع: ANET, وعن صورها Parrot, Assur, Pls. 121 – 8.
(7) ندرج فيما يلي المراجع الأساسية عن أخبار شليمنصر:
(1) ARABm Im 553 – 612.
(2) Cameron in SUMER, (1950).
(3) F. Safar in SUMER, (1951).
(4) Laesson in IRAQ, XX (1959), 38 ff.
(5) Michell, un Die Welt des Orient, (1947), (1952).
(8) أقدم ما ذكر في الأساطير والحكايات عن سميراميس رواية هيرودوتس (القرن الخامس ق.م) في الكتاب الأول الفقرة 184. وذكرها المؤرخ الجغرافي "سترابو" (64 ق.م ــ 19م)، وديودورس الصقلي (منتصف القرن الأول ق.م) وغيرهما. ولم تقتصر شهرة سميراميس على الكتاب اليونان والرومان بل ذكرها عدد كبير من الكتاب في مختلف العصور، نذكر منهم على سبيل المثال "دانتي" في الكوميدية الإلهية، حيث جعلها من الشخصيات البارزة في جحيمه. ولفولتير مسرحية طريفة عن سميراميس، وكذلك "بول فاليري" وألف من أسطورتها "روسين" أوبرا شهيرة. ونظم عنها من الشعراء العرب عمر أبو رية والشاعر ان العراقيان محمد الهاشمي وبلند الحيدري. حول سميراميس انظر:
Olmstead, History of Assyria, P. 158.
F. Lehman, Semeramis and Ihr Zeit.
(9) لعل لمنشأ هذا الجزء من الأسطورة صلة باسم الملكة الآشورية "سمو ــ رمات" المركب من كلمتين : سمو(Sammu) وتعني حمامة و "رمات" أي حبوبة فيكون معنى اسمها "محبوبة الحمام".
(10) وجدت لها مسلة مشوهة الكتابة في نمرود:
ARAB, I, 731, 745.
(11) راجع بحث الأستاذ "كوسينس" (Goossens) في المؤتمر السادس لعلماء الآثار المنعقد في باريس عام 1956.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|