توجد بالمتحف المصري لوحتان نُقش على كل منهما مرسوم صدر في عام 182ق.م. والمرسوم الأول كهني، وهو في نظامه العام يذكرنا بصورة تلفت النظر بمراسيم رشيد والفيلة. وعلى ذلك يمكن أن نعتبره ضمن المراسيم التي نُقشت بلغات ثلاث، وذلك على الرغم من أنه لم يصل إلينا إلا الأصل الهيروغليفي الذي وجد ناقصًا في نهايته، أما اللوحة الثانية فهي لوحة «أصفون»، وقد اشُتِرَيَت اللوحة الأولى في القاهرة عام 1911، وسُجِّلَت بالمتحف المصري برقم السجل المؤقت
، وهي مصنوعة من الحجر الجيري الهش، ويبلغ ارتفاعها 1٫27 مترًا، وعرضها 0٫49 من المتر، وأعلى هذه اللوحة مستدير، وقد كُسِرَت قطعتين من وسطها، كما فقد منها من جراء ذلك السطر الثاني والعشرون من أسطرها، والعدد الكلي لأسطرها خمسة وثلاثون سطرًا، وقد ظلت مساحة خالية من النقوش في أسفلها تبلغ 26 سنتيمترًا.
ومحتويات متن هذا المرسوم تشبه كثيرًا محتويات المراسيم التي نعرفها فعلًا من هذا النوع، غير أن جزءًا من المتن يتميز بأنه يشير إلى انتصارات القائد الإغريقي «أريستونيكوس» الذي تحدثنا عنه فيما سبق.
وقد نشر هذه اللوحة الأثري «دارسي» (1).
لوحة أصفون
عثر «مسبيرو» عام 1914 في «أصفون» على قطعة من لوحة سُجلت في المتحف المصري برقم 44901، وهي من الحجر النوبي الرملي، وجزؤها الأعلى مستدير، ويبلغ عرضها 69 سنتيمترًا وطولها 85 سنتيمترًا، ويُلحظ أن الجزء الأسفل منها قد فُقد. وسطح هذه اللوحة متآكل، وتوجه فيه فجوات، ولحسن الحظ بقي الجزءان الأول والأخير سالمين، ومتن اللوحة نسخة من المرسوم الذي أصدره «بطليموس الخامس» في عام 23 من حكمه. ولقد أصبح من الممكن الاستعانة بهذا المتن على إصلاح بعض ما جاء مهشمًا أو غير مفهوم في المرسوم الأول إلى حد ما، وقد نشر هذا المتن كذلك «دارسي» (2).
قطع من مراسيم باللغات الثلاث من عهد بطليموس الخامس
وأخيرًا يجب علينا أن نشير هنا إلى قطع من مراسيم مدونة بلغات ثلاث من عهد الفرعون «بطليموس الخامس» وُجدت منذ البحوث التي قام بها كل من «كليرمون-جانو» و«كليد» عام 1907م في «الفنتين»، وقد وحد مؤقتًا الأثري «دارسي» أحد هذه المراسيم بمرسوم «منف»، وقد سمى هذه القطع في مقاله عن مرسوم عام 23 من حكم «بطليموس الخامس» (3)، قطعًا من متن هيروغليفي، والظاهر كما يبدو أنه كان يشير إلى «حجر رشيد».
يُضاف إلى ذلك أن الأستاذ «زيته» الذي فحص علاقة هذه القطع مع نفس مرسوم عام 23 قد شك في أن تكون هذه القطع جزءًا من نسخة من مرسوم منف. (راجع: Zur Geschichte und Erklarung der Rosettana Nach. Der Konig. Akad der Wissen, Gottingen 1916 p. 277.)
غير أن كل هذا لم يكن إلا فحص تخمين وحدس؛ وذلك لأنه لم يكن قد نُشر شيء من هذه الوثائق. ومع ذلك فإن الأثري «سوتاس» الذي كان قد تُبودِلَت بينه وبين «سيمور دي ريكي» Seymour de Recci كتابات بشأن هذه القطع؛ انتهى به الأمر إلى أنه وجد ثلاث قطع صغيرة منقوشة أمكنه بوساطتها أن يبرهن على أنها من مرسوم «منف»، وقد كتب عنها بحثًا في أكاديمية العلوم والآداب في باريس عام (4)1923، وأخيرًا ظهر في عام 1944 في جرنال العلماء مقال بقلم «شابو» (5) عن حفائر «كليرمون–جانو» في «الفنتين». وقد نُشر فيه رسائل هذا العالم إلى «دي فوجي» De Vorgué، وأهمية هذه الرسائل أنها كانت قد كتبت أثناء قيام أعمال الحفائر نفسها، وتحتوي هذه الرسائل على معلومات ثمينة عن الموضوع الذي نحن بصدده. والآثار التي أُشيرَ إليها في هذه الرسائل هي:
أولًا: قطعة كبيرة من الحجر الرملي كانت مستعمَلة كمدود منقوش عليها تسعة عشر سطرًا بالإغريقية، وبدرسها وُجدت أنها تؤلف جزءًا من مرسوم رشيد، ومن ثم أصبحت نظرية الأثري «زيته» السالفة الذكر لا قيمة لها؛ وذلك لأنه إذا كان من السهل أن نسيء الفهم من بعض أسطر هيروغليفية ممزقة، فإنه غير محتمل تمامًا أن نرتكب أخطاء في تسعة عشر سطرًا إغريقية، أمكن «كليرمون-جانو» أن يقرأها بنفسه.
ثانيًا: وُجدت مئات من الشظايا الجرانيتية نُقش عليها إشارات هيروغليفية وديموطيقية وإغريقية، وقد ظن كاشفها في بادئ الأمر أنها تحتوي على صورة من مرسوم «كانوب»، بسبب أن بعض هذه الشظايا كان منقوشًا عليه اسم «بطليموس الثالث»، ولكن عندما أمكنه أن يجمع من جديد التاريخ الذي عليها رأى أنه يختلف عن تاريخ مرسوم «كانوب»، وقد شاهد على أية حال أنه كانت توجد بلا شك قطع من مراسيم عدة أخرى محفورة على لوحات غاية في الجمال هُشمت بصورة وحشية.
ثالثًا: أشار أخيرًا إلى الكشف عن قطعةٍ من الحجر الرملي منقوشة بالديموطيقية، يقول: إنها خاصة بمرسوم «رشيد»، هذا إذا لم يكن قد أخطأ الفهم.
هذه نظرة عامة عن اللوحات والمراسيم التي وُجِدَت سليمة أو مُهَشَّمَة من عهد الملك «بطليموس الخامس»، ويجدر بنا بعد ذلك أن نترجم بقدر المستطاع ما يمكن ترجمته من مرسوم عام 23 من حكم هذا الفرعون والتعليق عليه؛ لما فيه من صعوبات.
(ﺟ) ترجمة مرسوم عام 23 من عهد بطليموس الخامس
سنحاول هنا أن نضع ترجمة للنص الهيروغليفي مع قرنه بالنص الذي وُجِدَ في «أصفون» كما ذكرنا ذلك من قبل، والواقع أن متن لوحة «أصفون» لا يملأ فعلًا الفجوات الموجودة في المتن الأول؛ بل نجد أن متن «أصفون» ينقطع في نفس المكان الذي ينتهي فيه المتن الأول. هذا، ونجد لدينا عونًا غير ثابت لملء بعض الفجوات من القطع التي نُقشت على جدران معبد الفيلة (6)، وهي من مرسوم مماثل للمرسوم الذي نحن بصدده.
الترجمة
السنة الثالثة والعشرون، الرابع والعشرون من شهر «جوربياوس» Gorpiaeos الذي يقابل الرابع والعشرين «من برمودة» في مصر، في عهد جلالة «حور رع» الشاب الذي ظهر بوصفه ملكًا على عرش والده، صاحب السيدتين، عظيم القوة، ومن يثبت الأرضين، والذي يجعل مصر (تامرى) مزدهرة، الفاخر القلب نحو الآلهة، «حور» الذهبي (المسمى) الذي يجعل حياة الإنسانية مزدهرة، وسيد الأعياد الثلاثينية مثل «بتاح-تانن»، والملك مثل «رع»، ملك الوجه القبلي والوجه البحري (وارث الإلهين فيلوباتور، المختار من «بتاح»، قوية روح «رع»، وصورة «آمون» الحية) ابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا محبوب «بتاح») الإله الظاهر «إبيفانس» بن «بطليموس» و«أرسنوي»، الإلهان اللذان يحبان والدهما، وعندما كان كاهن الإسكندر والإلهين المخلصين والإلهين الأخوين، والإلهين المحبين لوالدهما والإلهين الظاهرين، «بطليموس» بن «برهيدس» Pyrhides، وعندما كانت «ديمتريا» Dimetria (ابنة) «تليماك» حاملة هدية النصر ﻟ «برنيكي» المحسنة، وعندما كانت «أرسنوي» ابنة «برجازيدوس» Pergasidos حاملة السلة الذهبية أمام «أرسنوي» محبة أخيها، وعندما كانت «إيرن» ابنة «بطليموس» كاهنة «أرسنوي» محبة والدها.
في هذا اليوم قرار: اجتمع رؤساء (المعابد) والكهنة خادمو الإله والكتاب المقدسون والكهنة المطهرون الذين يدخلون في المكان المقدس (قدس الأقداس) لأجل إلباس الآلهة لباسهم، وكذلك كتاب الإله ورجال بيت الحياة المزدوج والكهنة الآخرون التابعون لمحاريب الجنوب والشمال الآتون من «منف» يوم ظهور العجل «منيفيس» — عجل عين شمس — في سخرت — جزء من منف يُحتمل أنه يحتوي على القصر الملكي — التي هي «ميزان الأرضين».
وهاك ما قصوه:
بما أن ملك الوجه القبلي والوجه البحري (وارث الإلهين اللذين يحبان والدهما، المختار من «بتاح»، قوية روح «رع»، وصورة «آمون» الحية) ابن «رع»، (بطليموس العائش أبديًّا)، الإله الظاهر ابن «بطليموس» والملكة «أرسنوي»، الإلهان اللذان يحبان والدهما، وكذلك الأميرة الحاكمة سيدة الأرضين «كليوباترا»، والإلهان الظاهران المقيما الشعائر، والسيدان الطيبان جدًّا للأراضي المقدسة ومن فيها، وسلطانهما فيها ممتاز حتى نهايتها، وقلباهما خير نحو الآلهة.
وأن الذي يشغلهما كذلك الآن وهو حمل الأشياء العدة لآلهة مصر جميعهم والإلهات قاطعبة لأجل أن توضع في محاريبهم، ثم إقامة السلام بين سكان مصر كما فعل «تحوت» مزدوج العظمة، وأن جلالته قد قرر دخلها المقدس للآلهة نقدًا وعينًا على أن يُدفع للمعابد سنويًّا، وكذلك نصيب الآلهة في الأراضي والأشجار والجزر التي بُذرت، وكل شيء عُمل بحق وكان مقداره كما كان في زمن الأجداد يُدفع سنويًّا (على أقساط). ولما كان قد منح أراضي كثيرة للمعابد، وحبس عليها دخلًا مقدسًا، وعُملت أشياء على حسب العدالة في كل الأحوال وأمر بإقامة تماثيل … لتوضع في مكانها، وعمل أمجادًا كثيرة للعجل «أبيس» وللعجل «منيفيس» وللبقرة العظيمة، وكذلك لكل الآلهة المحترمة في مصر مع إضافةٍ إلى ما كان من قبل. وقد دفعه «قلبه» لخدمتها في كل وقتٍ … بعظمة وسخاء.
وكان عليهم كذلك أن يراعوا كل التعليمات لتطهير كل الأشياء (؟) … التماثيل (؟) في معابدها التي في عيد عظيم، وعليهم أن يستمروا في تقديم القربان وتقديم القربات المحروقة وصب القربات السائلة، وعمل كل شيء أُعْتِيد عمله … وأنه مجَّد العجل «أبيس» كثيرًا، وأضاف إلى ما كان موجودًا من قبل، وأنه عمل غطاء جميلًا من الذهب ونسخة من الآلات؟ في امتداده عندما كان … «لأبيس» يعمل في السنة العشرين من رحلته.
وعلى ذلك فإن كل الإنسان قد استراح، والجنود المنتصرون … لجلالته كانت للمعابد، وكذلك أموال الضريبة التي كانوا يدفعونها لأجل أن تكون … جلالته لها، وأمر بإرسال آنية جميلة (؟) (22) … وأعاده حسب … (23) … ويعزق الأرض بفأسه، إعفاء (؟) الآلهة. وانتصاراته … والناس خدام الآلهة معه في المكان المقام في المنطقة (؟) (24) … المعسكر في «البلمون»، وقد عملوا اجتماعًا من … عديدون في الإقليم المقدس، وكان الأهالي تحت حراسته عندما كان … (25) … والأراضي أصابها الجفاف بسبب عدم امتلاء الترع (؟)، ومكانه … وقد أنزل أسطولًا قويًّا (26) في البحر الأبيض المتوسط لأجل أن يخترقه في كل امتداده في الأماكن التي تقع تحت سلطانه؛ لأجل أن يجمع لجلالته المال والمحاصيل … مملوء بالجنود وﺑ … الذين كانوا حرسه. وعلى ذلك عمل ترقية على حسب لبه فرقَّى جلالته لرتبة قائد الفرسان «أريستونيكوس»؛ لأن قلبه كان غيورًا (على خدمته) عاملًا السلام لأجل (28) … وملء قلب جلالته؛ لأنه كان يسوق كل يوم الرجال ليتبعوه على ظهور الخيل، ورجال الأسطول في مناورات بالسفن (29) وقد وصل أسطوله إلى اجتماعات (؟) «أبامي» في البحر الأبيض المتوسط وكل واحد … معسكر إقليم «البلمون» Diospolis (30) … مكانه.
وقد تضرع إليه هذا العدو مع قومه لأجل أن يجعلهم يحضرون ليقدموا الذهب الذي لا يُحصى، وكذلك الأحجار الكريمة التي لا يُعرف مقدارها (31). وبعد أن عاقب الثورة وثبت العدالة في مجراها انضم (الأسطول) إلى سيده في الوقت الحرج في لحظة الغزو. وبعد ذلك نجد أن (32) «أريستونيكوس» استولى على «أرادوس»، وهي التي تقع في الجزيرة والإقليم الذي هي فيه، وكذلك الأماكن البحرية؛ فقد استولى عليها مع النقود والمحاصيل والأشياء (33) العديدة التي لا حد لها، وهي التي كانت موضوعة هناك في كل مكان مقدس، وقد عادوا أثرياء بعد مضايقة كبيرة، فقد ضربوا مكان البحارة (؟) وعمل … من هذا العدو، وأنه قوي (؟) إذ كان يعمل مستشارًا لكل شيء، وقد باركه الناس من خلفه، والآلهة بسطوا حمايتهم حوله؛ فقد هزم الكفرة، وصير الثائرين (تعساء) في الوجه القبلي والوجه البحري، وفي أمشير من السادس إلى 15 منه أتم هزيمتهم بالانتصارات، وقد نال انتصارات وحصل على انتصارات في شخص الملك.
(د) تعليق
أول ما يُلحظ في هذا المتن أنه لم يذكر في السطر الأول اسم الشهر المصري المقابل للشهر المقدوني الذي جاء ذكره وهو «جوربياوس». هذا، وتدل شواهد الأحوال على أن مؤلف هذا المرسوم قد نقل بصورة آلية السطرين الثامن والتاسع من متن قديم دون أن يضيف إليهما التغييرات اللازمة. هذا، ولا نعلم السبب الذي من أجله أن الكهنة الذين كانوا قد اجتمعوا في «منف» لأجل تتويج العجل «منيفيس» الذي كان مقر عبادته «هليوبوليس» قد توجوه في «منف» ولم يتوجوه في «هليوبوليس» التي كان يجب أن يُتوج فيها لا في غيرها، وبخاصة عندما نعلم أنه في عهد «بطليموس الخامس» لم يحدث إلا تغير واحد في العجل «أبيس»، وعلى ذلك فإنه من المحتمل أن مرسوم اللوحة رقم 22184 المحفوظة بالمتحف المصري وهو المؤرخ بالسنة العشرين من عهد «بطليموس الخامس» هو الذي كان قد نُقلت بدايته بغباوة في لوحات عام 23 من حكم هذا الملك مع عمل تغيير واحد وهو وضع اسم العجل «منيفيس» بدلًا من العجل «أبيس»، وبخاصة عندما نعلم أن الكهنة قد اجتمعوا في «منف» لا في «هليوبوليس»، وعلى أية حال لدينا لوحة من لوحات السرابيوم نفهم منها أن «أبيس» الذي عاش في عهد «بطليموس إيرجيتيس الثاني» كان قد اقتيد في السنة الثالثة من حكم هذا الملك إلى «هليوبوليس»، وعلى ذلك فإنه كان من المحتمل وجود تبادل في الزيارات بين العجل «أبيس» الذي كان مقره «منف» والعجل «منيفيس» الذي كان مقره «هليوبوليس».
وأريد أن ألفت النظر إلى أن الترجمة التي أوردناها هنا لهذا المرسوم ترجمة مؤقتة؛ إذ كنا نأمل بعد الكشف عن لوحة «أصفون» أن يصبح في الإمكان ملء الفجوات التي في المتن الذي نحن بصدده. هذا، بالإضافة إلى أن متن «أصفون» ينقطع عند نفس النقطة التي انقطع فيها متننا، وعلى أية حال قد استعنا في قراءة هذا المتن بقطع النقوش التي وُجدت محفورة على جدران معبد الفيلة؛ وذلك لأن هذا المتن يشبه في تأليفه متننا حتى السطر الحادي عشر، ولكن بعد ذلك وبخاصة في الجزء العظيم الأهمية الذي يحتوي على معلومات تاريخية، فقد اعتمدنا على متنينا المؤرَّخين بعام 23 من حكم هذا الملك، وكلاهما مُهَشَّم كما أشرنا إلى ذلك، وعلى ذلك فإن الوقت لم يَحِنْ بعد لدرس هذا المرسوم بصورة تامة، ومع ذلك فسنشير هنا لبعض النقاط الجديدة التي أمكن استخلاصها.
أولًا: يُلحظ أن التاريخ الذي ذُكر على لوحة «أصفون» هو العام 23 اليوم 22 من شهر «أبللوايوس»، في حين أن تاريخ المرسوم الذي على اللوحة الأخرى هو السنة 23 اليوم الرابع والعشرون من شهر «جوربياوس». هذا، ويتساءل الإنسان كيف يمكن حل وضع تاريخين يختلف الواحد منهما عن الآخر — إذ يبعد الواحد منهما عن الآخر بمدة ثلاثة أشهر أو تسعة على حسب بداية السنة — وكيف أمكن وضعهما لعمل واحد رسمي؟ والواقع أنه من الناحيتين نجد تقابل الأشهر المقدونية مع الأشهر المصرية غير صحيح؛ فاللوحة الأولى تقدم لنا الرقم 24، والظاهر أنه يوم الشهر، ولكن لم يذكر اسم الشهر، أما لوحة «أصفون» فقد جاء فيها: «الذي في شهر المصريين» وحسب دون ذكر أي شيء آخر.
وعلى أية حال فإن نهاية كل من المرسومين قد ضاعت، ومن المحتمل أنه لو وُجدت نهاية كل منهما لعرفنا السبب في إصدار مرسومين في سنة واحدة، ولن نستغرب مثل هذا العمل في عهد «بطليموس الخامس» الذي كان مليئًا بالأحداث، وبخاصة النضال الذي كان بينه وبين المصريين الذين كانوا قد هبوا دفعة واحدة لاسترداد حريتهم واستقلالهم الضائع، والتخلص من حالة الفقر التي كانوا يئنون تحت عبئها.
وعلى الرغم مما جاء في لوحتنا من فجوات جعلت ترجمتها مبهمة بعض الشيء في الجزء الأخير منها، فإنه يمكن القول مما تبقى لدينا من المتن أنها كانت قد أُقيمت على شرف «أريستونيكوس» صاحب الحظوة العظيمة عند «بطليموس الخامس»، وذلك لأن أعمال هذا القائد قد نالت حظًّا كبيرًا من التمجيد. والظاهر أن ما ذُكر في هذه اللوحة عن هذا القائد يبتدئ عند السطر الثالث والعشرين حيث الحديث عن الناس، ومن المحتمل أن المقصود هنا بالناس هم جنود «أريستونيكوس» المرتزقة، كذلك ذكر تعيينه قائدًا أعلى للفرسان. والمقصود بجنود «أريستونيكوس» هم أولئك الذين كان قد جندهم من بلاد الإغريق، والظاهر أن المعسكر المصري كان قد أُقيم في بلدة تل «البلمون» عاصمة المقاطعة الثامنة عشرة من مقاطعات الوجه البحري (راجع أقسام مصر الجغرافية القديمة ص89). ومن المحتمل أن البلدة التي كان قد جُمع فيها الأسطول والجيش سويًّا تحت إمرة هذا القائد كانت وقتئذٍ «دمياط» الواقعة عند مصب فرع النيل الفتناتي. هذا، ولم يُفهم معنى الجملة الممزقة التي جاء فيها ذكر بلدة «أبامي» (سطر 29).
والواقع أن «بطليموس» لما كان يأمل في مساعدة الرومان له للاستيلاء على جزء من أملاك «أنتيوكوس»، فإنه كان قد أرسل على ما يُظن مقدمًا أسطوله ليحتل في الحال البلاد التي كانت ستُعطى له، ونحن نعلم بدورنا من حوادث التاريخ التي ذكرها لنا الكتَّاب القدامى أن أمل «بطليموس» كان برقًا خلبًا، وأن معاهدة 188ق.م لم تَدُر عليه أية فائدة، ومن أجل ذلك نجد أن الأسطول قد عاد (سطر 30)، وأن الجيش الذي كان يحمله هذا الأسطول قد استُعمل في القضاء على الثورة الوطنية التي كانت مندلعة في الوجه البحري. هذا، ونجد في السطر الثاني والثلاثين ذكر حقيقةٍ تاريخيةٍ جديدة، وذلك أن المؤرخين القدامى قد ذكروا لنا أنه بعد موت «أنتيوكوس الثالث» وتولية ابنه «سليوكوس الرابع» من بعده عام 186ق.م استعد المصريون للاستيلاء على «سوريا الجوفاء» من جديد، وعلى حسب المتن الذي نحن بصدده الآن نفهم أنه كانت هناك بداية لتنفيذ هذا المشروع؛ فقد ذكر لنا المتن أن المصريين استولوا فعلًا على مدينة «أرادوس» من أعمال «فنيقيا» وأنهم خربوها، وأن ما كان بها من ثروة قد حُملت في الوقت المناسب؛ لتملأ خزانة «بطليموس الخامس» التي كانت خاوية مفلسة، وعلى أثر هذا العمل العظيم نُصب هذا القائد العظيم مستشارًا للملك، ونال التهاني من الجميع.
وكما قلنا نجد نهاية هذا المرسوم مهشمة؛ ولذلك فإن ما بقي لنا منه لا يقدم معنى صريحًا؛ بل يشوبه الغموض لدرجة أنه لم يكن في استطاعتنا أن نعرف إذا كان شرف هذا النصر قد وُجه إلى «أريستونيكوس» أو إلى «بطليموس الخامس»، وعلى ذلك يظهر أن هذا النقش يجب أن يكون قد صدر بعد مرسوم الفيلة الثاني، وهو المرسوم الذي جاء فيه ذكر «أريستونيكوس» فيما يتعلق بالثورات التي هبت في الوجه القبلي، وعلى أية حال فإن السنة الثالثة والعشرين كانت آخر سِنِي حكم «بطليموس الخامس»؛ إذ قد حضره الموت فجأةً عام 181ق.م كما ذكرنا ذلك فيما سبق، ومن ثم فإن الحوادث التي جاء ذكرها في هذا المرسوم كانت آخر أعمال وقعت في عهد هذا العاهل.
وهكذا نجد في هذا المرسوم — على الرغم من تمزيقه وضياع جزء منه — صحائف منقوشة عن تاريخ مصر دُونت — على ما أعتقد — بيدٍ مصرية، وهي غير تلك الصحائف التي تركها لنا الكتاب الإغريق القدامى، ويلفت النظر هنا أنه قد جاءت فيها أحداث جديدة لم يذكرها الكتاب القدامى. غير أن هذه الصحائف بكل أسفٍ قد وُجدت ممزقة؛ ومن ثَمَّ تركتنا متلهفين عما كانت تكنه من معلومات وحقائق ربما كان قد غفل عنها أو أغفلها الكتاب القدامى عن قصد؛ لأنها لا تتحدث عن الإغريق بل تتحدث عن الشعب المصري وأمجاده، ولكن لحسن الحظ قد أبقت لنا الأيام وثائق ديموطيقية من عهد هذا الملك تحدثنا عن الحركة الوطنية التي قامت في آخر عام من حياة «بطليموس فيلوباتور» واستمرت حتى العام التاسع عشر من عهد خلفه «بطليموس الخامس»، وقد أشرنا إلى هذه الحركة من قبل، وهي التي كان رائدَها في بادئ الأمر بطلٌ مصري يُدعى «حرمخيس» ثم خلفه بطل آخر يُدعى «عنخمخيس» وقد حمل كل منهما الألقاب الملكية المصرية القديمة. هذا، وقد استمرت الثورات القومية على البطالمة حتى أنهكت قواهم، وأدت بملكهم إلى الزوال، وسنتحدث عن هذه الثورات في فصل خاص.
..............................................
1- راجع: Rec. Trav. (1911) An. 33 p. 1–8.
2- راجع: Rec, Trav. 1916-1917, 88e année p. 175–179 sous le titre Un Second exemplaire du Decret de l’an XXIII de Ptolémée Epiphane
3- راجع: Rec. Trav. (1911) , T. XXXIII, p. 1. Etc.
4- راجع: Académie des Transcriptions et Lettres Paris. Tome, XIII, 2e Partie, p. 485–505
5- راجع: Journal des Savants, p. 87–92 et 132–142
6- راجع: L. D. IV Pl. 20; V pl. 34
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة