غارة عيينة بن حصن على إبل المدينة
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص514-518
2025-11-19
33
وبعد رجوعه بأيام قليلة أغار عيينة بن حصن بن حذيفة على إبل حلوب لرسول اللّه ومعه جماعة من غطفان ، والإبل كانت مع رجل من بني غفار وامرأته ، وقيل إنها كانت مع أبي ذر وابنه وزوجته وثلاثة غيرهم فقتل ابنه وأسرت زوجته ونجا هو ومن معه .
وفي رواية الطبري عن أبي سلمة بن الأكوع ان رسول اللّه بعد صلح الحديبية بعث بإبله مع راعيها وغلامه رباح وكنت معه على فرس لطلحة بن عبيد اللّه ، فأغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول اللّه فقتل راعيها واستاقها ، قال سلمة بن الأكوع فقلت لرباح خذ هذا الفرس واعطه لطلحة واخبر رسول اللّه ان ابن عيينة قد أغار على إبله واستاقها .
وأضاف ابن الأكوع إلى ذلك كما جاء في كتب السيرة انه وقف على مشرف المدينة وقال وا صباحاه : وكانت الكلمة التي تستعمل لطلب النجدة ، ومضى يقول : اني خرجت في آثار القوم فجعلت أرميهم بالنبل واعقر خيولهم حين يكون الشجر ، فإذا رجع إلي فارس جلست له إلى جانب الشجرة ورميته ، فلم يدن مني فارس إلا أصبته أو عقرت به فرسه ، فلما انتهينا من الأشجار وبلغنا المرتفعات والجبال علوت الجبال والمرتفعات وجعلت أرميهم بالنبل والأحجار حتى ما بقي شيء من إبل رسول اللّه الا وتركوه وأصبح ورائي ، وما زلت أرميهم وأسير في اثرهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وثلاثين بردة يستخفون منها ، وكلما تركوا شيئا جمعته في طريق رسول اللّه ووضعت عليه الحجارة ، ومضيت في اثرهم حتى إذا كان الضحى اتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم وهم في ثنية ضيقة وانا فوق الجبل فقال لهم عيينة ما هذا الذي أرى ، قالوا لقد لقينا منه شرا ، واللّه ما فارقنا منذ السحر حتى الآن ولقد اخذ كل ما بأيدينا وجعله وراء ظهره فقال عيينة : لولا ان له مددا وراءه لترككم .
ثم انتدب إلي أربعة منهم فصعدوا نحو الجبل فلما رأيتهم قلت أتعرفونني ، قالوا من أنت قلت انا ابن الأكوع ، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني ، ومضى يقول : فما برحت مكاني حتى نظرت إلى فوارس رسول اللّه ( ص ) يتخللون الشجر يتقدمهم الأخرم الأسدي ، وفي اثره أبو قتادة والمقداد بن الأسود الكندي فولى المشركون ونزلت من الجبل واخذت عنان فرس الأخرم ، وقلت يا اخرم احذر القوم فاني لا آمن ان يقطعوك فانتظر حتى يلحقك رسول اللّه وأصحابه ، فقال : يا سلمة ان كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر فلا تحل بيني وبين الشهادة ، فخليت عنان فرسه ، ولحق بعبد الرحمن بن عيينة ، فعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين فعقر الأخرم فرس عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وركب عبد الرحمن فرس الأخرم ، فلحق به أبو قتادة فضربه فعقر به الفرس وقتله .
ومضى القوم يشتدون حتى انتهوا قبل غياب الشمس إلى ماء يقال له ذو قرد فأرادوا ان يشربوا فابصروا الطلب في اثرهم ، فمالوا إلى ثنية ذي بئر ، وانتهى رسول اللّه بمن معه من المسلمين إلى ذي قرد وكانوا نحوا من خمسمائة من الصحابة ، وقسم في كل مائة جزورا ينحرونها .
قال ابن الأكوع : فأتيت رسول اللّه وقلت له انتخب من أصحابك معي مائة لكي نهاجم المشركين عشاء فلا يبقى منهم مخبر ، فقال أكنت فاعلا ذلك يا سلمة ؟ قلت نعم والذي أكرمك بالنبوة فضحك حتى بدت نواجذه .
ثم قال النبي ( ص ) انهم الآن أصبحوا بأرض غطفان ، فلما أصبح رسول اللّه رجع بمن معه إلى المدينة واسترجع جميع الإبل التي كان الغزاة قد استاقوها .
وجاء في بعض المرويات من كتب السيرة ان زوجة أبي ذر التي اسروها وهي مع زوجها ترعى الإبل كانت ترصد القوم حتى إذا ناموا ركبت بعض القلائص التي بقيت معهم من إبل رسول اللّه وفرت هاربة بها إلى المدينة ، ولما بلغتها قالت يا رسول اللّه : اني كنت قد نذرت ان انحرها ان نجاني اللّه عليها ، فقال لها : بئسما جزيتها لا نذر في معصية ولا فيما لا تملكين وكانت الناقة لرسول اللّه وتسمى العضباء ، وقبله كانت لرجل من عقيل فوقع أسيرا في أيدي المسلمين فمر عليه رسول اللّه وهو قيد الأسر فقال يا محمد علام تأخذونني ؟ فقال النبي نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف ، وكانوا قد أسروا رجلين من المسلمين ، وأخيرا افتدته ثقيف بالرجلين من المسلمين وبقيت العضباء مع إبل رسول اللّه[1].
وبعد التتبع في كتب التاريخ والسيرة يجد الباحث اختلافا بينا وكبيرا في سرد اخبار تلك الغزوات وأحيانا كل واحد يناقض الآخر في مروياته مما يبعث على الشك في كثير من المرويات حول السيرة وغيرها من اخبار العرب والمسلمين في العصور الأولى ، تلك الأخبار التي يعتمدها الباحث والمستشرق وأعداء العرب والمسلمين أساسا لأبحاثهم ودراساتهم على عيوبها وعلاتها ويخرجون أحيانا بنتائج تسيء إلى الرسول وسيرته .
ان رواية ابن الأكوع في هذه الغزوة أشبه بأساطير العرب القدامى التي كان القصاصون يضعونها في اخبار الملاحم والغزوات .
لقد ادعت الرواية عنه انه تتبعهم وحده وهو راجل وهم عدد كبير وكأنهم النعاج بين يديه يفتك بهم ويعقر خيولهم حتى تركوا الإبل وراءهم ، وتركوا مع ذلك أكثر من ثلاثين رمحا وحلة ، وما زال وحده يطاردهم حتى اجهدهم ، في حين ان بعض المرويات تنص على أن المسلمين قد طاردوهم مع النبي ( ص ) واسترجعوا من الإبل عشرة لا غير ونجا الغزاة بما بقي منها .
وتنص بعض المؤلفات في السيرة على أن الأسيرة زوجة أبي ذر ترصدت القوم حتى إذا ناموا ، ركبت من الإبل التي بقيت معهم العضباء ناقة النبي وفرت بها إلى المدينة ، والبعض الآخر من المرويات تنص على أن النبي وأصحابه استرجعوا الإبل بكاملها وقتلوا من الغزاة جماعة إلى غير ذلك من التشويش والاضطراب .
ويبدو من أكثر المؤلفات في سيرة الرسول ( ص ) انه كان لسلمة بن الأكوع دور مشكور في هذه المناسبة ، اما تحديده بما ترويه بعض السيرة وكتب التاريخ فلا تؤيده المصادر الأخرى بل هو أشبه بالأساطير كما ذكرنا .
وجاء في تاريخ الطبري ان عكاشة بن محصن أدرك بعض الغزاة في هذه الغزوة ، ويدعى أدبار ، وكان هو وابنه عمرو بن أدبار على بعير واحد فطعنهما بالرمح طعنة انتظمت الاثنين وقتلهما معا .
ولعل مرد الاختلاف الوارد في هذه الحادثة وغيرها يعود إلى أن تدوين السيرة كان بعد مضي أكثر من ثمانين عاما على وفاة الرسول ( ص ) ، واعتمد المؤلفون فيها في تلك الفترة على التابعين والموالي وغيرهم ممن تناقلوا الأخبار وحوادث السيرة عن الطبقات التي سبقتهم ، وكانت الذاكرة هي الوعاء لكل الآثار الإسلامية باستثناء نتف محدودة من المدونات لم تستوعب الا القليل من الآثار ، وكان ذلك من أسباب الغموض الذي يكتنف بعض الجوانب الاسلامية والمرويات عن سيرته وغزواته ، هذا بالإضافة إلى دور القصاصين والوضاعين وغيرهم كما أشرنا إلى ذلك في مختلف المناسبات .
[1] انظر البداية والنهاية لابن كثير .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة