موقف سلمان الفارسي من الإسلام
المؤلف:
هاشم معروف الحسني
المصدر:
سيرة المصطفى "ص"
الجزء والصفحة:
ص301-306
2025-11-04
36
ليس بغريب إذا وجد بين أتباع النبيين فريق تبدو عليهم آيات الطهر والصفاء والبراءة ، فالمرسلون الكرام يتعهدون بالتعليم والتربية وبما يتركونه من الوصايا ضمائر البشر ليدفعوا بها إلى الفضيلة ، وإذا علقت بنفوسهم شهوة إلى متع الدنيا حاولوا تنقيتها ليردوا عليها سناءها الذي قد تحجبه الشهوات ، فالنفوس الطيبة كالمصابيح إذا خمد ضوء أحدها وأدنيته من المصباح المضيء يكتسب الضوء وتنفرج الظلمات من حوله . ومهما أوتي العقل من نفاذ وتبصر بالأمور لا يستطيع إدراك الحقائق ما لم تسدده العناية والرعاية .
وما أكثر من عالجوا شؤون الكون ومشاكل الحياة وظلوا زمنا طويلا يبحثون عن الحقيقة فتاهوا ولم يهتدوا وأصبحوا كالطيار الذي يتيه في الضباب الكثيف ، فإذا لم يتلق إرشادا يحدد له مكانه ويعرفه كيف يسير وكيف يهبط ، فإنه يظل تائها وقد يهوي في مكان سحيق تكون به نهايته ونهاية من سار بهم على غير هدى ورشاد .
وقليل من يصلون في أبحاثهم الطويلة إلى الغاية الا بعد جهود شاقة وأعوام طوال ، ولكن اتباع النبيين والمرسلين الذين طابت نفوسهم وطهرت قلوبهم من الأهواء والآثام قد يصلون إلى غاياتهم في بضع ساعات معدودات لأن مهمة الأنبياء ان يربطوا الناس بخالق الكون على أساس الاحساس بتلك القوة والعرفان للجميل ، ولذا فإن النبي ( ص ) كان يحرص على إبراز الجوانب المحسوسة من مظاهر قدرة اللّه سبحانه التي اتسعت لجميع الكائنات يتلو على الناس في الغالب من آيات اللّه البينات التي تتحدث عن الكون وما فيه من المخلوقات والعجائب والنعم الجسام ليبني في نفوسهم الإيمان برسالته على أساس من المعرفة والإدراك لأبعادها . اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ . وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ . وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها .
ان محمدا كان يعمل بكل جهده ليغرس في القلوب والأرواح معرفة اللّه والحق والخير وحب الانسان لأخيه الانسان ، حتى إذا أقبل الانسان على ربه يقبل عليه بفكره وقلبه ويهب له نفسه وحسه وجميع مداركه وطاقاته ، وهذا الذي تعنيه الآية .
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ .
ان محمدا ( ص ) لم يطلب من الناس ان يقدسوا فيه صورته المركبة من اللحم والدم ، ولم يرد ان يستأثر على أحد بشيء ولا بأن يتأله عليهم كما تأله فرعون وأمثاله من الجبابرة والطغاة ، بل أرادهم ان يقدسوا فيه معنى الرسالة وان يهتدوا إلى مثلها العليا ، وان يصونوا فيها معالم الحق والرحمة والخير ، وقد استطاع ان يشحن هذه المعاني في نفوس المئات ممن عاصروا دعوته وجهوده وتضحياته في سبيلها كسلمان الفارسي الذي آمن به منذ ان رآه وبعد ان سمع شيئا من رسالته ، حتى بلغ القمة في ايمانه ، وأصبح في زمانه كلقمان في زمانه كما جاء ذلك عن الرسول ( ص ) :
وحدثت السيدة عائشة انه كان لسلمان مجلس من رسول اللّه ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا عليه .
وجاء في الحديث عن الرسول ( ص ) ان ربي امرني بحب أربعة علي وأبي ذر والمقداد وسلمان .
وروى أبو البختري عن علي ( ع ) أنه قال : ان سلمان علم العلم الأول والعلم الآخر ، وكان بحرا لا ينزف وهو منا أهل البيت .
وفي شرح النهج أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين ، فقالوا ما اخذت السيوف من عدو اللّه ، يعنون بذلك أبا سفيان وهو يسمعهم ، فقال لهم أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها ، وأتى النبي وأخبره بقولهم : فقال يا أبا بكر أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم ، فقد أغضبت اللّه ، فأتاهم أبو بكر وقال يا اخوتاه لعلي أغضبتكم ، فقالوا لا يا أبا بكر يغفر اللّه لك إلى كثير من الأحاديث المروية من طرق الشيعة والسنة في فضله واخلاصه وخدماته التي قدمها في سبيل نشر الدعوة ، حتى بلغ به مرتبة قال فيه النبي : سلمان منا أهل البيت ، وقال لا تقولوا سلمان الفارسي ، ولكن قولوا سلمان المحمدي .
وجاء في حديث اسلامه في الطبقات الكبرى لابن سعد انه كان فارسيا من قرية تابعة لأصفهان يدين بالمجوسية دين آبائه ، فمر بكنيسة للنصارى فأعجبته طقوسهم ، فسأل عن مصدر هذا الدين الذي تدعو إليه الكنيسة ، فقيل له انه ببلاد الشام ، فخرج متخفيا من أهله مع قافلة من التجار واتصل بالأسقف هناك وبقي عنده مدة من الزمن ، ثم خرج إلى الموصل والتحق برجل فيها من النصارى ، ومنها اتجه إلى نصيبين واتصل براهب فيها أخبره بأنه سيخرج رجل يبعث نبيا في أرض الحجاز ويستقر في أرض ذات نخل لا يأكل الصدقة ويأكل الهدية ، وبين كتفيه خاتم النبوة .
ولما مر به ركب الحجاز سافر معهم إليها ، فباعوه من رجل يهودي ، وانتقل منه إلى أحد بني قريظة في المدينة ، فاستعمله في بساتينه ، ولما هاجر النبي ( ص ) إلى المدينة قال سلمان على حد زعم الراوي : واللّه اني لفي رأس نخلة وصاحبي تحتها وإذا بأحد بني عمومته يقول له : أي فلان قاتل اللّه بني قيلة انهم ليجتمعون على رجل قدم من مكة يزعمون أنه نبي فو اللّه ان هو إلا أن قالها فاخذني القر والانتفاض فنزلت من النخلة وجعلت استقصي في السؤال ، فقال لي سيدي أقبل على شأنك ودع ما لا يعنيك .
فلما أمسيت اخذت شيئا كان عندي من التمر وأتيت به النبي ( ص ) ، فقلت له بلغني انك رجل صالح وان لك أصحابا غرباء ذوي حاجة ، وهذا الشيء عندي للصدقة وأنتم أحق به من غيركم ، فقال ( ص ) لأصحابه كلوا وأمسك ، فلم يأكل منه شيئا فقلت في نفسي هذه واحدة وانصرفت ، فلما كان من الغد اخذت ما كان بقي عندي وأتيته به فقلت له رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية ، فقال لأصحابه كلوا وأكل معهم ، فقلت في نفسي هو هو ، وانكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال ما لك : فقصصت عليه قصتي .
ثم قال يا سليمان : كاتب صاحبك فكاتبته على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية ، وقال رسول اللّه للأنصار : اعينوا أخاكم فاعانوني بالنخل حتى أحضروا ثلاثمائة ودية فوضعها رسول اللّه بيده فصحت كلها ، إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب ، فقلعها رسول اللّه ، ثم غرسها بيده فعاشت وأثمرت ، وأتاه مال في بعض المغازي فأعطاني منه وأديت كتابتي .
وجاء في رواية الطبقات ان رجلا من الأنصار أعطاه شيئا يعادل البيضة من ذهب ، فأدى منه كتابته وأصبح حرا ، وأكثر الروايات حول اسلامه لا يطمأن إليها كما يبدو ذلك للباحث في أسانيدها ومتونها .
واتفق المؤرخون على أنه قد اشترك في حرب الخندق وهو الذي أشار على المسلمين بحفره حول المدينة حتى لا يستطيع أحد من المشركين ان يدخلها ، وقال أبو سفيان يوم ذاك انها لمكيدة ما كان العرب ليعرفوها .
ويدعي بعض المؤرخين ، انه قد أسلم في السنة الأولى من دخول النبي ( ص ) إلى المدينة .
وعلى اي الأحوال ، فلقد اتفق جميع المؤرخين والمحدثين على أنه كان من الصفوة بين عظماء الصحابة ، والأحاديث التي وردت في فضله لم ترد في حق أحد من صحابة الرسول ( ص ) .
اما الكيفية التي يرويها المؤرخون والمحدثون عن مراحل حياته وما رافقها من الأحداث حتى انتهى الحال به إلى المدينة إلى غير ذلك مما يرويه المؤرخون حول اسلامه فأكثره من المراسيل ، التي لا توجب الاطمئنان . وقد ذكرنا أكثر من مرة ان السيرة النبوية لم تدون تدوينا شاملا قبل مطلع القرن الثاني ، والذين اتجهوا إلى التدوين العام يوم ذاك قد ادخلوا عليها عشرات القصص والأحاديث إما عن حب وهوى ، أو بقصد التشويه والتشويش لسنة الرسول وسيرته .
ولكن الذي لا شبهة فيه انه لم يكن عاديا كسائر الموالي والمستخدمين حتى قبل دخوله في الإسلام ، فلقد جاء عن النبي ( ص ) أنه قال : سلمان صاحب الكتابين ، يعني بذلك الإنجيل والقرآن .
وجاء في بعض المرويات عنه انه انتقل من دين إلى دين عن حكمة وتدبر إلى أن انتهى إلى الاسلام واستقر عليه مؤمنا بأصوله ومبادئه ، مخلصا في تطبيقه زاهدا في الدنيا عزوفا عن شهواتها وملذاتها ، تاركا للأجيال مثلا كريما عن المصطفين الأخيار الذين أقبلت الدنيا عليهم فاعرضوا عنها وقبل ان تستعبدهم استعبدوها ورفضوها وخرج منها لا يملك من حطامها إلا بيتا بناه له أحد المسلمين من ماله ، لا يتسع لأحد سواه كما جاء في شرح النهج ج 4 ص 224 ، مع أن الخليفة كان قد ولاه المدائن وجهاتها وبإمكانه ان يتقاضى من خزينة الدولة من الأموال ما يكفيه لكل أسباب الراحة والنعيم ، ولكنه آثر ان يستهين بكل ما في الدنيا من نعيم ومتع ليكون مع النبيين والصديقين يوم يوفي اللّه العاملين أجورهم بغير حساب .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة