دوافع الحروب الصليبية
المؤلف:
أ.د. محمد سهيل طقوش
المصدر:
تاريخ السلاجقة في خراسان وإيران والعراق
الجزء والصفحة:
ص 171 ــ 175
2025-09-20
353
تمثل الحروب الصليبية في العصر الوسيط روح المجتمع الغربي والأفكار السائدة فيه من ناحيتين الدين والحرب. نتج عن الدين ظاهرة الحج، ونتج عن الحرب ظاهرة الحرب المقدسة.
يُعد الحج ظاهرة التوبة والاستغفار بما تهيأ للحاج أن يسعى إلى الأراضي المقدسة في فلسطين ازدادت اتساعاً وأهمية بتأثير الحركة الكلونية(1)، التي دعت في القرن العاشر الميلادي إلى أسبقية كنيسة روما على سائر الكنائس الشرقية، وتجديد الدعوة البطرسية للسيادة البابوية العالمية، فارتفع شأن البابوية بفعل عدد من الباباوات الأقوياء، أمثال غريغوري السابع (465 - 478 هـ / 1073 - 1085م) وتلميذه أوربان الثاني (481 - 492 هـ / 1088 - 1099م) حامل لواء الحركة الصليبية الذين حضُوا على نبذ الحرب الداخلية بين أمراء الإقطاع وتوجيهها ضد المسلمين لانتزاع الأراضي المقدسة في فلسطين منهم.
لكن الدوافع الأخرى، وهي متنوعة بعيدة كل البعد عن الناحية الدينية، وجد فيها المجتمع الغربي متنفسه من الأزمات التي كان يمر بها. فالباحث في تاريخ الحروب الصليبية يستطيع أن يلمس بوضوح أثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في توجيهها وتحكمها بمصائرها، وأن الدين استغل استغلالاً واضحاً للدعاية لها والعمل على إنجاحها تحقيقاً لأغراض أخرى لا تمت إلى الدين بصلة.
لقد أدى العامل الاقتصادي دوراً مهماً في الحروب الصليبية، وكان حلاً لكثير من المشكلات التي عانى منها المجتمع الغربي الذي شهد، في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي أزمة اقتصادية حادة وبخاصة في فرنسا، وأدت كثرة الحروب الداخلية بين أمراء الإقطاع إلى ازدياد سوء الأوضاع الاقتصادية، فتعطلت طرق التجارة وانعدم الأمن وازداد عبء الالتزامات الإقطاعية على الأقنان ورقيق الأرض، فأصابت آثار هذه الأزمة مختلف فئات الشعب، ونتيجة لذلك كانت الحروب الصليبية متنفساً لهؤلاء الجياع للهجرة، وطريقاً للخلاص من الأوضاع الاقتصادية الصعبة ولا عجب أن ضمت الجموع الصليبية الأولى الغالبية العظمى من أقنان ورقيق الأرض، وعامة الشعب من الفقراء والمعدمين، وهدفهم التخلص من قيود الإقطاع والتزاماته، وقد عادت عليهم تلك الحروب بفائدتين :
الأولى: أنها حررتهم من عبودية الإقطاع.
الثانية: خلصت نفوسهم من الخطايا وفقاً لما وعدتهم به الكنيسة.
وساهمت طائفتان في تلك الحروب هما المدن التجارية والجماعات الرهبانية المسلحة.
كان هدف المدن التجارية الإيطالية والفرنسية التي اشتركت في الحروب الصليبية، الكسب المادي الذي يعود عليهم نتيجة السيطرة على الحركة التجارية مع الشرق على حساب البابوية والكنيسة والصليبيين جميعاً، لذلك قامت أساطيل المدن بدور فعال في الاستيلاء على المراكز الرئيسة في بلاد الشام، وساهمت في قيام الإمارات الصليبية في الأراضي المقدسة مقابل معاهدات عقدتها معها، وحصلت بمقتضاها على امتيازات اقتصادية مهمة. أما الجماعات الدينية المسلحة مثل الداوية (2)، والاسبتارية (3) والتي كان من أولى مبادئها الفقر والطاعة والحرمان والتقشف والبعد عن ملذات الحياة، فقد تحولت إلى جمعيات كسبية لها جيوشها ومتاجرها ومواردها المالية وسياستها الخارجية الخاصة، فخرجت بذلك عن مبادئها الأساسية، وهي حماية الحجاج وإغاثة الجرحى والمرضى من الصليبيين في ساحات القتال.
وأدَّى العامل الاجتماعي دوراً في الحروب الصليبية، إذ المعروف أن المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى كان يُقسم إلى ثلاث طبقات هي: طبقة رجال الدين، وطبقة المحاربين من الفرسان والنبلاء، وطبقة الفلاحين مثلث الطبقتان، الأولى والثانية، الهيئة الحاكمة والثرية، في حين مثلث طبقة الفلاحين جموع العاملين المحرومين من النفوذ والثروة، وكان عليهم أن يعملوا في ظروف قاسية ليؤمنوا الحاجات المادية للطبقتين الأولى والثانية، وقد ارتبطوا بالأرض التي يعملون فيها ارتباطاً وراثياً، وعاش أفرادها حياة شاقة مليئة بالذل ومثقلة بالالتزامات التي كان عليهم أن يُقدموها إلى السيد الإقطاعي، ووجدت هذه الطبقة المعدومة في الحروب الصليبية الفرصة للخلاص مما كانت ترزح تحته من ذل العيش، وقد استهانت بأخطارها التي لا تقارن من حيث شدَّتها بالمذلة التي كان يعيش فيها أفرادها من دون أمل بالخلاص، وعلى أمل أن يجدوا منفذاً لحياة أفضل.
وكان للدافع السياسي دور فعال في الحروب الصليبية، فقد داعبت الآمال الكبيرة بعض الحكام ورجال الإقطاع في توسيع رقعة أملاكهم، وتأسيس مستعمرات جديدة لهم في الشرق بعد أن ضاق الغرب بمطامعهم، مع الملوك الأباطرة الذين خرجوا بإلحاح من البابوية أو مدفوعين بعاطفة دينية، وكانت البابوية على رأس هذه الطوائف والجماعات وهي التي أخذت تحث الجميع باسم الدين في مؤتمر كليرمونت في عام (488هـ / 1095م)، متسترة تحت قناعه لتحقيق أهدافها السياسية بالتخلص من مضايقات الملوك وأمراء الإقطاع، وفرض سيطرتها على الحكام الزمنيين، كما وجدت في الحروب الصليبية مجالاً لتحقيق حلمها القديم بفرض سلطانها الديني والدنيوي على العالم النصراني، بشقيه الغربي والشرقي والعمل على توحيد الكنيستين اللاتينية واليونانية على المذهب الكاثوليكي الذي تدين به بعد الانشقاق الديني الكبير الذي حدث في عام (446 هـ / 1054م) (4) ، ولا أدل على تغليب النزعة السياسية عند أمراء الإقطاع الغربيين الذين شاركوا في الحملات الصليبية الخلافات التي كانت تنشب بينهم . وهناك دافع سياسي آخر تمثل بطلب البيزنطيين المساعدة من الغرب الأوروبي لمواجهة التوسع السلجوقي في آسيا الصغرى الذي بات يُهدد العاصمة القسطنطينية. لقد شكلت الحروب الصليبية سبباً مباشراً لاحتكاك نصارى الشرق الأرثوذكس بنصارى الغرب الكاثوليك، ما أثر في تطور العلاقات بينهما، والمعروف أن هذه العلاقات لم تكن في ذلك الوقت طيبة وسادها الشك وعدم الثقة، وكانت أوجه الخلاف في المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية عاملاً آخر وسع شقة البغضاء بين الطرفين ما تسبب بانعكاسات سلبية على الحروب الصليبية في بداية مسيرتها على الأقل.
وعندما أسس سلاجقة الروم سلطنتهم في نيقية بعد معركة ملازكرد، واصلوا حركة توسعهم في آسيا الصغرى وفتحوا معظم بقاعها، كما سيطر الأتراك بعامة على بعض الجزر القريبة منها، وقد حاول الامبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين (474 - 512هـ / 1081 - 1118م) بدون جدوى، وقف الزحف التركي، لذلك اضطر إلى التوجه نحو الغرب والبابوية لطلب المساعدة.
وما نشب من القتال بين المسلمين والنصارى في أسبانيا، اتخذ أيضاً صفة الحرب المقدسة، تدخل فيها الباباوات يوجهونها الوجهة الدينية الخالصة.
ويُعد استيلاء الأسبان على مدينة طليطلة المنيعة في عام (478 هـ/ 1085م) خطوة تشجيعية لطرد المسلمين من البلاد وتلى معركة الزلاقة، التي حدثت في العالم التالي، حركة صحوة إسلامية بعثها المرابطون اشتدت بعدها دعوة الفرسان النصارى للذهاب إلى أسبانيا لمحاربة المسلمين بعد أن تبيَّن للأسبان مدى ضعفهم، وأدى ذلك إلى خلق شعور داخل المجتمع الأوروبي، بتشجيع من البابا أوربان الثاني، إلى تحويل هذه الجهود العسكرية إلى الشرق لمحاربة المسلمين وانتزاع الأراضي المقدسة في فلسطين منهم، وتأسيس إمارات نصرانية.
ولم يكد ينتهي القرن الحادي عشر الميلادي حتى تحولت الحرب المقدسة إلى اتجاه عملي فأبدى الفرسان في المجتمع الأوروبي استعدادهم للاستجابة لدعوة الكنيسة والقتال من أجل السيطرة على الأماكن الفلسطينية المقدسة في الشرق، في حين وقف الأمراء في بادئ الأمر بعيداً عن هذا المناخ، على أن فكرة امتلاك الأراضي جعلتهم يقبلون بعد ذلك على الاشتراك في الحرب المقدسة.
وعلى الرغم من أن الغرب الأوروبي قد استجاب لنداء بيزنطية من أجل حرب المسلمين، إلا أنه لم تكن في بيزنطية أي فكرة عن حرب صليبية، إذ كانت قضية استعادة الأراضي المقدسة خيالية إلى حد بعيد كما أنها لم تكن حيوية في سياسة بيزنطية الخارجية التي رأت نفسها وقد انغمست في غمرة الحروب الصليبية.
الواقع أن بيزنطية هدفت إلى الحصول على بعض المساعدات العسكرية من مرتزقة في حربها ضد السلاجقة، ولم يكن لهذا الأمر علاقة بالحملة على فلسطين، كما أن أباطرة الدولة البيزنطية لم يتخيلوا ما سوف يتهددهم من أخطار نتيجة تدفق القوات الصليبية التي راحت تهدد كيان الامبراطورية والمعروف أن سياسة بيزنطية الخارجية كانت، قبل مجيء الصليبيين، تعتمد على إقامة نوع من التوازن مع جيرانها المسلمين وغير المسلمين بما يكفل لها المحافظة على كيانها وحافظت بيزنطية على هذه السياسة بعد مجيء الصليبيين، وحدَّدت علاقتها بهم بما كان يربطها من علاقات سلمية أو عدائية مع إمارات ودول الشرق الإسلامي ومع أوروبا والقوى الإيطالية بما كانت تدعيه من حقوق حماية النصارى في الشرق.
درج المؤرخون على الاهتمام بثماني حملات صليبية، توجهت أربع منها إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، وهي الأولى والثانية والثالثة والسادسة، واثنتان إلى مصر، هما الخامسة والسابعة وواحدة إلى القسطنطينية هي الرابعة، ونزلت الثامنة في شمالي أفريقيا، وتخللت هذه الحملات النظامية حملات أخرى كان يقوم بها العامة، وإن فاق بعضها إن في الإعداد أو في التجهيز والأهمية، ما قامت به بعض الحملات النظامية المعروفة.
.........................................................
(1) نسبة إلى دير كلوني في حوض الرون الأعلى الذي أسسه وليم التقي دوق أكويتانيا في عام 910م.
(2) الداوية Templers ، طائفة عسكرية دينية تُطلق على جماعة فرسان المعبد، تأسست في عام 1119م لحماية طريق الحجاج النصارى بين يافا وبيت المقدس، ثم تحولت بعد ذلك إلى هيئة عسكرية، وقد منح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، أفرادها خاناً يقيمون فيه بالقرب من معبد سليمان ولذلك سموا بفرسان المعبد.
(3) الاسبتارية: Hospitalliers، طائفة عسكرية من الفرسان المتدينين الذين سكنوا ديراً في بيت المقدس بجوار دير سان ماري، وقد أقيم بجواره مستشفى في المدة قبل الحروب الصليبية، بهدف إيواء الحجاج النصارى ومعالجة المرضى منهم، ولما اندلعت الحروب الصليبية تطوع أفرادها في المساهمة في الحرب ضد المسلمين وكانوا موضع احترام غودفري، ملك بيت المقدس، فأقطعهم إحدى الضواحي وأغدق عليهم الأموال، ثم أصبحوا يؤلفون قوة عسكرية كبيرة، واشتهروا بالتعصب الشديد للنصرانية.
(4) راجع فيما يتعلق بمؤتمر كليرمونت فوشيه شارتر تاريخ الحملة إلى القدس ص 31 - 37.
الاكثر قراءة في الدولة العباسية *
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة