علم الحديث
تعريف علم الحديث وتاريخه
أقسام الحديث
الجرح والتعديل
الأصول الأربعمائة
الجوامع الحديثيّة المتقدّمة
الجوامع الحديثيّة المتأخّرة
مقالات متفرقة في علم الحديث
أحاديث وروايات مختارة
علم الرجال
تعريف علم الرجال واصوله
الحاجة إلى علم الرجال
التوثيقات الخاصة
التوثيقات العامة
مقالات متفرقة في علم الرجال
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
اصحاب الائمة من التابعين
اصحاب الائمة من علماء القرن الثاني
اصحاب الائمة من علماء القرن الثالث
علماء القرن الرابع الهجري
علماء القرن الخامس الهجري
علماء القرن السادس الهجري
علماء القرن السابع الهجري
علماء القرن الثامن الهجري
علماء القرن التاسع الهجري
علماء القرن العاشر الهجري
علماء القرن الحادي عشر الهجري
علماء القرن الثاني عشر الهجري
علماء القرن الثالث عشر الهجري
علماء القرن الرابع عشر الهجري
علماء القرن الخامس عشر الهجري
فائدة علم الرجال.
المؤلف: الملا علي كني
المصدر: توضيح المقال في علم الرجال
الجزء والصفحة: ص 34 ـ 44.
28/9/2022
2296
الأمر الثالث ممّا يذكر في المقدّمة هو بيان فائدته [فائدة علم الرجال] المحتاج إليها الفقيه وإن كان مطلقها غير موجب للاحتياج إلّا بتكلّف في الحاجة، ولذا عبّر كثير (1) في نحو المقام ببيان الحاجة، لكن من المعلوم إرادة الفائدة الخاصّة من مطلقها في المقام، مع احتمال الإطلاق لمجرّد الإشارة إلى عدم لُغوية البحث والاشتغال.
وعلى كلّ حال فوجه الحاجة إلى هذا العلم: أنّ استنباط الأحكام الواجب عيناً أو كفايةً موقوفٌ- في أزماننا أو مطلقاً- على النظر في الأحاديث؛ لوضوح عدم كفاية غيرها وغناه عنها، فلا بدّ من معرفة المعتبر منها الذي يجوز الاستنباط منه والعمل عليه حيث تعرف أنّ جميعها ليست كذلك، ولا ريب في حصول هذه المعرفة بالمراجعة إلى علم الرجال، وهذا ممّا لا نزاع فيه، لأنّه حدّه، وسمعت أنّه موضوع لذلك؛ وما يأتي في بعض شبهات الأخباريّة فمع كونها على خلاف الإنصاف- كما تعرف- ليس مفادها إلّا نفي حصول العلم منه، ونحن لا ندّعيه، فلا توجب الخلاف وإنّما الخلاف في حصر هذه المعرفة في الرجوع إليه.
وبه تظهر الحاجة والافتقار إليه، وإلّا فغيره مُغنٍ عنه، إلّا أن يقال: إنّه لا ينافي الحاجة إليه، فإنّه أيضاً مغنٍ عن غيره، فكلٌّ منهما من أفراد ما يحتاج إليه كما في التخيير، إلّا أن يقال: غيره حاصل سابق في الوجود عليه، وهو القطع بالصدور أو الشهادة كما تسمع، فهو نظير التخيير بين الأقلّ والأكثر، بل وأعظم؛ لإمكان الانفكاك من الطرفين هناك، بخلاف المقام. فالمهمّ إثبات الحصر المزبور فنقول فيه:
إنّ المعروف المشهور بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه يعتدّ به بين المجتهدين، فقد تسالموا على عدّه بخصوصه ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد في كتبهم الاصوليّة، وبنوا عليه في كتبهم الفقهيّة وإجماعهم قوليّاً أو عمليّاً حجّة للكشف المعتبر فيه.
وأمّا مَنْ نصّ على اختيار خلاف ذلك أو لزمه ذلك على اختلاف مشاربهم، فهُمْ جماعة:
منهم: الحشوية (2) القائلون بحجّيّة كلّ حديث؛ إذ الجميع حينئذ معتبر.
نعم، إن كان من مذهبهم التزام الترجيح عند التعارض بالعدالة والأعدليّة ونحوهما دون التخيير أو الطرح أو الترجيح بغير ما ذكر ممّا يعرف بغير الرجال، لزمهم القول بالافتقار حينئذٍ إن لم يبنوا على ما يأتي من غيرهم، لكنّه مع ذلك لا يخرجهم عن مخالفة المشهور القائلين بالافتقار في غير صورة التعارض أيضاً.
ومنهم: المنكرون لحجّيّة أخبار الآحاد، بدعوى قطعيّة الأحكام بالكتاب والإجماع والأخبار المفيدة للعلم بتواتر أو استفاضة أو غير ذلك ممّا لا مدخل لعلم الرجال في حصوله، كالسيّد وابن إدريس وأضرابهما (3) المدّعون لقطعيّة الصدور في كتب الأخبار المتداولة بين أصحابنا أو خصوص الأربعة المعروفة منها، بزعم استفادته من أمور تأتي إلى بعضها الإشارة، ومحصّلها القطع بأخذ ما فيها عن الاصول الأربعمائة المعروفة في عصرهم (عليهم السلام)، وعليه أكثر الأخبارية.
ومن هؤلاء مَنْ راعى بعض الإنصاف، وتحرّز عن هذا الجزاف، لكن بنى على اعتبار جميع ما في الكتب الأربعة؛ لشهادة مصنّفيها الثقات بذلك، فأخبارها وإن لم تكن قطعيّة الصدور إلّا أنّها قطعيّة الاعتبار فتوافقهم في الأخير.
ومَنْ خلط بين الطريقتين، فجمع في الحكاية بين الطائفتين فقد خبط واضحاً إلّا بالنسبة إلى مَنْ قال من الأوّلين بمقالة الآخرين بطريق التنزّل.
ومنهم: المكتفون بتصحيح الغير مطلقاً والمعلوم حصوله من أكثر العلماء في كتبهم الفقهيّة وغيرها، وأمّا الاكتفاء به في حال الاضطرار- لفقد كتب هذا الفنّ في سفر ونحوه- فليس على خلاف مذهب المشهور.
ومنهم: من الأخباريّة في حكايةٍ ومطلقاً في أُخرى (4) مَنْ فصّل بين صورة التعارض وغيرها، فاقتصر في نفي الافتقار على الأخير.
ويمكن تسبيع الأقوال المخالفة بالتفصيل بين صورة وجود الشهرة محقّقة أو محكّية في خصوص بعض الأخبار المفيدة لبعض الأقوال، أو اختصاص الراجحة منها بجانب، وبين غيرها، فيقتصر في الافتقار على الأخير.
ولعلّ عليه عمل بعضٍ أو جماعة، وإن لم أقف على مَنْ اختاره أو حكاه عن واحد
فالواجب أو الأَوْلى التكلّم هنا في مقامين:
أحدهما: في إثبات الافتقار في الجملة الذي به تتمّ امور المقدّمة، سواء أوجبناها فيها أم لا، وهذا في قبال منكري الحاجة على الإطلاق؛ لوضوح ارتفاع السالبة الكلّيّة بالموجبة الجزئيّة.
وثانيهما: في إثباته مطلقاً بجعل الجزئيّة كلّيّةً في محلّ النزاع، أعني في مقابل القول بالتفصيل لا مطلقاً؛ لوضوح أنّه لا افتقار في الأخبار العلميّة صدوراً أو مفاداً، وهذا لا خلاف فيه.
ولنا على المقام الأوّل وجوه:
أحدها: الأصل. وتقريره: أنّ العمل بأخبار الآحاد لازم ولو لكونها من أسباب الظنّ بل أقواها، للأدلّة التي أُقيمت عليه في الاصول، فبطل قول السيّد ومَنْ تبعه.
ثمّ العمل بها والاستنباط منها بعد الرجوع إلى علم الرجال وتعيين المعتبر من الأخبار به في الجملة ممّا لا خلاف فيه، بل الإجماع من الجميع واقع عليه.
وأمّا العمل بها قبل ذلك فهو محلّ الإشكال والخلاف.
ومقتضى الأصل عدم الجواز بمعنى عدم الاعتبار؛ لوضوح أنّه على خلاف الأصل، ويأتي ما في المخرج عنه، فلابدّ من الوقوف عليه.
وثانيها: أنّ العمل بالآحاد لا يفيد مطلقاً أو غالباً إلّا الظنّ، وقد وقع النهي عنه في الكتاب والسنّة، بل عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء، والثابت في الخروج عن عموم النهي بالنسبة الى الآحاد إنّما هو بعد الرجوع إلى الرجال في الجملة، وأمّا قبله فلا، ويأتي ما في المخرج عنه بدعوى قطعيّة الصدور والاعتبار أو الأخير أو غير ذلك.
وثالثها: أنّ مصير عامّة المجتهدين إلى الافتقار إلى علم الرجال ولو في الجملة مع ما يأتي في تضعيف طريقة الأخباريّين والمفصّلين إن لم يفد القطع بذلك فلا أقلّ من حصول الظنّ ولا أقلّ من الشكّ والترديد، فالإقدام على العمل في هذه الحالة من غير مراجعة قبيح مذموم عقلًا ونقلًا.
ورابعها: أنّ من المعلوم الوارد على طبقه أخبار مستفيضة أنّ في رواياتنا كانت جملة من الأخبار الموضوعة.
ففي النبويّ المعروف: "ستكثر بعدي القالة عَلَيّ" (5).
وفي المرويّ عن الصادق (عليه السلام): "أنّ لكلّ رجل منّا رجلًا يكذب عليه" (6).
وفي الآخر عنه (عليه السلام): "إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه"(7).
وفي الآخر: "أنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي فاتّقوا اللَّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا".
وعن يونس أنّه قال: وافيتُ العراق فوجدت قطعة من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبداللَّه عليهما السلام متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، وعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبداللَّه عليه السلام، وقال: إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبداللَّه عليه السلام، لعن اللَّه أبا الخطّاب وكذلك أصحاب أبي الخطّاب، يدسّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبداللَّه عليه السلام، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن (8). وفي جملة من الأخبار العلاجيّة: «أنّ ما خالف القرآن» وفي بعضها: «ما خالفه وخالف السنّة أنّي ما قلته» وفي آخر: الأمر بضرب مخالفه وجه الجدار (9). إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار.
فنقول: إنّ إخراج الموضوعة عمّا في أيدينا من الأخبار غير معلوم، وادّعاؤه- كما يأتي- غير مسموع، فالعمل بالجميع من غير تميّز الموضوع عن غيره بالمقدور قبيح، بل منهيٌّ عنه بهذه الأخبار.
ومن هنا قال المحقّق في المحكيّ عن المعتبر بعد حكاية مذهب الحشوية: "إنّهم غفلوا عمّا تحته من التناقض" (10).
يعني أنّ العمل بما مرّ من الأخبار مع غيرها مطلقاً موجب للتناقض؛ لوضوح أنّ العمل بغيرها إنّما يتمّ مع الإعراض عن هذه، وإلّا فهي تنهى عن العمل.
ثمّ إنّك قد عرفت أنّه لا خلاف في حصول التميّز بالرجال، وحصوله بغيره كلّيّاً غير ثابت، بعد ما يأتي في تضعيف دعواه، فلابدّ من الرجوع إليه في امتثال النواهي المزبورة [مع أوامره العمل بها] (11).
وخامسها: الأخبار العلاجيّة المشتملة على الرجوع عند التعارض إلى الأعدل والأورع والأفقه (12). وهذه الصفات لا يُعلم ثبوتها في الرواة إلّا بملاحظة الرجال؛ لفقد المعاشرة معهم، وانتفاء الشهادة اللفظية عليها فيهم، فانحصر في الكتبيّة الموجودة في الرجال وإن لم نقل بكونها من باب الشهادة الشرعية.
والترجيح بالشهرة وموافقة القرآن ونحوهما ممّا لا مدخل للرجال فيه لا يغني عن الأوّل، وإلّا لما أمر (13) بالجميع، كيف! وهي أحد أسباب الترجيح، ولا ترجيح لها على غيرها، فلتُحمل الأخبار على تعيين كلٍّ في طائفة أو عند تعذّر الآخر أو التخيير.
وليس الأمر هنا كما سبق في تخيير سبب معرفة المعتبر؛ لعدم سبق أحد الأمرين على الآخر، فالافتقار إلى الرجال في عرض الافتقار إلى الخارج. فثبت الافتقار في الجملة إلّا أنّا بصدد الحصر ولو في الجملة.
فنقول: من المعلوم عدم جريان الترجيح الأخير في جميع الأخبار المتعارضة، وحينئذ يتعيّن غيره، كما يتعيّن كلّ مخبَر عند تعذّر غيره.
ولْنكتَفِ في هذا المقام بهذا المقدار؛ لأنّ ما في المقام الثاني يدلّ على هذا المرام وزيادة وإن كان بعض الوجوه المزبورة بل جميعها- ولو بضمّ الإجماع المركّب ممّن يعتدّ بشأنه أو عدم القول بالفصل أو مقدّمة اخرى- ممّا يكتفى به في المقام الثاني.
فلنا على هذا المقام ـ أي الثاني ـ أيضاً وجوه:
منها: ما مرّ بضمّ أحد الأخيرين إلى الأخير وغيرهما في غيره، وهو أنّه لا مخرج عن الأصل والعموم المتقدّمين إلّا مع الرجوع على الإطلاق؛ لما يأتي في تضعيف ما ادّعي الإخراج به، وأنّ الحقّ بقاء التشكيك والترديد إلّا مع الرجوع كذلك؛ لما ذكر، وأنّ احتمال الوضع قائم في أكثر الأخبار أو جميعها وإن ضعف في بعض لقرائن خارجيّة، فلابدّ من الرجوع في الجميع.
ومنها: أنّ قول الفاسق مع العراء عن قرائن الصدق والجابر غير معتبر شرعاً، والعمل به منهيّ عنه ومذموم كذلك، بدليل الإجماع حتّى من الأخبارية؛ فإنّهم يدّعون عدم العراء عمّا ذكر، ولازمه بل صريحه الموافقة مع العراء.
نعم، هو من الحشوية، ولا اعتناء بخلافهم خصوصاً، وفي اتّفاق غيرهم كفاية، ولبناء العقلاء وطريقة العلماء كما يعلم بتتبّع أقوالهم وأحوالهم، ومن اعتذار العامل به في مقام بدعوى ترجيح خارجي، وللأصل والعموم السابِقَيْنِ، والأخبار المفيدة بالمنطوق أو المفهوم على اعتبار الوثاقة فيمن يعتبر قوله شرعاً، ولمنطوق آية النبإ خصوصاً بعد ملاحظة عموم التعليل فيها، وحيث إنّ الفسق كالعدالة من الامور النفس الأمريّة الموضوع لها اللفظ من غير اعتبار أمر آخر من علم ونحوه ممّا هو من الطرق، لا جزء موضوع اللفظ ولا ما يراد منه، فالمنهيّ عنه هو قول المتّصف بذلك في نفس الأمر لا في علمنا، فمجهول الحال قبل الفحص أو بعده لا يعتبر قوله؛ لاحتمال كونه فاسقاً، فلابدّ في كلّ مقام يعمل من سدّ هذا الاحتمال ولو بطريق شرعي، لا اطّراد العمل إلّا فيما ثبت فسقه كما قد تخيّل.
ولا ريب في قيام هذا الاحتمال في أكثر الرواة قبل الرجوع إلى الرجال، وفي توقّف سدّه وكشف الحال بثبوت عدالتهم أو فسقهم على التأمّل في أحوالهم المزبورة في علم الرجال.
ولا يُتَوَهَّم أنّ مصير الأكثر إلى اعتبار الموثّق بل الحسن، بل الضعيف إذا اعتضد بقرائن الصدق منافٍ للحاجة إلى علم الرجال؛ لعدم الحاجة حينئذٍ إلى التعديل، وذلك لأنّ منشأ الحاجة ليس خصوص إثبات العدالة، بل مطلق الوثاقة والمدح المعتبر، وهما لا يُعلمان إلّا بالرجال. نعم هو منافٍ لعموم أدلّة المنع عن قبول قول الفاسق ومخصّص له.
وإليه ينظر جوابهم- بعد اشتراط العدالة في اعتبار الرواية- عن الإيراد بمنافاته لاعتبار الموثّق وغيره، بأنّ المراد اعتباره بغير تبيّن وتثبّت، لدلالة آية النبإ على عدم الاشتراط حينئذٍ، فهي المخصّصة لما ذكر، وأنّ الرجوع إلى ما قيل في حقّ الراوي الفاسق أو بالنسبة إلى روايته من التوثيق والمدح وغيرهما من المعاضدات نوعُ تثبّت؛ لأنّه أعمّ من القطع والظنّ، والأخير حاصل بالرجوع.
وما يتوهّم وروده على هذا- بأنّ لازمه توقّف اعتبار قول العدل أيضاً عليه، إذ لا اعتبار به قبل معرفة عدالته، والرجوع إلى تعديله تثبّت كما ذكر، والحاصل أنّ مع فقد هذا التثبّت لا يعتبر قولهما معاً، ومعه يُعتبر كلٌّ منهما معاً. فأين موضع الاشتراط؟ - فمندفع: بأنّ الرجوع في التعديل لإحراز الشرط، وفي غيره للتثبّت وإن كان هذا لازمَ الحصول للأول أيضاً، ومع ذلك لا يخلو من نظر.
والأَولى التزام التخصيص بأدلّة اعتبار ما ذكر من عمل الطائفة كما ذكره الشيخ والمحقّق وغيرهما، وغير ذلك، أو حمل الفسق على المخالفة في الفروع كما لعلّه الظاهر منه عند الإطلاق وكان مورد الآية وإن لم يوجب تخصيص العموم، وهذا مقابل العدالة في المذهب وإن كان الظاهر من إطلاقها الإطلاق، كما صرّحوا بذلك فيها وفي التوثيق.
ولا يلزم هذا فساد من جهة التقابل بينهما؛ لأنّه بين المعنيين الأصليّين دون ما ينصرف إليه الإطلاق، فالتقابل بين مطلق أحدهما ومقيّد الآخر، كما لا يخفى.
ومنها: أنّ سيرة العلماء قديماً وحديثاً على تدوين كتب الرجال وتنقيحها وتحصيلها بالاشتراء والاستكتاب، وعلى مطالعتها والرجوع إليها في معرفة أحوال الرواة، والعمل بها في الاعتداد برجالٍ، والطعن في آخرين، والتوقّف في طائفة ثالثة حتّى أنّ كثيراً منهم كانت له مهارة في هذا العلم، كالصدوق والمفيد والطوسي وغيرهم من مشايخ الحديث، بل ربّما أمكن أن يقال: اهتمام المتقدّمين فيه كان أزيد من المتأخّرين، وأيّ عاقل يرضى بكون ذلك كلّه لغواً مكروهاً أو حراماً! فليس إلّا للافتقار إليه. بل ربّما يظهر من عدم ارتكابهم مثل ما ذكر بالنسبة إلى سائر ما يتوقّف عليه الفقه:
أنّ الافتقار إليه أشدّ وأعظم، ولعلّه كذلك بعد سهولة أكثر ذلك في حقّهم وفي زمانهم دون الرجال، كيف! وبه يعرف ما به الحجّة في حقّهم عن غيرها، ومنه يحصل الاطمئنان أو الظنّ المستقرّ بما استفيد من الأحكام عن الأخبار.
وحيث إنّ المفصّل في الافتقار النافي له على الإطلاق شاذٌّ نادر بل غير معلوم القائل ظهر أنّ الافتقار على الإطلاق.
وبتقرير آخر: أنّ ما سمعت منهم خصوصاً بعد ملاحظة ما في كتب الاصول من الاتّفاق على اشتراطه في الاجتهاد يكشف قطعيّاً عن بنائهم على الافتقار إليه واشتراطه في الاستنباط، وعن رضا المعصوم عليه السلام بذلك، وهل ينقص هذا من الإجماعات المتكرّرة في كلماتهم؟ فأمّا مخالفة مَنْ مرّ فلا تقدح فيه؛ لوضوح فساد شبهاتهم كما يأتي، ولسبقهم بالإجماع والسيرة ولحوقهم عنه.
ومنها: أنّ سيرة الرواة والمحدّثين إلى زمن تأليف الكتب الأربعة بل إلى تأليف الثلاثة المتأخّرة- الوافي والوسائل والبحار- على الالتزام بذكر جميع رجال الأسانيد، حتّى أنّ أحداً لو أسقطهم أو بعضهم في مقام، أشار إليهم في مقام آخر، كما في الفقيه والتهذيبين، مع التصريح بأنّه للتحرّز عن لزوم الإرسال والقطع والرفع المنافية للاعتبار، ومن المعلوم أنّ ذلك كلّه لأن يعرفهم الراجع إلى كتبهم ويجتهد في أحوالهم على حسب مقدوره، فيميّز الموثوق به الجائز أخذ الرواية منه عن غيره، وإلّا لزم اللغويّة، فيُعلم الافتقار والكشف عن الاشتراط كما في ثاني تقريري الوجه السابق، فلو كان بناؤهم على اعتبار ما فيها من غير ملاحظة أحوال الرواة للأخذ من الاصول الأربعمائة أو غيره من قرائن الاعتبار أو القطع بالصدور، لكان تطويل الكتب بذكر الجميع لغواً مكروهاً أو مُحرَّماً، وقد مرّ بطلان نفي الافتقار في الجملة، فثبت الافتقار المطلق.
ويؤيّد هذا التزام مَنْ تأخَّر بالرجوع إلى الرجال، وتوصيف بعض الأخبار بالصحّة والوثوق والاعتبار وتضعيف بعض آخر، وعدم اكتفاء بعضهم بتوصيف غيره وإن كان أعرف منه بالرجال، بل الخلاف بينهم في كثير من التصحيحات والتضعيفات واضح معلوم للمراجِع إلى كتبهم.
وكون الصحّة عند القدماء أعمّ مطلقاً أو من وجه من الصحّة عند المتأخّرين لا ينافي ما سمعت، وإنّما ينافيه لو ثبت أنّ أسباب الصحّة عندهم مأخوذة من غير الرجال، ولم يثبت، بل الثابت- بملاحظة ما أشرنا إليه- خلافه.
نعم، أخذ البعض من غيره هو الظاهر منهم، ولا يقدح في إطلاق الافتقار؛ إذ الظاهر أنّ مرادهم بالصحيح هو المعمول به، وهو أعمّ من الصحيح عند المتأخّرين أيضاً، فكما أنّ عموم العمل عندهم غير قادح في إطلاق الافتقار إلى الرجال، فكذا عموم الصحّة عند القدماء والاختلاف في التسمية.
وفي الوجوه المزبورة كفاية عن غيرها خصوصاً في هذا المختصر، وأنّ المسألة مفصَّلة في الأصول.
ولكن لا بأس بالإشارة إلى بعض شبهات الخصم، التي أخذوها أدلّة وبراهين، مع الإشارة إلى بعض ما فيها. وإنّما نتعرّض لشبهات الأخبارية، والمفصّل بين صورة التعارض وغيرها، وبين وجود الشهرة الراجحة المعتبرة في المسألة وعدمه، والمكتفي بتصحيح الغير؛ لأنّها هي المتعلّقة بالمقام. ولا نتعرّض لشبهات الحشويّة ومنكري اعتبار أخبار الآحاد، لأنّها في مقام حجّية الآحاد، وهي مسألة طويلة الذيل من مسائل الأُصول، لا من مسائل المقام، مع أنّ الظاهر انقطاع القولين في أزماننا؛ إذ لم نظفر على قائل بأحدهما.
مضافاً إلى أنّ نفي الطائفة الاولى لإطلاق الافتقار غير معلوم كما أشرنا إليه، وكذا أصل نفيه من الثانية؛ لاحتمال جَعْلهم الرجال من أسباب العلم الواجبة بوجوبها، ولعلّه الظاهر؛ لتعرّضهم لأحوال كثير من الرواة بالمدح والقدح عند الاستدلال بأخبارهم في كتبهم الفقهيّة وغيرها، مع أنّ رئيسهم- وهو المرتضى- صرّح في الفهرست بأنّه جامع للعلوم كلّها، ومنها الرجال والحديث والدراية (14) ومن البعيد عدم اعتنائه بما ذكروه فيها.
ويظهر ممّا ذكر أنّ نفيه من الأخباريّة أيضاً غير معلوم إلّا من بعضهم المصرّح بذلك، وإلّا فمجرّد دعوى قطعيّة أخبار الكتب الأربعة أو مع إضافة بعض آخر أو مطلقاً لا تنافي الافتقار إلى الرجال؛ لاحتمال أو ظهور استفادتهم القطع من الرجال أو من أسباب هو من جملتها، كيف! ويأتي منهم ما يفيد ذلك، كقولهم: إنّ الراوي إذا كان ثقةً لم يرض بالافتراء ولا بخبر لم يكن بيّناً واضحاً عنده، وإن كان فاسد المذهب، يفيد نقله القطع بالصحّة والصدور، وقولهم: «إنّ بعض الرواة ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، فصحّة رواياته إجماعيّة» إلى غير ذلك.
ولعلّ هذه الدعوى إنّما صدرت لدفع ما أورده المجتهدون على إيرادهم عليهم في استعمالهم الظنّ كما نطق به حدّ الاجتهاد المذموم في بعض الأخبار: بأنّكم لا تسلمون عن استعمال الظنّ؛ لأنّ أخبار الآحاد كلّها ظنّيّة السند والدلالة، فالتزموا بقطعيّة السند بل الدلالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهم شريعتمدار الاسترآبادي في «لبّ اللباب» (ص 5)، وهذه الرسالة قُمنا بتحقيقها ونشرها في العدد الثاني من مجموعة «ميراث حديث شيعه» التابع لدار الحديث، فراجع.
(2) الحشوية: طائفة من أصحاب الحديث تمسّكوا بالظواهر، لُقّبوا بهذا اللقب؛ لاحتمالهم كلّ حَشْو رُوي من الأحاديث المختلفة المتناقضة، أو لأنّهم قالوا بحشو الكلام. كذا في «معجم الفرق الإسلامية»، (ص 97). وقال المحقق الحلي في «المعتبر» (ج 10، ص 29): «أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر، وما فطنوا لما تحته من التناقض».
(3) انظر: الفوائد الحائرية، ص 229.
(4) أي من الأخباريّة وغيرهم في حكاية أُخرى.
(5) نقله المحقّق في: المعتبر، ج 1، ص 30، ولم نعثر عليه في المجامع الروائية.
(6) نقله أيضاً في: المعتبر، ج 1، ص 29.
(7) رجال الكشّي، ص 305، الرقم 549.
(8) رجال الكشّي، ص 224، الرقم 401.
(9) وسائل الشيعة، ج 27، ص 106 وما بعدها (باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة).
(10) المعتبر، ج 1، ص 29.
(11) كذا في الأصل، والعبارة لا تخلو من تشويش وإيهام ولعلّ الصحيح: مع أوامره بالعمل بها.
(12) عوالي اللآلي، ج 3، ص 129، ح 12؛ بحار الأنوار، ج 2، ص 245، ح 57.
(13) أي الإمام (عليه السلام).
(14) هو: السيد عليّ بن الحسين بن موسى، المعروف ب «الشريف المرتضى»، وقد عَدَّه صاحب «جامع الأُصول» (ج 11، ص 323) من مجدّدي مذهب الإمامية في رأس المائة الرابعة. حاز من العلوم ما لم يُدانِه فيه أحَدٌ في زمانه. له في الرجال كتاب «الفهرست» وقد ذكره الشيخ الطوسي في «الفهرست» (ص 98، الرقم 421) عند ترجمته للسيّد المرتضى (قدّس اللَّه نفسه الزكية).