حث ممثل المرجعية العليا، والمتولي الشرعي للعتبة الحسينية المقدسة، الشيخ عبد المهدي الكربلائي، الجمعة، على إبداء المرونة والتساهل تجاه المشاكل والنزاعات التي تحصل بين أفراد وجماعات في المجتمعات الإسلامية.
جاء ذلك في جانب من خطبته الأولى لصلاة يوم الجمعة من الصحن الحسيني الشريف والتي شرح فيها مقاطع من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين.
وأشار سماحته إلى أن المتقي سهل لين في أعماله الشخصية كما انه سهل المؤونة ازاء الناس.
وقال "اننا لنرى بعض الافراد الذين يعيشون حالة من التكلّف القصوى بشأن سفر او ضيافة ويزجون بأنفسهم في أتون عذاب أليم، او يخوضون صراعاً قد يستغرق اشهراً وربما سنوات تجاه الناس لانتزاع حق بسيط".
وأضاف الكربلائي "إن المتساهلين يعيشون حياة مريحة على المستوى الشخصي الى جانب الراحة في علاقاتهم مع الآخرين".
ورأى أن الإنسان المتقي يجب أن لا يكون صعباً متزمتاً في مواجهة حل بعض المشاكل او النزاعات التي تحصل ويضع شروطاً تعقّد الامور وتصعبها وتؤدي الى تفاقم المشكلة بل هو سهل في ذلك يمكن الوصول معه الى حل سريع.
إليكم النص الكامل للخطبة:
الخطبة الاولى لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 28/ربيع الآخر/1428هـ الموافق 27 /1 /2017 م:
ورد في خطبة المتقين لأمير المؤمنين (عليه السلام):
(تراهُ قريباً أملُه، قليلا ً زلَلُـه، خاشعاً قلبُهُ، قانعة ً نفسُه، منزوراً أكلُه، سهلا ً أمرُه، حَرِيزاً دينُه، ميِّتَةَ شَهوته، مكظوماً غيظُهُ، الخيرُ منه مأمول، والشرُّ منه مأمون،..)
قوله (عليه السلام): (تراهُ قريباً أملُه، قليلا ً زلَلُـه، خاشعاً قلبُهُ، قانعة ً نفسُه)
فالمتقي يرى اجله قريب وليس له أمل ان يعيش طويلا ً في الدنيا ولذلك يستعد للاخرة ولملاقاة الموت فتراه يُسرع للتوبة ويجهد في الطاعة واجتناب المحرمات وقضاء ما عليه من عبادات واداء حقوق الله تعالى وحقوق الناس.. بعكس اهل الدنيا فان املهم ان يعيشوا ويعمروا طويلا ً فينسون ان الموت قريب ولا يكون لهم استعداد كاف للاخرة فيسوفون التوبة ويهملون ولا يعتنون بحقوق الله تعالى وحقوق الناس..
وطول الامل نابع من حب الدنيا وهو ينسي الآخرة ويبعد الانسان عن الله تعالى وهو من اشد المخاطر على الانسان..
ان الامل المذموم هو الذي ينسي الاخرة وينسي الموت ويجعل الانسان متوجهاً بكل قواه وافكاره وعمله ونشاطه وتوجهاته للدنيا فهذا هو المذموم.. واما اذا جمع بين الاستعدادين الاستعداد للموت بالتوبة والعمل الصالح والاسراع في تدارك حقوق الله تعالى وحقوق الناس وفي نفس الوقت العمل والنشاط لتعمير الارض وبناء المستقبل.. فهذا لا بأس به..
(قليلا ً زلـلُه) كل انسان له اخطاء وزلل وذنوب ولكن الفرق بين المتقي وغيره ان المتقي قليل الذنوب والاخطاء والزلل وذلك لانه في حال المراقبة للنفس وهو دقيق في تشخيص عيوبه وزلاته وينشغل بالفحص عن عيوبه وزلاته بعيداً عن الانشغال بعيوب وزلات الاخرين ولديه بصيرة ونظر ثاقب ونفس صافية تشخص الزلات بسرعة ومن ثم يضرم على التوبة وتدارك الذنوب..
(خاشعاً قلبه) فهو دائماً يعيش حالة الخضوع والتذلل لله تعالى سواء أكان في حال العبادة ام في غيرها لانه يحاول ان لا يغيب عن ذهنه عظمة الله تعالى وجبروته وسلطانه وفي نفس الوقت حقارة نفسه وصغرها وذلتها.. فهو يعيش حالة الخضوع والتذلل بصورة دائمة حيث يرى في كل شيء من حوله عظمة الله تعالى وقدرته..
(قانعةَ نفسه) فهو يعيش حالة الرضا والقبول بما قدره الله تعالى من جميع الامور من الرزق والصحة والعافية والبلاء والضيق والسعة من المال والاولاد والصحة والجاه والزوجة ونحو ذلك مما هو معرّض له في الدنيا.. لأنه يعتقد ان الله تعالى لا يقدّر له الا ما فيه مصلحته فهو بعيد عن الطمع والجشع واذا نظر الى الاخرين نظر الى من هو دونه ولا ينظر الى من هو اعلى منه في حظوظ الدنيا – نعم- ينظر الى من هو اعلى منه في الطاعة والعبادة والعلم ليقتدي بهم ويحاول الوصول الى مرتبتهم.. وهو يرى ان الغنى في القناعة وليس في المال وحظوظ الدنيا..
(منزوراً أكلُه) اي قليلا ً أكله فإن المتقي لاعتقاده بأن كثرة الأكل تضره في الدنيا والاخرة يكون حاله قلة الاكل، والكثير الاكل يكون اسير الشهوة بطن تقوده حيث تريد شهوته ولا يبالي ان يتناول الطعام من حلال او حرام ويسعى لتحصيل المال الذي يوفر له الطعام من اي كان بحل ام بحرمة..
قلة الاكل: رقة القلب، صحة البدن، ضمور الشهوة، الالتذاذ بالمناجاة والطاعة، تيسر المواظبة على الطاعة.
كثرة الاكل: قسوة القلب، سقم البدن، هيجان الشهوة..
(سهلا ً أمرُه) اي خفيفاً المؤنة لا يتكلّف لأحد ولا يكلّفه فإن شرّ الاخوان مَن يتكلّف له. (الخوئي – ج2 ص145)، وقال في نفحات الولاية: ج7 ص437:
" اشارة الى انه سهل لين في أعماله الشخصية، كما انه سهل المؤونة ازاء الناس، واننا لنرى بعض الافراد الذين يعيشون حالة من التكلّف القصوى بشأن سفر او ضيافة ويزجون بأنفسهم في أتون عذاب أليم، او يخوضون صراعاً قد يستغرق اشهراً وربما سنوات تجاه الناس لانتزاع حق بسيط والحال يعيش المتساهلون حياة وادعة مريحة على المستوى الشخصي الى جانب الراحة في علاقاتهم مع الآخرين. ونضيف الى ذلك ان المتقي لا يكون صعباً متزمتاً في مواجهة حل بعض المشاكل او النزاعات التي تحصل ويضع شروطاً تعقّد الامور وتصعبها وتؤدي الى تفاقم المشكلة بل هو سهل في ذلك يمكن الوصول معه الى حل سريع في المشاكل والنزاعات الشخصية والاجتماعية ونحوها..
(حريزاً دينُه) اي يكون دينه محرزاً محفوظاً من الشكوك والشُبه لكونه في دينه على يقين وهو مانع من عروض الشكوك عليه..وبتعبير آخر انك تطمئن الى دينه اذا كلفته بأمور فيها احتمالية التعرض الى التخلي عن الدين او تعرض الى ظروف قد تضغط عليه وتضعفه عن المحافظة على دينه فهو مع ذلك يصمد ويصبر وله وعي كافي يمنعه من التخلي عن دينه.
(مَيِّتَةً شهوتُهُ): لفظ الموت هنا مستعار لخمود شهوته عما حرّم عليه اي ان المؤمن المتقي يمنع شهوته عمّا لا يجوز ولا يصلح له ارتكابه لكون مسلطاً ومتمكناً من نفسه الامارة فهم يسيطرون عليها بعقولهم وايمانهم ويهذبونها وفق موازين الشرع.. ويعود هذا الى صفة العفة وعفة الشهوة هنا لمطلق الشهوات لا شهوة الفرج فقط اي معناها العام من شهوة الفرج وشهوة البطن وشهوة المقام وشهوة الشهرة وشهوة الكلام وغير ذلك والجامع بينها شهوة الدنيا..
(مكظوماً غيظُهُ): اي محبوساً غيظُهُ، وفيه اشارة الى ان حفظ الدين واداء الوظائف قد يؤدي احياناً الى ردود فعل طائشة من قبل بعض الجهال والذي يثير الغضب لدى المتقين، لكنهم مسلطون على اعصابهم وانفسهم ويكظمون غيظهم، وقد يتعرض الانسان الى الكثير من اسباب توتر الاعصاب والانفعالات النفسية وقد يصدر من الاخرين ما يثير اعصاب الانسان ويضغط عليه وقد يؤدي به الى التوتر النفسي والشد العصبي ويغضب ويثور ويصدر منه رد فعل من كلام غير لائق او محرم او تصرف او ضرب او قتل احياناً.. سواء أكان ذلك في البيت او الشارع او السوق او محل العمل او الدراسة.. والمؤمن يتصرف بازاء كل هذه الامور بهدوء وروية واعصاب هادئة ويحاول ان يجعل رد فعله وفق الموازين الشرعية والاخلاقية..
(الخيرُ منه مأمول والشر منه مأمون): فالذي يرجى منه ويؤمل هو الخير فهو كثير الخيرات والمنافع.. ورد في الحديث الشريف عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا اُنبئكُم لِمَ سُمِّيَ المؤمن مؤمناً؟ لايمانه ِ الناسَ على أنفسهم واموالهم، ألا اُنبئكُم مَنِ المُسلمِ؟ المُسلِمُ مَن سَلِمَ الناسُ من يده ولِسانهِ).
فان كان هذا هو وصف العاديين من المسلمين والمؤمنين فمن الاولى ان يكون كذلك وصف المتقين الذين يمثلون النخبة من المؤمنين والمسلمين، فهؤلاء مصدر الخيرات والمنافع والبركات ولا يتلقى الناس منهم اي شر، (لا من جهة اللسان بغيبة او نميمة او كذب او افتراء او فحش او بهتان او سب او شتم او نحو ذلك وكذلك يسلمون منهم من اذى اليد بضرب او سرقة او ظلم او نحو ذلك)..