اعتبر ممثل المرجعية العليا في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي أن "الإسلام القلبي" الذي لا يلحقه العمل لا يكون "إسلاماً حقيقياً".
وفي جانب من خطبته الأولى من صلاة يوم الجمعة 15يناير/ كانون الثاني التي أقيمت في الصحن الحسيني الشريف رأى ان الوصول إلى "الإسلام الحقيقي" يحرز عبر خضوع العبد لجميع امور دينه من عبادات ومعاملات ومنهج اجتماعي واقتصادي وتربوي والعمل بها جميعاً.
وقال الكربلائي إن "من آمن ببعضها وترك بعضها الاخر بان اعترض ولم يسلِّم بها ولم يقبل بهذا البعض فلم يصل الى الاسلام الحقيقي وانما اتصف ببعض مراتب الاسلام".
وفي ما يلي النص الكامل للخطبة:
في رسالة الامام الصادق (عليه السلام) لشيعته التي قال عنها :
" هذا أدبنا أدبُ الله فخذوا به وتفهموه واعقلوه ولا تنبذوه وراء ظهوركم"
قال (عليه السلام) : (واعلموا ان الاسلام هو التسليمُ والتسليمَ هو الاسلام فَمَنْ سَلَّمَ فقد أسلم ومَنْ لم يُسَلِّمْ فلا إسلام له ...)
ينبه الامام الصادق (عليه السلام) شيعته الى حقيقة الاسلام وجوهره من خلال بيان معنى الاسلام الحقيقي .. فيقول : "واعلموا ...."
لاشك في ان الكثير منا يفتخر ويعتز بانه من المسلمين ويشكر الله تعالى على توفيقه له ان هداه للاسلام ... ولكن هل تأملنا في حقيقة الاسلام وجوهره الذي نؤمن به؟
كيف نكون مسلمين حقيقيين وفق الرؤية الاسلامية المستندة الى مفاهيم القرآن الكريم والاحاديث الشريفة ..؟
تعالوا معنا ايها الاخوة والاخوات لنعرف معنى الاسلام الحقيقي من خلال ما ورد من اهل بيت العصمة (عليهم السلام): "لأنسبنّ الاسلام نسبة ً لم ينسبه احد قبلي ولا ينسبه احد بعدي الاسلام هو التسليم ، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الاداء، والاداء هو العمل"
وقال الامام الصادق (عليه السلام) في رسالته :
" واعلموا ان الاسلام هو التسليمُ والتسليم هو الاسلام فمن سَلَّم فقد اسلم..."
فهل يُكتَفَى في الاسلام بمجرد التسليم باللسان بان يتشهد بالشهادتين (التوحيد لله تعالى والشهادة بالنبوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)).. كلا لا يكفي ذلك وان كانت مجموعة من الاحكام الشرعية تترتب على هذه الشهادة اللسانية ومنها حرمة الدم والمال والعرض وكذلك بعض احكام النكاح والمواريث وغيرها.. ولكنها لا توصل الى الاسلام الحقيقي..
وهل يكتفى في الوصول للاسلام الحقيقي اضافة الاعتقاد القلبي كما يسعى بعض الناس لتصوير ذلك بترديده لكلام مفاده (المهم ما في القلب ... كلا لا يكفي ذلك) كما يلاحظ من خلال كلام امير المؤمنين (عليه السلام) : الاسلام = التسليم التصديق - اليقين - العمل ..
فالاسلام القلبي الذي لا يلحقه العمل لا يكون اسلاماً حقيقياً ..
بعد هذه المقدمة لنتعرف على معنى التسليم ..
وقد عُرِّف التسليم بأنه الخضوع والانقياد والقبول التام من العبد المسلم لكل ما يرد عليه من الله تعالى من احكام تكوينية من قدر وقضاء..
وتوضيح ذلك :
ان الله تعالى قد شرع للانسان ديناً كاملا ً للحياة يشتمل على احكام شرعية من اوامر ونواهي ومستحبات ومكروهات وشرع له منهجاً اجتماعياً (ينظم علاقته مع سائر الناس) ومنهجاً اقتصادياً ومالياً وحقوقياً واسرياً وسياسياً ونحو ذلك..
فمن انقاد وخضع في جميع امور دينه من عبادات ومعاملات ومنهج اجتماعي واقتصادي وتربوي وعمل بها جميعاً فقد وصل الى الاسلام الحقيقي..
ومن آمن ببعضها وترك بعضها الاخر بان اعترض ولم يسلِّم بها ولم يقبل بهذا البعض فلم يصل الى الاسلام الحقيقي وانما اتصف ببعض مراتب الاسلام..
فمن المسلمين من يعترض على بعض الاحكام الشرعية :
مثال : يعترض على حرمة لبس الذهب والحرير الخالص للرجال ويريد ان يعرف ما هو السبب في ذلك.. او يعترض على تشريع الافطار في السفر ويقول انه شرع ايام كان السفر فيه مشقة وتعب .. او يعترض على المواريث فيقول : لماذا اعطيت الانثى نصف حصة الذكر مع العلم انها بعض الاحيان هي مَنْ يتحمّل مسؤولية العائلة المعاشية ... وهكذا
ومن المسلمين من يلتزم بالمنهج العبادي والاجتماعي ولكن لا يلتزم بالموقف السياسي للاسلام الذي يجب اخذه من المعصوم او نائبه في زمن الغيبة ومنهم من يلتزم بالمنهج العبادي ولكن لا يخضع للمنهج الاقتصادي بل يأخذه من اصحاب النظريات الوضعية .. او يعترض على بعض الاحكام مثلا ً : لماذا هذه المعاملة ربوية او لماذا الوقت الذري يصح في الذكور اذا اوقف المواقف كذلك دون الاناث او لماذا يصح وصية الموصي للذكور او للاناث دون العكس وهكذا امثلة كثيرة..
ثم ما يتعلق بالاحكام التكوينية فالمسلم الحقيقي هو الذي ينقاد ويخضع ويقبل(أي يُسلِّم) لما يرد اليه من قضاء وقدر وحوادث وابتلاءات ويصبر عليها..
وملخص ذلك ان المسلم الحقيقي من خضع وانقاد وقبل قبولا ً تاماً جميع الاحكام الشرعية وجميع المناهج الالهية.. فاما ان يأخذ من الاسلام جانباً ويترك جانباً آخر فهو لم يصل الى مرتبة الاسلام (التسليم) الصحيح..
ومن مقومات الاسلام الحقيقي هو التحاكم الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه المعصومين من بعده (عليه السلام) والى الفقهاء المنصبون من قبل الامام المعصوم عند غيبته..في موارد النزاع والخصومة والاختلاف سواء أكان في الامور العامة كالحرب والسلم والمواقف العامة او الخاصة كالنزاعات الشخصية..
وهو من الموارد المهمة التي تكشف عن صدق الاسلام لدى الانسان..
قال تعالى : (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) – النساء 65- .
فلنبين اولا ً سبب نزول الآية الكريمة :
قيل ان الاية نزلت في الزبير ورجل من الانصار قيل انه حاطب بن ابي بلتعة كان بينهما نزاع في سقي زرع لهما :
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للزبير : اسق ثم ارسل الى جارك.
فغضب الانصاري وقال : يا رسول الله لئن كان ابن عمتك..
فتلون وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. قيل : ثم خرجا فمرا على المقداد ، فقال : لمن كان القضاء يا ابا بلتعة ؟ قال : قضى لابن عمته، ولوى شدِّقَهُ (الشِّدق : جانب الفم مما تحت الخد) ففطن لذلك يهودي كان مع المقداد، فقال : قاتل الله هؤلاء يزعمون انه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهما.. فنزلت هذه الآية..
فالله تعالى في هذه الاية يقسم، والقسم من الله تعالى لا يكون الا في امر عظيم ومهم وان الانسان لا يكون مؤمنا ً حقيقة ولا يدخل في الايمان الاّ بثلاثة امور:
الاول : (حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ) أي فيما وقع بينهم من الخصومة والتبس عليهم من حكم الشريعة وحكم الله تعالى هو الحق الذي لا يجوز تركه او الاستخفاف به..
الثاني: (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا) أي في قلوبهم (حرجاً) أي شكاً وقيل : ضيقاً وعدم الرضا القلبي (مما قضيت) أي من حكمك الذي حكمت بينهم فلابد من الانقياد القلبي لحكم الله ورسوله..
ولنأت الآن لبيان مدى تطبيقنا لهذه الآية..
فهي توجهنا اننا في موارد النزاع والخصومة والاختلاف سواء أكان في امور عامة ومطلوب منا ان يكون لنا رأي وموقف او تنازعنا واختلفنا في ذلك او كان في نزاعات وخصومات واختلافات في مشاكل اجتماعية او في ارث او في معاملة.. فعلينا ان نحتكم الى المعصوم (عليه السلام) او من يخلفه من الفقهاء الذين تتوفر فيهم الشروط المجعولة من قبله..
ونود ان ننبه الى ان البعض لا يهمه الحكم الشرعي بقدر ما يهمه كسب القضية المتنازع فيها او يهمه الحكم الشرعي ولكنه متى ما وافق هواه ورغبته ومصالحه الخاصة قبله وانقاد له ، ومتى ما كان مخالفاً لها رفضه ولم يقبل العمل به.. وهذا مؤشر خطير يعكس عدم وجود التزام حقيقي لدى الانسان.
ومن الاسلام بهذا المعنى التسليم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللائمة من ولده والفقهاء المنصبون من بعد المعصوم سواء أكان بتنصيب خاص او عام..
ومن الامثلة المهمة على ذلك :
هو الرجوع في هذا الزمان الى الفقيه العادل الجامع للشرائط في جميع امور الانسان وليس العبادية فقط بل حتى في المواقف والرؤى تجاه القضايا العامة السياسية وغيرها وفي مسائل النزاع والخصومات والاختلافات الفكرية والاجتماعية والاسرية .. ولو ان كل واحد رجع في هذه الامور العامة والخاصة لما بقيت مشكلة عالقة..
ومن المهم ان نذكر هنا ان هذه النزاعات العشائرية والتي تؤدي الى الاقتتال على امور تافهة وسقوط عدد كبير من الضحايا .. لابد فيها للمؤمن الحقيقي حسب الآية الكريمة من الرجوع الى الفقيه العادل او وكيله ليرشد الى الحكم الصحيح الشرعي..
وكذلك في المشاكل الاجتماعية والاختلافات في امور الارث والوصايا والاوقاف وغيرها من الامور العامة..
موانع التسليم :
تغليب المصلحة الشخصية والاهواء النفسية.
منشأ التسلم :
الاعتقاد بان الله تعالى لا يشرع للانسان الا ما فيه مصلحته او رفع المفسدة والضرر عنه ولا يقدِّر له ايضاً .. إلاّ ما فيه تربيته وكماله وتطهيره من الذنوب.. وان لا مؤثر في الوجود الاّ الله تعالى فهو مالك الامور كلها..
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة