أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-01-2015
3593
التاريخ: 29-4-2016
3075
التاريخ: 9-4-2016
3536
التاريخ: 21-12-2017
3284
|
دار همس، وانتشر لغط، وكثر حديث ثم لم يعد الخبر مكتوما، إنه على لسان الكثيرين، يلوكونه في الصباح وفي المساء، في الشارع، وفي حلقات السمر: إن معاوية بن أبي سفيان يوسط مروان بن الحكم في تقريب وجهات النظر بينه وبين زياد ابن أبيه، فهو بحاجة إلى هذا الإنسان، الشرس، الفظ، وليس غيره يستطيع أن يستأصل أصحاب علي في العراق، وبقائهم خطر على حكمه..
إنهم أصحاب عقيدة، يحملون ضمائر حية، في أعناقهم بيعة لأبي تراب، وعلى أكفهم بطولة، لا تعرف إلا السيف والرمح، وإذا ما اجتث أصولهم فسوف يبقى العراق في معزل عن حكمه..
ومضى السهر في ليلة من ليالي معاوية، فأرسل خلف صاحبيه: مروان بن الحكم، وعمرو بن العاص؛ ليبحث معهما الأمر..
والليل قد ذهب أكثره، وطرق الباب حراس معاوية على الرجلين ولبيا الأمر، وكل يحسب في نفسه ألف حساب..
وفي دقائق متعاقبة، حضرا عند معاوية، وقال مروان وهو يتظاهر بالاهتمام، ما الذي أسهر أبا يزيد؟.
والتفت ابن العاص، وهو يتخابث، ويغمز بعينيه: أرجو أن لا تكون الجارية الروحية قد سلبت نوم أبي يزيد؟!..
وألصق معاوية ابتسامة متهرئة على شفتيه الغليظتين، وبانت همومه الثقيلة تنط من عينيه الزائغتين، وهو يلوي حاجبيه، ويتمتم، وتكاد الكلمات تجمد على لسانه من شدة التأثر، وهو يحاول الكلام، فيتعثر بالحديث.
ويلتفت إليه ابن العاص، وقد وجم من وضعه المخيف: تكلم يا معاوية ماذا بك، أتشكو شيئا، إن روحك تصعد مع أنفاسك، ماذا بك؟
وتحدث معاوية وهو يكاد يختنق: أقلقني وجود أصحاب علي، وهم يتنعمون بالحياة، وليس لهم إلا زياد، فهو الذي يتمكن من محو آثارهم، وتشتيتهم، ولم تنفع معه المحاولات، وهو رجل له من الدهاء والقدرة، ما لا أجده في كثير من الناس، وهو يعد لصغار الأمور وكبارها.
ويلتفت مروان إلى معاوية، وقد تظاهر بالجد قائلا: إذا كنت بحاجة إليه فأجبه إلى طلبه، وهو ليس بكثير عليك، أعطه أمنيته، ولا تبالي، وعندها يرضى بما تريد منه.
وينتفض معاوية، وعلى سحنته شيء من الغضب، وهو يصرخ: تبا لك يا أبا الحكم، أتريد مني أن أعترف بأخوته، وأرجع نسبه إلى أبي سفيان، ما أفظع هذا الطلب، إنه ابن بغية قضى أبي معها وطرا في حانة السلولي، لا كان ذلك أبدا.
ويضحك ابن العاص ملء شدقيه ويقول: من أراد شيئا بذل في سبيله الغالي والنفيس، وما الضير من ذلك وأبوك الذي قال لعلي: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه.
فقال علي بن أبي طالب: ومن هو يا أبا سفيان؟ قال: أنا.
قال: مهلا يا أبا سفيان.
فقال أبو سفيان:
أما والله لو لا خوف شخص ... يراني بما علي من الأعادي
لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولـم تـكن المقالة عن زياد
وقـد طـالت مجاملتي ثقيفا ... وتـركي فـيهم ثـمر الفؤاد
لم يكن رأي ابن العاص بالجديد في دهاء زياد، فقد قالها من قبل في حقه، يوم بعث عمر بن الخطاب زيادا في إصلاح فساد وقع في اليمن، فرجع من وجهه، وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها، فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام قرشيا؛ لساق العرب بعصاه.
وغام معاوية في تفكير عميق، وخيم على صاحبيه صمت طويل، كل يفكر في وضع خطة؛ لجلب زياد لحظيرة معاوية، وإن هذا الرجل يعرف جيدا أصحاب علي، فقد كان سابقا من شيعة علي، وكان واليه في القدس، بحيث كتب إليه الإمام علي مرة يقول: وإن معاوية يأتي المرء من بين يديه، ومن خلفه، فاحذره، ثم احذره، والسلام ..
ولكن معاوية كلما ألح في التفكير، صعب عليه قبول المساومة..
بالأمس القريب، كتب إلى زياد، وهو عامل علي (عليه السلام) يقول له: أما بعد فإن العش الذي ربيت به معلوم عندنا، فلا تدع أن تأوي إليه، كما تأوي الطيور إلى أوكارها، ولو لا شيء والله أعلم به، لقلت كما قال العبد الصالح: فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، وليخرجنهم منها أذلة، وهم صاغرون ..
ولم يحتمل زياد الكتاب، فقام في الناس خطيبا قائلا: العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق، يخوفني بقصده إياي، وبيني وبينه ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المهاجرين والأنصار، وأما والله لو أذن في لقائه، أعرف الناس بضرب السيف .
جال كل ذلك في فكر معاوية، والصمت مخيم على المجلس، وأفاق معاوية من شبه غفوة طارئة، والتفت إلى مروان وهو يحثه على الحديث.
ولكن مروان كان قد التزم بالسكوت، وضاق أبو يزيد بهذا السكوت فقال: وأخيرا يا أبا الحكم هل لك رأي غير هذا؟
فأجاب مروان بالسلب..
والتفت معاوية إلى ابن العاص، وهو أشبه بالمتوسل، وأنت يا أبا محمد، هل لك في إقناع زياد لما نريد؟ إذا خضعت للأمر..
ولما يئس معاوية من أية طريقة، اضطر للطريق الذي رسماه له، فالتفت إلى صاحبيه قائلا: اذهبا إلى زياد، وأعطياه ما يريد، فهو أخي، إذا نفذ ما أريد منه.
وانتهت المساومة، وأصبح زياد بن سمية، أو زياد ابن أبيه، زياد بن أبي سفيان، وتحقق الحلم الذي كان يراوده من زمن بعيد.
وتولى لمعاوية البصرة، ثم الكوفة، وهو يشكر لمعاوية صنيعه ويده، وإذا تقاعس عن الإجابة لمطاليب سيده، كتب له: من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد.
أما بعد: فإنك عبد قد كفرت النعمة، واستدعيت النقمة، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر، وإن الشجرة لتضرب بعرقها، وتتفرع من أصلها، أنك لا أم لك، بل لا أب لك، يقول فيه أمس عبد واليوم أمير، خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة وأسرع الإجابة فإنك إن تفعل، فدمك حقنت، ونفسك تداركت، وإلا اختطفتك بأضعف ريش، ونلتك بأهون سعي، وأقسم قسما مبرورا أن لا أوتي بك إلا في زمارة، تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق، وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه، وخرجت منه، والسلام.
وتناسى زياد ولائه لعلي بن أبي طالب، وأصبح أمينا جدا على تنفيذ رغبات سيده الجديد، وصار أشد الناس عداء على آل علي وشيعته، وجلس يوما في دار الإمارة، وهو يرسل العيون والرقباء للتعرف على أخبار أصحاب أبي تراب.
ويترامى النبأ إليه إن عبد الرحمن بن حسان العنزي يجمع الناس حوله وينشر فضائل علي (عليه السلام)، ويذكرهم بعظمة أهل بيته، ويحرضهم على كره معاوية، ويروي مثالبهم، وعظم الأمر لدى زياد، وأرسل من يعرف طبيعة الحديث وأشرف الرسول على مجلس العنزي، فسمعه يحدث جماعته: عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر، فسمع رجلين يتغنيان وأحدهما يجيب الآخر، وهو يقول:
ولا يـزال جوادي تلوح عظامه ... زوي الحرب عنه أن يجن فيقبرا
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): انظروا من هما.
قال: فقالوا: معاوية وعمرو بن العاص، فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم اركسهما ركسا، ودعهما إلى النار دعا .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنت جالسا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت، يوم يموت على غير ملتي .
قال: وتركت أبي يلبس ثيابه فخشيت أن يطلع، فطلع معاوية.
وأبوه قال من قبل، وهو يبارك لعثمان بالخلافة: صارت إليك بعد تيم وعدي، فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك، ولا أدري ما جنة ولا نار .
واظلمت الدنيا بعين الرسول ماذا يسمع، أصحيح هذا العنزي، يحدث الناس بهذا القول الصارخ، وعاد مسرعا إلى زياد ينقل إليه الحديث.
واقشعر جسد الأمير من ذكر هذا الرجل، وتطاوله على المجد الأموي، وتقلصت قسماته، وأخذ يتلفت، يمنة ويسرة مذعورا، كأنه أصيب بمس من جنون، وصاح صاخبا: لا تركني الله حيا، إن لم أقتل العنزي شر قتلة، علي بالرجل الساعة، لا تدعوه يعيش في الكوفة اليوم، ولا يتنسم ريح الحرية قبل غروب الشمس، كفى ما ألب الناس علينا..
أسرعوا إليه، أوثقوه كتافا، وليذق شديد العذاب مادام يلهج بحب علي..
وعبد الرحمن كعادته، يهدر كبرهان بين جموع أهل الكوفة، يحرضهم على بني أمية، ويذكر مثالبهم، وتقدم الحراس إليه وعيون المتجمهرين تزحف معهم، وطلبوا منه إجابة الأمير.
وسار بخطى ثابتة، وإيمان كبير نحو قصر الإمارة، تتبعه جموع حاشدة من الأهلين؛ لتشهد نهاية المطاف.
واقتحم المجلس، وزياد وسط جماعة من حفدته، وما كادت عيناه تقع عليه حتى دارت الدنيا فيها، إن هيئته تدل على صلابة وصمود لا يمكن اقتحامهما، وهم أن ينقض عليه فيقطعه بسيفه، ولكن جلاسه أشاروا عليه بالتريث، دون أن تحدث بلبلة في البلاد.
وفكر الأمير الحاقد بأمر عبد الرحمن، وأخيرا اهتدى إلى حل: ذلك أن يرسله إلى معاوية ليرى أمره فيه، واطمأن لهذه الفكرة، ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وكان هذا العبد الصالح يودع مسقط رأسه في طريقه إلى الشام.
وتقصد زياد في إيذاء الرجل طول الطريق، فقد أوصى حراسه بأن يحملوا العنزي على دابة ليس عليها وطاء، ولا يدعوه يستريح في سفرته البعيدة، كل ذلك ليصل إلى معاوية منهار الأعصاب، مخذول الجانب.
وفعلا فقد مرت عليه أيام صعبة المراس، ثقيلة السير، يعاني فيها مر السفر وشدته، حتى وصل الشام وهو منهوك القوى، متعب الأعضاء.
وأطل على مجلس معاوية يرفل بقيوده، ويرسف بحديده وأطال معاوية النظر إليه، ثم زفر زفرة عريضة، والتفت إلى حفدته المجتمعين حوله قائلا: لقد ضقت بهذه الزمرة ذرعا.
ثم خاطب العنزي ووجهه يكفهر: هل أنت على استعداد أن تتبرأ من صاحبك علي، بمشهد من الناس؟.
وكان عبد الرحمن يعتقد مسبقا ما سيجابهه به معاوية، لذا فهو استقبل الطلب بشيء من الابتسام، وحاول أن يتجاهل مقصده، والحقيقة أراد أن يفضحه بصورة علنية.
لذا التفت إليه وخاطبه: ومن تقصد يا أبا يزيد ـ من أصحابي؟.
وصرخ معاوية: مقصدي يا رجل علي بن أبي طالب.
فما كان من عبد الرحمن إلا أن أغلظ لمعاوية في الجواب، وكاد يصعق لهذه المجابهة العنيفة في مجلسه من هذا الأسير الذي ينتظر حكمه فيه.
ولكن طبيعة معاوية لم يتعجل الأمور، ولم يحاول أن يتحمل مسؤولية الأشياء ـ مهما أمكن ـ، وإنما يلقي تبعة الأشياء على غيره، في حين، هو الذي يحركها، ويرسم خططها.
وبعد ذلك أمر بسجنه، فطال بقاؤه في السجن، وأخيرا حاول التخلص منه، وذلك بإرساله إلى الكوفة؛ ليتولى أمره زياد، وهو بهذا العمل يقصد أمرين: زيادة الأذى به، وقتله على يد زياد، وفعلا وصل الكوفة.
وتأفف زياد، لقد عاد إليه العنزي، فليقطع خبره قبل أن يتسرب إلى أهالي الكوفة، ثم التفت إلى عبد الرحمن قائلا: هل أنت مصر على رأيك في موالاتك لعلي.
وبكل صلابة قال عبد الرحمن: أرجو أن أوفق لذلك.
ـ إذاً أقتلك شر قتلة.
ـ وسآخذ بثأري منك غدا يوم الحساب، وأنا بين يدي رسول الله.
ـ لا تهددني بذلك.
ـ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ .
وسأم زياد من هذا الحوار فصاح بجلاوزته أن يأخذوا الرجل، ويلقوه تحت حوافر الخيول حتى يموت، فعسى تطفى غلة الأمويين بهذا الثأر.
ولم تغب شمس ذلك اليوم، حتى كانت الكوفة تعج بمقتل عبد الرحمن العنزي تحت حوافر الخيول، وهو صامد محتسب في سبيل عقيدته، مؤمن بأنه على الحق، وغيره على الباطل والله للظالم بالمرصاد.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|