أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-11-2017
9674
التاريخ: 9-11-2017
4038
التاريخ: 9-11-2017
9562
|
قال تعالى : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } [المزمل : 10 - 19].
{واصبر على ما يقولون} لك يعني الكفار من التكذيب والأذى والنسبة إلى السحر والكهانة {واهجرهم هجرا جميلا} والهجر الجميل إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعاء إلى الحق على وجه المناصحة قال الزجاج هذا يدل على أنه نزل قبل الأمر بالقتال وقيل بل هو أمر بالتلطف في استدعائهم فيجب مع القتال ولا نسخ وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة .
ثم قال سبحانه مهددا للكفار {وذرني} يا محمد {والمكذبين} الذين يكذبونك فيما تدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص العبادة وفي البعث والجزاء وهذا كما يقول القائل دعني وإياه إذا أراد أن يهدده وهو نصب على أنه مفعول معه {أولي النعمة} يعني المتنعمين ذوي الثروة في الدنيا أي كل جزاءهم إلي ولا تشغل قلبك بمجازاتهم {ومهلهم قليلا} وهذا أيضا وعيد لهم ولم يكن إلا يسيرا حتى كانت وقعة بدر والمعنى وأخرهم في المدة قليلا قال مقاتل نزلت في المطعمين ببدر وهم عشرة ذكرناهم في الأنفال(2) وقيل نزلت في صناديد قريش والمستهزءين {إن لدينا أنكالا} أي عندنا قيودا في الآخرة عظاما لا تفك أبدا عن مجاهد وقتادة وقيل أغلالا {وجحيما} وهو اسم من أسماء جهنم وقيل يعني ونارا عظيمة ولا يسمى القليل به {وطعاما ذا غصة} أي ذا شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ولا يخرج عن ابن عباس وقيل طعاما يأخذ بالحلقوم لخشونته وشدة تكرهه وقيل يعني الزقوم والضريع وروي عن حمران بن أعين عن عبد الله بن عمر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سمع قارئا يقرأ هذه فصعق {وعذابا أليما} أي عقابا موجعا مؤلما.
ثم بين سبحانه متى يكون ذلك فقال {يوم ترجف الأرض} أي تتحرك باضطراب شديد {والجبال} أي وترجف الجبال معها أيضا وتضطرب بمن عليها {وكانت الجبال كثيبا مهيلا} أي رملا سائلا متناثرا عن ابن عباس وقيل المهيل الذي إذا وطأته القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهار أعلاه عن الضحاك والمعنى أن الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل ثم أكد سبحانه الحجة على أهل مكة فقال {إنا أرسلنا إليكم رسولا} يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) {شاهدا عليكم} أي يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم لا في الدنيا {كما أرسلنا إلى فرعون} بمصر {رسولا} يعني موسى ابن عمران.
{فعصى فرعون الرسول} ولم يقبل منه ما دعاه إليه {فأخذناه} بالعذاب {أخذا وبيلا} أي شديدا ثقيلا مع كثرة جنوده وسعة ملكه يعني الغرق حذرهم سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون وقومه {فكيف تتقون إن كفرتم} ولم تؤمنوا برسولكم {يوما} أي عقاب يوم {يجعل الولدان شيبا} وهو جمع أشيب وهذا وصف لذلك اليوم وشدته كما يقال هذا أمر يشيب منه الوليد وتشيب منه النواصي إذا كان عظيما شديدا والمعنى بأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم إن كفرتم وكيف تدفعون عنكم ذلك قال النابغة :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد(3)
أي دفعتنا ثم زاد سبحانه في وصف شدة ذلك اليوم فقال {السماء منفطر به} الهاء تعود إلى اليوم وهذا كما يقال فلان بالكوفة أي هو فيها والمعنى أن السماء تنفطر وتنشق في ذلك اليوم من هوله وقيل سبب ذلك اليوم وهوله وشدته وقيل بأمر الله وقدرته ولم يقل منفطرة لأن لفظة السماء مذكر فيجوز أن يذكر ويؤنث ومن ذكر أراد السقف وقيل معناه ذات انفطار كما يقال امرأة مطفل أي ذات أطفال ومرضع ذات رضاع فيكون على طريق النسبة.
{كان وعده مفعولا} أي كائنا لا خلف فيه ولا تبديل {إن هذه} الصفة التي ذكرناها وبيناها {تذكرة} أي عظة لمن أنصف من نفسه والتذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} أي فمن شاء من المكلفين اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب وقد رغبه الله تعالى فيه ودعاه إلى فعل ما يوصله إليه وبعث رسولا يدعوه إليه فمن لم يصل إليه فبسوء اختياره انصرف عنه .
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ،ص164-167.
2- في نسخة اخرى : ذكر في سورة.
3- كان النابغة من اخطاء النعمان بن المنذر ، ملك الحيرة ، ودخل عليه يوما فجأة ، ومعه امرأته المتجردة فالتفتت اليه مذعورة ، فسقط نصيفها – وهو الخمار – فاستترت بيدها وذراعها . فكادت ذراعها تستر وجهها لغلظها ، وكثرة لحمها ، فأمره النعمان ان يقول قصيدة فيها ، فأنشأ قصيدته ومنها البيت.
{واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} . تقوّل أعداء اللَّه على رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) الأقاويل ، فأمره اللَّه بالصبر وعدم التعرض لهم بشيء . . وكان ذلك في أول البعثة حيث كان المسلمون قلة ، والكفار كثرة ، حتى إذا كانت الهجرة ، وأصبح للمسلمين قوة رادعة - أذن اللَّه لهم بالقتال لحماية المظلومين من الظالمين . وتقدم مثله في العديد من الآيات ، منها الآية 199 من سورة الأعراف {وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} . بعد أن قال سبحانه لنبيه الكريم : دع الذين كذبوك ووصفوك بالساحر والمجنون والشاعر ، بعد هذا قال له : دعني وهؤلاء الذين أطغاهم المال وأعماهم عن كل شيء إلا عن ترفهم وملذاتهم ، دعني وإياهم ، ولا تهتم بهم فعما قريب يحيق بهم العذاب والهلاك .
{إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وجَحِيماً وطَعاماً ذا غُصَّةٍ وعَذاباً أَلِيماً} . هذا ما أعده اللَّه لهم : قيود وأغلال ، ونار وقودها الناس والحجارة ، وطعام كالشوك لا يخرج
من الحلق ولا ينزل إلى الجوف ، وألوان أخرى من العذاب كسرابيل من قطران ومقامع من حديد {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبالُ وكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا} .
هذا وصف ليوم القيامة وأهواله ، منها اهتزاز الأرض بأهلها ، وتحويل الجبال إلى تلال من رمل تنهار وتزول لأضعف الأسباب .
{إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ} . الخطاب في إليكم للمكذبين أولي النعمة ، والمراد بالرسول والشاهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما في الآية 41 من سورة النساء :
{وجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} أي ان محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) يشهد عليهم انه قد أبلغهم رسالات ربهم فكذبوا وأعرضوا {كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا} . ضرب سبحانه فرعون مثلا لأولي النعمة الذين كذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبيّن لهم ان حالهم مع رسول اللَّه تماما كحال قوم فرعون مع موسى ، وحذرهم ، جلت عظمته ، إذا هم أصروا على الضلال أن يصيبهم ما أصاب فرعون وقومه من الهلاك والعذاب الأليم دنيا وآخرة .
{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} . ان كفرتم أي ان بقيتم على الكفر ، وضمير به يعود إلى اليوم ، وضمير وعده إلى اللَّه تعالى المفهوم من سياق الكلام ، والمعنى بأية وسيلة أيها الطغاة تنجون من العذاب الأكبر في يوم تتفطر فيه السماء ، وتشيب الأطفال من أهواله ، وهذا اليوم آت لا ريب فيه لأن اللَّه لا يخلف الميعاد . وتجدر الإشارة إلى ان شيب الأطفال كناية عما يصيب المجرمين من الذعر والرعب لأن الأطفال لا يحاسبون ولا يؤاخذون .
{إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا} . {هذه} إشارة إلى ما سبق من آيات الانذار والوعيد ، والتذكرة العبرة والعظة ، والمعنى ان اللَّه سبحانه بيّن طريقي الشر والخير ، وأمر بهذا ووعد عليه بالثواب ، ونهى عن ذاك وتوعد عليه بالعقاب ، وكل امرئ وما اختار لنفسه من النعيم والجحيم .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص449-450.
قوله تعالى: {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا} معطوف هو وما بعده على مدخول الفاء في قوله: {فاتخذه وكيلا} فالمعنى اتخذه وكيلا ولازم اتخاذه وكيلا أن تصبر على ما يقولون مما فيه إيذاؤك والاستهزاء بك ورميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأولين وغير ذلك مما يقصه القرآن.
وأن تهجرهم هجرا جميلا، والمراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق والدعوة إلى الحق بالمناصحة، ولا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، والآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنها منسوخة بآية القتال.
قوله تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا} تهديد للكفار يقال: دعني وفلانا وذرني وفلانا أي لا تحل بيني وبينه حتى أنتقم منه.
والمراد بالمكذبين أولي النعمة الكفار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم المتبوعون، والجمع بين توصيفهم بالمكذبين وتوصيفهم بأولي النعمة للإشارة إلى علة ما يهددهم به من العذاب فإن تكذيبهم بالدعوة الإلهية وهم متنعمون بنعمة ربهم كفران منهم بالنعمة وجزاء الكفران سلب النعمة وتبديلها من النقمة.
والمراد بالقليل الذي يمهلونه الزمان القليل الذي يمكثون في الأرض حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم ويجازيهم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6، 7] ، وقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 197].
والآية بظاهرها عامة، وقيل: وعيد لهم بوقعة بدر وليس بظاهر، وفي الآية التفات عن الغيبة في {ربك} إلى التكلم وحده في {ذرني} ولعل الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثم التفت في قوله: {إن لدينا} إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
قوله تعالى: {إن لدينا أنكالا وجحيما} تعليل لقوله {ذرني} إلخ والأنكال القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشيء ضعف وعجز، ونكلته قيدته والنكل - بالكسر فالسكون - قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والجمع الأنكال انتهى، وقال: الجحمة شدة تأجج النار ومنه الجحيم، انتهى.
قوله تعالى: {وطعاما ذا غصة وعذابا أليما} قال في المجمع،: الغصة تردد اللقمة في الحلق ولا يسيغها آكلها يقال: غص بريقه يغص غصصا، وفي قلبه غصة من كذا وهي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام والشراب، انتهى.
والآيتان تذكران نقم الآخرة التي بدلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله.
قوله تعالى: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا} ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب،: الرجف الاضطراب الشديد يقال: رجفت الأرض والبحر انتهى.
وفي المجمع،: الكثيب الرمل المجتمع الكثير، وهلت أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه انتهى، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} إنذار للمكذبين أولي النعمة من قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما أوعد مطلق المكذبين أولي النعمة بما أعد لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله ورسوله المستذل لرسول الله ومن آمن معه من قومه ثم قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذا وبيلا فليتعظوا وليأخذوا حذرهم.
وفي الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كان المتكلم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على أولئك المكذبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبدي لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أي شك وترديد وتتم عليهم الحجة ولعلهم يتقون، ولذا عقب قياسهم إلى فرعون وقياس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى موسى (عليه السلام) والإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله {فكيف تتقون إن كفرتم يوما} إلخ.
فقوله: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم} إشارة إلى تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبله تعالى وشهادته على أعمالهم بتحملها في الدنيا وتأديتها يوم القيامة، وقد تقدم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مرارا، وفي الإشارة إلى شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) نوع زجر لهم عن عصيانه ومخالفته وتكذيبه.
وقوله: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولا} هو موسى بن عمران (عليهما السلام).
قوله تعالى: {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا} أي شديدا ثقيلا.
إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسى (عليه السلام)، وفي التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أن السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنه موسى، وإذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما أن وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: {فعصى فرعون} للإيماء إلى أن ما كان له من العزة والعلو في الأرض والتبجح بكثرة العدة وسعة المملكة ونفوذ المشية لم يغن عنه شيئا ولم يدفع عنه عذاب الله فما الظن بهؤلاء المكذبين؟ وهم كما قال الله: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11].
قوله تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا} نسبة الاتقاء إلى اليوم من المجاز العقلي والمراد اتقاء العذاب الموعود فيه، وعليه فيوما مفعول به لتتقون، وقيل: مفعول {تتقون} محذوف و{يوما} ظرف له والتقدير فكيف تتقون العذاب الكائن في يوم، وقيل: المفعول محذوف و{يوما} ظرف للاتقاء وقيل غير ذلك.
وقوله: {يجعل الولدان شيبا} الشيب جمع أشيب مقابل الشاب، وجعل الولدان شيبا كناية عن شدة اليوم لا عن طوله.
قوله تعالى: {السماء منفطر به كان وعده مفعولا} إشارة بعد إشارة إلى شدة اليوم، والانفطار الانشقاق وتذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكر ويؤنث، وضمير {به} لليوم، والباء بمعنى في أو للسببية، والمعنى السماء منشقة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدته.
وقوله: {كان وعده مفعولا} استئناف لتسجيل ما تقدم من الوعيد وأنه حتم مقضي ونسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعله للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه.
قوله تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع والزواجر، والتذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه.
وقوله: {فمن شاء} مفعول {شاء} محذوف والمعروف في مثل هذا المورد أن يقدر المفعول من جنس الجواب والسياق يلائمه، والتقدير فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا اتخذ إلخ، وقيل: المقدر الاتعاظ، والمراد باتخاذ السبيل إليه اتخاذ السبيل إلى التقرب منه، والسبيل هو الإيمان والطاعة هذا ما ذكره المفسرون.
ومن الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل والتهجد فيه، والآية مسوقة لتوسعة الخطاب وتعميمه لغير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصا به (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل على هذا التعميم قوله: {فمن شاء} إلخ.
ويؤيد ما ذكرنا وقوع هذه الآية {إن هذه تذكرة} إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: {وسبحه ليلا طويلا} ويستنتج من ذلك أن صلاة الليل سبيل خاصة تهدي العبد إلى ربه.
________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20، ص59-62.
{واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً).
ويأتي هنا مقام الصبر والهجران، لكثرة اتهامات الأعداء وإيذاءهم له في طريق الدعوة إلى اللّه، فالفلاح إذا أراد قطف الورود، عليه أن يصبر ويتحمل أذى الأشواك، مضافاً إلى ذلك يلزم الابتعاد عنهم وهجرانهم أحياناً، وليبقى في مأمن من شرّهم، ويعطيهم بذلك درساً بالغاً، ولا يعني ذلك قطع سبل التربية والتبليغ والدعوة إلى اللّه.
وعلى هذا فإنّ الآيات المذكورة آنفاً تعتبر وثيقة من الأوامر تعطي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولمن يحذو حذوه هذا المفهوم، وهو أن يستمد العون من عبادة الليل والدعاء والتضرع إلى اللّه تعالى ويسقي هذه الشجرة بماء الذكر اللّه تعالى، والإخلاص والتوكل والصبر والهجران الجميل، يا لها من صحيفة جامعة وجميلة!
التعبير بـ «ربّ المشرق والمغرب» إشارة إلى الحاكمية والرّبوبية على العالم المشهور كلّه.
«الهجر الجميل»: كما أشرنا من قبل، يعني الهجران الملازم للشفقة والإستمرار بالدعوة إلى اللّه الذي يعتبر أحد طرق التربية في مراحل خاصّة، ولا يتنافى ذلك مع الجهاد في المراحل الاُخرى، فلكل أمر مقام.
وبعبارة اُخرى أنّ ذلك لا يعتبر من الابتعاد عنهم وعدم الاكتراث بهم، بل هو اكتراث بحدّ ذاته، وما قيل من أنّ الجهاد نسخ هذه الآيات فليس صحيحاً.
يقول المرحوم الطّبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية: وفي هذا دلالة على وجوب الصبر على الأذى لمن يدعو إلى الدين والمعاشرة بأحسن الأخلاق، واستعمال الرفق ليكونوا أقرب إلى الإجابة(2).
وقوله تعالى : {وَذَرْنِى وَالمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً(11) إِنَّ لَدَيْنَآ أَنْكَالاً وَجَحِيماً(12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّة وَعَذَاباً أَلِيماً(13) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبَاً مَّهِيلاً(14) إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً(15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُوْلَ فَأَخَذْنَهُ أَخْذَاً وَبِيلاً (16)فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً(17) الْسَّمَآءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً(18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}
ذرني والمكذبين المستكبرين:
أشارت في الآية الأخيرة من الآيات السابقة إلى أقوال المشركين البذيئة، وعدائهم وإيذائهم للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا في هذه الآيات فإنّ اللّه تعالى يهددهم بالعذاب الأليم، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه، ويواسي المؤمنين الأوائل، فيقول تعالى شأنه: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً}.
أي دعني وايّاهم، واترك عقابهم لي ومهلهم قليلاً. لتتمّ الحجّة عليهم ولتظهر ماهيتهم الحقيقية، ويُثقلوا ظهورهم بالخطايا فعندها يحلّ عليهم غضبي.
ولم يمض كثير حتى ازدادت شوكة المسلمين، ووجهوا ضرباتهم القوية لأعداء الرسالة، وذلك في معارك بدر وحنين والأحزاب، وبالتالي كان العذاب الإلهي ينتظرهم في البرزخ، حتى يخلدوا بعد ذلك في النّار في يوم القيامة.
والتعبير بـ «أُولي النعمة» إشارة الغرور والغفلة الناجمة من كثرة الأموال والثروة المادية، ولهذا يذكرهم القران في النصف الأوّل من المخالفين على طول تاريخ الأنبياء، وفي الحقيقة أنّ هذه الآية مشابهة للآية (34) من سورة سبأ حيث يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ: 34] في حين أنّ هؤلاء لابدّ أن يلبوا دعوة الحق قبل غيرهم ليشكروا اللّه على ما أنعم عليهم بهذا الوسيلة.
ثمّ يقول مصرّحاً: {إنّ لدينا أنكالاً وجحيماً}.
«الأنكال»: جمع (نكل)، على وزن (فكر) وهي السلاسل الثقال، وأصلها من نكول الضعف والعجز، أي أنّ الإنسان يفقد الحركة بتقييد أعضائه بالسلاسل.
نعم، لقد تنعموا في الدينا وأخذوا حريتهم المطلقة، ولهذا لابدّ لهم من القيود والنّار.
وكذا يضيف: {وطعاماً ذا غصّة وعذاباً أليماً}.
هذا مصير من كان يتلذذ بالطعام بعكس ما كان طعامهم في الدنيا الحرام، حيث العذاب الأليم، ولمّا تمتع به المغرورون والمستكبرون من الراحة غير المشروعة في هذه الدينا، والطعام الموصوف بالغصّة هو بحدّ ذاته عذاب أليم، ثمّ يتبع ذلك بذكر العذاب الأليم على إنفراد، وهذا يشير إلى أنّ أبعاد العذاب الاُخروي الذي لا يعلم شدّته وعظمته إلاّ اللّه تعالى، ولهذا ورد في حديث أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)سمع قارئاً يقرأ هذه فصعق.(3)
وجاء في حديث آخر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي كان يتلو الآية فصعق(4)، وكيف لا يكون هذا الطعام ذا غصّة في حين الآية (6) من سورة الغاشية تقول: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6].
وكذا نقرأ في الآية (43) و(44) من سورة الدخان: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44].
ثمّ يشرح ما يجري في ذلك اليوم الذي يظهر فيه هذا العذاب فيقول: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً}.
«الكثيب»: يراد به الرمل المتراكم، و«المهيل» من هيل ـ على وزن كيل ـ هو صبّ شيء ناعم كالرمل على شيء، ويراد بالمعنى هنا الرمل الناعم وما لا يستقر، والمعنى أنّ الجبال تتلاشى بحيث تظهر بهيئة الرمل الناعم، وإذا ما ديست بالأقدام فإنّها تطمس فيها.
وللقرآن المجيد تعابير مختلفة عن مصير الجبال في يوم القيامة، وتحكي عن إنعدامها وتبديلها بالأتربة الناعمة (أوردنا شرحاً مفصلاً حول المراحل المختلفة لانعدام الجبال والتعابير المختلفة للقرآن في هذا الباب في ذيل الآية 105 من سورة طه).
ثمّ يقارن بين بعثة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومخالفة الأشداء العرب، وبين نهوض موسى بن عمران بوجه الفراعنة فيقول تعالى: {انّا أرسلنا إليك رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً}.
إنّ هدف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هدايتكم والإشراف على أعمالكم كما كان هدف موسى(عليه السلام) هداية فرعون وأتباعه والإشراف على أعمالهم.
لم يكن جيش فرعون مانعاً من العذاب الإلهي، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سبباً لرفع هذا العذاب، ففي النهاية أُغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعدداً من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!
«الوبيل»: من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.
ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ويحذرهم بقوله: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً}(5)(6).
بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيباً، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.
هذا بالنسبة لعذاب الآخرة، وهناك من يقول: إنّ الإنسان يقع أحياناً في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.
على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟
في الآية الاُخرى يبيّن وصفاً أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف: {السماء منفطرٌ به كان وعده مفعولاً}.
إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.
فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عندما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(7)
وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى: (إنّ هذه تذكرة).
إنّكم مخيرون في اختيار السبيل، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلاً، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى اللّه بالإجبار والإكراه، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.
والخلاصة أنّ اللّه تعالى هدى الإنسان إلى النجدين، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها، أو إشارة إلى القرآن المجيد.
ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة، والمخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى اللّه تعالى، كما ذكرت في الآية (26) من سورة الدهر بعد أن اُشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26].
ويقول بعد فاصلة قصيرة: {إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلاً} وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(8).
وبالطبع هذا التّفسير مناسب، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.
________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص528-533.
2 ـ مجمع البيان، ج10، ص379.
3 ـ مجمع البيان، ج10، ص380.
4 ـ روح المعاني، ج29، ص107.
5 ـ يوماً مفعول به لتتقون، و«تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم، وقيل (يوم)
ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والإثنان بعيدان.
6 ـ «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ
والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.
7 ـ «المنفطر»: من الانفطار بمعنى الإنشقاق، والضمير (به) يعود لليوم، والمعنى السماء
منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.
8 ـ تفسير الميزان، ج20، ص147.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|