التطور الدلالي بين اللغة والنقد (التطور بين الدالات على المحسوسات "التوسع، التخصيص، الانتقال") |
1714
01:35 مساءً
التاريخ: 10-9-2017
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2017
9198
التاريخ: 10-9-2017
1259
التاريخ: 30-8-2017
4469
التاريخ: 10-9-2017
765
|
في هذا القسم من الدراسة نعرض لنماذج من التطور الدلالي مختلفة عما سبق لنا الحديث عنه، فلدينا عدد من الامثلة التي ظلت في المجال المحسوس المتصل بالإنسان والحيوان والاشياء والطبيعة عامة، ولكن استعمالها جعلها تتحول وتتغير انماطا من التغير تستجيب لذاك التقسيم الذي وصفه اللغويون الاوربيون بانه منطقي اي ان الدلالات كانت تتجه، اما(أ) نحو الاتساع والتعميم،(ب) اما نحو التخصيص(ج) واما طلبا لمجال حسي اخر.
ولا نريد في هذا الحيز ان نحمل النقاد القدماء عبء المصطلح اللغوي الحديث فانهم لم يصرحوا بتسميات لإقسام، وإنما هو تصرفنا نحن في الترتيب والتصنيف فالمادة اللغوية مستخدمة في المصنفات والشروح وفق فهم ومعايير ضمنية ودورنا هو ايضاح القضايا والمسائل الموجودة بأكبر قدر من المعاصرة، واذا ما كانت القضايا غير مطروقة بشكل مفصل لدى النقاد فإننا نبسط جوانب تكملها.
وسيكون تناولنا للمسائل بحسب النهج الذي اتبعناه في القمم الاول فنكتفي بأمثلة ونترك سائر المواضع التطورية الى الهوامش التي تلحق جداولها بهذا الفصل.
أ- اما الجزء الذي تتسع فيه الدلالة بعد ان كانت حدودها التي تنتشر فيها ضيقة ففيه نطالع امثلة لغير الشراح، فثمة اللغوي احمد بن فارس، وصاحب كتاب اعجاز القران: الخطابي، وكذلك الآمدي، والمرزباني من اصحاب
ص306
التأليف النقدية التي تتخذ مسارا مختلفاً في أشياء في كتب الشروح ومكملاً لها. وهذا التعدد في الباحثين يجعل الظاهرة الدلالية اكثر رسوخا في البناء الثقافي للقرن الرابع على الرغم من غلبة جهود الشراح في عرض تطور الدلالة وقد تكون الغلبة راجعة الى طبيعة مصنفاتهم التي تسمح بهذا التميز.
ان احمد بن فارس يقدم لنا مادة تعارف عليها نفر من اللغويين القدامى على رأسهم الاصمعي، ولكن ابن فارس يعقب على ما يورده بما ينقضها وذلك بسبب نظرة خاصة له حول كون اللغة(توقيفا من الله) وهذا الرأي فيه غرابة لا يعللها الا ايغال هذا اللغوي في كرهه للفلسفة وما يظن انه متعلق بها، فانه يقول: " بوجود اصل وفرع - لغويين - ويأبى ان ينمو الفرع من الاصل في الجماعة العربية ويرى انهما كليهما موقوف عليه " والامثلة التي علق عليها هي: " ان اصل الورد - كما يقول الاصمعي - اتيان الماء، ثم صار كل شيء ورداً، واصل القرب طلب الماء، ثم صار يقال ذلك لكل طلب فيقال هو يقرب كذا اي يطلبه، ولا تقرب كذا ".
ويقولون رفع عقيرته اي صوته، واصل ذلك ان رجلا عقرت رجله فرفعها، وجعل يصيح بأعلى صوته، فقيل بعد ذلك لكل من رفع صوته: رفع عقيرته.
ويقولون بينهما(سافة) واصل هذا من(السوف) وهو الشم(1).
فهذه الامثلة(الورد، رفع العقيرة، السوف، القرب) تعم فيها الدلالة مجالا اكثر اتساعاً بأن تنتقل من اصل الى فرع لا بمعنى الجزء بل بمعنى الاشتقاق المعنوي وتطويع المادة اللغوية الا أن عبارة ابن فارس هي: " وقول هؤلاء
ص307
- الاصمعي واضرابه –(انه كثر حتى صار كذا)، فعلى ما فسرناه من ان الفرع موقوف عليه، كما ان الاصل موقوف عليه "(2). والنتيجة التي يمكننا استخلاصها هي وجود تيار او مجموعة من الدارسين للعربية قديماً تتردد فيما بينهم فكرة(التطور) الدلالي. والخطابي صاحب(بيان اعجاز القرآن) يحلل اللفظين(أكل، وافتراس التي تختص بفعل القتل دون شمول معنى الاكل " فأصل الفرس: دق العنق، والقوم - في الآية - انما ادعوا على الذئب انما أكله أكلا وأتى على جميع اجزائه واعضائه "(3)، ويلتفت الخطابي بعد تمييزه هذا وتنبيهه على دقة التعبير عن حالة بعينها في القرآن دون التوسع في تساهل بين عموم وخصوص - الأكل، الفرس والافتراس - يلتفت الى التوسع في الدلالات فيجعل الخاص عاماً " حتى يجعل العقر أكلا وكذلك اللدع واللسع، وحكر ايضا عن بعض الاعراب: أكلوني البراغيث، فجعل قرص البرغوث أكلا ومثل هذا في الكلام كثير "(4)، وبذا يجلو لنا المصنف مسألة التطور الدلالي - بالاتساع - دون لبس.
ويناقش الآمدي في الموازنة واحدا من اخطاء ابي تمام في البيت:
قسم الزمان ربوعها بين الصبا وقبولها ودبورها أثلاثا
" فيقول ان الصبا هي القبول وليس بين اهل اللغة وغيرهم في ذلك خلاف "، ويورد احتمالات اخرى جاء بها انصار ابي تمام، لان يريد المقابلة بين " الصبا وقبولها اي بين الصبا وسهلها ولينها ولا يكون يريد بالقبول اسمها المعروف " ويقبل الآمدي الفكرة من حيث هي احتمال لغوي عقلي ثم لكنه يرفضها ويردها، لأنه ما سمعنا مثل هذا في الريح ؛ ولا علمناه في اللغة، ولا وجدنا في الشعراء احداً قال: الصبا وقبولها، ولا الجنوب وقبولها، الخ... واخيراً
ص308
يذكر رواية عن ابن الاعرابي في نوادر - تقول - ان العرب تسمي كل ريح طيبة لينة المس قبولاً، وقال الأخطل:
فان تبخل سدوس بدرهميها فإن الريح طيبة قبول(5)
فههنا يعرض الاحتمال الذي يعني اتساعاً في الدلالة اذ تخرج عن نطاق ضرب من الريح الى صفة - تتحول اسماً - كل ريح طيبة.
وينص صاحب(الموشح) على توسيع دلالة المادة اللغوية(س ح ل) بالاشتقاق من حدود الصوت الذي يحدثه الحمار الوحشي لتغدو المسحل(أي الحمار الوحشي ذاته) فقد سمي مسحلاً لسحيله وهو صوته(6).
ومن الاتساع في الدلالة ان(الوغى) يدل على الصوت والجلبة في الحرب ثم عم ليدل على الحرب نفسها، ولقد وقف عند حد الصوت كل من ابن الانباري وابن النحاس دون ذكر التوسع الا ان ابن جني يشكل - بتعليقه - تكاملاً اذ يشير الى المسألة بطرفيها عقب بيت المتنبي:
ولو كان يود وغى قاتماً للباه سيفي والاشقر
" فالوغى: الحرب، وأصله الصوت "(7).
وابن الانباري يحلل كلمة(غانية) ويبين اصلها المحدد ثم تطور بالاتساع في قول عنترة:
وحليل غانية تركت مجدلاً تمكو فريصتهُ كشدق الأعلم
(واصل الغانية: ذات الزوج) اي المستغنية بزوجها، ثم قيل للشابة
ص309
(غانية) ذات زوج كانت او غير ذات زوج، قال يعقوب انشد ابو عبيدة:
ازمان ليلى كعابٌ غير غانية وانت امرد معروفٌ لك الغزل
وأنشد ابن الأعرابي:
احبت الايامى اذ بثنية أيم وأحببت لما ان غنيت الغوانيا(8)
وثمة لفظ اخر تطور من المحدود الى المتسع والاكثر عموماً فالخربات هي الافعال القبيحة عامة، وقد كان لها امل بصورة اشتقاقية اخرى(خارب) تدل على السرقة، ويقول ابن الانباري حول بيت لعمرو بن كلثوم " الخربات الجنايات وما لا خير فيه ". يقال رجل خارب، وقوم خراب، قال الطوسي الخربة الفعلة القبيحة. وقال احمد بن عبيد: الخربة الفعلة الردية " اصل الخارب: اللص "(9).
ويتحدث ابن النحاس عن اصلٍ وتفريع عليه بالاتساع حول بيت الاعشى:
قالوا ثماد فبطن الخال جارهما والعسجدية فالأبواء فالرجل
" فالثماد جع ثمد، قال الاصمعي: الثمد وان كان يتسعمل لكل شيء قليل، فان اصله ان تكثر الامطار فيحقن الماء تحت الرمل فاذا كشف ظهر. ويقال مثمود اذا كان مقتراً عليه الرزق، واذا وصف القوم بأنهم في حرب شديدة قيل: تركناهم يمضون الثمد، ويقال: ان الاثمد من هذا لقلة ما يؤخذ منه وسرعة نصوله "(10).
ص310
فالمادة اللغوية(ثمد) كانت محصورة في حالة مادية هي ما تبقى من ماء الامطار في الرمل، ثم اتسعت لتدل على مجالات حسية عدة منها: القلة بسبب الحرب، والاثمد الذي هو ذر نؤور قليل ليخلف تقوش الوشم، وان في عملية الوشم ذاتها تشابها اذ يذر القليل من النؤور ليختلط بالدم في خطوط الرسم على ظاهر اليد او الذراع او الوجه، وبالتالي تتسع لتدل على كل شيء قليل.
ويشرح ابن النحاس مادة ركب ويستشهد بنقل عن ابن السكيت الذي ينص على ان الركاب لا تستعمل الا في الابل خاصة. ويضيف ابن جني الى هذه الفكرة الاتساع الذي طرأ عليها وهو يشرح بيتاً من ارجوزة ابي نواس:
ركبٌ يشيمون مطر حق اذا الظل قصَر
" الركب جمع راكب، والراكب اصله لذي البعير او الناقة "(11). ونحن نفيد من تكامل النصين اللذين وردا لدى كل من ابن النحاس، وابن جني، خاصة ان تعليق الاول كان على بيت لشاعر متقدم. عنترة:
ان كنت ازمعت الفراق فإنما زمّت ركابكم بليل مظلم(12)
ب - ولقد اجتمع لي عدد من التحليلات الدلالية من جهود النقاد الشراح في القرن الرابع وهي مما تسميه الدراسة الحديثة: التخصيص او تقليص الدلالة، الا اننا لا نلاحظ غياب الاصل الذي اصابه هذا التخصيص بل تثبت لدينا حقيقة ذات اهمية كبيرة في دراسة العربية وهي ان عامل الاشتقاق ومرونة الانتقال بين ضروبه تجعل الاصل اللغوي قادرا على الوفاء باحتياجات عدة عندما تفرع الفروع متميزة في احيان عن منبتها. اما اللفظ الواحد الذي يحتفظ بصيغته الصرفية وتتبدل دلالته جزئيا فهومن النماذج القليلة.
ص311
ويقف ابن الانباري عند بيت الحارث بن حلزة:
ومع الجون جون ال بني الأو س عنود كأنها دفواء
ويشرح المعنى السياقي للفظ(دفواء) فهو هنا، كتيبة منحنية على من تحتها، ويعني الشاعر ان هذه الكتيبة منعطفة على ملكها تمنعه، ثم يسرد عدداً من المحسوسات التي تنطبق عليها دلالة: الميل مما يعني شيوع هذه التسمية: " الأدفى من القرون المنحنية والذي قد انحنى في عجب الوعل او غيره يمنع ما تحته ولا يوصل اليه، والرجل الأدفى: الذي في ظهره انحناء، وكذلك المرأة الدفواء انما اخذت من هذا، وقال بعض الرواة: الدفواء: العقاب، ويمكننا استخلاص قوم معنى الميل ومع ذلك تخصص(الدفواء) لتكون اسماً لنوع من الطير الجارح(العقاب) وان المعنى الوارد في بيت الحارث قائم على تشبيه الكتيبة بذاك الطير في حالة الانقضاض.
وتبدو عبارات ابن النحاس اكثر وضوحاً وتحديداً في المجال اذ يتحدث عن(المدامة) في بيت عنترة:
ولقد شربت من المدامة بعدما ركد الهواجر بالمشوف المعلم
" فالمدامة: الخمر وقيل سميت مدامة لدوامها في الدن، وقيل لأنهم يديمون شربها، وقيل: لأنه يغلى عليها حق تسكن، لأنه يقال: دام اذا سكن وثبت، فإن قيل: فهل لكل ما سكن مدام ؟ قيل: الأصل هذا، ثم يخص الشيء باسم"(13). وهكذا نرى استعمال المادة في معناها العام والى جانب ذلك تنفرد دلالة خاصة ترتبط بالخمر، ويحكم العلاقة هنا العرف اللغوي.
وفي اطار بيت للأعشى يحدد ابن النحاس تخصيص صيغة ترتبط بمعن عام
ص312
في الاصل، فالنائي: البعيد ومنه: النؤي لأنه حاجز يباعد السيل "(14) اذ لا تعطي الصيغة الاسمية(نؤي) دلالة عامة للبعد، بل هي مخصصة لإبعاد ماء الامطار عن الخيام.
ويثير بيت لأبي صخر الهذلي عند ابن جني مسألة تخصيص مادة لغوية مع بقاء استعمالها في معناها العام:
والجن لم تنهض بما حملتني ابداً ولا المصباب في الشرم
" المصباب: السفينة، والشرم مالم يدرك غوره في البحر، والقول في(الشرم) أنه سمي بذلك لأنه من شرمت الشيء اي شققته، وذلك انه الموضع المنشق الغائر من البحر، وقيل له: شرم كما قيل له: بحر "(15)، فالشرم هو الشق والكلمات المتصلة بهذا الاصل تحمل الدلالة العامة ولكن الصيغة الاسمية(الشرم)، تختصر بمسمى مخصوص هو: البحر.
ويشرح ابن جني صيغة مخصصة بمسمى معين مع صلاحيتها في الاصل للمعنى العام وذلك في الحديث عن بيت المتنبي:
رماه الكناني والعامري وتلاه للوجه فعل العرب
تلاه: طرحاه على الارض قال الله تعالى: {وتلّه للجبين} [الصافات 37/103] . وكل شيء ألقيته على وجه الارض مما له جثة فقد تللته، ومنه سمي(التل) من التراب "(16)، فكما يبدو ان المعنى العام(كل ماله جثة ملقى على الارض) يخصص بوضع خاص من اوضاع الطبيعة: التل الترابي.
ص213
وفي موضع اخر يورد ابن جني تحليلاً يحتل المناقشة، وذلك ان الدلالة تخصص فيه مرة ثم يكون لها منطلق لتتسع فهو يقول: " العفر اسم من اسماء الأسد وتوصف به الناقة لشدتها، ومنه العفريت وهو بزنة فعليت "، والمادة المعجمية تبين غلبة معنى التراب على(عفر) ومنه يمكن ان نستدل على تخصيص الاسد بالعفر فكأنما لوحظ في الاسد القوي الكثير الحركة أنه يثير غباراً في الصراع ثم يخرج منه منتصرا فرادفت الكلمة(عفر) معنى القوة والشدة، ومن هنا نشأ تفريع اخر وهو تسمية الناقة(بعد انتقال الصفة الى الاسمية في احوال معينة) بالعفراء تشبيهاً لها في شدتها بالأسد القوي.
ونستطيع ان نتخذ من حديث ابن النحاس حول دلالة(المغار، والاغارة) مجالاً لمحاورة حول تخصيص الدلالة، فهو يشرح بيت امرئ القيس:
فيالك من ليل كأنّ نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فيقول: " المغار: المحكم الفتل، يقال: اغرت الحبل إغارة، وأغرت على العدو اغارة وغارة "(17)، فههنا يقوم احتمالان الأول ان تكون الدلالة للمادة(اغارة، وغارة ) هي الاصل ثم تخصص في واحد من تجهيزات الحرب(اعداد الحبال، واحكام فتلها) والاحتمال الاخر هو ان يكون الفعل المخصوص هو المنطلق للتعميم الأكبر.
ج - ان هذا الجزء يمتاز من سابقيه بأن الدلالة فيه تنتقل من مجال الى اخر، وهي لا تنكمش فيتضاءل المحيط الذي تتحرك فيه بعد اتساع وعموم، ولا يتحول مجالها كذلك من ضيق وخصوصية الى تعميم وشمول لما ليس لها من قبل. ان الطريقتين اللتين رأينا امثلة لهما تختلفان مما نحن بصدده من نماذج التطور الدلالي، فاللفظ يتخذ سبيلا يجتاز فيه ما بين نقطة تداوله ومعناه
ص314
الاول الى نقطة اخرى يجري استعماله فيها، ولا يشترط هنا التقفية على اثار المرحلة الاولى بل يقوم احتال تعايش الدلالتين الى جانب احتال طغيان الدلالة المتطورة على سابقتها.
ومما يلحظ في حالات التطور الدلالي في العربية ان عملية التغير او التحور يرافقها في الاغلب نشاط اشتقاقي، وذلك تبعا للبنية العامة للغة، فالأصول تتنامى بالتفريع ومع هذا التشقيق يتسع التدقيق اللغوي والتعبير عن الطبيعة والمجتمع في الاحوال كافة وفي اكثر الصفات عموما وخصوصاً، وينشأ كذلك تلوين تعبيري بفضل توسع في بعض الدلالات او تخصيصاً وذلك بنقلها من ميدان الى اخر يقاربه او يشابهه او يتصل به على نحو من الانحاء، وبذا نرى في المجال اللغوي دائرتين تتكاملان: الأولى هي المتعلقة بالمادة الاصلية وما يتوالد منها كان تكون(سمع) فمنها استمع، وسماع، وسميع، والسماع، الى ما هنالك من اشتقاقات، والدائرة الاخرى هي ما يستعار وينقل الى الاولى بطرق التشبيه والمجاز كان يستعمل(اساخ وأصاخ) للدلالة على تطلب سماع الصوت كما جرى لدى عمرو بن الداخل الهذلي:
تصيخ الى دويّ الارض تهوي بمسمعها كما اصغى الشحيج
وقد قالت العرب: اساخ بسمعه واصاخ، وقالوا: ساخ الماء في الارض يسوخ اي دخل فيها. والتقاء المعنيين ان المسيخ بسمعه مصغ الى المسموع دائب في ادخاله اذنه وايصاله الى حاسته كما يسوخ الماء في الارض اي يصل اليها ويخالطها، وكذلك يصغي فيقال: صغوه معك اي ميله، والمصغي الى الشيء مائل بسمعه اليه "(18). وبهذا تزداد الثروة الدلالية فيتمكن العربي من اعطاء اللمحات المختلفة للنفس وللأفعال، ولهيئات الاشياء.
ص315
وفي هذه المجموعة من نماذج التطور سيتداخل امران ها: الانتقال والتغير في الدلالة والقضايا المجازية او الاساليب التشبيهية، ولقد اقتضت الدراسات استيفاء هده الزاوية مع الخصوص والعموم، وسندرس بعض النماذج في فمل المجاز التالي.
ونبدأ بالعمل اللغوي الخالص لدى احمد بن فارس، ثم نثني بأمثلة النقاد الشراح، وقد روي تطور دلالة(صرورة) في الحقبة السابقة على الاسلام فنقل عن ابن دريد ان اصل(الصرورة) ان الرجل في الجاهلية كان اذا احدث حدثاً فلجأ الى الحرم لم يهج، وكان اذا لقيه ولي الدم في الحرم قيل هو صرورة فلا تهجه، ثم كثر ذلك في كلامهم حتى جعلوا المتعبد الذي يجتنب النساء وطيب الطعام(صرورة وصرورياً) وذلك عنى النابغة بقوله(صرورة المتعبد) اي منقبض عن النساء. وبعد هذا الانتقال من(المحتمي بالحرم) ممن اقترفوا القتل الى(المتعبد الناسك)، تنتقل الدلالة في(صرورة) الى مجال اخر، ذلك انه " لما جاء الله عز وجل بالإسلام وأوجب اقامة الحدود بمكة وغيرها سمي الذي لم يحج(صرورة) خلافاً لأمر الجاهلية لأنهم جعلوا ان تركه الحج في الاسلام كترك المتأله اتيان النساء والتنعم في الجاهلية "(19). وهنا يبدو لنا المعنى مشكلا ثلاث حلقات متتابعة.
ويعالج ابن الانباري ثلاث حالات يبرز فيها عامل التشبيه بين الاستعمال الاول وما انتقل اليه اللفظ من مجال جديد، ونعرض أولا بيت امرئ القيس الذي يضم لفظ(هيكل):
وقد اغتدى والطير في وكناتها بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل
ذلك ان(الهيكل) هو العظيم من الخيل ومن الشجر، ومن ثمة سمي بيت النصارى هيكلاً(20)، والمرجح ان الدلالة نشأت في الطبيعة لتشير الى أنماط
ص316
ضخمة من الشجر سواء في البيئات البدوية او في التي تكثر فيها الاشجار، ومن ثم انتقلت الى الخيل تشبيها، وفي مرحلة تالية تحولت الى شكل جديد طارئ على اهل الجزيرة العربية شمالها وجنوبها(بيت النصارى) فهم سموا الكنيسة التي اريد لها ان تجذب انتباه العرب في الجاهلية الى الجنوب بـ(القُليس) وههنا نرى التعريب الحرفي للأصل اللاتيني(Ecclesia)(21) وفي(الهيكل) تتضح قدرة العربية على التكيف مع المستحدثات.
وفي بيت اخر لأمرئ القيس تثير لفظة(انابيش) تحليلا يظهر استخداماً تنتقل فيه الدلالة من مجال الى اخر:
كأن السباع فيه غرقى عشية بأرجائه القصوى انابيش عنصل
" فالأنابيش هي العروق، وإنما سميت انابيش لأنها تنبش، اي تخرج من تحت الارض " وهناك استعمال في اعمال الحرب لفعل مشتق من الاصل فيقال " نبشه بالنبل اي غرزه فيه "(22) وبذا يكشف محيط دلالي مغاير لما كان فيه اللفظ قبل.
ومن بيت لعمرو بن كلثوم يستخرج ابن الانباري مادة(كتب) ويحلل حركتها من خرز الجلد الى ضم الحروف.
ألما تعرفوا منا ومنكم كتائب يطعن ويرتمينا
فإنه " يقال كتبت الكتاب أكتبه كتباً، وإنما سمي الكاتب كاتباً لأنه يضم بعض الحروف الى بعض من قولهم كتبت القربة، اذا ضمت منها خرزاً الى خرزاً قال ذو الرمة:
ص317
وفراء غرفية أثأى خوارزها مشلشل ضيعته بينها الكتب(23)
وهذا مثال لغلبة الدلالة المنتقل اليها فقد استقر مفهوم(الكتابة) للكلمات وامحى ذاك المعنى الاول من الاستخدام - بحسب اطلاعي ومعرفتي - أو كاد.
ويعرض ابن النحاس لنماذج هي اقرب الى صور المجاز المرسل " فالمرأة التي يظعن بها أي يسافر سميت ظعينة، وتقترن الرحلة بالهودج الذي يتخذ لها على ظهور الابل، ولقد انتقلت التسمية من المرأة الى الهودج نفسه، ونلحظ ما يدعوه البلاغيون بعلاقة الحالية والمحلية، فعند ذكر الظعينة يومئ المتحدث الى من يحل في الهودج على مبيل المجاز، ولكن الاستعمال المتتابع جعل هذا النط حقيقة لغوية، والناقد لا يغفل عن ان الحالتين متداولتان فالمرأة هي التي يذكرها زهير في بيته:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن تحملن بالعلياء من فوق جرثم(24)
ومثال آخر مقارب لكنه يمثل علاقة بين الفعل والزمن، وتنتقل الدلالة من الاشارة الى الزمن لتغدو دالة على الفعل المخصوص الحادث فيه " فالعصر هو العشي وسميت الصلاة باسم الوقت كما سميت صلاة الظهر باسم الوقت "(25) وهذان المثالان يتطابقان مع تحليل ستيفن اولمان الذي يعرضه غيرو ضمن ضروب المجازات التي تتغير فيها الدلالة لملاصقة الاسم للمعنى وهي: العلاقة المكانية(كما في مثال المكتب " bureau ") حيث تنتقل الدلالة من منضدة الكتابة الى البناء الذي يحتويها، والعلاقة الزمانية: صلاة العصر - المساء(vépres) الذي يحتوي فعل تلك الصلاة، والعلاقة السببية: بندقية(fusil) وههنا يمكن للاستعمال الشامي
ص318
ان يشرح المثال الفرنسي اذ يطلق الشوام عليها اسم(بارودة) من البارود مما يطابق(fusil) على انه القدح او الزناد - الزند –(26).
ولدى ابن النحاس مثال لعلاقة التشبيه في نقل الدلالة، فهو يشرح المعنى السياقي لبيت عمرو:
ذراعي عيطل أدماء بكر تربعت الأجارع والمتونا(27)
" فالمتون جمع متن وهو الارض الصلبة الجلدة "، وبعدها يقول الناقد، " ومنه يقال فلان متين " اي ا، القدرة على تحمل المشاق والقيام بأعمال كبيرة تسوغ ان نقول:(المتين) دلالة على الرجل القوي فتنتقل الدلالة.
وسنقارن تحليلاً لابن جني يتناول فيه مادة لغوية، ويشير الى واحدة من حركاتها، بالعرض الذي يقدمه القاموس المحيط، وذلك للبرهنة على الفائدة المحصلة في ميدان التطور الدلالي عند اعادة قراءة المعاجم وفق الخطوط العامة التي استخلصنا قسماً وافراً منها في اعمال نقاد القرن الرابع التي استطعت الوقوف عليها.
والناقد ابن جني يشرح بيت المتنبي:
وعيون المها ولا كعيونٍ فتكت بالمتيم المعمود
" فالمعمود الذي هده العشق، والمتيم: المذلل، ومنه سمي تيم اللات اي عبد اللات"(28)، ومادة القاموس المحيط تنص على ان " التيم: العبد، وتامته المرأة، والعشق والحب تيماً، وتيمته تتيماً عبدته وذللته، والتيمة الشاة تذبح في المجاعة،
ص319
والزائدة على الاربعين، والتميمة: المعلقة على صدر الصبي، وأرض تيماء: مقفرة مضلة مهلكة او واسعة، والتيماء: الفلاة "(29).
والناقد في هذه المسألة يكتفي بذكر حالتين ويمكننا استنتاج الانتقال بينهما، فالعبودية وما يلزمُ عنها من ذل هي اسبق في الواقع الاجتماعي العربي، ومن ثم تحولت بطرق المجاز الاستعاري الى مجال اخر هو علاقة المحبين: فالمتيم تعني العاشق الذي سلبت ارادته فبدا خاضعاً لسيد هو المحبوبة.
اما صاحب القاموس فيضع بين ايدينا عدداً من الاستعمالات المتصلة بعادات وعقائد ترجع الى آماد بعيدة في تاريخ الجزيرة قبل الاسلام، ونستطيع رسم تصور أولي لحركة التطور الدلالي بالانتقال من اطار الى اخر قريب منه او متصل به:
1) ارتبطت المادة اللغوية(ت ي م) بأخطار تدهم المجتمع على شكل كوارث طبيعية، وان ما وصلنا من مشتقات المادة في هذا المجال هو:(التيمة) أي الشاة التي تذبح في المجاعة وكذلك الشاة التي ينذر ذبحها ان تجاوز القطيع الاربعين عدداً، وذلك دفعا - في تصور الجاهلي - لغضب الآلهة وما يتبع هذا الغضب من مجاعات تحوج الى ذبح الشياه لعدم توفر الطعام لها.
2) ثم نقلت المادة اللغوية في صوت(تيماء) الى الدلالة على الارض المقفرة المهلكة لمن يحاولون اجتيازها، فهي فلاة واسعة مضلة، وكأنما ثبت في الاذهان ذكريات الجفاف وذبح الشياه(التيمة) لنقص في اعلافها، ولإطعام الافواه الغرثى.
3) وبعد ذلك استخدمت المادة في صورة(تمية) اي هي رمز او تعويذة لدرء الخطر عن الاطفال، واكثر ما يرسخ في الصحراء وتخومها من اشكال المخاطر
ص320
هو الجوع والجفاف، لذا فمعنى أن الصيغة اما سلب حالة(التيمة) مستقبلا، او اشتمال على معنى الخلاص.
4) واثر ذلك تصل المادة اللغوية الى الدلالة على(العبد) الذي يقد من حصاد الحروب والغزوات، فهو في حالة الخضوع للآخرين - وقد يكون سيدا من قبل - يمتهنون كرامته وحريته انما هو: هالك او كالهالك اي(تيم).
5) اما المرحلة الاخيرة فهي النقل التصويري في الشعر- على الأغلب - حيث نرى العاشق خاضعاً لمحبوبته، او يريها انه كذلك، فهو كالعبد لا يملك من أمره شيئا وكل ما يخصه يرجع الى: السيد: المحبوب.
ونحن في عرض هذه الحالات المتتابعة لا نبتدع الدلالات التي يمكن ان تحملها الالفاظ بل اننا أفدنا مما سجلته الرواة، وصنفه اصحاب الكتب اللغوية والتحليلات الدلالية خاصة. واضافتنا تنحصر في تفسيرات نستمدها من تاريخ المجتمع العربي القديم، وملابساته الفكرية والاقتصادية والسلوكية. وهذه الصورة التي نقدمها بحاجة الى كثير من التدقيق ولكن يظل المبدأ العام هو المطلوب اي مراجعة النصوص القديمة وشواهدها، واعادة ترتيبها بحيث تظهر الفروق الدلالية، والاطوار التي مرت بها الاصول اللغوية.
ص321
_________________
(1) الصاحبي في فقه اللغة، احمد بن فارس ٩٥ - ٩٦.
(2) الصاحبي ٩٦.
(3) الخطابي احمد بن محمد بن ابراهيم، ثلاث رسائل في اعجاز القران ٤١.
(4) البيان في اعجاز القرآن، الخطابي ٤٢.
(5) الموازنة، الآمدي ١٦٣.
(6) الموشح، المرزباني ٢٧٧.
(7) الفسر الصغير ابى جني ١٣٦ ب، شرح ابن الانباري ١٩٢ ، شرح ابن النحاس ٥٠6.
(8) شرح ابن الانباري 340-341.
(9) شرح ابن الانباري 128.
(10) شرح ابن النحاس 712.
(11) الارجوزة، ابن جني 102 .
(12) شرح ابن النحاس ٤٦٧ - ٤٦٨ .
(13) شرح ابن النحاس 496-497.
(14) شرح ابن النحاس ٦٩٦ - ٦٩٧.
(15) التمام، ابن جني ٢٢٤.
(16) الفسر الصغير، ابن جني ٧١ ب، 3٠١ ب.
(17) شرح ابن النحاس 162.
(18) التمام، ابن جني 26-27.
(19) الصاحبي في فقه اللغة، احمد بن فارس ٩١ - ٩٢.
(20) شرح ابن الانصاري ٨٢.
(21) Dictionnaire étymologique p. 256. Larousse
(22) شرح ابن الأنباري 111.
(23) شرح ابن الانباري 414.
(24) شرح ابن النحاس 307-308.
(25) شرح ابن النحاس 252.
(26) P , Guiraud , La sémantique , p. 52
(27) شرح ابن النحاس ٦٢١.
(28) الفسر الصغير 9٤ أ.
(29) القاموس المحيط مادة(ت ي م).
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|