المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
مدى الرؤية Visibility
2024-11-28
Stratification
2024-11-28
استخدامات الطاقة الشمسية Uses of Solar Radiation
2024-11-28
Integration of phonology and morphology
2024-11-28
تاريخ التنبؤ الجوي
2024-11-28
كمية الطاقة الشمسية الواصلة للأرض Solar Constant
2024-11-28

آثـار فـشـل وتـعـثـر المـنظـمات
2024-10-17
صفات الله تعالى السلبية
3-07-2015
خواص الكربون
16-5-2018
مؤسسات رئيسة للإعلام الدولي- وكالات الأنباء ذات الانتشار العالمي
17/10/2022
cycle (n.)
2023-08-03
الصور المتحركة (الفيديو) في الصحيفة الإلكترونية
20-2-2022


المديح  
  
8138   02:47 مساءً   التاريخ: 17-6-2017
المؤلف : ابتسام مرهون الصفار
الكتاب أو المصدر : الأمالي في الأدب الإسلامي
الجزء والصفحة : ص136-151
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الاسلامي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-6-2021 2171
التاريخ: 25-12-2015 25784
التاريخ: 22-03-2015 2174
التاريخ: 22-03-2015 2322

   الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلّم به في بواديها وتُسَلُّ به الضغائن من بينها، والمديح أحد وسائل التعبير عن حياة البدوي، كما أنّه وسيلة خيرة إذا أحسن استخدامها لترقيق النفوس وتهذيبها، وإصلاح ذات البين بين أبناء القبيلة الواحدة أو القبائل المتنافرة. فمديح الشاعر غير التكسّبي يكون وسيلة جادّة لرفع الضغائن والأحقاد، ويدخل ضمن هذا مديح زهير بن أبي سلمى لهرم بن سنان، وتمجيده للدور الإنساني الذي قام به هذا الممدوح في حقن دماء قبيلتين طال أمد تحاربهما وقتالهما.

وإعجاب الخليفة عمر بهذا الشاعر لا يتجاوز الاعجاب بدوافع القول الصادقة لديه، فزهير لا يمدح الرجل إلّا بما فيه، وهو مفضّل عنده حتّى في حالة أخذه العطاء من هرم، لأنّه خلّد مآثر الخير التي قام بها هرم، وخلّد دوره الإنساني في محاولته السلمية المشهورة. وبذا يكون المديح إذا صدقت نوايا الشاعر المادح وسيلة لتمجيد الأخلاق العليا، والمثل القويمة التي يرتضيها المجتمع، وبذا نجد هذا الغرض مستمرّاً في عصر صدر الإسلام خارجاً عن نطاق المديح الشخصي، أو التكسّبي إلى المديح الذي يجعل من الممدوح إطاراً لقضية عامّة، وصفاته توكيداً لمبادئ يدعو إليها الممدوح، ويحاول الشاعر تثبيتها واشهارها.

ويدخل في هذا الاطار كلّ الشعر الذي قيل في مديح الرسولq، فهو ليس مديحاً لشخص الرسولq وذاته، قدر ما هو مديح لمكانته ونبوّته وتوكيد للرسالة السماية التي بعث لنشرها بين الناس، ولهذا أعجب الرسولq يقول الشاعر:

فثبّت الله ما أعطاك من حَسَنٍ
 

 

تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
 

 

لأنّه دعا له في اطار النبوّة التي جاء بها الرسول الكريم أن يثبّته الله على أعدائه، كما ثبّت النبي عيسى ونصره على أعدائه، فالله سبحانه وتعالى هو مرسل الأنبياء، وهو مثبّت أقدامهم على ما يدعون إليه من عبادة التوحيد. وإذا كانت معاني الشعر في المديح قد أصابها التطوّر لما أضفاه عليها الإسلام من معانٍ جديدة، فإنّ المديح بكونه وسيلة من وسائل التعبير عن نفس الشاعر أو قبيلته حين نجح في عرض وساطته، وإثارة مشاعر المودّة والعطف في نفس الرسول الكريم، استثار عطفه على

أسرى قبيلة هوازن بعد معركة حنين بشعر رقيق يستدرّ عفوه ورحمته، فيذكر الرسولq بأنّ مرضعته من بني سعد من هوازن، وأنّها وأخواتها ينتظرن عفوه عن قومهنّ، فيعفو الرسولq عن الأسرى ويحتذي المسلمون حذوه، بأن يردّوا الغنائم التي غنموها في هذه المعركة إلى أهلها.

إنّ حفظ الأشعار التي تتغنّى بالخلق القويم يقوم النفس ويهذّبها، ووجدنا مثل هذا التوجيه الذي يدعو إلى تربية النشئ في مقولة الخليفة عمر0: أرووا من الشعر أعفّه ومن الحديث أحسنه، ومن النسب ما تواصلون عليه وتعرفون به، فربّ رحم مجهولة قد عرفت، ومحاسن الشعر تدلّ على مكارم الأخلاق وتنهى عن مساويها. ونحن نعرف أنّ المديح أوسع أغراض الشعر العربي ما خلا منه عصر، وقلّما خلا منه ديوان. وإذا كان هناك تغيير في هذا الغرض التقليدي في صدر الإسلام، فإنّنا نراه متمثّلاً في التوجيه العام الذي وجّه إليه الشعراء بالالتزام في أشعارهم، فكان المديح جزءاً من هذا الشعر الملتزم وما عاد مديحاً شخصياً قدر ما هو مديح لقضية الدعوة ومديح الرسولq إعلاءٌ لقيم الرسالة السماوية، وإذا كانت كذلك فقد ظلّ المديح سائداً في المجتمع العربي الإسلامي انطلاقاً من قول الرسولq: بعثت لأُتمّم مكارم الأخلاق. ومكارم الأخلاق التي ارتضاها العربي قبل الإسلام ظلّت معظمها ــ ممّا لا يعارض مبادئ الإسلام ــ سائدة في المجتمع العربي مضافاً إليها قيم جديدة هي ممّا أضفاه الدين الإسلامي على خلق العربي من سمات دينية كالتقوى، والإيمان الصادق، والعدل بين الرعية، وأداء الفرائض، وما إلى ذلك من الصفات العليا التي حرص الشعراء المادحون على اضفائها على ممدوحيهم، ليكسبوهم سمات الشخصية المثلى التي تتوافر فيها صفات الخلق العربي القويم، وخلق الشخصية الملتزمة بالدين والأخلاق، ونجد هذا النفس الجديد في المديح منذ وقت مبكّر من عصر صدر الإسلام حين آمن المسلمون، وقرنوا اعجابهم بالنبي محمّدq وبرسالته التي تنير لهم طريق الهدى. فالطفيل بن عمرو الدوسي يقول بعد أن هدّدته قريش لإسلامه معلناً إيمانه مادحاً الرسولq بأنّه رحمة للناس:

 

ألا أبلغ لديك بني لؤيّ
 

 

على الشنآن والغضبِ المُردّ
 

بأنّ اللهَ ربّ الناسِ فردٌ
 

 

تعالى جدّه عن كلّ جدّ
 

وإنّ محمّداً عبدٌ رسولٌ
 

 

دليل هدى وموضح كلّ رشد
 

 

والملاحظ هنا أنّ تغييراً سريعاً طرأ في لغة الشاعر إذ استعمل لفظ (عبد)، وما تحمله من دلالة الذلّة والهوان في عصر ما قبل الإسلام، ليطلقها على مديح الرسولq لأنّها حملت معاني إنسانية بعيدة عن معناها السابق، إذ لا عبودية إلّا لله سبحانه وتعالى، ويستوي في ذلك البشر جميعاً فمحمّدq عبد الله ورسوله.

ونجد هذه المعاني الجديدة كثيرة في شعر حسّان بن ثابت معدّداً صفات النبيq فهو خاتم الأنبياء، كرّمه الله تعالى بالنبوّة، وقرن اسمه باسمه حين جعل تمام إيمان المسلمين شهاد لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّه بعثه هادياً لهذه الأُمّة فأنذر الناس من مغبّة الكفر، وخوّفهم النار، ورغّبهم بالإيمان، وبشّرهم بالجنّة. وهكذا يتحوّل مديح الرسولq بياناً لمبادئ الإسلام التي جاء بها الممدوح، وهو النبي عليه الصلاة والسلام:

أغرّ عليه للنبوّة خاتم
 

 

من الله مشهود يلوح ويشهد
 

وضمّ الإله اسم النبي إلى اسمه
 

 

إذ قال في الخمس المؤذّن أشهد
 

وشقّ له من اسمه ليجلّه
 

 

فذو العرش محمود وهذا محمّد
 

نبي أتانا بعد يأس وفترة
 

 

من الرسل والأوثان في الأرض تعبد

فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً
 

 

يلوح كما لاح الصقيل المهنّد
 

وأنذرنا ناراً وبشّر جنّة
 

 

وعلّمنا الإسلام فالله نحمد
 

 

ولحسّان قصيدة أُخرى لم ترو في ديوانه يمدح بها الرسولq جامعاً فيها الإخلاق التي وردت في أماديح شعراء ما قبل الإسلام مع القيم الإسلامية الجديدة، لا لشيء إلّا لأنّ هذه القيم إنسانية أقرّها الإسلام والمجتمع الإسلامي وبقيت مثلاً عليا، فالرسول الكريم موضع ثقة يعتمد عليه في الملمّات، وهو ملاذ الخائفين والمحتاجين، يحافظ على الجار إذا جاوره كريم يفيض جوده كفيض البحر. بعد هذه الصفات

الخلقية التقليدية يضيف معاني إسلامية في مديحه، فهوq المصطفى الذي اختاره الله تعالى لأداء رسالة الإسلام، وهيّأ له من الملائكة ميكائيل وجبريل، لينصراه في الحرب مع المشركين يقول:

ياركنَ معتمدٍ وعصمةَ لائذٍ
 

 

وملاذ منتجع وجارَ مجاور
 

يامن تخيّره الإله لخلقه
 

 

فحباه بالخلق الكريم الطاهر
 

أنت النبي وخير عصبة آدم
 

 

يامن يجود كفيض بحر زاخر
 

ميكال معك وجبرئيل كلاهما
 

 

مدد لنصرك من عزيز قادر
 

 

وسنستخدم من الشاعر كعب بن زهير انموذجاً لشعر المديح في صدر الإسلام وقصيدته اللامية أشهر قصائد المديح النبوي، وأكثرها تأثيراً في تاريخ الأدب العربي من حيث كثرة شروحها واحتداء الشعراء حذوها في المديح النبوي.

كعب بن زهير وقصيدته في مدح الرسولq

هو هكب بن زهير بن أبي سلمى المزني، أُمّه امرأة من بني عبدالله بن غطفان، يقال لها كبشة بنت عمّار بن عدي، وهي أُمّ سائر أولاد زهير.

وكعب من مخضرمي الجاهلية والإسلام. ويذكر اسمه إذا ذكر اسم أبيه، لأنّه كان قد أخذ الشعر عنه، وكان أبوه أوّل أمره يمنعه عن قول الشعر مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيروى له ما لا خير فيه، ويبالغون في تصوير حرص زهير في أن يكون شعر ابنه كعب محكماً، فيروون أنّه كان يضربه، وأحياناً يحبسه، أو يشغله برعي الغنم، حتّى إذا فاض الشعر على لسانه، يحاول أبوه سماعه، ويقول بيتاً من الشعر ويطلب من ابنه أن يجيزه، ويكرّر المحاولة أكثر من مرّة، حتّى إذا تأكّد من جودة شعر ابنه قال له: قد أذنت لك في الشعر يابني. فكانت أوّل قصيدة قالها حين انتهى إلى أهله بعد رضا أبيه عنه:

أبيت فلا أهجو الصديق ومن يبع
 

 

بعرض أبيه في المعاشر ينفق
 

 

فكعب إذن امتداد لمدرسة زهير بن أبي سلمى. وقد ذكر ابن سلام أنّ الشعر في الجاهلية كان في ربيعة، أوّلهم المهلهل والمرقشان وسعد بن مالك وطرفة بن العبد ...

ثمّ تحوّل الشعر من قيس، فمنهم النابغة الذبياني، وهم يعدّون زهير بن أبي سلمى من عبدالله بن غطفان، وابنه كعباً، ولبيداً، والنابغة الجعدي والحطيئة والشماخ، وأخاه مزرداً.

ولمّا كان كعب بن زهير والحطيئة راويتي شعر زهير وآل زهير، فقد قيل أنّ الحطيئة قدم على كعب قائلاً: قد علمت روايتي لكم أهل البيت، وانقطاعي إليكم وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعراً تذكر فيه نفسك، وتضعني موضعاً بعدك، فإنّ الناس لأشعاركم أروى، وإليها أسرع فقال كعب:

فمن للقوافي شأنها من يحوكها
 

 

إذا ما ثوى كعب وفوّز جرول
 

يقول فلا يعيى بشيء يقوله
 

 

ومن قائليها من يسيء ويعمل
 

كفيتك لا تلقى من الناس واحداً
 

 

تنخّل منها مثل ما يتنخل
 

يثقفها حتّى تلين متونها
 

 

فيقصر عنها كلّ ما يتمثّل
 

 

أمّا قصّة إسلامه فقد ارتبطت بإسلام أخيه بجير، وذلك أنّهم ذكروا أنّ بجيراً وكعباً خرجا إلى رسول اللهq فآثر كعب أن يتأخّر عن أخيه، فيقيم في مكان بعيد عن المدينة، ويذهب أخوه بجير، فلمّا قدم بجير على الرسولq، وسمع منه أسلم، وبلغ ذلك كعباً فقال:

ألا أبلغا عنّي بجيراً روايةً
 

 

فهل لك فيما قلتَ ويحك هل لكا
 

وخالفت أسباب الهدى وتبعته
 

 

على أي شيء ويب غيرك دلّكا
 

على خلق لم تلف أُمّاً ولا أبا
 

 

عليه، ولم تدرك عليه أخاً لكا
 

شربت مع المأمون كأساً رويّة
 

 

فأنهلك المأمون منها وعلكا
 

 

وقيل أنّ أبياته هذه بلغت رسول اللهq فأهدر دمه، فكتب إليه أخوه يخبره الخبر، وقال له: أُنج، وما أراك بمفلت، وقيل أنّه أرسل إليه: ويلك أنّ النبي أوعدك، وقد أوعد رجالاً بمكّة فقتلهم، وهو والله قاتلك، أو تأتيه وتسلم، فاستطير، ولفظته الأرض.

وقيل انّ كعباً قدم متنكّراً فأتى أبا بكر فلمّا صلّى الرسولq الصبح أتى به، وهو متلثّم بعمامته. فقال: يارسول الله رجل يبايعك على الإسلام، وبسط يده،

وحسر عن وجهه. وقال: بأبي أنت وأُمّي يارسول الله، هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فآمنه الرسولq فأنشده قصيدته المشهورة:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
 

 

متيّم إثرها لم يفد مكبول
 

 

وقيل أنّ الرسولq قد كساه بردته بعد أن انتهى من انشاد القصيدة، وقد بنى الباحثون أحكاماً على هذا الحدث، فقيل إنّ إهداء البردة كان تقديراً لموهبة كعب، أو موافقة الرسولq على ما في القصيدة من تقاليد فنّية لما حقّقته من متعة فنّية، وقيل انّه يمكن أن يستدلّ بها على ذوق الرسولq الفنّي في الأدب ونقده، وهي أقوال مبالغ فيها فذوقهq، وبلاغته وأدبه نجدها في جميع أقواله الشريفة. وإنّما نفهم من الرواية موقف الرسولq، وهو القائد المحنّك الذي أراد أن يعلن للناس عفوه عن كعب، ويرفع عنه ما أعلنه من هدر دمه، فإذا استمع إلى قصيدته دلّ سماعه على رضاه عنه وعفوه، وإذا ألقى عليه بردته أكرمه، وأعلن حمايته له. فاكساؤه البردةq اشهار لهذا العفو، ولئلّا يتوهّم أحد من المسلمين بعد أن يخرج كعب من المسجد أنّ دمه ما يزال مهدوراً.

ويقال أنّ الأنصار تجهّمت كعباً، أي لم تحسن استقباله، وغلظت عليه، لما ذكر به رسول اللهq، وأنّ قريشاً لانت وأحبّت إسلامه، فأنشد قصيدته:

فلمّا بلغ إلى قوله:

لا يقع الطعن إلّا في نحورهم
 

 

وما لهم عن حياض الموت تهليل
 

 

نظر الرسولq إلى من حوله، كأنّه يومي إليهم أن اسمعوا، ولمّا وصل إلى قوله:

إنّ الرسول لسيف يستضاء به
 

 

مهنّد من سيوف الله مسلول
 

 

رمىq بردته إليه.

قصيدة وتحليل

1ـ بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
 

 

متيّم إثرها لم يفد مكبول
 

2ـ وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
 

 

إلّا أغنّ غضيض الطرف مكحول
 

3ـ هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
 

 

لا يشتكي قصر منها ولا طول
 

4ـ تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت

 

كأنّه منهل بالراح معلول
 

5ـ شجّت بذي شبم من ماء محنية
 

 

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
 

6ـ تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه
 

 

من صوب سارية بيض يعاليل
 

7ـ من اللواتي إذا ما خلة صدقت
 

 

يشفي مضاجعها شم وتقبيل
 

8ـ أكرم بها خلة لو أنّها صدقت
 

 

موعودها أو لو أنّ النصح مقبول
 

9ـ لكنّها خلة قد سيط من دمها
 

 

فجع وولع وإخلاف وتبديل
 

10ـ فما تدوم على حال تكون بها
 

 

كما تلوّن في أثوابها الغول
 

11ـ ولا تمسّك بالعهد الذي زعمت
 

 

إلّا كما يمسك الماء الغرابيل
 

12ـ فلا يغرنّك ما منّت وما وعدت
 

 

إنّ الأماني والأحلام تضليل
 

13ـ كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً
 

 

وما مواعيدها إلّا الأباطيل
 

14ـ أرجو وآمل أن تدنو مودّتها
 

 

وما اخال لدينا منك تنويل
 

15ـ أمست سعاد بأرض لا يبلّغها
 

 

إلّا العتاق النجيبات المراسيل
 

16ـ ولن يبلّغها إلّا عذافرة
 

 

فيها على الأين إرقال وتبغيل
 

17ـ من كلّ نضاحة الذفرى إذا عرقت

 

عرضتها طامس الأعلام مجهول
 

18ـ ترمي الغيوب بعيني مفرد لهق
 

 

إذا توقّدت الحزّان والميل
 

19ـ ضخم مقلّدها، عبل مقيّدها
 

 

في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
 

20ـ علباء وجناء علكوم مذكرة
 

 

في دفّها سعة قدّامها ميل
 

 

 

21ـ وجلدها من أطوم ما يؤيّسه
 

 

طلح بضاحية المتنين مهزول
 

22ـ حرف أخوها أبوها من مهجنة
 

 

وعمّها خالها قوداء شمليل
 

23ـ يمشي القراد عليها ثمّ يزلقه
 

 

منها لبان وأقراب زهاليل
 

24ـ عيرانة قذفت بالنحض عن عرض

 

مرفقها عن بنات الزور مفتول
 

25ـ كأنّ ما فات عينيها ومذبحها
 

 

من خطمها ومن اللحيين برطيل
 

26ـ تمرّ مثل عسيب النخل ذا خصل

 

في غارز لم تخوّنه الأحاليل
 

27ـ قنواء في حريتها للبصير بها
 

 

عتق مبين وفي الخدّين تسهيل
 

28ـ تخدي على يسرات وهي لاحقة
 

 

ذوابل مسّهنّ الأرض تحليل
 

29ـ سمر العجايات يتركن الحصا زيما

 

لم يقهن رؤوس الأكم تنعيل
 

30ـ كأنّ أوب ذراعيها إذا عرقت
 

 

وقد تلفّع بالقور العساقيل
 

31ـ يوماً يظلّ به الحرباء مصطخداً
 

 

كأنّ ضاحية بالشمس مملول
 

32ـ وقال للقوم حاديهم وقد جعلت
 

 

ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا
 

33ـ شدّ النهار ـ ذراعاً عيطل نصف
 

 

قامت فجاوبها نكد مثاكيل
 

34ـ نوّاحة رخوة الضبعين ليس لها
 

 

لما نعى بكرها الناعون معقول
 

35ـ تفري اللبان بكفّيها ومدرعها
 

 

مشقّق عن تراقيها رعابيل
 

36ـ تسعى الوشاة جنابيها وقولهم
 

 

إنّك يابن أبي سُلمى لمقتول
 

37ـ وقال كلّ خليل كنت آمله
 

 

لا ألهينّك إنّي عنك مشغول
 

38ـ فقلت خلّوا سبيلي لا أبا لكمو
 

 

فكلّ ما قدّر الرحمن مفعول
 

39ـ كلّ ابن أُنثى وإن طالت سلامته

 

يوماً على آلة حدباء محمول
 

40ـ أُنبئت أنّ رسول الله أوعدني
 

 

والعفو عند رسول الله مأمول
 

41ـ مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ

 

ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
 

42ـ لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
 

 

أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل
 

 

 

43ـ لقد أقوم مقاماً لو يقوم به
 

 

أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
 

44ـ لظلّ يرعد إلّا أن يكون له
 

 

من الرسول بإذن الله تنويل
 

45ـ ما زلت أقتطع البيداء مدّرعاً
 

 

جنح الظلام وثوب الليل مسدول
 

46ـ حتّى وضعت يميني ما أُنازعها
 

 

في كفّ ذي نقمات قيله القيل
 

47ـ لذاك أهيب عندي إذ أُكّلمه
 

 

في بطن عثّر غيل دونه غيل
 

 

 

 

49ـ يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما
 

 

لحم من القوم معفور خراديل
 

50ـ إذا يساور قرناً لا يحل له
 

 

أن يترك القرن إلّا وهو مفلول
 

51ـ منه تظلّ سباع الجو ضامزةً
 

 

ولا تمشّي بواديه الأراجيل
 

52ـ ولا يزال بواديه أخو ثقةٍ
 

 

مضرّج البزّ والدرسان مأكول
 

53ـ إنّ الرسول لسيف يستضاء به
 

 

مهنّد من سيوف الله مسلول
 

54ـ في عصبة من قريش قال قائلهم
 

 

ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
 

55ـ زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
 

 

عند اللقاء ولا ميل معازيل
 

56ـ شمّ العرانين أبطال لبوسهم
 

 

من نسج داود في الهيجا سرابيل
 

57ـ بيض سوابغ قد شكّت لها حلق
 

 

كأنّها حلق القفعاء مجدول
 

58ـ لا يفرحون إذا نالت رماحهم
 

 

قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
 

59ـ يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم

 

ضرب إذا عرّد السود التنابيل
 

60ـ لا يقع الطعن إلّا في نحورهم
 

 

وما لهم عن حياض الموت تهليل
 

 

نالت قصيدة كعب بن زهير إعجاب الأُدباء الرواة، وعنوا بها عناية كبيرة، ظهرت في كثرة شروحها، وتنوّع اتّجاهات الشرّاح، وأشار إليها الشعراء في أشعارهم، وتحدّث عنها النقّاد في حديثهم عن موقف الإسلام من الشعر. كلّ هذه الموضوعات استوفاها الباحث السيّد إبراهيم محمّد في أُطروحة كتبها بعنوان: أثر قصيدة بانت سعاد لكعب بن زهير، وأثرها في الشعر، تحدّث فيها عن اتّجاهات

شرّاح القصيدة التي كانت بين شروح لغوية، وشروح صوفية، وأُخرى أدبية، وأخيراً شروح صوفية.

لقد نالت هذه القصيدة إعجاب الأُدباء، لأنّها قيلت بين يدي الرسولq، وإنّ صاحبها نال شرف عفو الرسولq عنه، كما أنّه شاعر عرف بتجويد شعره، وبكونه امتداداً لاتّجاه زهير بن أبي سلمى الشعري، فقصيدته رائعة تستحقّ هذه العناية للسببين المذكورين.

بدأ الشاعر قصيدته بمقدّمة غزلية لطيفة ليس فيها بكاء على الأطلال، أو مخاطبة الرفقة، وإنّما بدأها بالغزل مباشرة حتّى صار مطلعها مثلاً ورمزاً يشار إليه (بانت سعاد ..). لم يخرج فيها كعب عن معاني الغزل في العصر الجاهلي، ولكنّه وسمها بسماتٍ جمالية فنّية تمثّل أُسلوبه المعتمد على اللغة الجزلة السلسلة والصور الجميلة، والإيقاع المتوازن المعتمد، ولكنّنا نجد في البيت السابع غزلاً حسّياً، ممّا لا يقبله الذوق الإسلامي من ذكره للمضاجعة والشمّ والتقبيل .. مع كونها قرأت بين يدي الرسولq، وعدم احتجاج الرسولq على هذا الضرب من الغزل نابع من فهمه عليه الصلاة والسلام لسنن الشعراء ومطالع قصائدهم ممّا يذكّرنا بقصيدة حسّان الهمزية.

لم ينتقل كعب من الغزل إلى الرحلة بحثاً عن السلوان عن الحبيبة، وإنّما عطف بانتقالة لطيفة جميلة خالف فيها الشعراء في أنّه تذكّر هجر سعاد، وانّها لم تف بوعدها، وإنّها متقلّبة المواقف وصلاً وهجراً، وبدلاً من وصفه رحلته أخذ يصف الناقة القوية التي يمكن أن تصل إلى ديار سعاد التي بعدت عنه، وهي أوصاف بدوية رسم فيها صوراً للناقة، دقيقة المعالم حافلة بالحركة والنشاط أخذت من القصيدة الأبيات 15 – 36).

انتقل بعدها إلى تحذير الوشاة له بالقتل، وهنا يتناول كعب موضوعه بفكر يقارب الفكر الإسلامي، ولا عجب من ذلك فإنّ أخاه بجيراً لابدّ أن يكون قد ذكر له صفات النبيq وخلقه، كما أنّ سيرتهq العطرة قد شاعت في بلاد العرب، فجاء وصف كعب له من خلال هذه السمعة.

ويقف كعب وقفة جميلة في وصفه للرسولq وهو وصف لا يشبه المديح

الجاهلي أو الإسلامي، لأنّه لم يكن مديحاً شخصياً، وإنّما وصف لهيبتهq التي أخافت كعباً، ووصف رقّته وعطفه اللذين جعلا كعباً يتجاوز ترهيب الآخرين له، ويقدم على الرسولq يطلب عفوه.

لقد وضع كعب الرسولq في اطار صورتين رائعتين فريدتين في الأدب العربي، كلاهما تحمل سمات الهيبة والمهابة، ويبدو فيها الشاعر ضعيفاً خائفاً مترقّباً.

الصورة الأُولى: أنّه حضر مجلساً هائلاً، ورأى فيه أمراً عظيماً وسمع فيه كلاماً عجيباً بشأن ما ذكروا من هدر الرسولq دمه، وأنّه أوعده بالقتل، بحيث لو حضر الفيل ذلك المجلس، ورأى ما رأى، وسمع ما سمع لأصابته الرعدة، إلّا أن تحفّه العناية الإلهية بتأمين عفو الرسولq، فأخذ يقتطع الصحراء مدّرعاً بالظلام، خائفاً من الناس، وليس من الرسولq، لأنّه متيقّن من عفوه، وقد أخذ وصفه لرحلته في الصحراء بيتاً واحداً، لأنّه موضوع لا يشغل باله وانتقل مباشرة إلى الصورة الثانية.

أمّا الصورة الثانية، فهي وصفة لموقف مصافحته للرسولq، وطلبه العفو منه. وهنا يبرز لنا كعب الرسولq، واصفاً إيّاه بالقوّة فعلاً وقولاً في إطار ما أُحيط به الشاعر من أقوال نقلت عنه، وأشعار رويت عنه، وما بلغه من هدر الرسولq دمه. لقد أيقن كعب أنّ حياته متعلّقة بعفو الرسولq عنه، فيصفه من خلال هذه الصورة وهي وصفه لأسد شديد الضراوة مقيم في أجمة كثيرة السباع يخرج أوّل النهار يلتمس لشبليه الفريسة ليطعمهما لحماً. ثمّ يفصّل في جزئيات الصورة، فقوت الشبلين لحم بني آدم المقطّع م/ قطعاً صغاراً معفّراً بالتراب. والأسد مساور مواثب لا يقاومه مقاوم. ومن خلال قوّة هذا الأسد، ولحم بني آدم المقطّع المعفّر بين يدي الشبلين، يبدو الشاعر ضعيفاً خائفاً متربّصاً لعفو الرسولq عنه. فهذا المشهد المثير للرعب والخوف لا يماثله خوف الشاعر وتهيّبه للقاء الرسولq.

لقد بدأ الشاعر هذا المقطع بلفظ مهلاً بمعنى تمهّل، ولم يأت بتتمّة المعنى، وإنّما جاء بجملة اعتراضية طويلة أخذت البيت كلّه ـ هداك الذي أعطاك نافلة ... ـ وبهذا يمهّد للمخاطب وللرسولq أنّ نداءه هذا ترفّق، وأنّه صادر عن رجل مؤمن بما يدعو إليه الرسولq.

وحين أراد أن يصوّر خوفه من الموقف الذي لو وقف فيه الفيل لأرتعد مع ضخامة جسمه، لم يأت بأداة تشبيه أو ما ينبئ بتشبيه وأورد حديثه عن صورة مباشرة: لقد أقوم مقاما ...

وهذه الرعدة المخيفة التي سرعان ما تملأ مخيلة السامع، تهفت مباشرة حين يقابلها بقوله: ألا ان يكون له عفو من الرسولq أو أمل بالعفو ... إنّ مديح كعب هنا نمط خاصّ، قلّما جادت به قرائح الشعراء، نمط غير تقليدي وغير مباشر يبرز من خلاله الرسولq النبي المهيب الذي خافه الشاعر، والرحيم الرؤوف الذي ينتظر عفوه، ولم يلجأ فيه كعب إلى صفات مباشرة للممدوح كماي فعل الشعراء.

وحين مدحه مديحاً مباشراً سرعان ما نقل صورة الرسولq في اطار جماعته، ولم يجعله كسائر الممدوحين ينفرد بصفات مألوفة مكرّرة. أنّه نبي، سيف سلّه الله على الكافرين، وحوله المؤمنون الذين هجروا ديارهم وأهليهم:

إنّ الرسول لنور يستضاء به
 

 

مهنّد من سيوف الله مسلول
 

في فتية من قريش قال قائلهم
 

 

ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
 

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
 

 

يوم اللقاء ولا سود معازيل
 

لا يقع الطعن إلّا في نحورهم
 

 

وما بهم عن حياض الموت تهليل
 

 

ويجدر بنا الوقوف على شرح الصوفية لهذه القصيدة لأنّهم تجاوزوا فيها دلالة المفردات اللغوية في معجم كعب وعصره، إلى دلالات جديدة أسقطوا فيها أفكار الصوفية على القصيدة ومعانيها.

ومن أهمّ شروح الصوفية لهذه القصيدة شرح الإسعاد في تحقيق بانت سعاد للشيخ العارف بالله محمّد بن أحمد بدير بن القدسي الذي سلك فيه مسلكاً رمزياً، حتّى يصحّ أن نجعل قراءته ضمن ما يسمّى في النقد الحديث بالمستوي الابداعي من مستويات التلقّي الذي نجده عند صنف من القرّاء الذي (يصنعون المعاني، وأنّ لهم الحقّ في إضفاء أي معنى تلزمه حاجاتهم النفسية على نصّ معيّن).

لقد شرح القدسي قصيدة كعب شرحاً صوفياً نحى بها منحى خاصّاً

مخالفاً لكلّ الشرّاح والنقّاد القدماء. فكلّ بيت من أبياتها يحوله الشارح في ذهنه إلى معانٍ وصور وأخيلة لا يدلّ عليها ظاهر الألفاظ، ولا تساير عقلية الشاعر في صدر الإسلام، وإنّما هي إعادة لتشكيل صور كعب، لتكون معبّرة عن عالم الشوق والحبّ الإلهي، وما يعانيه الصوفية من المكابدة في رياضة النفس، ودفع الهمّة، والتسامي عن الملذّات المادّية.

إنّ كلّ بنية من قصيدة كعب اتّخذت مساراً صوفياً في قراءة القدسي، وتحوّلت إلى رمز من رموزها.

سعاد التي تغزّل بها كعب أوّل القصيدة هي السعادة التي ينالها العارف بالله بعد جهاده لنفسه، وهي بعيدة عمّن لم تشمله العناية، ولم تسبق له الولاية، كما أنّها تحتاج في الوصول إليها إلى همّة عالية من عقال الهوى.

أمّا سعاد التي عاد إليها الشاعر مرّة أُخرى بالضمير (أكرم بها) فهي النفس الأمّارة بالسوء، ولذلك وصفها بإخلاف الوعد والتبديل.

أمّا الناقة القوية والتي وصفها كعب التي يمكن أن توصله إلى سعاد، فهي رمز للهمّة التي تتّصف بها النفس المرضية الساعية إلى السعادة.

والطريق الذي تقطعه الناقة هو طريق أهل اليقظة الذين لهم مراتب في سفرهم يعرفها أهل النظر، فأوّل الأمر شوق شائق، ووجد صادق ..

امّا الراح التي ذكرها كعب، فهي ليست الخمرة المادّية إنّما هي الراحة العظمى التي يحسّها العارف بلقاء مفيض العوارف.

وهكذا يحول هذا الصوفي قصيدة كعب إلى صورة من صور الصوفية، فكلّ بيت منها يفسّره باسقاط معاني الصوفية عليه. حتّى حوّلت القصيدة عن مسارها الذي أراده الشاعر. ويبقى هذا الشرح ممثّلاً لنمط من أنماط الشروح التي تمثّل عناية القدماء بهذه القصيدة.

أمّا مديح كعب للأنصار، فإنّه كان مديحاً في اطار الجماعة أيضاً:

من سرّه كرمُ الحياةِ فلم يزل
 

 

في مقنب من صالحي الأنصار
 

ورثوا المكارم كابراً عن كابرٍ
 

 

إنّ الخيار هم بنو الأنصار
 

المكرهين السمهري بأذرع
 

 

كسوالف الهندي غير قصار
 

والناظرين بأعين محمرّة
 

 

كالجمر غير كليلة الأبصار
 

والبائعين نفوسهم لنبيّهم
 

 

للموت يوم تعانق وكرار
 

والذائدين الناس عن أديانهم
 

 

بالمشرفي وبالقنا الخطار
 

يتطهّرون كأنّه نسك لهم
 

 

بدماء من علقوا من الكفّار
 

دربوا كما دربت ببطن خفية
 

 

غلب الرقاب من الأُسود ضواري
 

لو يعلم الأقوام علمي كلّه
 

 

فيهم لصدّقني الذين أُماري
 

قوم إذا خوت النجوم فإنّهم
 

 

للطارقين النازلين مقاري
 

في الغرّ من غسّان من جرثومة
 

 

أعيت محافرها على المنقار
 

 

إنّ كعب بن زهير في هذه القصيدة المادحة، جمع بين قيم المديح المعروفة في العصر الجاهلي وقيم المديح الإسلامية. ونقول قيم المديح المعروفة في العصر الجاهلي، ولا نريد بها إلّا القيم التي استمرّت بعد ظهور الإسلام، لأنّها من مكارم الأخلاق. فمن يريد الحياة الكريمة فليلجأ للأنصار لأنّهم الفرسان الشجعان الذين يحمون من يستجير بهم أو يعيش بينهم، ولعلّه بهذا يشير إلى مؤاخاتهم للمهاجرين، وبذا يقيم معادلة بين مسلمي قريش بأنّهم الذين ناصروا الرسولq في مكّة، وهاجروا معه، فإنّ الأنصار هم العزّة والمنعة لمن يعيش بين ظهرانيهم، فهم أبطال، غضاب لله ورسوله أعينهم محمرّة حماساً لا ضعفاً ولا مرضاً، الرماح تكلّ وتتعب ولكنّهم يكرهونها على القتال بأيديهم التي شبّهها في قوّتها بالسيوف .. كلّ قوّتهم قد سخّروها دفاعاً عن النبيq، وقد استخدم كعب التطهّر بمفهومه الإسلامي، ليصوّر تقرّبهم لله سبحانه بالجهاد في سبيله، فهم يعدّون قتل الكفّار قربة لله، وتنسّكاً في الدين، وهو إذا كان يمدحهم فإنّما يمدحهم عن علم وبصيرة بخلقهم ومكانتهم. وهنا يقف عند قيمتين من قيم المديح، أُولاهما صفة الكرم فإذا كان الجدب والقحط فإنّهم ينصبون قدورهم للضيفان ويكرمونهم، وأمّا القيمة الثانية التي عاد إليها كعب، فهي وصف شرف

الأنصار بكرم أحسابهم وأنسابهم، ولكنّه لم يقف مفصّلاً في هذا النسب، لئلّا يقع فيما كان يقع فيه الجاهليون فيما كان بين الأوس والخزرج، فكفى بهما معاً أصالة نسب، أنّهم من غسّان.

فكعب هنا يجمع القيم العربية المادحة ويضمّها في إطار إسلامي، يرفع الأنصار من المكانة القبلية المحدودة إلى مصاف المجاهدين المتّقين الذين يبحثون عن الأجر والثواب. وهو في هذه القصيدة غير ملتزم بالبنية الفنّية التي التزم بها في قصائده الأُخرى، لأنّه بدأ بمديح الأنصار مباشرة ودون مقدّمة غزلية، ولعلّها فعلاً جاءت استجابة لاعتراض مسلمي قريش من المهاجرين بأنّه لم يمدح الأنصار .. فكانت هذه القصيدة جواباً صادقاً ومباشراً بوضع معادلة الإيمان بين هجرة المهاجرين ونصرة الأنصار. وأُسلوب كعب فيها هو أُسلوبه في سائر أشعاره الجاهلية والإسلامية: والصنعة الفنّية الجميلة التي لا يبدو فيها أي أثر للتكلّف أو الغرابة.

ويستمرّ هذا الأُسلوب في المديح زمن الخلفاء الراشدين، إذ تبقى قيم المديح ملازمة للدين الإسلامي، أو ما يوافقه. فلا عجب أن نجد أبا محجن الثقفي يستقي من القرآن الكريم وصفاً لأبي بكر ليتّخذه مادّة لمديحه. فقد وردت في القرآن الكريم آية تصف هجرة الرسولq مع أبي بكر بقوله تعالى: ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ الله معنا﴾ [سورة التوبة 9]. يستقي أبو محجن من هذه الآية وصف الصاحب ليمدح أبا بكر بعناصر إسلامية أُخرى، فهو صديق، لأنّه صدق دعوة الرسولq، وهو الصاحب لأنّه صحبه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فيقول:

وسمّيت صدّيقاً وكلّ مهاجر
 

 

سواك يسمّى باسمه غير منكر
 

سبقت إلى الإسلام والله شاهد
 

 

وكنت جليساً بالعريش المشهّر
 

وبالغار إذ سمّيت خلا وصاحباً
 

 

وكنت رفيقاً للنبي المطهّر
 

 

وممّاذ كر من شعر مدح به الزبير بن العوّام زمن الخليفة عمر بن الخطّاب، أبيات شعر قالها حجية بن المضرب، وذلك أنّه كانت له امرأة اسمها زينب طلّقها، فخرجت إلى المدينة، فأسلمت في خلافة عمر فقدم حجية المدينة وطالب بزينب وأراد أن يردّها،

ويسمع الخليفة بالخبر، ويأتي إلى الزبير قائلاً: لولا تحرّمه بالنزول عليك هممت به، أي لعاقبته لأنّه يطالب بردّ امرأة مسلمة عن دينها (وكانت نصرانية) فيبلغ الزبير بن العوّام الشاعر قول الخليفة عمر، فيقول مادحاً الزبير:

إنّ الزبير بن عوّام تداركني
 

 

منه بسيب كريم سيبه عمم
 

نفسي فداؤك مأخوذاً بحجزته
 

 

إذ شاط لحمي وإذ زلّت بي القدم
 

إذ لا يقوم بها إلّا فتى أنف
 

 

عاري الأشاجع في عرنينه شمم
 

 

وهي أبيات وإن صدرت عن عربي نصراني، إلّا أنّها لا تحمل إلّا المثل العربية التي يعتزّ بها العربي أينما كان، وفي أي وقت كان، وبذا لم يأت الشاعر بمدحه للزبير بأي معنى يشمّ منه معارضة للإسلام، أو رفض لقيمة خلقية، لأنّها تمجيد لموقف شخص نزل في حماه.

وهذا حجر بن عدي أحد أصحاب الإمام علي صحابي ناصره ولازمه في حروبه وعرف حقيقة المواقف السياسية التي جوبه بها الإمام أيّام خلافته فيدعو الله أن ينصره، لأنّه تقي مؤمن صادق في دعوته، وموقفه، وهو مديح إسلامي يمثّل بداية المديح السياسي:

ياربّنا سلّم لنا عليا

المؤمن المسترشد المرضيا

واجعله هادي أُمّة مهديا

واحفظه ربّي حفظك النبيا

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.