أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-5-2017
497
التاريخ: 12-5-2017
581
التاريخ: 12-5-2017
574
التاريخ: 12-5-2017
867
|
قال تعالى : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُو أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوكَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } [الأحقاف : 7 - 12] .
وصف الله سبحانه الكافرين ، فقال {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم} أي للقرآن والمعجزات التي ظهرت على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) {هذا سحر مبين} أي حيلة لطيفة ظاهرة وخداع بين .
{أم يقولون افتراه قل} يا محمد لهم {إن افتريته} أي إن كذبت على الله واختلقت القرآن كما زعمتم {فلا تملكون لي من الله شيئا} أي إن كان الأمر على ما تقولون إني ساحر مفتر فلا يمكنكم أن تمنعوا الله مني إذا أراد إهلاكي على افترائي عليه والمراد كيف أفتري على الله من أجلكم وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني أن افتريت عليه {هو أعلم بما تفيضون فيه} أي إن الله أعلم بما تقولون في القرآن وتخوضون فيه من التكذيب به والقول فيه أنه سحر .
{كفى به شهيدا بيني وبينكم} أن القرآن جاء من عنده {وهو الغفور الرحيم} في تأخير العقاب عنكم حين لا يعجل بالعقوبة قال الزجاج هذا دعاء لهم إلى التوبة أي من أتى من الكبائر مثل ما أتيتم به من الافتراء على الله وعلي ثم تاب فإن الله غفور له رحيم به {قل} يا محمد {ما كنت بدعا من الرسل} أي لست بأول رسول بعث عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والبدع الأول من الأمر {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} أي لا أدري أ أموت أم أقتل ولا أدري أيها المكذبون أ ترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم ليس يفعل بكم ما فعل بالأمم المكذبة وهذا إنما هو في الدنيا وأما في الآخرة فإنه قد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار عن الحسن والسدي وقيل : معناه لست أدعي غير الرسالة ولا أدعي علم الغيب ولا معرفة ما يفعله الله تعالى بي ولا بكم في الإحياء والإماتة والمنافع والمضار إلا أن يوحى إلي عن أبي مسلم وقيل ما أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به عن الضحاك وقيل ما أدري أ أترك بمكة أم أخرج منها بأن أومر بالتحول عنها إلى بلد آخر وما أدري أ أومر بقتالكم أو بالكف عن قتالكم وهل ينزل بكم العذاب أم لا .
{إن أتبع إلا ما يوحى إلي} أي لست أتبع في أمركم من حرب أو سلم أو أمر أو نهي إلا ما يوحي الله إلي وما يأمرني به {وما أنا إلا نذير مبين} أي مخوف لكم ظاهر {قل} يا محمد لهم {أ رأيتم} معناه أخبروني ما ذا تقولون {إن كان من عند الله} أي إن كان هذا القرآن من عند الله هو أنزله وهذا النبي رسوله {وكفرتم} أنتم أيها المشركون {به وشهد شاهد من بني إسرائيل} يعني عبد الله بن سلام {على مثله} معناه عليه أي على أنه من عند الله وقيل على مثله أي على التوراة عن مسروق وقيل الشاهد موسى شهد على التوراة كما شهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على القرآن لأن السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة {ف آمن} يعني الشاهد {واستكبرتم} أنتم على الإيمان به وجواب قوله {إن كان من عند الله} محذوف وتقديره أ لستم من الظالمين ويدل على هذا المحذوف قوله {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} وقيل جوابه فمن أضل منكم عن الحسن وقيل جوابه أ فتؤمنون عن الزجاج .
ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين جحدوا وحدانيته فقال {وقال الذين كفروا للذين آمنوا} بالله ورسوله {لوكان خيرا ما سبقونا إليه} أي لوكان هذا الذي يدعونا إليه محمد خيرا أي نفعا عاجلا أو آجلا ما سبقنا هؤلاء الذين آمنوا به إلى ذلك لأنا كنا بذلك أولى واختلف فيمن قال ذلك فقيل هم اليهود قالوا لوكان دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) خيرا ما سبقنا إليه عبد الله بن سلام عن أكثر المفسرين وقيل : إن أسلم وجهينة ومزينة وغفارا لما أسلموا قال بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع هذا القول عن الكلبي ونظم الكلام يوجب أن يكون ما سبقتمونا إليه ولكنه على ترك المخاطبة .
{وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} أي فإذا لم يهتدوا بالقرآن من حيث لم يتدبروه فسيقولون هذا القرآن كذب متقادم أي أساطير الأولين ثم قال سبحانه {ومن قبله كتاب موسى} أي من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة {إماما} يقتدى به {ورحمة} من الله للمؤمنين به قبل القرآن وتقدير الكلام وتقدمه كتاب موسى إماما وفي الكلام محذوف يتم به المعنى تقديره فلم يهتدوا به ودل عليه قوله في الآية الأولى {وإذ لم يهتدوا به} وذلك أن المشركين لم يهتدوا بالتوراة فيتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان ويعرفوا منها صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) .
ثم قال {وهذا كتاب} يعني القرآن {مصدق} للكتب التي قبله {لسانا عربيا} ذكر اللسان توكيدا كما تقول جاءني زيد رجلا صالحا فتذكر رجلا توكيدا لتنذر الذين ظلموا أي لتخوفهم يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومن قرأ بالياء أسند الفعل إلى الكتاب {وبشرى للمحسنين} وبشارة للمؤمنين وقيل معناه ويبشر بشرى فيكون نصبا على المصدر ويجوز أن يكون في موضع رفع أي وهو بشرى للمحسنين الموحدين .
___________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص139-143 .
{ وإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ } . ضمير عليهم يعود إلى مشركي العرب ، والمراد بآياتنا وبالحق هنا القرآن ، وللحق متعلق بقال ، ومعنى بينات ان آيات القرآن واضحة لا غموض فيها ولا تعقيد ، وبالرغم من وضوح القرآن وظهور الدلائل على أنه حق وصدق فقد وصفه المفترون الطغاة بالسحر المبين ، لا لشيء إلا لأنه جعلهم وسائر الناس بمنزلة سواء . وتقدم هذا في العديد من الآيات .
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } . أيزعم المشركون يا محمد ان هذا القرآن افتراء منك واختلاق ؟ فقل لهم : كيف أكذب على اللَّه وأنا أشد الناس خوفا منه ؟ وهل تغنون عني شيئا من غضب اللَّه وعذابه إن كذبت عليه وافتريت ؟ وإنما قال لهم هذا اعتمادا على ما يعرفونه في الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) من رجاحة العقل وكراهية الكذب وغيره من رذائل الأخلاق .
{هُو أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وبَيْنَكُمْ } . ان اللَّه سبحانه لا تخفى عليه خافية من أقوالكم وأفعالكم ، وأنتم محاسبون عليها ، وهو تعالى بما يعلمه مني ومنكم يشهد لي بالصدق والأمانة ، وعليكم بالكذب والخيانة { وهُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } يغفر لكم ويشملكم برحمته ان تبتم وأنبتم .
{قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ } . لست بأول رسول يبلغ العباد رسالات ربه ، فقد سبقني الكثير من الأنبياء والمرسلين { وما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ } .
النبي ( صلى الله عليه واله ) يعلم حاله وحال المشركين في الآخرة لأن اللَّه أخبره بذلك كما في العديد من الآيات ، بالإضافة إلى ان هذا العلم من لوازم النبوة ووظائفها ، وقد تواتر في الحديث ان النبي ( صلى الله عليه واله ) بشر أكثر من واحد بالجنة ، وعليه يكون المعنى ان النبي لا يعلم ما يحدث له في هذه الحياة ؟ . وبأي شيء يمتحنه اللَّه ويبتليه ؟
وأيضا هولا يعلم ما يحدث للمشركين ؟ هل ينتقم منهم في هذه الدار ، أو يؤخر عذابهم إلى يوم يبعثون ؟ .
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ } . وليس من شأن النذير أن يعلم الغيب ، وإنما هو يبلغ عن اللَّه ما يوحي إليه تعالى بما يحدث له وللمشركين في هذه الحياة . وتجدر الإشارة إلى ان هذا كان قبل نزول الآيات الناطقة بأن العاقبة لدين اللَّه ورسوله ولوكره المشركون ، أو هو أسلوب من أساليب الدعوة إلى سبيل اللَّه بالحكمة والموعظة الحسنة .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكَفَرْتُمْ بِهِ وشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهً لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . السورة التي نفسرها مكية ما عدا هذه الآية ، فإنها نزلت في عبد اللَّه بن سلام ، حيث أسلم في المدينة ، وكان عالما كبيرا من علماء بني إسرائيل ، هذا ما جاء في أكثر التفاسير ، والمعنى قل يا محمد للذين زعموا ان القرآن سحر مفترى ، قل لهم : أخبروني عن حالكم عند اللَّه ان ثبت ان القرآن حق وصدق ، وآمن به عالم من بني إسرائيل كعبد اللَّه ابن سلام الذي يدرك أسرار الوحي ويشهد بأن تعاليم القرآن تماما مثل تعاليم التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى ، ما ذا يكون حالكم إذا بقيتم على ضلالكم وعنادكم ؟ .
{أ تظلمون أنفسكم مختارين وتعرضونها لنقمة اللَّه وعذابه} ؟ .
{وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوكانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ} . كان أكثر الذين استجابوا لدعوة الرسول ( صلى الله عليه واله ) في بداية الدعوة - من المستضعفين ، فاتخذ الكبار الطغاة من ذلك سببا للطعن برسالة الرسول لأن الحق بزعمهم يعرف بالرجال المترفين ، ولا يعرف الرجال بالحق ، فكل ما يفعله المترفون حق ، وكل ما يفعله غيرهم باطل . . ولكن من صارع الحق صرعه . ولذا لم تمض الأيام حتى
اعتلى العبد الحبشي بلال ظهر الكعبة ينادي لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه ، وحطم الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) أوثان قريش ووضعها تحت قدميه ، وهو يقول : { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء : 81] . وفي تفسير الرازي ان أمة لعمر أسلمت ، وكان يضربها حتى يفتر ، فقال الكفار : لوكان الإسلام خيرا ما سبقتنا إليه أمة عمر . . . ولكن عمر أسلم بعد ذلك ، وحارب الروم والفرس على الإسلام .
{وإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ } . ضمير لم يهتدوا وسيقولون يعود إلى كفار قريش ، وضمير به إلى القرآن ، ووصفه الطغاة بالقديم لأن فيه بزعمهم خرافات وأساطير أكل الدهر عليها وشرب . . قالوا هذا لا لشيء إلا لأنهم لا يؤمنون إلا بمصالحهم ومكاسبهم ، والقرآن ينكرها ويحاربها .
{ومِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً ورَحْمَةً وهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ } . القرآن كالتوراة التي نزلت على موسى ، كل منهما إمام يهدي إلى الحق ورحمة لمن آمن به وعمل بموجبه ، وقد بشرت التوراة بمحمد : {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } [الأعراف : 157] . وأيضا القرآن مصدق بهذه التوراة ، وينطق بلسانكم أيها العرب وينذر من أساء بالعذاب ، ويبشر من أحسن بالثواب فكيف تقولون تارة : انه سحر ، وحينا : خرافات وأساطير ، ولا تقولون ذلك عن التوراة ؟
_____________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص41-43 .
قوله تعالى : {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} الآية والتي بعدها مسوقتان للتوبيخ ، والمراد بالآيات البينات آيات القرآن تتلى عليهم ، ثم بدلها من الحق الذي جاءهم حيث قال : {للحق لما جاءهم} - وكان مقتضى الظاهر أن يقال : {لها} للدلالة على أنها حق جاءهم لا مسوغ لرميها بأنها سحر مبين وهم يعلمون أنها حق مبين فهم متحكمون مكابرون للحق الصريح .
قوله تعالى : {أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} إلخ ، {أم} منقطعة أي بل يقولون افترى القرآن على الله في دعواه أنه كلامه .
وقوله : {قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} أي إن افتريت القرآن لأجلكم آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء ولستم تقدرون على دفع عذابه عني فكيف أفتريه عليه لأجلكم ، والمحصل أني على يقين من أمر الله وأعلم أنه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته وأنكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لأجلكم؟ أي لست بمفتر عليه .
ويتبين بذلك أن جزاء الشرط في قوله : {إن افتريته فلا تملكون لي} إلخ ، محذوف وقد أقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع ، والتقدير : إن افتريته آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب ولا مانع من قبلكم يمنع عنه ، وليس من قبيل وضع المسبب موضع السبب كما قيل .
وقوله : {هو أعلم بما تفيضون فيه} الإفاضة في الحديث الخوض فيه و{ما} موصولة يرجع إليه ضمير {فيه} أو مصدرية ومرجع الضمير هو القرآن ، والمعنى : الله سبحانه أعلم بالذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر والافتراء على الله أو المعنى : هو أعلم بخوضكم في القرآن .
وقوله : {كفى به شهيدا بيني وبينكم} احتجاج ثان على نفي الافتراء وأول الاحتجاجين قوله : {إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا} وقد تقدم بيانه آنفا ، ومعنى الجملة : أن شهادة الله سبحانه في كلامه بأنه كلامه وليس افتراء مني يكفي في نفي كوني مفتريا به عليه ، وقد صدق سبحانه هذه الدعوى بقوله : {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء : 166] ، وما في معناه من الآيات ، وأما أنه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدي .
وقوله : {وهو الغفور الرحيم} تذييل الآية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي ما يتضمنه تحكمهم الباطل من نفي الرسالة كأنه قيل : إن قولكم : {افتراه} يتضمن دعويين : دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله ودعوى بطلان الرسالة - والوثنيون ينفونها مطلقا - أما الدعوى الأولى فيدفعه أولا : أنه إن افتريته فلا تملكون ، إلخ ، وثانيا : أن الله يكفيني شهيدا على كونه كلامه لا كلامي .
وأما الدعوى الثانية فيدفعها أن الله سبحانه غفور رحيم ، ومن الواجب في حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة والرحمة ولا تشملان إلا التائبين الراجعين إليه الصالحين لذلك وذلك بأن يهديهم إلى صراط يقربهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته ورحمته بحط السيئات والاستقرار في دار السعادة الخالدة ، وكونه واجبا في حكمته لأن فيهم صلاحية هذا الكمال وهو الجواد الكريم ، قال تعالى : { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء : 20] ، وقال : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل : 9] ، والسبيل إلى هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولا يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته ورحمته .
قوله تعالى : {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} إلخ ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أومن حيث أقواله وأفعاله ولذا فسره بعضهم بأن المعنى : ما كنت أول رسول أرسل إليكم لا رسول قبلي ، وقيل : المعنى : ما كنت مبدعا في أقوالي وأفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل .
والمعنى الأول لا يلائم السياق ولا قوله المتقدم : {وهو الغفور الرحيم} بالمعنى الذي تقدم توجيهه فثاني المعنيين هو الأنسب ، وعليه فالمعنى : لست أخالف الرسل السابقين في صورة أو سيرة وفي قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم في من آثار البشرية ما فيهم وسبيلهم في الحياة سبيلي .
وبهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان : 7 ، 8] .
وقوله : {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله : {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف : 188] ، والفرق بين الآيتين أن قوله : {ولو كنت أعلم الغيب} إلخ ، نفي للعلم بمطلق الغيب واستشهاد له بمس السوء وعدم الاستكثار من الخير ، وقوله : {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} نفي للعلم بغيب خاص وهوما يفعل به وبهم من الحوادث التي يواجهونها جميعا ، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لوكان هناك نبي يجب أن يكون عالما في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم المحكية في القرآن فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعترف - مصرحا به - أنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب ، وأن ما يجري عليه وعليهم من الحوادث خارج عن إرادته واختياره وليس له في شيء منها صنع بل يفعله به وبهم غيره وهو الله سبحانه .
فقوله : {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شيء مما يصيبه ويصيبهم مما هو تحت أستار الغيب .
ونفي الآية العلم بالغيب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران : 44] ، يوسف : 102 ، وقوله : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ } [هود : 49] ، وقوله : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [الجن : 26 ، 27] ومن هذا الباب قول المسيح (عليه السلام) : {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [آل عمران : 49] ، وقول يوسف (عليه السلام) لصاحبي السجن : {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } [يوسف : 37] .
وجه عدم المنافاة أن الآيات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر الأنبياء (عليهم السلام) إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كل نفع ودفع كل شر كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب وهذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسية فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى وأمر ، قال تعالى : {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء : 93] ، جوابا عما اقترحوا عليه من الآيات ، وقال : { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت : 50] ، وقال : {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ } [غافر : 78] .
ويشهد بذلك قوله بعده متصلا به : {إن أتبع إلا ما يوحى إلي} فإن اتصاله بما قبله يعطي أنه في موضع الإضراب ، والمعنى : أني ما أدري شيئا من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي وإنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك .
وقوله : {وما أنا إلا نذير مبين} تأكيد لجميع ما تقدم في الآية من قوله : {ما كنت بدعا} إلخ ، و{وما أدري} إلخ ، وقوله : {إن أتبع} إلخ .
بحث فلسفي ودفع شبهة
تظافرت الأخبار من طرق أئمة أهل البيت أن الله سبحانه علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) علم كل شيء ، وفسر ذلك في بعضها أن علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طريق الوحي وأن علم الأئمة (عليهم السلام) ينتهي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وأورد عليه أن المأثور من سيرتهم أنهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الأسباب الظاهرية ويهدي إليه السبل العادية فربما أصابوا مقاصدهم وربما أخطأ بهم الطريق فلم يصيبوا ، ولو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبدا فالعاقل لا يترك سبيلا يعلم يقينا أنه مصيب فيه ولا يسلك سبيلا يعلم يقينا أنه مخطىء فيه .
وقد أصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الأمر كما أصيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد بما أصيب ، وأصيب علي (عليه السلام) في مسجد الكوفة حين فتك به المرادي لعنه الله ، وأصيب الحسين (عليه السلام) فقتل في كربلاء ، وأصيب سائر الأئمة بالسم ، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة وه ومحرم ، والإشكال كما ترى مأخوذ من الآيتين : {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير} {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} .
ويرده أنه مغالطة بالخلط بين العلوم العادية وغير العادية فالعلم غير العادي بحقائق الأمور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجية .
توضيح ذلك أن أفعالنا الاختيارية كما تتعلق بإرادتنا كذلك تتعلق بعلل وشرائط أخرى مادية زمانية ومكانية إذا اجتمعت عليها تلك العلل والشرائط وتمت بالإرادة تحققت العلة التامة وكان تحقق الفعل عند ذلك واجبا ضروريا إذ من المستحيل تخلف المعلول عن علته التامة .
فنسبة الفعل وهو معلول إلى علته التامة نسبة الوجوب والضرورة كنسبة جميع الحوادث إلى عللها التامة ، ونسبته إلى إرادتنا وهي جزء علته نسبة الجواز والإمكان .
فتبين أن جميع الحوادث الخارجية ومنها أفعالنا الاختيارية واجبة الحصول في الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة ولا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختيارية ممكنة بالنسبة إلينا مع وجوبها على ما تقدم .
فإذا كان كل حادث ومنها أفعالنا الاختيارية بصفة الاختيار معلولا له علة تامة يستحيل معها تخلفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدى حلقة من حلقاتها موضعها ولا تتبدل من غيرها وكان الجميع واجبا من أول يوم سواء في ذلك ما وقع في الماضي وما لم يقع بعد ، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختياريا عن ساحة الوجوب إلى حد الإمكان .
فإن قلت : بل يقع هذا العلم اليقيني في مجرى أسباب الأفعال الاختيارية كالعلم الحاصل من الطرق العادية فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العادية فيصير سببا للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العادي .
قلت : كلا فإن المفروض تحقق العلة التامة للعلم العادي مع سائر أسباب الفعل الاختياري فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار يستيقنون بأن مصيرهم مع الجحود إلى النار ومع ذلك يصرون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل ، قال تعالى في قصة آل فرعون : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل : 14] .
وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال : لا يتصور علم يقيني بالخلاف مع عدم تأثيره في الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقق علم على هذا الوصف .
وجه الاندفاع : أن مجرد تحقق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقق الإرادة مستندة إليه وإنما هو العلم الذي يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مر في جحود أهل الجحود وإنكارهم الحق مع يقينهم به ومثله الفعل بالعناية فإن سقوط الواقف على جذع عال ، منه على الأرض بمجرد تصور السقوط لا يمنع عنه علمه بأن في السقوط هلاكه القطعي .
وقد أجاب بعضهم عن أصل الإشكال بأن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) تكاليف خاصة بكل واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك وإن كان ذلك منا إلقاء النفس في التهلكة وهو حرام ، وإليه إشارة في بعض الأخبار .
وأجاب بعضهم عنه بأن الذي ينجز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العادية وأما غيره فليس بمنجز ، ويمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدم .
قوله تعالى : {قل أ رأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} إلخ ، ضمائر {كان} و{به} و{مثله} على ما يعطيه السياق للقرآن ، وقوله : {وشهد شاهد من بني إسرائيل{ إلخ ، معطوف على الشرط ويشاركه في الجزاء ، والمراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف الإلهية وهو كتاب التوراة الأصلية التي نزلت على موسى (عليه السلام) ، وقوله : {فآمن واستكبرتم} أي فآمن الشاهد الإسرائيلي المذكور بعد شهادته .
وقوله : {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} تعليل للجزاء المحذوف دال عليه ، والظاهر أنه أ لستم ضالين لا ما قيل : إنه أ لستم ظلمتم لأن التعليل بعدم هداية الله الظالمين إنما يلائم ضلالهم لا ظلمهم وإن كانوا متصفين بالوصفين جميعا .
والمعنى : قل للمشركين : أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله والحال أنكم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فآمن هو واستكبرتم أنتم أ لستم في ضلال؟ فإن الله لا يهدي القوم الظالمين .
والذي شهد على مثله فآمن على ما في بعض الأخبار هو عبد الله بن سلام من علماء اليهود ، والآية على هذا مدنية لا مكية لأنه ممن آمن بالمدينة ، وقول بعضهم : من الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله : {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن} لتحقق الوقوع والقصة واقعة في المستقبل سخيف لأنه لا يلائم كون الآية في سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقه فيما يخبرهم به من الأمور المستقبلة .
وفي معنى الآية أقوال أخر منها أن المراد ممن شهد على مثله فآمن هو موسى (عليه السلام) شهد على التوراة فآمن به وإنما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على كون الآية مكية ، وأنه إنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة .
وفيه أولا : عدم الدليل على كون الآية مكية ولتكن القصة دليلا على كونها مدنية ، وثانيا : بعد أن يجعل موسى الكليم (عليه السلام) قرينا لهؤلاء المشركين الأجلاف يقاسون به فيقال ما محصله : أن موسى (عليه السلام) آمن بالكتاب النازل عليه وأنتم استكبرتم عن الإيمان بالقرآن فسخافته ظاهرة .
ومما قيل إن المثل في الآية بمعنى نفس الشيء كما قيل في قوله تعالى : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : 11] ، وهو في البعد كسابقه .
قوله تعالى : {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لوكان خيرا ما سبقونا إليه} إلى آخر الآية قيل : اللام في قوله : {للذين آمنوا} للتعليل أي لأجل إيمانهم ويئول إلى معنى في ، وضمير {كان} و{إليه} للقرآن من جهة الإيمان به .
والمعنى : وقال الذين كفروا في الذين آمنوا - أي لأجل إيمانهم - : لوكان الإيمان بالقرآن خيرا ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه .
وقال بعضهم : إن المراد بالذين آمنوا بعض المؤمنين وبالضمير العائد إليه في قوله : {سبقونا} البعض الآخر ، واللام متعلق بقال والمعنى : وقال الذين كفروا لبعض المؤمنين لوكان خيرا ما سبقنا البعض من المؤمنين وهم الغائبون إليه ، وفيه أنه بعيد من سياق الآية .
وقال آخرون : إن المراد بالذين آمنوا المؤمنون جميعا لكن في قوله : ما سبقونا التفاتا والأصل ما سبقتمونا وهو في البعد كسابقه وليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة من الالتفات في شيء .
وقوله : {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} ضمير {به} للقرآن وكذا الإشارة بهذا إليه والإفك الافتراء أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الإيمان به فسيقولون أي الذين كفروا هذا أي القرآن إفك وافتراء قديم ، وقولهم : هذا إفك قديم كقولهم : أساطير الأولين .
قوله تعالى : {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} إلخ ، الظاهر أن قوله : {ومن قبله} إلخ ، جملة حالية والمعنى : فسيقولون هذا إفك قديم والحال أن كتاب موسى حال كونه إماما ورحمة قبله أي قبل القرآن وهذا القرآن كتاب مصدق له حال كونه لسانا عربيا ليكون منذرا للذين ظلموا وهو بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكا .
وكون التوراة إماما ورحمة هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل ويتبعونها في أعمالهم ورحمة للذين آمنوا بها واتبعوها في إصلاح نفوسهم .
__________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص155-162 .
لم أكن أوّل نبيّ!!
يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين ، وكيفية تعاملهم مع آيات الله ، فتقول : {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين} فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب ، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة ، وهم من جهة أُخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّاً ، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون : إنّه سحر مبين ، وهذا القول ـ بحدِّ ذاته ـ اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر .
بناءً على هذا فإنّ «الحق» ـ في الآية المذكورة ـ إشارة إلى آيات القرآن ، وإن كان البعض قد فسّرها بالنبوّة ، أو الإسلام ، أو معجزات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأُخرى ، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة بداية الآية .
غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به ، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوةً أوسع ، وأكثر صراحةً : {أم يقولون افتراه} .
إنّ الله سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع ، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه : {قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً} (2) فكيف يمكن أن يظهر الله سبحانه هذه الآيات البينات والمعجزة الخالدة على يد كذّاب؟ إنّ هذا بعيد عن حكمة الله ولطفه .
وهذا كما ورد في الآيات (44) ـ (47) من سورة الحاقة : {ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} .
بناءً على هذا ، هل يمكن أن أقدم على مثل هذا العمل الخطير من أجلكم؟ وكيف تصدّقون أنّ بالإمكان أن أكذب مثل هذه الكذبة ثمّ يبقيني الله حياً ، بل ويمنحني معاجز أخر؟
ثمّ يضيف مهدداً : {هو أعلم بما تفيضون فيه} (3) وسيعاقبكم في الوقت اللازم .
نعم ، إنّه يعلم كلّ ما رميتموني به من التهم ، وأنّكم وقفتم بوجه رسوله ، وكنتم تصدون الناس عن الإيمان بالحق بنفثكم السموم بينهم .
ثمّ يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّاً : {كفى به شهيداً بيني وبينكم} فهو يعلم صدق دعوتي ، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة ، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي ، وهذا كاف لي ولكم .
ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق ، ويعلمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة ، يقول : (وهو الغفور الرحيم) فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم ، ويدخلهم في رحمته .
ويضيف في الآية التالية : {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلاّ ما يوحى إليَّ وما أنا إلاّ نذير مبين} .
إنّ هذه الجمل الوجيزة الغنية المحتوى تجيب عن كثير من إشكالات المشركين ، ومن جملتها أنّهم كانوا يتعجبون أحياناً ـ في مسألة بعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كيف يمكن أن يتصل إنسان بالله ويرتبط به؟
وأحياناً كانوا يقولون : لماذا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟
وتارة كانوا يطلبون معاجز عجيبة غريبة ، وكان كلّ منهم يتمنى شيئاً .
وكانوا يظنون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستودع لعلم الغيب ، فيطلبون منه أن يخبرهم بكلّ حوادث المستقبل .
وأخيراً فإنّهم كانوا يعجبون أحياناً من دعوته لنبذ الآلهة والتوجّه إلى عبادة الله وتوحيده .
وهذه الآية إشارة إجمالية إلى أجوبة جميع هذه الأسئلة ، وقطع لكلّ تلك الأعذار الواهية .
يقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد ، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشراً ، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام ، ولم يَدَّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق ، بل كانوا يقولون : إنّنا نعلم من أُمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط .
ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس ، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول .
كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضاً عبد من عباد الله ، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه ، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلَّ وعلاء وحسب .
هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها ، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء .
كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة ، حيث كانوا يرمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر مرّة ، وبالافتراء أُخرى ، ليُعلم أنّ منبع هذه الاتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أُجيب عنها في هذه الآية .
ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأُخرى التي توحي بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب ، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام ـ الآية 27 من سورة الفتح ـ أو ما ورد في شأن المسيح (عليه السلام) حيث يقول : {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران : 49] ، وأمثال ذلك ، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق ، لا مطلق علم الغيب ، وبتعبير آخر ، فإنّ الآية تنفي علم الغيب الاستقلالي ، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي يُنال ببركة التعليم الإلهي .
والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26) ـ (27) من سورة الجن : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن : 26 ، 27] .
وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث ، فقالوا : إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة ، رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير ، فذكر ذلك لأصحابه ، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجاً وسعة بعد أذى المشركين ، فصبروا مدّة فلم يروا أثراً لذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، لم نرَ ما أخبرتنا به ، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية : (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) (4) .
إلاّ أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيداً ، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه ، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق ، أي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال .
وتضيف آخر آية من هذه الآيات ، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الأحقاف : 10] (5) .
وللمفسّرين أقوال في الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً . . .
قال البعض : إنّه موسى بن عمران (عليه السلام) الذي أخبر في عصره بظهور نبيّ الإسلام ، وأعطى أوصافه وعلاماته .
إلاّ أنّ هذا الإحتمال غير صحيح بملاحظة جملة : {فآمن واستكبرتم} التي توحي بأنّ هذا الشاهد من بني إسرائيل قد آمن بنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي استكبر فيه المشركون ولم يؤمنوا ، لأنّ ظاهر الجملة يوحي بأنّ هذا الشاهد كان موجوداً في عصر نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وآمن به ، بينما اختار الآخرون طريق الإستكبار والكفر .
وقال آخرون : إنّه كان رجلاً من علماء أهل الكتاب ، كان يحيا في مكّة . ومع أنّ أنصار الدين اليهودي والمسيحي كانوا قلة في مكّة ، لكن لا يعني هذا أنّ أحداً منهم لم يكن فيها ، ومع ذلك فلا يعرف من كان هذا العالم من بني إسرائيل؟ وما هو اسمه؟
وهذا التّفسير باطل منهم أيضاً لأنّه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب في مكّة في عصر ظهور النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم تذكر التواريخ اسماً له (6) .
طبعاً ، يمتاز هذا التّفسير والذي قبله بأنّهما ينسجمان مع كون كلّ سورة الأحقاف مكية .
والتّفسير الثّالث الذي ارتضاه أكثر المفسّرين ، هو أنّ هذا الشاهد كان «عبدالله بن سلام» عالم اليهود المعروف ، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين .
وقد ورد ـ في حديث ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انطلق حتى دخل كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخوله عليهم ، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله ، يحط الله عن كلّ يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه» فسكتوا فما أجابه منهم أحد ، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً ، فقال : «أبيتم ، فو الله لأنا الحاشر ، وأنا العاقب ، وأن المقض ، آمنتم أو كذبتم» ثمّ انصرف حتى كاد يخرج ، فإذا رجل من خلفه ، فقال : كما أنت يا محمّد فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا : والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك ، فقال : فإنّي أشهد بالله إنّه النّبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل ، قالوا : كذبت ، ردوا عليه وقالوا شرّاً ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «كذبتم ، لن يقبل منكم قولكم» ـ ولم يكن هذا الرجل غير عبد الله بن سلام ـ فنزلت الآية : {قل أرأيتم إن كان من عند غير الله . . .} (7) .
وطبقاً لهذا التّفسير ، فإنّ هذه الآية نزلت في المدينة بالرغم من أنّ السورة مكّية ، وهذا ليس منحصراً بالآية مورد البحث ، بل يلاحظ ـ أحياناً ـ في سور القرآن الأُخرى وجود آيات مكية في طيات السور المدنية وبالعكس ، وهذا يبيّن أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بوضع الآية مع ما يناسبها من مفاد السورة من دون الإلتفات إلى تاريخ نزولها .
ويبدو من جهات عديدة أنّ هذا التّفسير هو الأنسب .
شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة :
تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم ، ثمّ تقريعهم وملامتهم بعد ذلك ، فتشير أوّلاً إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم ، مبنيّ على أساس الكبر والغرور ، فتقول : {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لوكان خيراً ما سبقونا إليه} (8) .
فما هؤلاء إلاّ حفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى ، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلاّ القليل ، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن ـ أعيان المجتمع وأشرافه ـ في غفلة عنه؟
لقد غفل هؤلاء عن أن العيب فيهم لا في الإسلام ، فلولا حجب الكبر والغرور الملقاة على قلوبهم ولولا أنّهم سكرى من خمرة المال والجاه والمقام ، ولولا أنّ غرورهم وتكبرهم يمنعهم من التحقيق في أمر هذا الدين ، إذن لانجذبوا بسرعة الى الإسلام كما انجذب الفقراء إليه .
ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف : {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} (9) أي إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن ، لا أن القصور في قابلية القرآن على الهداية .
والتعبير بـ «الإفك القديم» شبيه بتهمة أُخرى حكيت عنهم في آيات القرآن الأُخرى ، إذ قالوا : {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان : 5] .
جملة «سيقولون» بصيغة المضارع ، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً ، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم .
ثمّ تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً ، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون : هذا إفك قديم ، فقالت : إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته . وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة : {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق} وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف تقولون : هذا إفك قديم؟
لقد أكّد القرآن في آياته مراراً على أنّه مصدق للتوراة والإنجيل ، أي إنّه يتفق مع العلامات والصفات التي وردت في هذين الكتابين السماويين حول نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كانت هذه العلامات دقيقة إلى الحد الذي يقول القرآن الكريم : {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة : 146] .
وقد ورد نظير معنى الآية مورد البحث في الآية (17) من سورة هود : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود : 17] .
والتعبير بـ (إماماً ورحمة) يحتمل أن يكون من جهة أن ذكر الإمام يستدعي أحياناً أن تخطر في الذهن مسألة التكليف الشاق الصعب ، نتيجة الذكريات التي كانت لديهم عن أئمتهم ، إلاّ أنّ ذكر الرحمة يبدل هذا الخطور الذهني إلى ما يبعث على الإطمئنان ، فهو يقول : إنّ هذا الإمام توأم الرحمة ومقترن بها ، فحتى إذا أتاكم بالتكاليف والأوامر فهي رحمة أيضاً ، وأي رحمة أعم وأسمى من تربية نفوس هؤلاء القوم ؟!
ثمّ تضيف بعد ذلك : (لساناً عربياً) يفهمه الجميع ويستفيدون منه .
ثمّ تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين ، فتقول : {لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الإستمرار والدوام ، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر ، فهو يحذر الظالمين والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم ، ويبشر المحسنين على الدوام .
وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت الظالمين في مقابل المحسنين لأنّ للظلم هنا معنى واسعاً يشمل كلّ إساءة ومخالفة ، ومن الطبيعي أنّ الظلم إمّا بحق الآخرين أو بحق النفس .
_________________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص541-549 .
2 ـ جملة (إن افتريته) جملة شرطية حذف جزاؤها ، والتقدير : إن افتريته أخذني وعاجلني بالعقوبة .
3 ـ «ما» في جملة (ما تُفيضون فيه) يمكن أن تكون موصولة ، وتعني التهم غير الصحيحة ، والتي كان يعلمها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبناءً على هذا فإنّ ضمير (فيه) يعود إليها . وإن كانت مصدرية فإنّ الضمير (فيه) يعود إلى القرآن أوإلى الحق ، وهنا تكون (تفيضون) بمعنى الدخول في عمل ما بقصد الإفساد والتخريب .
4 ـ تفسير الكبير ، ج 28 ، ص 8 .
5 ـ جزاء الجملة الشرطية : (إن كان من عند الله) محذوف ، وتقديره : (من أضل منكم) .
6 ـ التعبير هنا بـ (شاهد) بصيغة النكرة للتعظيم ، وهو يوحي بأنّه كان شخصاً معروفاً عظيماً .
7 ـ تفسير المراغي ، ج 26 ، ص 14 .
8 ـ بحث المفسّرون كثيراً في معنى «اللام» في (للذين آمنوا) إلاّ أنّ أنسب الإحتمالات جميعاً هو أن «اللام» بمعنى (في) وبناءً على هذا فإنّ معنى الجملة : إنّ الكافرين قالوا في المؤمنين ، ولا يأتي في هذه الحالة إشكال من جهة كون فعل (سبقونا) للغائب . في حين أنّ البعض قد اعتبر اللام لام التعليل! وقال آخرون (الذين آمنوا) هنا مخاطبون ، وجملة (سبقونا) بمعنى سبقتمونا !
9 ـ (إذ) في هذه الآية ظرفية ، ويعتقد البعض أنّها متعلقة (سيقولون) ، ويقولون : إنّ وجود الفاء غير مانع . إلاّ أنّ البعض الآخر ـ كالزمخشري في الكشاف ـ يرى أنّه بما أنّ الفعل بعدها ماض ، و (سيقولون) فعل مضارع فلا يمكن أن يكون متعلقها ، بل متعلقها محذوف ، والتقدير : «وإذا لم يهتدوا به ظهر عنادهم» إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أكثر انسجاماً مع معنى الآية .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|