أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-5-2017
573
التاريخ: 12-5-2017
496
التاريخ: 11-5-2017
493
التاريخ: 12-5-2017
580
|
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف : 13 ، 16] .
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} مر تفسيره {فلا خوف عليهم} من العقاب {ولا هم يحزنون} من أهوال يوم القيامة .
{أولئك أصحاب الجنة} الملازمون لها المنعمون فيها {خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} في الدنيا من الطاعات والأعمال الصالحات {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} مر تفسيره {حملته أمه كرها} أي بكرة ومشقة عن الحسن وقتادة ومجاهد يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد {ووضعته كرها} يريد به شدة الطلق عن ابن عباس {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} يريد أن أقل مدة الحمل وكمال مدة الرضاع ثلاثون شهرا قال ابن عباس إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت أحدا وعشرين شهرا وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا .
{حتى إذا بلغ أشده} وهو ثلاث وثلاثون سنة عن ابن عباس وقتادة وقيل بلوغ الحلم عن الشعبي وقيل وقت قيام الحجة عليه عن الحسن وقيل هو أربعون سنة وذلك وقت إنزال الوحي على الأنبياء ولذلك فسر به فقال {وبلغ أربعين سنة} فيكون هذا بيانا لزمان الأشد وأراد بذلك أنه يكمل له رأيه ويجتمع عليه عقله عند الأربعين سنة .
{قال رب أوزعني} أي ألهمني {أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه} قد مر تفسيره في سورة النمل {وأصلح لي في ذريتي} أي اجعل ذريتي صالحين عن الزجاج وقيل أنه دعاء بإصلاح ذريته لبره وطاعته لقوله {أصلح لي} وقيل أنه الدعاء بإصلاحهم لطاعة الله عز وجل وهو عبادته وهو الأشبه لأن طاعتهم لله من بره لأن اسم الذرية يقع على من يكون بعده وقيل معناه اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق عن سهل بن عبد الله {إني تبت إليك} من سيئاتي وذنوبي {وإني من المسلمين} المنقادين لأمرك .
ثم أخبر سبحانه بما يستحقه هذا الإنسان من الثواب فقال {أولئك} يعني أهل هذا القول {الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا} أي يثابون على طاعاتهم والمعنى نقبل بإيجاب الثواب لهم أحسن أعمالهم وهوما يستحق به الثواب من الواجبات والمندوبات فإن المباح أيضا من قبيل الحسن ولا يوصف بأنه متقبل {ونتجاوز عن سيئاتهم} التي اقترفوها {في أصحاب الجنة} أي في جملة من يتجاوز عن سيئاتهم وهم أصحاب الجنة فيكون قوله {في أصحاب الجنة} في موضع نصب على الحال {وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} أي وعدهم وعد الصدق وهوما وعد أهل الإيمان بأن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم إذا شاء أن يتفضل عليهم بإسقاط عقابهم أو إذا تابوا الوعد الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل
_____________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص143-145 .
{ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ } . في الآية 103 من سورة الأنبياء وصف سبحانه حال أهل الجنة بقوله : {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء : 103] . وفي الآية التي نحن بصددها قال سبحانه : ان هؤلاء هم الذين التزموا في الحياة الدنيا بدين اللَّه
وشريعته عقيدة وقولا وعملا ، وهذا هو المراد من الاستقامة . وذكرت هذه الجملة بالحرف في الآية 30 من سورة فصلت ، وتكلمنا حولها مفصلا .
{أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} . أولئك إشارة إلى الذين آمنوا واستقاموا ، وقوله تعالى بما كانوا يعملون توضيح وتأكيد بأنه لا إيمان ولا استقامة بلا عمل .
{ ووَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ووَضَعَتْهُ كُرْهاً } . أي انها قاست الكثير في حمله ووضعه وحضانته أيضا . وفي بعض الروايات ان حق الأم أحق وأوجب من حق الأب لأنها حملت ولدها حيث لا يحمله أحد ، ووقته بالسمع والبصر وجميع الجوارح مسرورة مستبشرة ، ورضيت بأن تجوع ويشبع ، وتظمأ ويروى ، وتعرى ويكتسي . فليكن الشكر لها والبر بها على قدر ذلك . .
وكان الولد من قبل يرى ان من واجبه السمع والطاعة لوالديه ، أما الآن فيعتقد ان عليهما الخضوع لأمره دون قيد أو شرط . وتقدم الأمر بالبر بالوالدين في الآية 83 من سورة البقرة والآية 35 من سورة النساء والآية 151 من سورة الانعام والآية 23 من سورة الإسراء .
{وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } . وإذا عطفنا على هذه الآية قوله تعالى : {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان : 14] لقمان إذا فعلنا ذلك تبين معنا ان أقل الحمل ستة أشهر ، لأنه إذا أسقطنا عامي الرضاع من الثلاثين شهرا تبقى ستة أشهر لمدة أقل الحمل ، ولقد أقر الطب الحديث هذه النظرية . وقال الشيخ المراغي المصري في تفسيره :
(أول من استنبط هذا الحكم علي كرم اللَّه وجهه . . وروى محمد بن إسحاق صاحب السيرة ان رجلا تزوج من امرأة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فشكا ذلك إلى عثمان ، فبعث إليها ، ولما جاءت أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه وقال له : أما تقرأ القرآن ؟ قال عثمان : بلى . قال علي : أما سمعت قوله تعالى :
{وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقوله {حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} . فلم يبق بعد الحولين إلا ستة أشهر ، قال عثمان : واللَّه ما فطنت لهذا ، عليّ بالمرأة . فوجدوها قد فرغ منها . قال معمر بن عبد اللَّه : فو اللَّه ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة أشبه من هذا الحمل بأبيه ، ولما رآه أبوه قال : ابني واللَّه لا أشك فيه} .
{حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } . متى بلغ الغلام مبلغ الرجال بالاحتلام أو بالسن (2) وكان عاقلا في تصرفاته كان له ما للبالغين الراشدين ، وعليه ما عليهم من التكاليف الشرعية . ولكن جماعة من المفسرين قالوا : ان هذه الآية تشير إلى موضوع آخر ، وهو نضج الإنسان وكماله عقلا وجسما بدليل قوله تعالى :
{وبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} لأن هذا النضج يبدأ في الغالب بسن الثلاثين ، ويستمر في النمو حتى الأربعين حيث يبلغ الغاية في طاقاته ومؤهلاته .
ومهما يكن فإن السن والمؤهلات لا توجب الوعي وأصالة الرأي إذا لم يمر الإنسان بالكثير من التجارب . . وغير بعيد أن يكون ذكر الأربعين سنة في الآية للإشارة إلى ان الإنسان في الغالب يمر بعد بلوغ هذه السن بتجارب نافعة . وقال المفسرون وأهل السير : ان اللَّه ما بعث نبيا إلا بعد الأربعين من عمره سوى عيسى ويحيى {قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ وأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ } . العاقل يطلب من اللَّه سبحانه التوفيق والعون على تأدية الشكر له تعالى بالطاعة والانقياد ، وأعظم النعم كلها الهداية إلى الحق والعمل بموجبه ، أما وجود الإنسان من حيث هو فما هو بنعمة عليه ولا على غيره إذا لم يكن وسيلة للعمل الصالح . وجاءت هذه الآية بالحرف في سورة النمل الآية 19 ج 6 ص 13 .
{وأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} . الأبناء عبء ثقيل على الآباء ، بل كارثة بتربيتهم ومطالبهم وهمومهم . . ولكن الأب المسكين يرى رغبته وسعادته في هذه الكارثة إذا منّ اللَّه عليه بذرية صالحة ، وإلا تراكمت المصائب والكوارث {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . وفيه إيماء إلى ان اللَّه لا يتقبل من مذنب ولا يستجيب لدعائه إلا إذا تاب من ذنوبه ، واستقام في أقواله وأفعاله {أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا} عن هنا بمعنى {من} مثلها في قوله تعالى : {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة : 104] . والمراد بأحسن ما عملوا غير السيئات ، أما هي فيعفو اللَّه عنها كما قال : {ونَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ} لأنهم تابوا وأخلصوا { فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ } أي معهم وفي عدادهم{ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ } بقبول الأعمال والتجاوز عن السيئات وبدخول الجنة ، ووعده تعالى الصدق ، وقوله الحق .
______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص44-47 .
2 . قال الشافعية والحنابلة : يتحقق البلوغ ب 15 سنة في الغلام والجارية . وقال المالكية : 17 فيهما . وقال الحنفية : 18 في الغلام و17 في الجارية . وقال الإمامية : 15 فيه و9 فيها .
قوله تعالى : {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} إلى آخر الآية المراد بقولهم ربنا الله إقرارهم وشهادتهم بانحصار الربوبية في الله سبحانه وتوحده فيها ، وباستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ وانحراف والتزامهم بلوازمه العملية .
وقوله : {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من عقاب محتمل ، ولا مكروه محقق يحزنون به من عقاب أو هول ، فالخوف إنما يكون من مكروه ممكن الوقوع ، والحزن من مكروه محقق الوقوع ، والفاء في قوله : {فلا خوف} إلخ ، لتوهم معنى الشرط فإن الكلام في معنى من قال ربنا الله ثم استقام فلا خوف إلخ .
قوله تعالى : {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} المراد بصحابة الجنة ملازمتها ، وقوله : {خالدين فيها} حال مؤكدة لمعنى الصحابة .
والمعنى : أولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ملازمون للجنة حال كونهم خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات والقربات .
لما قسم الناس في قوله : {لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} إلى ظالمين ومحسنين وأشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف ويحذر وللمحسنين ما يسر الإنسان ويبشر به عقب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه ، وأن الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له وهم الذين يتقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ، وقوم خاسرين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس .
ومثل الطائفة الأولى بمن كان مؤمنا بالله مسلما له بارا بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه وعلى والديه والعمل الصالح وإصلاح ذريته ، والطائفة الثانية بمن كان عاقا لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر فيزجرهما ويعد ذلك من أساطير الأولين .
قوله تعالى : {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا} إلى آخر الآية ، الوصية على ما ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ والتوصية تفعيل من الوصية قال تعالى : { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة : 132] ، فمفعوله الثاني الذي يتعدى إليه بالباء من قبيل الأفعال ، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلق بهما وهو الإحسان إليهما .
وعلى هذا فتقدير الكلام : ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا .
وفي إعراب : {إحسانا} أقوال أخر كقول بعضهم : إنه مفعول مطلق على تضمين {وصينا} معنى أحسنا ، والتقدير : وصينا الإنسان محسنين إليهما إحسانا ، وقول بعضهم : إنه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان ، وقول بعضهم : هو مفعول له ، والتقدير : وصيناه بهما لإحساننا إليهما ، إلى غير ذلك مما قيل .
وكيف كان فبر الوالدين والإحسان إليهما من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع كما تقدم في تفسير قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام : 151] ، ولذلك قال : {ووصينا الإنسان} فعممه لكل إنسان .
ثم عقبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته أمه في حمله ووضعه وفصاله إشعارا بملاك الحكم وتهييجا لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته فقال : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف : 15] أي حملته أمه حملا ذا كره أي مشقة وذلك لما في حمله من الثقل ، ووضعته وضعا ذا كره وذلك لما عنده من ألم الطلق .
وأما قوله : {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} فقد أخذ فيه أقل مدة الحمل وهوستة أشهر ، والحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهرا مدة الرضاع ، قال تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة : 233] ، وقال : {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان : 14] .
والفصال التفريق بين الصبي وبين الرضاع ، وجعل العامين ظرفا للفصال بعناية أنه في آخر الرضاع ولا يتحقق إلا بانقضاء عامين .
وقوله : {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة} بلوغ الأشد بلوغ زمان من العمر تشتد فيه قوى الإنسان ، وقد مر نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشد في تفسير قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف : 22] ، وبلوغ الأربعين ملازم عادة لكمال العقل .
وقوله : {قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه} الإيزاع الإلهام ، وهذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس : 7 ، 8] ، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث والدعوة الباطنية إلى فعل الخير وشكر النعمة وبالجملة العمل الصالح .
وقد أطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعم النعم الظاهرية كالحياة والرزق والشعور والإرادة ، والباطنية كالإيمان بالله والإسلام والخشوع له والتوكل عليه والتفويض إليه ففي قوله : {رب أوزعني أن أشكر نعمتك} إلخ ، سؤال أن يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولا وفعلا : أما قولا فظاهر ، وأما فعلا فباستعمال هذه النعم استعمالا يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه وليست له من قبل نفسه ولازمه ظهور العبودية والمملوكية من هذا الإنسان في قوله وفعله جميعا .
وتفسير النعمة بقوله : {التي أنعمت علي وعلى والدي} يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختص به من النعمة ومن قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما .
وقوله : {وأن أعمل صالحا ترضاه} عطف على قوله : {أن أشكر} إلخ ، سؤال متمم لسؤال الشكر على النعم فإن الشكر يحلي ظاهر الأعمال ، والصلاحية التي يرتضيها الله تعالى تحلي باطنها وتخلصها له تعالى .
وقوله : {وأصلح لي في ذريتي} الإصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم وهومن الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح وينجر إلى إصلاح نفوسهم ، وتقييد الإصلاح بقوله : {لي} للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هوبه أي أن يكون ذريته له في بره وإحسانه كما كان هو لوالديه .
ومحصل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته وصالح العمل وأن يكون بارا محسنا بوالديه ويكون ذريته له كما كان هو لوالديه ، وقد تقدم غير مرة أن شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصا لله فيئول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس وصلاح العمل .
وقوله : {إني تبت إليك وإني من المسلمين} أي الذين يسلمون الأمر لك فلا تريد شيئا إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت .
والجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب ، ويتبين بالآية حيث ذكر الدعاء ولم يرده بل أيده بما وعد في قوله : {أولئك الذين نتقبل عنهم} إلخ ، إن التوبة والإسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك الهامة تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللام - ذاتا والمخلصين - بكسر اللام - عملا أما إخلاص الذات فقد تقدمت الإشارة إليه آنفا ، وأما إخلاص العمل فلأن العمل لا يكون صالحا لقبوله تعالى مرفوعا إليه إلا إذا كان خالصا لوجهه الكريم ، قال تعالى : {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر : 3] .
قوله تعالى : {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة} إلخ ، التقبل أبلغ من القبول ، والمراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات والمندوبات فإنها هي المقبولة المتقبلة وأما المباحات فإنها وإن كانت ذات حسن لكنها ليست بمتقبلة ، كذا ذكر في مجمع البيان وهو تفسير حسن ويؤيده مقابلة تقبل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيئات فكأنه قيل : إن أعمالهم طاعات من الواجبات والمندوبات وهي أحسن أعمالهم فنتقبلها وسيئات فنتجاوز عنها وما ليس بطاعة ولا حسنة فلا شأن له من قبول وغيره .
وقوله : {في أصحاب الجنة} متعلق بقوله : {نتجاوز} أي نتجاوز عن سيئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة ، فهو حال من ضمير {عنهم} .
وقوله : {وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} أي يعدهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء والرسل ، أو المراد أنه ينجز لهم بهذا التقبل والتجاوز يوم القيامة وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه في الدنيا .
___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص162-167 .
الآية الاولى تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها ، فتقول : }إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (2) .
لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان ، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين ، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة ، وكلّ أصول العقائد ترجع الى أصل التوحيد . كما أنّ الإستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة ، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة : «الصبر على الطاعة» ، و«الصبر عن المعصية» ، و«الصبر على المصيبة» .
وبناءً على هذا ، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية ، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية .
ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل ، ولا يغتمون لما مضى .
وقد ورد نظير هذا المعنى ـ بتوضيح أكثر ـ في الآية (30) من سورة فصلت حيث تقول : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت : 30] .
إنّ هذه الآية تضيف شيئين :
الأوّل : أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة ، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا .
والثّاني : أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم ، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضاً في آية سورة فصلت ، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا .
وعلى أية حال ، فإنّ الآيتين تبحثان مطلباً واحداً ، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلاً من الأُخرى .
ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة : {إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا} قال : استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام) . وذلك أنّ إدامة خط أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوانب العلم والعمل ، والعدالة والتقوى ، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة ، أمر لا يمكن تحققه بدون الإستقامة ، وبناءً على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث ، لا أنّ معناها منحصر به ، بحيث لا تشمل الإستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه ، ومحاربة هوى النفس والشيطان .
وقد أوردنا شرحاً مفصلاً حول مسألة الإستقامة في ذيل الآية (30) من سورة فصلت (3) .
وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها ، فتقول : {أولئك أصحاب الجنّة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون} .
إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر ، كما استفاد ذلك البعض ، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والإستقامة فقط ، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم ، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة ، إلاّ أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر .
التعبير بـ «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة .
وتعبير : {جزاء بما كانوا يعملون} يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجاناً ، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدى ، ويشير من جهة أُخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره .
أيّها الإنسان أحسن إلى والديك :
هذه الآيات والتي تليها ، توضيح ـ في الحقيقة ـ لما يتعلق بالفريقين : الظالم والمحسن ، اللذين أشير إليهما إجمالاً في الآيات السابقة .
وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين ، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها ، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه ، فتقول : {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً} (4) .
«الوصية» و«التوصية» بمعنى مطلق الوصية ، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت ، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع .
ثمّ تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حقّ الأُمّ ، فقالت : {حملته أُمّه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} تضحي خلالها الأُم أعظم التضحيات ، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار .
إنّ حالة الأُم تختلف منذ الأيّام الأولى لإنعقاد النطفة ، فتتوالى عليها الصعوبات ، وهناك حالة تسمى حالة (الوحام) هي أصعب الحالات التي تواجهها الأُم ، ويقول الأطباء عنها : إنّها تنشأ نتيجة قلّة المواد التي تحدث في جسم الأُم نتيجة إيثارها ولدها على نفسها .
وكلما تكامل نمو الجنين امتص مواداً أكثر من عصارة روح الأُم وجسدها ، تترك أثرها على عظامها وأعصابها ، فيسلبها أحياناً نومها وغذاءها وراحتها وهدوءها ، أمّا في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام ، إلاّ أنّها تتحمل كلّ هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح عينيه على الدنيا عمّا قريب ، ويبتسم بوجه أُمّه .
وتحل فترة وضع الحمل ، وهي من أعسر لحظات حياة الأُم ، حتى أنّ الأُم أحياناً تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد .
على كلّ حال ، تضع الأُم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أُخرى ، مرحلة مراقبة الطفل المستمرة ليل نهار . . . مرحلة يجب أن تلبى فيها كلّ احتياجات الطفل الذي ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها ، فإن آلمه شيء لا يقوى على تعيين محل الألم ، وإذا كان يشكو من الجوع والعطش ، والحر والبرد ، فهو عاجز عن التعبير عن شكواه ، إلاّ بالصراخ والدموع ، ويجب على الأُم أن تحدد كلّ واحدة من هذه الإحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها .
إنّ نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية ، وتأمين غذائه الذي يستخلص من عصارة الأُم ، إيثار كبير .
والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة ، مشكلة أُخرى يجب على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق .
إنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن مصاعب الأُم هنا ، ولم يورد شيئاً عن الأب ، لا لأنّه لا أهمية للأب ، فهو يشارك الأُم في كثير من هذه المشاكل ، بل لأنّ سهم الأُم من المصاعب أوفر ، فلهذا أكّد عليها .
وهنا يطرح سؤال ، وهو : إنّ فترة الرضاع ذكرت في الآية (233) من سورة البقرة على أنّها سنتان كاملتان ـ 24 ـ شهراً ـ : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة : 233] في حين أنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ، فهل من الممكن أن تكون مدّة الحمل ستة أشهر؟
لقد أجاب الفقهاء والمفسّرون ، عن هذا السؤال ـ استلهاماً من الرّوايات الإسلامية ـ بالإيجاب وقالوا : إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر ، وأكثر مدّة تفيد في الرضاع (24) شهراً ، حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن سينا أنّهم قالوا : إنّهم كانوا قد شاهدوا بأُمّ أعينهم وليداً ولد لستة أشهر .
ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (30) شهراً .
وقد نقل عن ابن عباس أنّ فترة الحمل إن كانت (9) أشهر فيجب أن يرضع الولد (21) شهراً ، وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل (24) شهراً .
والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضاً . لأنّ نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر بفترة الرضاع .
ثمّ تضيف الآية : إنّ حياة هذا الإنسان تستمر {حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة} (5) .
يعتقد بعض المفسّرين أنّ بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة ، وهو للتأكيد ، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي ، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي ، لأنّ من المعروف أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالباً ، وقالوا : إنّ أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين .
ثمّ إنّ هناك بحثاً في أنّ بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف ، والذي أشير إليه في الآية (34) من سورة الإسراء في شأن اليتامى ، في حين صرّحت بعض الروايات بأنّه سن الثامنة عشرة عاماً .
طبعاً ، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتّضح من خلال القرائن .
وقد ورد في حديث : «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، ويقول : بأبي وجه لا يفلح» (6) .
ونقل عن ابن عباس : من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شرّه ، فليتجهز إلى النّار (7) .
وعلى أي حال ، فإنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث : إنّ الإنسان العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين ، يطلب من ربّه ثلاث طلبات ، فيقول أولاً : {قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي} (8) .
إنّ هذا التعبير يوحي بأنّ الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها ، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر ، وذلك لأنّه غالباً ما يصبح في هذا العمر أباً إن كان ذكراً ، وأمّاً إن كانت أنثى ، ويرى بأُم عينه كلّ تلك الجهود التي بذلت من أجله ، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله ، وشكراً لسعيهما يتوجّه لا إرادياً لشكر الله سبحانه .
أمّا طلبه الثّاني فهو : {وأن أعمل صالحاً ترضاه} .
وأخيراً يقدم طلبه الأخير فيقول : {وأصلح لي في ذريتي} .
إنّ التعبير بـ (لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه .
والتعبير بـ (في ذريتي) بصورة مطلقة ، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته .
والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل ، وأولاده في الدعاء الثالث ، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به ، وهكذا يكون الإنسان الصالح ، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين ، ينظر بالأُخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته .
وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين ، كلّ منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر ، فتقول : {إنّي تبت إليك} فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي ، وأسير في ذلك الخط ما حييت .
نعم ، لقد بلغت الأربعين ، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة ، ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربّه ويقرع باب رحمته .
والآخر : {وإنّي من المسلمين} .
إنّ هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها ، ومعناهما : بما إنّي تبت إليك ، وأسلمت لأوامرك ، فأنت أيضاً منّ عليّ برحمتك ، واشملني بنعمك وفضلك .
والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم ، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث ، فقالت أوّلاً : (أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) .
أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له ، وهذا القبول بحدِّ ذاته ، وبغض النظر عن آثاره الأُخرى ، فخر عظيم ، وموهبة معنوية عالية .
إنّ الله سبحانه يتقبل كلّ الأعمال الصالحة ، فلماذا يقول هنا : {نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا} ؟
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال ، قال جمع من المفسّرين : إنّ المراد من أحسن الأعمال : الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي أعمال حسنة لكنّها لا تقع موقع القبول ، ولا يتعلق بها أجر وثواب (9) .
والجواب الآخر : إنّ الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معياراً للقبول ، وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية ، فإنّه يجعلها كأحسن الأعمال بفضله ورحمته . إنّ هذا يشبه تماماً أن يعرض بائع أجناساً مختلفة بأسعار متفاوتة ، إلاّ أنّ المشتري يشتريها جميعاً بثمن أعلاها وأفضلها تكرماً منه وفضلاً ، ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجباً .
والهبة الثّانية هي تطهيرهم ، فتقول : {ونتجاوز عن سيئاتهم} .
والموهبة الثّالثة هي أنّهم {في أصحاب الجنّة} (10) ، فيطهرون من الهفوات التي كانت منهم ، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه .
ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أنّ المراد من (أصحاب الجنّة) هنا العباد المقرّبون الذين لم يصبهم غبار المعاصي ، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه .
وتضيف الآية في نهايتها ـ كتأكيد على هذه النعم التي مرَّ ذكرها ـ {وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} (11) وكيف لا يكون وعد صدق في حين أنّ خلف الوعد أمّا أن يكون عن ندم أو جهل ، أم عن ضعف وعجز ، والله سبحانه منزه عن هذه الأُمور جميعاً .
__________________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص549-557 .
2 ـ (الذين قالوا ربنا الله) مبتدأ ، وجملة (لا خوف عليهم) خبره ، والفاء لا تأتي مع الخبر إلاّ في الموارد التي يكون في الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث .
3 ـ راجع التّفسير الأمثل ، سورة فصلت ، الآية 30 .
4 ـ «التوصية» تتعدى عادة بمفعولين ، غايته أنّ المفعول الثّاني يقترن بالباء أو (الى) ، وبناءً على هذا فإنّ (إحساناً) لا يمكن أن تكون المفعول الثّاني في الجملة ، إلاّ أن نعتبر (وصينا) بمعنى (ألزمنا) التي تتعدى بمفعولين دون حاجة إلى حرف جر ، أو أن نقول : إنّ في الآية محذوفاً نقدره : ووصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحساناً ، ففي هذه الحالة تكون (إحساناً) مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف .
5 ـ (حتى) هنا غاية لجملة محذوفة ، والتقدير : وعاش الإنسان واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشدّه . واعتبرها البعض غاية لـ (وصينا) أو لمراقبة الوالدين لولدهما ، وكلاهما يبدو بعيداً ، إذ لا تنتهي توصية الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين في سن الأربعين ، ولا تستمر مراقبة الوالدين لولدهما حتى يصل الأربعين .
6 ـ تفسير روح المعاني ، المجلد 26 ، صفحة 17 .
7- ارشاد القلوب ، ج1 ، ص185 .
8 ـ «أوزعني» من مادة (الإيزاع) التي وردت بعدّة معان : الإلهام ، والمنع من الإنحراف ، وإيجاد العشق والمحبة ، والتوفيق .
9 ـ الطبرسي في مجمع البيان ، والعلاّمة الطباطبائي في الميزان ، والفخر الرازي في التّفسير الكبير ، وغيرهم في ذيل الآية مورد البحث .
10 ـ (في أصحاب الجنّة) متعلق بمحذوف هو حال لضمير (هم) والتقدير : حال كونهم موجودين في أصحاب الجنّة .
11 ـ (وعد الصدق) مفعول مطلق لفعل محذوف ، والتقدير : يعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون بلسان الأنبياء والرسل .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|