أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-2-2017
17711
التاريخ: 20-10-2017
6717
التاريخ: 17-10-2017
5402
التاريخ: 17-10-2017
7078
|
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة : 35 - 37].
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة : 35].
لما تقدم ذكر القتل والمحاربين ، عقب ذلك بالموعظة ، والأمر بالتقوى ، فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي : اتقوا معاصيه واجتنبوها ، {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي : اطلبوا إليه القربة بالطاعات ، عن الحسن ، ومجاهد ، وعطا ، والسدي ، وغيرهم ، فكأنه قال : تقربوا إليه بما يرضيه من الطاعات . وقيل : الوسيلة أفضل درجات الجنة ، عن عطا ، أيضا وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :
" سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها درجة في الجنة ، لا ينالها إلا عبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " .
وروى سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن علي عليه السلام ، قال : في " الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش ، إحداهما بيضاء ، والأخرى صفراء ، في كل واحدة منهما سبعون ألف غرفة ، أبوابها وأكوابها من عرق واحدة ، فالبيضاء الوسيلة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، والصفراء لإبراهيم وأهل بيته " {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} أي : في طريق دينه مع أعدائه ، أمر سبحانه بالجهاد في دين الله ، لأنه وصلة إلى ثوابه ، والدليل على الشيء : طريق إلى العلم به ، والتعرض للشيء : طريق إلى الوقوع فيه ، واللطف : طريق إلى طاعة الله ، والجهاد في سبيل الله : قد يكون باليد ، واللسان ، والقلب ، وبالسيف ، والقول ، والكتاب . {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي : لكي تظفروا بنعيم الأبد . والمعنى : اعملوا على رجاء الفلاح والفوز . وقيل : لعل وعسى من الله واجب ، فكأنه قال : اعملوا لتفلحوا .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة : 36 - 37] .
ثم أخبر سبحانه عن وعيد الكفار ، فقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي : لكل واحد منهم {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من المال ، والولاية ، والملك ، {وَمِثْلَهُ} أي : مثل ذلك ، {مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} أي : ليجعلوا ذلك فداهم وبدلهم ، {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الذي يستحقونه على كفرهم ، فافتدوا بذلك {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} ذلك الفداء {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي : وجيع {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} أي : يتمنون أن يخرجوا من النار ، عن أبي علي الجبائي ، قال : لان الإرادة هنا بمعنى التمني . وقيل : معناه الإرادة على الحقيقة أي : كلما دفعتهم النار بلهبها ، رجوا أن يخرجوا ، وهو كقوله {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} عن الحسن . وقيل : معناه يكادون يخرجون منها إذا دفعتهم النار بلهبها ، كما قال سبحانه : {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} أي : يكاد ويقارب .
فإن قال قائل كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بأنهم لا يخرجون منها ؟ فالجواب : إن العلم بأن الشيء لا يكون ، لا يصرف عن إرادته ، كما أن العلم بأنه يكون ، لا يصرف عن إرادته ، وإنما الداعي إلى الإرادة حسنها ، والحاجة إليها .
{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} يعني جهنم . {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي : دائم ثابت لا يزول ، ولا يحول ، كما قال الشاعر :
فإن لكم بيوم الشعب مني * عذابا دائما لكم مقيما
_____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص327-328 .
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهً وابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . ان تقوى اللَّه ، وابتغاء الوسيلة إليه ، والجهاد في سبيله ، كل هذه تعبر عن معنى واحد ، أو عن معان متلازمة متشابكة ، لأن تقوى اللَّه اتقاء سخطه ، وابتغاء الوسيلة إليه طلب مرضاته ، والجهاد في سبيله يشمل الأمرين . .
وأفضل ما يتوسل به المتوسلون إلى اللَّه حب الناس ، والعمل من أجلهم ، وقرأت كلمة لكاتب كبير تقول : « محال أن يعرف حقيقة الناس من لا يحب الناس » .
ونزيد عليها : ومحال أن يحب اللَّه من لا يحب الناس .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ، ومِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ } . يضحي الإنسان بجميع ما يملك للخلاص من أسقامه وآلامه في حياته هذه ، فكيف بنار جهنم . { ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ } .
إنما يقبل الفدية من يفتقر إليها ، وللَّه ملك السماوات والأرض . { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ولَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ } . وهذا نص قاطع على أن من جحد الخالق ، أو عبد سواه ، فهو مخلد في النار . { وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها } . وفي الآية 20 من سورة السجدة : {كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . وهناك جرائم لا تقل إثما وعذابا عن الكفر باللَّه ، كسلب الشعوب أقواتها ومقومات حياتها ، وقتل النفس ، لأنها أبت إلا أن تعيش حرة كريمة .
______________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 53 .
قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } (إلخ) قال الراغب في المفردات : الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة ، وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة ، قال تعالى : ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة ، وتحري مكارم الشريعة ، وهي كالقربة ، وإذ كانت نوعا من التوصل وليس إلا توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك ، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية ، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابه تعالى ، فهذه هي الوسيلة الرابطة ، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحالة .
ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : { وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ } مطلق الجهاد الذي يعم جهاد النفس وجهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها من حديث ابتغاء الوسيلة ، وقد عرفت ما معناه : على أن الآيتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله : { وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ } .
ومع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الآيات الآمرة بالجهاد بمعنى القتال ، وأما الأعم فخال عن التقييد كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ( العنكبوت : 69 ) وعلى هذا فالأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه ، ولعل الأمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الأمر بالتقوى أيضا من هذا القبيل .
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ } ( إلى آخر الآيتين ) ظاهره ـ كما تقدمت الإشارة إليه ـ أن يكون تعليلا لمضمون الآية السابقة ، والمحصل أنه يجب عليكم أن تتقوا الله وتبتغوا إليه الوسيلة وتجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف عذاب أليم مقيم عن أنفسكم ، ولا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله ولم يبتغوا إليه الوسيلة ولم يجاهدوا في سبيله لو أنهم ملكوا ما في الأرض جميعا ـ وهو أقصى ما يتمناه ابن آدم من الملك الدنيوي عادة ـ ثم زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الأرض ثم أرادوا أن يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وهي العذاب وما هم بخارجين منها لأنه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم أبدا .
وفي الآية إشارة أولا إلى أن العذاب هو الأصل القريب من الإنسان وإنما يصرف عنه الإيمان والتقوى كما يشير إليه قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا } : ( مريم : 72 ) وكذا قوله : { إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ } : ( العصر : 3 ) .
وثانيا : أن الفطرة الأصلية الإنسانية وهي التي تتألم من النار غير باطلة فيهم ولا منتفية عنهم وإلا لم يتألموا ولم يتعذبوا بها ولم يريدوا الخروج منها .
__________________________
1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 280-281 .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة : 35] .
حقيقة التوسل إلى الله :
توجه هذه الآية الخطاب إلى الأفراد المؤمنين ، تتضمن تكاليف ثلاثة يؤدي الالتزام بها وتطبيقها إلى نيل الفلاح ، وهذه التكاليف هي :
١ ـ إتّباع الحيطة والتقوى ، كما تقول الآية : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ...}.
٢ ـ إختيار وسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، حيث تقول الآية : {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ...}.
٣ ـ الجهاد في سبيل الله ، إذ تقول الآية : {وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ...}.
وستكون نتيجة الالتزام بهذه التكاليف الإلهية وتطبيقها نيل الفلاح ، بشرط تحقق الإسلام والإيمان فتقول الآية الكريمة في هذا المجال : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إنّ أهم موضوع سنتناوله بالبحث في هذه الآية ، هو الدعوة الموجهة للإنسان المؤمن لاختيار طريقة تؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فكلمة «الوسيلة» في الأصل بمعنى نشد ان التقرب أو طلب الشيء الذي يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة ، وعلى هذا الأساس فإن كلمة «الوسيلة» الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة ، فهي تشمل كل عمل أو شيء يؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأهم الوسائل في هذا المجال هي الإيمان بالله وبنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل الله ، والعبادات كالصّلاة والزكاة والصوم ، والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرّا وعلانية وكذلك الأعمال الصالحة ـ كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له وردت في «نهج البلاغة» منها : «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلين إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنّه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقامة الصّلاة فإنّها الملّة (2) ، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب ، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ، ويرحضان (3) الذنب ، وصلة الرحم فإنها مثراة (4) في المال ومنساة (5) في الأجل وصدقة السرّ فإنّها تكفر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان ...» (6) .
كما أن شفاعة الأنبياء والأئمّة والأولياء الصالحين تقرّب ـ أيضا ـ إلى الله وفق ما نصر عليه القرآن الكريم ، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة» ـ وكذلك إتّباع النّبي والإمام والسير على نهجهما ، كل ذلك يوجب التقرب إلى الساحة الإلهية المقدسة. وحتى عند ما نقسم على الله بمقام الأنبياء والأئمّة والصالحين فأنّه يدلّ على حبّنا لهم والاهتمام بالدين الذي دعوا إليه ، هذا القسم يعتبر ـ أيضا ـ واحدا من المعاني الداخلة في المفهوم الواسع لكلمة «الوسيلة».
والذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض هذه المفاهيم لا يمتلكون في الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص ، لأنّ كلمة «الوسيلة» تطلق في اللغة على كل شيء يؤدي إلى التقرب .
والجدير بالذكر هنا هو أنّ المراد من التوسل لا يعني ـ أبدا ـ طلب شيء من شخص النّبي أو الإمام ، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن ـ عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النّبي والإمام ـ بطلب الشفاعة منهم إلى الله ، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من الله بذلك حاجته ، وليس في هذا المعنى أيّ أثر للشرك ، كما لا يخالف الآيات القرآنية الأخرى ، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث «فتدبّر».
التوسل في القرآن :
هناك آيات قرآنية أخرى تدل بوضوح على أنّ التوسل بمقام إنسان صالح عند الله ، وطلب شيء من الله عن طريق التوسل بجاه هذا الإنسان عند الله ، لا يعتبر أمرا محظورا ولا ينافي التوحيد.
فنحن نقرأ في الآية (٦٤) من سورة النساء قوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً} .
كما نقرأ في الآية (٩٧) من سورة يوسف ، إنّ أخوة يوسف طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم الله ، فقبل يعقوب هذا الطلب ونفذه.
والآية (١١٤) من سورة التوبة تشير إلى موضوع استغفار إبراهيم لأبيه ، وهذا دليل على تأثير دعاء الأنبياء في حق الآخرين .
وقد ورد هذا الموضوع في آيات قرآنية أخرى أيضا .
التّوسل في الرّوايات الإسلامية :
إنّ الروايات العديدة التي وردت عن طرق الشيعة والسنة تفيد بوضوح أنّ التوسل بالمعنى الذي عرضناه لا ريب ولا شبهة فيه ، بل أنّه يعد عملا جيدا أيضا ، وهذه الرّوايات كثيرة وقد نقلتها كتب عديدة ، ونحن نورد بعضا منها مما ورد في مصادر جمهور السنّة على سبيل المثال لا الحصر.
١ ـ جاء في كتاب «وفاء الوفا» لمؤلّفه العالم السنّي المشهور «السمهودي» إن طلب العون والشفاعة من النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أو التوسل إلى الله بجاه النّبي وشخصه جائز قبل أن يولد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد ولادته ووفاته وفي عالم البرزخ وفي يوم القيامة ، ثمّ ينقل «السمهودي» في هذا المجال عن عمر بن الخطاب الرواية المعروفة التي تتحدث عن توسل آدم عليه السلام إلى الله بنبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لعلم آدم بأنّ هذا النّبي سيأتي إلى الوجود في المستقبل ، ولعلمه بالمنزلة العظيمة التي يحظى بها عند الله ، فيقول آدم : «ربّ إنّي أسألك بحق محمّد لما غفرت لي» (7) .
ثمّ ينقل «السمهودي» حديثا آخر عن جماعة من رواة الحديث كالنسائي والترمذي ، وهما عالمان مشهوران من أهل السنّة ، كدليل على جواز التوسل بالنّبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وخلاصة هذا الحديث إنّ رجلا بصيرا طلب من النّبي أن يدعو له بشفاء مريضه، فأمره النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة هذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة يا محمّد إنّي توجهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضي لي ، اللهم شفعه فيّ» (8) .
وبعد هذا الحديث ينقل «السمهودي» حديثا ثالثا في جواز التوسل بالنّبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ، فيذكر أن صاحب حاجة جاء في زمن عثمان إلى قبر النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس بجوار القبر ودعا الله بهذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي».
ثمّ يضيف «السمهودي» إنّه لم تمض فترة حتى قضيت حاجة الرجل (9) .
٢ ـ أمّا صاحب كتاب «التوصل إلى حقيقة التوسل» الذي يعارض بشدة موضوع التوسل فهو ينقل (٢٦) حديثا من كتب ومصادر مختلفة ينعكس منها جواز التوسل ، ومع أنّه سعى في أن يطعن بإسناد تلك الأحاديث ، إلّا أنّ الواضح هو أنّه متى ما كانت الروايات كثيرة ـ في موضوع معين لدرجة التواتر ـ لا يبقى عند ذلك مجال للطعن، والتجريح في سند الحديث ، والروايات التي وردت في المصادر الإسلامية بشأن التوسل قد تجاوزت حدّ التواتر لكثرتها.
ومن هذه الأحاديث التي رواها صاحب الكتاب المذكور ، الحديث التالي : نقل «ابن حجر المكي» صاحب كتاب «الصواعق» عن الإمام «الشافعي» ، وهو أحد أئمّة السنّة الأربعة المشهورين ، أنّه كان يتوسل إلى أهل بيت النّبي ويقول :
آل النّبي ذريعتي |
وهم إليه وسيلتي |
|
أرجو بهم أعطى غدا |
بيد اليمين صحيفتي (10) |
وينقل صاحب كتاب «التوصل ...» أيضا عن (البيهقي) أن الجفاف أصاب المسلمين في أحد الأعوام من عهد الخليفة الثّاني ، فذهب بلال ومعه عدد من الصحابة إلى قبر النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : «يا رسول الله استسق لأمتك ... فإنّهم قد هلكوا ...» (1) .
ونقل أيضا عن «ابن حجر» من كتاب «الخيارات الحسان» أنّ الإمام الشافعي كان أثناء وجوده في بغداد يزور أبا حنيفة ويتوسل إليه في حوائجه (12) .
ومن صحيح «الدارمي» ينقل صاحب كتاب «التوصل ...» أيضا ، أن بعض الصحابة في المدينة اشتكوا إلى عائشة ما يعانونه من الجفاف الشديد الذي أصاب البلدة في أحد الأعوام ، فأشارت عليهم أن يفتحوا فجوة في سقف المسجد على قبر النّبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ينزل الله المطر ببركة قبر النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ففعلوا ذلك ونزل مطر غزير !
ونقل «الآلوسي» في تفسيره الكثير من الأحاديث والروايات الشبيهة بالأحاديث المارة الذكر ، ولكنّه بعد إجراء تحليل ونقاش طويل حولها حتى أنّه تشدد في نقدها اضطر إلى الإذعان بها ، فذكر أنّه بعد البحث الذي أجراه لا يرى مانعا من التوسل إلى الله بمقام النّبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء في حياته أو بعد وفاته ، ثمّ أطال البحث في هذا المجال، وقال بأنّ التوسل إلى الله بمقام غير النّبي لا مانع فيه ـ أيضا ـ شريطة أن يكون المتوسل به صاحب منزلة عند الله (13) .
أما مصادر الشيعة فقد تناولت هذا الموضوع بشكل واضح ، لا نرى معه أي حاجة إلى نقل الأحاديث الواردة بهذا الصدد.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} [المائدة : 36-37] .
تعقيبا على الآية السابقة التي كلّفت المؤمنين بالتقوى والجهاد وإعداد الوسيلة، جاءت الآيتان الأخيرتان وهما تشيران إلى مصير الكافرين ، وتؤكّدان أنّهم مهما بذلوا ـ حتى لو كان كل ما في الأرض أو ضعفه ـ في سبيل انتقاذ أنفسهم من عذاب يوم القيامة ، فلن يقبل منهم ذلك ـ وأنّهم سينالون العذاب الشديد ، فتقول الآية الكريمة في هذا المجال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
وقد وردت بنفس المضمون آية أخرى وهي الآية (٤٧) من سورة الرعد .
ويبيّن هذا الأسلوب القرآني أقصى درجات التأكيد فيما يخص العقوبات الإلهية التي لا يمكن ـ مطلقا ـ التخلص منها بأي ثروة أو قدرة مهما بلغت ، وحتى لو شملت جميع ما في الأرض أو ضعف ذلك ، وإن طريق الخلاص الوحيد يمكن ـ فقط ـ في اتّباع التقوى والجهاد في سبيل الله والقيام بالأعمال الصالحة.
بعد ذلك تشير الآية التالية إلى استمرار عذاب الله ، وتوضح أنّ الكافرين مهما سعوا للخروج من نار جهنم فلن يقدروا على ذلك ، وإنّ عذابهم ثابت وباق لا يتغير ، كما تقول الآية :{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ}.
وسنوافيكم بتفاصيل أكثر عن العقوبة الدائمة الأبدية ، وعن خلود الكفار في نار جهنم ، لدى تفسير الآية (١٠٨) من سورة هود ، بإذن الله .
__________________
1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص500-506 .
2. الملة شريعة الإسلام .
3. يرحضان يطهران أو يغسلان .
4. مثراة مكثرة .
5. منساة مطيلة .
6. نهج البلاغة ، الخطبة ١١٠.
7. وفاء الوفاء ، ج ٣ ، ص ١٣٧١ ، في كتاب «التوصل إلى حقيقة التوسل» نقل الحديث المذكور أعلاه كواحد من دلائل النبوة ، ص ٢١٥.
8. كتاب (وفاء الوفاء) ، ص ١٣٧٢.
9. وفاء الوفاء ، ص ١٣٧٣.
10. كتاب «التوصل ...» ، ص ٣٢٩.
11. كتاب التوصل ... ، ص ٢٥٣.
13. روح المعاني ، (ج ٤ ـ ٦) ، ص ١١٤ ـ ١١٥.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|