أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-9-2016
2358
التاريخ: 2024-08-05
356
التاريخ: 2024-05-29
713
التاريخ: 2024-06-20
690
|
هيأت لمصر طريقها الحضاري القديم عوامل طبيعية وبشرية عدة، كان منها موقعها الجغرافي المتميز، وضخامة نصيبها من نهر النيل، وتجدد خصوبة أرضها، وانبسط سطحها، وقلة العوائق الطبيعية الحادة فيها، واعتدال مناخها بما لم يعق نشاط إنسانها القديم، وتوفر عدد من المواد الأولية الأساسية في ساحتها، وتميز حدودها بحصانة طبيعية نسبية على الرغم من شدة اتساعها وطول امتدادها. ولم يقل أثرًا عن ذلك كله في دفع مسيرة الحضارة المصرية كثافة أعداد أهلها كثافة نسبية، مع جلدهم ووحدة لغتهم وندرة الفوارق الجنسية بينهم، وسهولة الاتصالات بين جماعاتهم، وقدم إدراكهم لوحدة وطنهم، فضلًا عن استقرار نظم الحكم الداخلية بينهم في أغلب عصورها، وكلها عوامل ساعدت على نمو الحضارة المصرية في عصور مبكرة واستمرار نضجها واتصال حلقات تطورها.
ولسنا نعني بتعداد كل هذه العوامل أنها حققت "المثالية" في تاريخ مصر وحضارتها بحكم الضرورة، ولكننا نعني بتقديمها أنها كانت من المقومات الأولية لتكييف التربة التي نشأ تاريخ مصر القديم فيها، وأنها كان من العوامل المساعدة على إظهار الجوانب الطيبة فيه، بغير أن ننفي قيام عوامل أخرى مضادة لها من داخل مصر ومن خارجها.
سمى المصريون القدماء أرضهم باسم "كيمة"، بمعنى السوداء أو السمراء؛ إشارة إلى سمرة تربتها الطينية وخصوبتها. وكثيرًا ما عبروا عنها باسم "تاوي" أي الأرضين، أرض الدلتا وأرض الصعيد. وارتبط الاسم الشائع "مصر" في اللغة المصرية واللغات السامية القديمة بمترادفات تدل على معاني الحد والحاجز والمكان الحصين فضلًا عن البلد المتمدين. كما يحتمل أن تسميتها باسم إيجبت الشائع في اللغات الأجنبية منذ أيام الكُتاب الإغريق في تحرف في أصله عن اسم آجبة المصري بمعنى الفيضان. وذلك إلى جانب أسماء أخرى وكنيات يمكن مراجعة مدلولاتها في الفصل الأول من كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها.
تقسم عصور الحضارة المصرية القديمة تقسيمًا اصطلاحيًّا إلى ثمان وحدات اعتبارية كبيرة، تمايزت كل وحدة منها عن أختها من حيث أمدها الزمني وطاقتها البشرية ومستوياتها الحضارية، ولكن اتصلت كل واحدة منها اتصالًا تطويريًّا وثيقًا بسابقتها كما مهدت بتطوراتها للاحقتها. وقد تعاقبت بمصادرها القديمة على النحو التالي الذي نصوره ها هنا في إيجاز:
أولًا- دهور ما قبل التاريخ: اتصفت به من امتداد زمني طويل وظواهر مناخية متمايزة، ومصنوعات متواضعة بطيئة التطور، خلال بحثنا لما قبل التاريخ في الشرق الأدنى القديم بوجه عام، ولم نستثن منها للدراسة التفصيلية بكل قطر على حده سوى خصائص آخر عصورها، وهو العصر الحجري الحديث، وذلك باعتباره البداية الواضحة للتخصص الإقليمي بين أقطار الشرق القديم بعامة، وباعتباره ممثلًا لمرحلة فجر التاريخ في كل من مصر والعراق بخاصة، وممهدًا لبداية العصور التاريخية التي أعقبته فيهما.
وانحصرت مصادر الدهور الحجرية القديمة فيما مر بنا، فيما تركه إنسانها الأول من أدوات بدائية، كان أغلبها من الحجر، وما تركه في مناطق سكناه العتيقة من آثار المواقد وبقايا أسنان المناجل وقطع المراحي، ثم ما خلفه من رسوم بدائية تغني باحثها من حيث اتصالها بطفولة الفن الأولى، وبعقائد الدين وتخيلات السحر القديم، فضلًا عن أنها احتفظت في مناظرها بما يصور بعض حيوانات البيئات القديمة ووسائل الإنسان في مواجهتها وفي صيدها.
أما عصر فجر التاريخ بخاصة، فقد زادت مصادره المادية نتيجة لاستقرار حياته الزراعية، فتعددت آثار الحرف الأولية التي مارسها أهله وتخصص بعضهم فيها، مثل أدوات الزراعة والأواني الفخارية والحجرية والصلايات والسلال والمنسوجات البسيطة، وبدايات المصنوعات النحاسية المتواضعة، ونماذج الرسوم والنقوش والتماثيل الصغيرة. وقد استمرت كل هذه الآثار غفلًا من الكتابة، وظل أولاها بالدراسة في نظر الأثري والمؤرخ للدلالة على التتابع الزمني والتطور الصناعي والتطور الفني خلال العصر الحجري الحديث، هي الأواني الفخارية، تستوي في ذلك الأواني الغفل ذات الأشكال المتطورة، والأواني ذات الرسوم والنقوش المعبرة.
ثانيًا- بداية العصور التاريخية: وتسمى اصطلاحًا كذلك باسم عصر بداية الأسرات، والعصر العتيق. وقد بدأ عصرها حوالي القرن الثاني والثلاثين ق. م، وامتد إلى عام 2780ق. م أو نحوه، وامتاز تاريخيًّا ببداية استقرار وحدة مصر السياسية الكاملة منذ أوائله، وبمعرفة الكتابة منذ بدايته، وبظهور المصادر التاريخية المكتوبة فيه لأول مرة تبعًا لذلك. كما يعتبر عصر التكوين بالنسبة لنظم الحكم وأوضاع الإدارة، وقد تعاقبت خلاله على عرش مصر الأسرتان الحاكمتان الأوليتان من الأسر الفرعونية في مصر القديمة.
ثالثًا- عصور الدولة القديمة: وهي عصور بدأت بعض الأسرة الحاكمة الثالثة في أوائل القرن الثامن والعشرين ق. م، وامتدت حتى نهاية عصر الأسرة السادسة "أو بعده بقليل" في أواخر القرن الثامن والعشرين ق. م. واتصفت أغلب عهودها بالاستقرار السياسي النسبي ومركزية الحكم. وتميزت مظاهر الحضارة فيها بالنمو الداخلي المتصل في شئون العمارة والفنون وتنظيمات الإدارة وعقائد الآخرة. واستقرت مبادئ ذلك كله دونما تأثيرات خارجية ملموسة. وتمثلت أغلب آثار هذه العصور في مقابرها الفخمة وأهرامها الرائعة التي انتشرت حول عاصمتها منف، فيما يمتد بين ميدوم ودهشور وسقارة والجيزة جنوبي القاهرة الحالية، فضلًا على ما تناثر من آثارها في بقية مناطق القطر الأخرى.
رابعًا- عصر الانتقال الأول "أو عصر اللامركزية الأولى": وكان عصر انتقال من وحدة الحكم إلى تفرق وجهات الحكام، ومن الاستقرار إلى القلقلة، ومن ضخامة إمكانيات الدولة إلى قلتها، وإن انتعشت خلال هذا العصر في الوقت ذاته أحوال الطبقة الوسطى ونمت فيه روح الفردية، وظهرت خلاله مبادئ سياسية وعقائد دينية متحررة. وقد امتد العصر من أعقاب نهاية عصر الأسرة السادسة حتى نهاية عصر الأسرة العاشرة في أواسط القرن الحادي والعشرين ق. م.
خامسًا- عصور الدولة الوسطى: وهي عصور تميزت باستعادة مركزية الحكم ووحدة السياسة في الداخل وفي الخارج، مع الإبقاء على ازدهار الفردية. واتسعت مجالات التأثير والتأثر فيها بين مصر وبين جيرانها في الشرق الأدنى وجزر البحر المتوسط. واعتبرت العصر الذهبي لكل من اللغة المصرية وآدابها. وقد استمرت نحو ثلاثة قرون، ابتداء من عصر الأسرة الحادية عشرة حتى أوائل عصر الأسرة الثالثة عشرة أوائل القرن الثامن عشر ق. م. وكانت من عواصمها طيبة في الصعيد، واللشت عند مدخل مصر الوسطى، ومنف قرب رأس الدلتا.
سادسًا- عصر الانتقال الثاني "أو عصر اللامركزية الثانية": وكان انتقالًا اضطراريًّا من حال الوحدة إلى التفكك ومن الاستقرار إلى القلق، وامتد بمشكلاته فيما بين أواخر عصر الأسرة الثالثة عشرة وبين أواخر عصر الأسرة السابعة عشرة، وشغلت أغلب أيامه محنة الهكسوس، وانتهى في أوائل القرن السادس عشر ق. م. بإجلاء الهكسوس وتشتيتهم وتحرر البلاد منهم.
سابعًا- عصور الدولة الحديثة: وقد بدأت بعودة الاستقرار والاستقلال القومي الكامل ومركزية الحكم ثانية، وتميزت ببلوغ الذروة في الرخاء العام وفي الفنون ورقي مذاهب الدين ومرتبة الوحدانية، كما تميزت بالانطلاق الواسع في مجالات السياسة الدولية والتوسع الخارجي. وبدأت خصائصها ببداية عصر الأسرة الثامنة عشرة حوالي عام 1575ق. م، وعمرت نيفا وستة قرون، حتى بلغت خواتيمها بنهاية عصر الأسرة الحادية والعشرين خلال القرن العاشر ق. م.
ثامنًا- العصور المتأخرة "أو خواتيم العصور الفرعونية": وهذه بدأت مظاهرها منذ القرن العاشر ق. م، وتذبذب النشاط المصري خلالها بين مد وجذر في مجالات السياسة والحروب واختلطت فيها العناصر الدخيلة بالمصريين اختلاطًا ملحوظًا. وتأثرت مصر فيها بتأرجح موازين القوى بين ... الشرق والغرب القديمة، وابتدأت مقاليد الحضارة والسيادة تنفلت منها إلى غيرها، بل وتعرضت أرضها لأكثر هجوم خارجي، ثم انتهت بانتهاء الحكم الفرعوني القومي بعد عصر الأسرة الثلاثين، مع فتح الإسكندر المقدوني لمصر في خريف 332ق. م، إلى جانب غيرها من أقطار الشرق القديم.
تعددت المصادر المادية والمكتوبة والمصورة للعصور التاريخية المصرية القديمة السابقة بما يعبر عن آداب أهلها، وعلومهم، وعقائدهم، وفنونهم، وحرفهم، وأوضاعهم السياسية، واتصالاتهم الخارجية، تعددًا واسعًا فعبر عن الجوانب الفكرية والأدبية والعلمية القديمة من التراث المصري ما تضمنته مخطوطات البردي ونصوص اللوحات الحجرية واللخاف المكتشفة، من قصص وأساطير، وتعاليم وقصائد وفلسفات، وطب وفلك ورياضيات، ودروس تعليمية، فضلًا عما أمكن استنتاجه من عمليات التحنيط من الجثث الباقية، وما أمكن استخلاصه عن مبادئ الهندسة النظرية والتطبيقية من المنشآت المعمارية الكثيرة القائمة.
وعبر عن عقائد مصر القديمة الروحية، التعبدية منها والأخروية، ما تضمنته مخطوطات البردي أيضًا ونقرش المعابد والمقابر ومناظرها، من نصوص الدعوات والأناشيد وهيئات التعبد وصور الحساب والتصورات عن الآخرة، وتميزت منها تراتيل نصوص الأهرام ومتون التوابيت وكتب الموتى، فضلًا عما رمزت إليه تماثيل المعبودات وصورهم، والصفات التي نسبت إليهم، والألقاب التي حملها كهنتهم.
وعبر عن فنون مصر الإنشائية وفنونها الصغرى والتطبيقية، ما بقي من عمائر أهرامها ومعابدها ومساكنها وحصونها ومقابرها، ومناظرها المنقوشة المصورة، وتماثيلها، فضلًا عن أدوات الترف والزينة التي عثر عليها في مقابرها وبقايا مساكنها.
أما شئون الحياة اليومية العادية في العصور المصرية المتعاقبة، فقد صورت جوانبها النظرية، مناظر الزراعة والصناعة والتبادل التجاري والمناظر الأسرية المسجلة على جدران المقابر. وعبر عن جوانبها العملية الفعلية ما عثر عليه من أدوات الاستعمال اليومي في المساكن والمقابر، والنماذج الصغيرة التي قلد الصناع بها وجسموا فيها هيئات مصانعهم ومخازنهم ورمزوا بها إلى سيل العمل فيها. ثم الرسائل الشخصية وصيغ الشكاوى ونصوص القضايا التي صورت انفعالات أهلها ومشاعرهم، وعلاقات بعضهم ببعض. ثم عبر عن اتصال ما بين هذه الحياة القديمة بين المجتمع المصري الحديث من أواصر، ما بقي حتى الآن من ألفاظ ومسميات وعادات يمكن ربطها بما جاءت به المصادر السابقة جميعها، مما هو مكتوب وما هو مصور ومرسوم.
ومن مصادر الحياة السياسية الداخلية والخارجية في تلك العصور التاريخية المتتالية، التواريخ الرسمية التي سجلها الكتبة والمؤرخون المصريون بأمر حكامهم وبأسمائهم، منذ أوائل عصورهم التاريخية على جذادات من البردي والخشب والعاج بأحداث مفردة أحيانًا، ثم في قوائم متصلة منقوشة على النصب الحجرية وجدران المعابد، وقوائم أخرى مخطوطة على صفحات البردي أحيانًا أخرى. ومن أهم ما عرف حتى الآن من هذه وتلك ما يسمى اصطلاحًا بأسماء قائمة حجر بالرمو من القرن 25ق. م، وقائمة الكرنك من القرن 15ق. م، وقائمة أبيدوس وبردية تورين من القرن 13ق. م. وقد اكتفت بعض هذه القوائم بتسجيل تتابع أسماء الملوك، بينما أضاف بعضها إلى أسمائهم ذكر فترات حكمهم بالأعوام والشهور والأيام، كما تضمن بعضها الآخر وهو الأهم ما اشتهرت به عهودهم من منشآت خاصة وعامة، وأعياد وحروب وبعثات تجارية (1).
وإلى جانب هذه القوائم التاريخية الرسمية، عمل الكتاب والمؤرخون والفنانون في عهد كل فرعون على أن يسجلوا مآثره وأعماله وحروبه، فضلًا عن آيات تقواه، على جدران المعابد التي أنشئت في عهده وعلى نصب حجرية كبيرة أقيم بعضها في رحاب المعابد والدواوين، وأقيم بعضها على حدود القطر وعلى حدود الأملاك الخارجية. ولم يكتفوا بالكتابة التاريخية وحدها على هذه وتلك، وإنما جعلوا مما سجلوه عليها معرضا للتاريخ المصور أيضًا.
وساهمت النصوص والمناظر الفردية لكبار الموظفين والأدباء في التعبير عما اشترك أصحابها فيه من أعمال عامة وحروب وبعثات ومنشآت، وما ولوه من مناصب. اصطبغت بعض تسجيلاتهم الفردية هذه بصبغة تقليدية ردت الأمر كله فيها إلى إيحاءات الملوك ووصفتهم بما كانوا يستحبون أن يوصفوا به دائمًا من قداسة وعدل وقوة بأس، ولو لم يكن لبعضهم نصيب من ذلك كله بينما اصطبغ بعضها الآخر بنصيب أكبر من الواقعية، فصورت نصوصها الأحداث قريبة مما جرت به فعلا. بغير تضخيم كبير ولا تنميق كثير، وردت بعض الفضل فيها إلى أصحابها الفعليين.
وتكتمل صورة المصادر المصرية القديمة عن العصور التاريخية الطويلة بما كتبه عنها المؤرخ المصري مانيتون السمنودي الذي عاش في القرن الثالث ق. م. وحاول أن يؤرخ به للحياة الاجتماعية والحياة السياسية معا، منذ أقدم العصور حتى أيامه، فنجح حينا واشتط أحيانًا. أما المصادر غير المصرية فمنها ما روته الكتب السماوية من إشارات قصيرة عن مصر ومن عايشها من الأنبياء. وعبارات متفرقة عن مصر أيضًا تضمنتها بعض نصوص حكام البلاد الشرقية القديمة ورسائلهم إلى الفراعنة مثل رسائل العمارنة. هناك أخيرا كتابات الرحالة والمؤرخين الإغريق والرومان الذين زاروا مصر وكتبوا عنها منذ أواخر القرن السادس ق. م. على أقل تقدير، من أمثال هيكاتيوس الميليتي، وهيرودوت الهاليكارناسي، وهيكاتيوس الأبديري، وديودور الصقلي، وأسترابون البونتي، وبلينوس الجغرافي، وبلوتارخ الخايروني. فضلًا عمن أقاموا منهم في مصر والإسكندرية بخاصة وأصبحوا مواطنين فيها وكتبوا عن تاريخها وأحوال مجتمعها من أمثال إراتوستينوس، وأبوللودوروس، وهورابوللو، ويوسيفوس، ويوليوس أفريكانوس، ويوسيبيوس، وجيوجرجيوس، وغيرهم. واختلف نصيب كل مؤرخ وجغرافي ورحالة من هؤلاء وهؤلاء عن زميله في مدى تحريه الأمانة فيما رواه عن مصر، ومدى معرفته الصحيحة بتاريخها، ومدى إقامته بها، ومدى فهمه لتقاليد أهلها. بل إن ما كتبه كل منهم جمع في طياته بين المنطق وبين الخرافة، وبين الصدق حينا والافتراء حينا آخر، وبين أدلة الذكاء وقرائن الغفلة، وبين صور المدح وصور الذم في آن واحد. وكل ذلك مما يحول دون الحكم على أحدهم بحكم عام، أو الحكم على كفاياتهم كلها بحكم شامل، سواء فيما يختص بكتاباتهم عن العصور القديمة التي سبقتهم والتي جمعوا أغلب أخبارها البعيدة من أفواه الرواة أو الأدلاء والكهان ومن منطوق الأساطير، أم فيما يختص برواياتهم عن العصور المتأخرة التي زاروا مصر إبانها ووصفوا ما رأوه فيها رأي العين، فأصابوا في وصفه أحيانًا، وخدعوا عنه أو أخطئوا تصويره أحيانًا أخرى.
ووضحت لحركة وصف الآثار المصرية الظاهرة في العصر الحديث مرحلتان، مرحلة تكفل بها العلماء الفرنسيون الذين صحبوا نابليون إلى مصر، ونشروا نتائجها بن أعوام 1809 - 1813 ضمن مجلداتهم الضخمة عن وصف مصر " Description De L' Egypte"، ومرحلة أخرى تكفلت بها بعثات أجنبية منظمة منذ عام 1828، وكان من روادها روسليني(2)، ولبسيوس، وواصل هذا الأخير عمله ونشر مجلدات ضخمة منذ عام "1849"(3). صور ورسم فيها طائفة كبيرة من الآثار الظاهرة في مصر والنوبة، وآثارا أخرى كشف بنفسه عنها في سقارة ومصر الوسطى. ومنذ ذلك الحين سار وصف الآثار ورسمها وتصويرها جنبا إلى جنب مع التنقيب عن الآثار المدفونة، ودراسة اللغة المصرية القديمة.
وبدأت دراسة اللغة المصرية وجهتها العلمية بعد العثور مصادفة على حجر رشيد في عام 1799، ومحاولة قراءة نصوصه، وهو حجر من البازلت الأسود عثر عليه خلال حفر خندق حول قلعة قايتباي "أو سان جوليان" برشيد، وحاول الفرنسيون أن يخرجوا به من مصر مع غيره من الآثار التي وجدوها في أرضها، ولكن هزيمتهم في أبي قير أدت إلى انتقال هذه الآثار ومن بينها حجر رشيد إلى المتحف البريطاني بلندن.
نقشت على واجهة حجر رشيد سطور كثيرة، بقي منها 14 سطرا كتبت بالخط الهيروغليفي في أعلاه، و32 سطرا كتبت بالخط الديموطي في وسطه، و54 سطرا كتبت باللغة اليونانية في أسفله. وحاول قراءة هذه الخطوط عدد من الباحثين، منذ عام 1802، وكان أكثرهم مثابرة أربعة: Akerblad, T. Young, S. De Sacy, And J.F. Champollicn كما كان أكثرهم توفيقا وحظا واستمرارا هو جان فرنسوا شامبليون وانتهت دراساتهم المتفرقة عام 1821 إلى أن نقوش الحجر تضمنت قرارا أصدره المصريون المجتمعون في منف في عام 196ق. م، وشكروا فيه الملك البطلمي إبيفانس على إعفاء معابدهم من تكاليف فرضها أسلافه عليها. وما نود أن ندع شكر الكهنة هذا بغير أن نعقب عليه بحقيقتين، وهما: أن الكاتب المصري كاتب الحجر تعمد أن يجعل كتابته الهيروغليفية المقدسة في أعلى الحجر، وسجل كتابته الديموطية الشعبية في وسطه، ونحى الكتابة الإغريقية لغة الملك البطلمي وبطانته إلى أسفله، وذلك مما قد يعني أن عجز المصريين المادي إزاء حكامهم البطالمة الأجانب لم يمنعهم من أن يتلمسوا كل سبيل يعبر عن قوميتهم الدفينة وينتقم لكرامتهم المغلوبة على أمرها، وذلك على الرغم من أن الحجر قد أقيم في منطقة غلب عليها النفوذ الإغريقي سواء أكان ذلك في رشيد نفسها أم كان قد نقل إليها من منطقة سايس.
أما الحقيقة الثانية فتتمثل في أن ثناء الكهنة المصريين على الملك الأجنبي لم يمنعهم من أن يلمزوه في سياق النص بعبارات ضمنية، كانت منها عبارة تقول "إن الملك ثبت للمعابد ومصر تقاليدها وفقا للقانون" وكأنهم بعبارتهم هذه التي ضمنوها عامدين في سياق شكر الملك لم يروا فيما أثابهم به هذا البطلمي غير تسليم بما يأمر به التقليد أو العرف الواجب والقانون (4).
فقد حجر رشيد عددا كبيرا من سطوره الهيروغليفية، ولكنه تضمن سطوره الديموطية والإغريقية شبه كاملة، ويسر على الباحثين قراءة نصوصه معرفتهم السابقة باللغة الإغريقية، وورود عبارة في النص الإغريقي توصي بكتابة القرار بالكتابة المقدسة أي الهيروغليفية، والكتابة العامة أي الديموطية، فضلًا عن الكتابة الإغريقية، وذلك مما نم عن أن الكتابات الثلاث ليست غير ثلاث نسخ لقرار واحد. ووجد أولئك الباحثون ألفاظا كررت عدة مرات في النص الإغريقي وحاولوا التعرف على مرادفاتها في الكتابة المصرية، ومنها اسم بطلميوس نفسه، وألفاظ المعابد، والكهنة، إلخ. ولما كانت أسماء الأعلام لا تتغير حروفها تغيرا كبيرا بين لغة وأخرى، بدؤوا بالتعرف على مرادف اسم الملك بطلميوس في الكتابة المصرية، ويسر ذلك لهم أن المصريين اعتادوا على تضمين أسماء الملوك في إطارات مستطيلة ملفوفة الأركان يطلق عليها اصطلاحا اسم الخراطيش. وبمقارنة هذا الاسم في نصي اللغتين الإغريقية والمصرية اهتدوا إلى التعرف على مدلول بضع علامات وحروف مصرية. ثم تكررت المحاولة على نقوش مسلة مصرية نقلت إلى بريطانيا في عام 1819 ونشرت صور نقوشها الهيروغليفية ونقوش أخرى إغريقية سجلت على قاعدتها، في عام 1821. وتضمنت هي الأخرى اسم بطلميوس واسم كليوباترة. وبالجمع بين الحروف المشتركة في الاسمين، وضح ثلاثة عشر حرفا ذات اثني عشر صوتا. وكانت محاولات أولئك الباحثين بمثابة مفاتيح أسرار اللغة المصرية التي استغلقت على من سبقوهم قرونا طويلة. واستمرت المحاولات حينذاك لقراءة أسماء مصرية وإغريقية ورومانية، مثل تحوتمس والإسكندر وبرينيكي ودوميشان وتراجان. واتصلت الدراسات بعد ذلك على الآثار وصفحات البردي جيلا بعد جيل، حتى أصبحت اللغة المصرية تعرف اليوم بما لم تعرف به لغة قديمة أخرى من الصحة والوضوح (5).
مر التنقيب عن الآثار الدفينة في عدة مراحل خلال القرن الماضي والقرن الحالي (6). فبدأ بمرحلة شغلت النصف الأول من القرن التاسع عشر، واستغلها طائفة من الأجانب كان أقلهم من المتخصصين العلماء وأكثرهم من الهواة وتجار الآثار بل ومن الأفاقين الذين اجتذبتهم شهرة كنوز مصر وفنونها وعجائبها، وشجعهم استعداد المتاحف الدولية وكبار الأثرياء العالميين على شراء كل ما يعرضونه عليهم منها. وعن طريقهم انتقلت كنوز كثيرة إلى الخارج. وأخذت الحكومة المصرية تهتم بالآثار منذ الربع الثالث للقرن 19، وتنبت فكرة إنشاء إدارة تُعنى بها منذ عهد محمد علي، ولكن هذه الفكرة تعثرت واكتفى الولاة بتخزين الآثار المكشفة في دار بالأزبكية حينا، وفي القلعة حينا آخر، حتى أحيا أوجست مارييت الدعوة من جديد في عهد سعيد، وأنشأت مصر متحفا منظما لأول مرة كان مقره في بولاق عام 1859، وانتقل منها إلى الجيزة، ثم استقر في موضعه الحالي منذ عام 1903، ونشط التنقيب عن الآثار في هذه الفترة بموافقة الدولة، وظهر جيل من الآثاريين واللغويين والمؤرخين، راعوا الحرص حين التنقيب عن الآثار وحين تجميعها، وراعوا الحرص على التعجيل بتسجيلها ونشر أوصافها ودراسة نصوصها. وقدروا الأهمية لكل شيء براقا كان أم غير براق.
وتوالت بعثات المؤسسات العلمية والجامعات الأجنبية منذ عام 1890 إلى مصر، وزاد نشاطها العلمي خلال القرن العشرين. وأسهم معها وبعدها نفر من الباحثين المصريين في مجال الكشف الأثري والنشر العلمي والتحليل التاريخي ممن يعرفهم الجيل الحاضر من خلال سمعتهم ومؤلفاتهم.
وعن طريق كل هذه الجهود، أصبح التاريخ المصري القديم بكل ما فيه من سياسة واجتماع ودين وأدب وعلم وفن، يعرف اليوم بنصيب من الترابط والدقة يزيد إلى حد ملحوظ عن نصيب غيره من تواريخ وحضارات الأمم القديمة الأخرى.
__________
(1) راجع عن التفاصيل: عبد العزيز صالح: التاريخ في مصر القديمة - مفهومه وعناصره وبواعث القومية فيه - القاهرة 1957 - وحضارة مصر القديمة وآثارها - جـ1 - ص233 - 244.
(2) I. Rosellini, L Monumenti Dell' Egitto E Della Nubia,… Pisa, 1832-44.
(3) K.R. Lepsius, Denkmaeler Aus Agypten Und Aethiopien, Berlin, 1849 F.
(4) عبد العزيز صالح: دراسات في التاريخ الحضاري لمصر القديمة - القاهرة 1957 - ص53 - 58.
(5) Jea, 1958, 123; A.H. Gardiner, Egyptian Grammer, 1957, 12-15.
أدولف إرمان وهرمان رانكه: مصر والحياة المصرية - المقدمة ج - د
(6) Glanyille, The Growth And Nature Of Egyptoloy, 1947, G.E. Daniel, A Humdred Yaers Of Archaeology, 1949; F. Li. Griffith, "The Decipherment Of The Hiercglyphs" Jea, Xxxii, 38f.; J.A. Wilson, Sings And Wonders Upon Pharach. 1964; M. Pepe, The Story Of Archaealogical Decipherment, 1975, 60f.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|