أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-03-31
998
التاريخ: 2024-05-27
817
التاريخ: 2024-02-28
954
التاريخ: 10-1-2017
1629
|
عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى من أواخر القرن 23ق. م إلى أواسط القرن 21ق. م"
نهاية دورة:
ورث ببي الثاني العرش طفلًا، فسانده اثنان، أمه وخاله، ويحتمل أن يكون قد حكم أكثر من تسعين عامًا وهي أطول مدة حكمها ملك مصري قديم. وقد سارت أمور البلاد في أوائلها على النهج العادي الذي سارت عليه في عهود أسلافه، وذلك من حيث النشاط الداخلي والخارجي ومن حيث الثراء الملكي من جهة، ثم من حيث ازدياد سلطات حكام الأقاليم واتساع ثرواتهم وثروات رجال البلاط من جهة أخرى، وميلهم جميعًا إلى التحرر في العادات وسبل الحياة، ويحتمل كما يعتقد شتوك أنه أصبح لمصر في عهد ببي وزيران، وزير للصعيد وآخر للوجه البحري.
ولم يخل ازدياد سلطان حكام الأقاليم وازدياد ثرائهم من الدلالة على مظاهر الضعف في الحكم المركزي، فهذا السلطان وإن أدى إلى إبراز شخصياتهم وفردياتهم إلى جانب شخصية فرعونهم وأدى على استفادة الأقاليم بمجهودات المصلحين منهم، وهو أمر محمود، إلى أنه لم يكن خيرًا كله، فقد كان من شأنه لو زاد عن حده أن يجرأهم على أن يختطوا لأنفسهم سياسة ضيقة ينشغلون فيها بأنفسهم وبتوطيد سلطانهم في أقاليمهم، ولو أدى ذلك إلى الانصراف قليلًا أو كثيرًا عن رعاية مصلحة الدولة في مجموعها والصالح العام ككل، وعن مراعاة حقوق الحكومة المركزية في العاصمة. ولم يكن من المنتظر أن يظل كل الحكام على سواء في عدالة الحكم ورعاية شئون الأقاليم، ما داموا بمأمن من رقابة الحكومة المركزية وعقابها، وكان من منطق الحوادث أن تستأثر بعض أسرهم بخيرات أقاليمها دون الغالبية العظمى من أهل هذه الأقاليم. ومعنى ذلك كله أنه كان لازدياد سلطان حكام الأقاليم وجهان، وجه طيب ووجه سيئ، ولم يكن هناك مجال للخوف من وجهه السيئ ما دامت الحكومة المركزية في العاصمة قوية تعمل لصالح الدولة ككل وترعى شئونها، وما دام الحكام يعرفون واجباتهم نحوها ويدينون بالطاعة لها، وقد استمر الحال كذلك خلال العهود الأولى من حكم الأسرة السادسة، ثم تبدل حال الحكومة المركزية وحال حكام أقاليمها في عهودها الأخيرة، وتضخمت العيوب بوجه خاص منذ أواخر عهد ببي الثاني حين طال حكمه واستبدت به شيخوخته فدب الضعف في حكومته وقلت هيبتها وبدأ الزمام ينفلت من يدها. وكان أغلب حكام الأقاليم قد مضوا في طريقهم، فزاد استمساكهم بتوريث مناصبهم لأبنائهم واعتبروه حقًّا مكتسبًا لهم وليس مجرد منحة من ملوكهم. وجعلوا منصب والي الجنوب الذي ابتدعته الحكومة المركزية للإشراف على مصالحها في الصعيد والإشراف على سياسة حكامه منصبًا غير ذي موضوع بعد أن انتحله نفر منهم لأنفسهم في وقت واحد. ومنع بعض حكام الصعيد القصي عن حكومة الدولة نصيبها من موارد أقاليم، فأصبحت شبه عاجزة عن تنفيذ أوامرها وممارسة تبعاتها وحقوقها، وأخذت ظواهر السخط تتجمع ضدها، واستعدت بعض طوائف الشعب للثورة عليها وعلى أوضاع الحياة كلها، لا سيما بعد أن عاث الجنود المرتزقة الذين استعانت بهم في جيشها فسادًا في الأرض دون خشية منها. ولم يتأت الخطر على الدولة حينذاك من الظروف الداخلية وحدها، وإنما دهمها كذلك من خارج حدودها، فتجددت أخطار الهجرات الأمورية بعد أن كانت قد خفت حدتها وانكسرت شرتها مؤقتًا على يدي ونى وجيشه، وتجرأ بدو سيناء وبدو فلسطين على حدود الدولة وهددوا أمن سبل تجارتها مع بقية بلاد الشام، وحرموها بذلك كثيرًا من دخول التجارة وضرائبها، ثم تسرب بعضهم إلى أراضي الدلتا وقراها وحاولوا الاستقرار فيها، وعجزت الحكومة القائمة عن تأديبهم وإلزامهم حدود الطاعة لها.
الثورة الطبقية:
صور نتائج هذه الأوضاع التي انتهت إليها أمور الحكام والمحكومين في أواخر عصر الأسرة السادسة حكيم مصري يدعى إيبوور "أو إبو العجوز". ويغلب على الظن أنه عاش في أواخر عهد ببي الثاني أو في عهد أحد خلفائه الضعاف. ويغلب على الظن أيضًا أنه كان ذا صلة بمناصب الدلتا، وأنه نجح بعد لأي في أن يبلغ صوته إلى أهل البلاط، وربما نجح في مقابلة الفرعون نفسه، وحاول أن يحمله هو وحكومته تبعة ما انتهت إليه أحوال البلاد على أيامه من ضعف ودمار. وحفظ الوطنيون المصريون آراء إيبوور ووصفه لأحداث عصره (1) مما سنعود إلى تفصيله وتحليل عناصره في فصل الأدب. ويكفي أن نذكر هنا أن الرجل صور ثورة عنيفة عارمة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي اشتد فسادها في أيامه. ويفهم من حديثه أنها بدأت بالعاصمة وأنه صحبها في بدايتها شيء من العنف ورغبة التنفيث والانتقام، فنزع الثوار عن ملكيتهم القائمة ما تبقى لها من قداسة شكلية، وأباحوا لأنفسهم أن يتقاسموا أملاكها ومواردها وأملاك أنصارها، وقلبوا أوضاع العاصمة رأسًا على عقب واقتحموا دواوينها ومزقوا وثائقها، "وانقلبت العاصمة في ساعة" على حد قوله، "وانكشفت أسرار ملكية الصعيد والدلتا"، وجرى بعض أهل الأقاليم مجرى أهل العاصمة فهاجموا المتسيطرين عليهم "وقالت كل مدينة دعونا نقصي العتاة من بيننا". ولم تقتصر حملات الناقمين على الأثرياء الأحياء وحدهم، وإنما امتدت كذلك إلى مقابر الأثرياء الموتى الذين نعموا في دنياهم لما لم ينعم به سواهم، ثم رصدوا على أهرامهم ومقابرهم ومعابدهم من الخيرات والأوقاف ما كان الأحياء من أفراد الشعب أولى بمثله.
بيد أنه على الرغم من السوءات التي صاحبت تلك الثورة في بدايتها، ترتبت عليها نتائج أخرى طيبة صور إيبوور بعضها، وكانت أوضحها ثلاثة، وهي:
- أنها استثارت نوعًا من الوعي القومي لدى المفكرين الذين عز عليهم عجزهم عن دفع البلاء عن وطنهم قبل وقوعه، وعز عليهم أنهم لم ينشطوا للتصرف عند ظهور بوادر الخطر ولم يتلافوها، وصعب عليهم أن تنتهك حرمات البلاد وتبتذل مقدساتها الدينية والتقليدية تحت أبصارهم وأسماعهم، سواء بأيدي المهاجرين أم بأيدي المواطنين الموتورين. وعبر إيبوور عن هذا الوعي في صحوة ضميره فقال: "وما أشق ذلك على نفسي، بل وعلى كلي، وليتني رفعت صوتي في ذلك الحين، وإذن لأنقذني ذلك من عذاب لا زلت أعانيه". وحين قابل إيبوور ملكه صور له جهله وحيرة شعبه قائلًا له: "كان من الممكن أن يرتاح قلب الملك لو بلغته الحقيقة، فهذه كل بدل أجنبية "تجرأت علينا"، وهذا ماؤنا "أمامنا"، وهذه سعادتنا "في أرضنا"، ولكن ما الذي نستطيع أن نفعله من أجلها والكل آيل إلى الدمار؟ "، بل وقال له: " ... إن ما يروي لك هو الباطل، فالبلاد تشتعل والناس قد أهلكوا ... " ثم تجرأ الرجل عن الملك وحاسبه قائلًا: "لديك الوحي والبصيرة و"أسباب" العدالة، ولكنك بعثت الفوضى في البلاد مع أهل الفتن". وقص عليه بلاء الناس ثانية، ثم عنف عليه قائلًا له: "وليتك تذوقت بعض هذه المصائب وإذن لرويت "خبرها بنفسك".
- ونتيجة أخرى ترتبت على الثورة، وهي أنها دفعت المفكرين إلى تخيل صورة واضحة للحاكم الصالح الذي يتمناه وطنهم بعد أن جرب الحكم المطلق طوال العصور السابقة، وجرب بعدها سيطرة العوام. وعبر إيبوور عن هذه الصرة المرجوة وهو يخاطب أهل الحاشية، فوصف لهم الحاكم المنتظر بأنه: من يعمل للبناء، ولا يفرق بين جريء وهياب، وصوره "رجلًا يستطيع أن يحيل اللهب بردًا وسلامًا، ويمكن أن يعتبره قومه راعيًا للناس أجمعين، ليس في قلبه ضغينة، وإذا تفرقت رعيته قضى يومه يجمعها"(2).
- أما النتيجة الثالثة التي ترتبت على الثورة بعد أن هدأت وقر قرارها، فهي نشأة طبقات جديدة لم تعد تعتز بالحسب والنسب بقدر ما تمجد العصامية، ويعتز الفرد منها في نصوصه بأنه مواطن قادر يتكلم بفمه "أي يتكلم بوحي نفسه وليس بايعاز من غيره"، ويفخر بأنه يعمل بساعده ويحرث بمواشيه ويتنقل بقاربه "أي يعتمد في عمله وحله وترحاله على ما تمتلكه يداه وليس على ما يمتلكه سواه"(3).
الغموض:
طال تطلع المصريين في أواخر الدولة القديمة إلى ملك صالح يرعى البلاد جميعها ويسوس الحكام والمحكومين ويلزمهم جادة الصواب. وتوالى على عرش الأسرة السادسة في خواتيم أيامها فراعنة ضعاف، ظهر من أسمائهم في بردية اسم لشخصية تدعى "نيت إقرتي"، اختلف المؤرخون في شأنها اختلافًا كبيرًا، فاعتبرها بعضهم أم ببي الثاني أو زوجته أو أخته، واعتبرها بعضهم رجلًا أتى بعده، واعتبرها بعضهم امرأة انتهت إليها وراثة العرش في آخر أيام الأسرة السادسة (4). ويعتقد أصحاب هذا الرأي الأخير أن هذه السيدة هي التي اشتهرت لدى المؤرخين المتأخرين باسم نيو كريس، وأنها استطاعت أن تنفرد بالحكم عامين، غير أن أيامها انتهت أثر يذكر لها إلا انهيار العرش الفرعوني بعدها. ثم دخلت ذمة الأساطير. ويبدو أنها تلقبت بلقب منكارع، فخلط المؤرخون المتأخرون بينها وبين منكاروع ونسبوا إليها إكمال هرمه. وعرفت أميرة أخرى بنفس اسم نيت أقرت في الأسرة السادسة والعشرين، وكانت ابنة بسماتيك الأول. ويحتمل أن سمعتها اختلطت في أذهان الناس والمؤرخين الأواخر بسمعة نيت إقرتي القديمة. وروى مانيتون أنها كانت أنبل وأجمل أهل زمانها. وروى هيرودوت أنه سمع من المصريين عنها أنها كانت ذات جمال طاغ، وأنها وليت العرش بعد مقتل زوجها، فاتجهت بكليتها إلى محاولة التعرف على قاتليه والفتك بهم، وكادت لهم طويلًا ولجأت في خطتها الأخيرة إلى أن أعدت بهوًا فخمًا ضخمًا في باطن قصرها، وأمرت بحفر سراديب خفية حوله تصله بنهر النيل، واستبقت أمر هذه السراديب سرًّا لا يعلمه إلا خاصة المقربين إليها، ثم دعت من حامت الشبهات حولهم في مقتل زوجها إلى افتتاح البهو الجديد، فلما اكتملت أعدادهم فيه وانصرفوا إلى اللهو والشراب، أمرت بفتح السراديب عليهم وأغرقتهم أجمعين. وحين ثابت الملكة إلى رشدها وهدأت الحمية فيها، تخوفت نقمة شعبها وثورته على فعلتها، فرمت نفسها في أتون متأجج من النار وقضت على نفسها بنفسها.
قد تكون قصة "نيت إقرتي" هذه، أو نيتوكريس، أسطورة مختلفة في معظمها، ولكنها على الرغم من ذلك لا تخلو من مغزى، فترديد الرواة المصريين لها أمام الإغريق ينم في أغلب الظن عن اعتزازهم بعصر قديم كان الملوك يخشون فيه انتقام رعاياهم ويفضلون أن يلاقوا حتفهم بأيديهم عن ملاقاة ثورتهم وبطشهم.
لم يكتنف الغموض أواخر الأسرة السادسة وحدها، وإنما اكتنف عصرًا طويلًا تلاها استمر نحو قرن ونصف قرن وامتد من أعقاب الأسرة السادسة حتى نهاية الأسرة العاشرة وهو ما يعرف اصطلاحًا باسم عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى، وبدا فيما يظن في أواخر القرن الثالث والعشرين ق. م (5). وظل النزاع على العرش بين أدعياء الحكم والطامعين فيه مستمرًا في أوائله وذلك بحيث روى مانيتون أنه تولى الحكم في عصر الأسرة السابعة سبعون ملكًا لمدة سبعين يومًا. ومع وضوح الغرابة في هذه الرواية، حاول بعض الباحثين المحدثين أن يستشفوا شيئًا منها" فافترضوا أن السبعين ملكًا كانوا مجموعة من كبار الموظفين كونوا من أنفسهم حكومة بيروقراطية ترأسها كل منهم يومًا واحدًا، أو جماعة من الأشراف وكبار حكام الأقاليم كونوا فيما بينهم حكومة أرستقراطية وأرادوا إقامة حكم مشترك يتعاقبون في رئاسته على التناوب ولكنهم فشلوا. ولكن ليس ما يمنع من أن نفترض من ناحيتنا أن السبعين يومًا كانت فترة اضطراب شامل خلا العرش فيها من صاحبه فانتحل كل حاكم من حكام الأقاليم الكبار السلطان المطلق لنفسه، مع اعتبار عدد السبعين ملكًا مجرد مبالغة عديدة لتصوير كثرتهم وحيرة الناس بينهم.
وبدأت أيام الأسرة الثامنة واستمرت على نفس الضعف الذي انتهت إليه أيام الأسرة السادسة وقامت عليه الأسرة السابعة, ولا يكاد يعرف من آثارها المكتوبة غير عدة نصب عثر عليها في منطقة قفط لأسرة حاكمة سيطرت فيها على سبعة أقاليم من جنوب الصعيد لمدى أربعين عامًا فيما يعتقد الأستاذ كورت وزيته (6). ثم ما لبثت أن تسربت زعامة الصعيد منها إلى أيدي حكام إقليم طيبة في نفس الوقت تقريبًا الذي انتقلت فيه زعامة مصر الوسطى من أيدي من بقي من ملوك منف الضعاف إلى أيدي حكام أهناسيا غربي بني سويف الحالية.
وهكذا استمر تطلع أهل العواصم المصرية إلى حاكم أعلى يجمع شمل البلاد ويحقق الأمل الذي نادى بمثله إيبوور، عهودًا طويلة، وإن ظهر عدد من حكام الأقاليم حاول كل منهم أن يقوم بدور الحاكم الصالح في إقليمه، في إقليمه، واعتبر نفسه شبه ملك في حدود منطقته، وأرخ بعضهم نصوصه باسمه وبفترة ولايته. وافتخر أغلبهم في نصوصهم بمحاولة حل ثلاث مشكلات كانت تقلق بال الناس في عهودهم، وهي: مشكلة اضطراب الأمن، ومشكلة تطهير الترع القديمة وحفر ترع جديدة وإصلاح الأراضي البور التي هجرها أصحابها، ثم مشكلة المجاعات التي تسببت فيها المشكلتان الأوليتان. وافتخر أغلبهم في نقوش مقابرهم بأنه اعتبر نفسه زوجًا للأرمل وأبًا لليتيم، وأنه آوى من لا عائل له ودفن من لا أهل له. وقد لا تخلو هذه العبارات من مبالغات، ولكنها لا تخلو في الوقت ذاته من دلالة على محاولة الحكام اكتساب السمعة الطيبة لأنفسهم واكتساب محبة الرعية لحكمهم عن طريق الظهور بمظهر الآخذين بتعاليم الدين والعاملين بدعوات المصلحين.
وحين استأثر أولئك الحكام الكبار بالسلطة الواسعة في أقاليمهم، من النواحي الإدارية والقضائية والدينية، جعل بعضهم وراثة الحكم في أعقابهم قضية مسلمًا بها، وترتب على ذلك ما يترتب على نظام الحكم الوراثي عادة من احتمال ولاية وريث الحاكم منصبه في سن الطفولة، فكان من رواية تفيبي حاكم أسيوط عن إيكاله الحكم إلى ولده قوله: " ... خلفني ولدي، وخضع له الموظفون، وحكم منذ أن كان طفلًا في طول الذراع ورحبت به المدينة التي تحفظ الجميل... " (7). وكون كل حاكم من أولئك الحكام جيشًا محليًّا وأسطولًا محليًّا بما يناسب إمكانيات إقليمه، وصورت مناظر مقابرهم كثيرًا من مناظر الحرب والاستعداد لها (8)، وعثر على مجموعتين من تماثيل صغيرة أو نماذج خشبية تمثل بعض الجيش الإقليمي لحاكم من أسيوط يدعى مسحتى. وتألفتا من مجموعة تسلح أفرادها بالحراب والتروس الكبيرة، ومجموعة أخرى تسلح أفرادها بالأقواس والسهام. وكان أفراد هذه الحاميات يلقون معاملة طيبة من حكامهم، ويدربون تدريبًا مناسبًا، ويضمون أحيانًا مرتزقة من النوبيين لحراسة الحواف الصحراوية غير أن وجودهم تحت إمرة حكام الإقليم مباشرة كان يشجع هؤلاء الحكام على التنافس المسلح فيما بينهم ويدفع أقوياءهم إلى محاولة السيطرة على أصحاب الإمكانيات المحدودة من جيرانهم.
انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:
قامت أعنف أدوار التنافس التي سجلتها أخبار هذا العصر بين حكام طيبة وبين حكام أهناسيا. وكان حكام طيبة الذين يبدو أنهم انتقلوا إليها من مسقط رأسهم أرمنت، قد حاولوا أن يرثوا زعامة الصعيد بعد أن ولت عنه زعامة فقط، واشتهر أوائلهم باسم الأناتفة، نظرًا لتسمي أغلبهم باسم إنتف، أو إينتوف . وكانوا على جانب من الحذر، فلم يدعوا لأنفسهم في بداية أمرهم ملكًا صريحًا ولم يتلقبوا بألقاب الملوك واكتفوا لأنفسهم بألقاب الإمارة. وبلغ من حيطتهم أن هادنوا تلك الأسرة القوية التي أسلفنا أنها ظهرت وحكمت في مدينة أهناسيا بمصر الوسطى، وربما اعترفوا اعترافًا ضمنيًّا بسيادتها أو على الأقل لم ينازعوها سيادتها بعد أن تبينوا أنها فاقتهم سلطانًا وقوة وأنها استطاعت أن تمد نفوذها إلى منطقة منف ذاتها.
وشجع هذا الوضع حكام أهناسيا على أن يتخذوا صفة الفراعنة، واعتبروا أنفسهم خلفاء لملوك منف، واستحبوا تعظيم الإله رع والإله أوزير. وتعاقبت فيهم على هذا الوضع أسرتان حاكمتان، تعرفان اصطلاحًا باسم الأسرتين التاسعة والعاشرة. وأسس أولاهما الفرعون خيتي "الأول"، ويبدو أنه بدأ حكمه بنوع من الشدة، قصد به تأييد ملكه والذود عنه، شأنه في ذلك شأن أغلب مؤسسي البيوت الحاكمة. وروى عنه أحد أحفاده أنه كان يبرر شدته بقوله: "إن الرب نفسه ينتقم ممن يعادي معبده" (9). ورددت أجيال المناهضين له من المصريين أخبار قسوته وضخمت فيها، إلى حد أن وصفه المؤرخ المصري مانيتون بأنه كان أكثر الملوك المصريين ظلمًا وأنه كان متجبرًا، وأنه لقي جزاءه بأن جن في نهاية عمره وافترسه تمساح. ومهما يكن في هذه الرواية الأخيرة من خيال، فهي لا تخلو من دلالة على إيمان راويها بأن عواقب القسوة أو الظلم لا بد وأن تعود بالشر على رؤوس أصحابها.
وظل حكام مصر الوسطى وما حولها على حالهم من الاستقلال الداخلي، في ظل ملوك أهناسيا، وظلوا على تفاخرهم بأعمالهم في الوقت نفسه، وأشبع فيهم أهل أقاليمهم حبهم للشهرة، فمدح أحد كتبة أسيوط خيتي بن تفيبي الذي كان يتفاخر بأنه سليل حاكم وابن بنت حاكم، وبقوله: "ما أجمل ما تم في عهدك، لقد رضيت المدينة بك، وما كان مستغلقًا على الناس جعلته مكشوفًا مباحًا من تلقاء نفسك، عن رغبة منك في إسعاد أسيوط، لقد جعلت كل موظف يستقر في منصبه، وما عاد أحد يقتتل أو يطلق سهمه، ولم يعد الطفل يلقى حتفه بجوار أمه ولا مواطن بجوار زوجته، بعد أن هداك رب مدينتك الذي أحبك (10). وقد حدث ذلك في أغلب الظن بعد فترة ما من الفوضى تكررت فيها المشكلات التي أعلن نجاحه في وقفها.
وربط ملوك أهناسيا حكام الأقاليم بهم عن طريق مرونة السياسة، واتبعوا في ذلك وسيلة بعض ملوك الدولة القديمة في تربية أبناء الحكام الكبار في قصورهم بغية أن يشربوهم ولاءهم وأن يشبوا أوفياء لهم. وكانوا يجاملون أولئك الحكام في الملمات ويشاركونهم المسرات؛ بغية أن يردوا الجميل مضاعفًا. فأشار أحد نصوص أسيوط إلى أنه عندما توفي حاكمها "بكى الملك "في أهناسيا"، وبكى أهل مصر الوسطى والدلتا، واجتمع الملك والنبلاء حين دفنه". بل وسمح الملك لابنة المتوفى بأن تتولى شئون أسيوط في طفولة ولدها وحفيده، ثم ربى هذا الحفيد في قصره. وقال الحفيد وكان يدعى خيتي (11): "سمح الملك لي بأن أتولى الحكم ولم أكن قد تعديت الذراع طولًا، ورفع منزلتي في شبابي، وسمح بأن أتعلم السباحة مع الأمراء، ولهذا أصبحت رجلًا صادق الرأي براء مما يسيء إلى مولاه الذي رباه طفلًا. ونعمت أسيوط بحكمي وأثنت على أهناسيا "نفسها"، وقال عني أهل مصر الوسطى والدلتا: تربية ملك ... "، ثم وصف نتيجة تربية الملوك هذه بنشاطه الاقتصادي في حفر الترع وزيادة أنصبة المزارع من المياه مع إشرافه على تنظيمها، وتعيين سقاءين لتوزيع المياه على البيوت في المدينة، وتموين أهلها في أوقات العسر وتخفيف الضرائب عنهم.
أعقب خيتي الأول ملك أهناسيا، عدة ملوك يصعب تعيين عددهم عن يقين. ثم أعقبهم فرع آخر من أسرتهم عرف اصطلاحًا باسم الأسرة العاشرة، وعندما تبلورت آمال هذه الأسرة ومضت تبغي الاتساع وازدادت أطماعها، كان حكام طيبة بدورهم قد أحسوا البأس والقوة من أنفسهم، فتخلوا عن حذرهم القديم وتطلعوا إلى اتخاذ ألقاب الملوك عوضًا عن ألقاب الإمارة القديمة. وهنا انتقل التنافس بين طيبة وبين أهناسيا من طوره السلبي إلى طوره الإيجابي، واستمر نحو ثمانين عامًا. وكانت سياسة أهناسيا إزاء حكام الأقاليم الموالين لها قد آتت ثمارها، فنفعوها في تنافسها، واعتادوا على أن يؤكدوا في نصوصهم ولاءهم للقصر الملكي وإن لم يذكروا اسم الملك غير مرات نادرة. وكان من أكبر أولئك الحكام: حكام أسيوط، وبني حسن، وأخميم، والأشمونين، وحتنوب، وحاول هؤلاء الحكام بدورهم أن يحببوا فيهم أهل أقاليمهم بغية اتخاذهم عونًا حين الشدائد، فقال حاكم أسيوط تفيبي في نصوص مقبرته: "استمعوا إلى أهل الغد، لقد كنت سخيًّا مع الناس جميعهم ... سديد الرأي، نافعًا لبلده، سمحًا مع الشاكي، إذا جن الليل "اطمأن" النائم في الطريق ودعا لي وأصبح شأنه شأن من نام في داره تحرسه هيبة عسكري ... " وأعلن الرجل مبدأ أهم من هذا، فأعلن إيمانه بأن الشخص النبيل هو الذي يستطيع أن يتفوق بمآثره على مآثر أبيه، وأن جزاءه على ذلك سوف يكون الرحمة في الآخرة، وتمكين الحكم في أسرته بحيث يرثه ولده في قصره، فضلًا عن حسن سمعته في بلده، وتعظيم الناس لتمثاله بعد موته "حين يحمل في المواكب العامة"(12).
وعملت طيبة من ناحيتها على أن تجمع الأحلاف حولها، وربما نجحت في ذلك بعض الشيء، ولكنها اعتمدت أكثر ما عتمدت على حصانتها الطبيعية وعلى صلابة رجالها الصعايدة وعلى إذكاء روح الأمل والطمع فيهم، إلى جانب وفائهم لإله الحرب مونتو وعملهم على إعلاء شأن الإله أمون.
وبدأ النزاع بين البيتين الطيبي والأهناسي على صورة مستترة، ثم اتخذ صورة عدائية مكشوفة، وتخللته معارك متقطعة على البر وعلى متن النيل. وظلت الحدود بين الطرفين خلافه بين مد وجذر. ولا زالت خطوات هذه المعارك غامضة إلى حد كبير(13). ولكن يبدو أن مراحلها الأولى انتهت بانتصار خيتي الثالثة "أو الرابع" ملك أهناسيا على معاصره ملك طيبة مونتو حوتب "الأول" بعد أن دارت بين جيشيهما معارك عدة في منطقة ثني أدت إلى تخريب جبانتها القديمة أبيدوس وبعض أماكنها المقدسة وانتهت بسيطرة أهناسيا عليها حوالي عام 2065ق. م.
وشجع هذا النصر خيتي على نشاط حربي آخر أوسع أثرًا وأكثر أهمية، حاول أن يطهر به أراضي الدلتا من البدو والأموريين الذين تسربوا إليها منذ أواخر الدولة القديمة وحاولوا أن يتخذوا مصر دار إقامة، وتطبعوا بالعادات المصرية، وجمعوا بين أسمائهم وبين الأسماء المحلية، وربما انتحل كبارهم لأنفسهم ألقاب الفراعنة وقد عبر عن هذه الوضع اسمان لحاكمين لا يخلوان من لكنة أمورية، وهما "خندي" الذي تلقب باللقب المصري نفر كارع و"ترورو" أو تلولو الذي تلقب باللقب نفسه (14). واستخدم أولئك المهاجرون المتمصرون أختامًا خشنة الصناعة والنقش هرمية الشك تشبه الأزرار، وجد لها ما يماثلها في الشام والحوض الشرقي للبحر المتوسط (15). ولكن ظل المصريون خارج الدلتا وربما في الدلتا نفسها، ينكرون على البدو المتمصرين سيادتهم، فاستغل خيتي هذه الروح، ونجح مع جيشه في إبعاد الأموريين وكسر شوكة بعضهم الآخر.
ولما أحس الرجل دنو أجله استجمع تجاربه في الحرب مع الطيبيين وتجاربه في الحرب مع البدو الأموريين وتجاربه في الحكم والسياسة، وآراءه في الدين، وجعلها على هيئة التعاليم ونصح ولده وولي عهده مريكارع بأن يأخذ بأفصلها ويتجنب مواطن الزلل فيها (16).
روى خيتي لولده مريكارع قصة حربه مع الطيبيين في منطقة ثني وجبانتها أبيدوس. وندم على ما أتاه فيها وما ترتب عليه من تهديم أماكنها المقدسة، واعترف بخطئه، وكان أسلافه ينزهون أنفسهم دائمًا عن الخطا. ودعا ولده ألا يفعل مثل فعلته، وأوصاه بأن يهادن الصعيد حرصًا على الهدوء الداخلي في مملكته، ورغبة في تأمين سبل التبادل وسبل المواصلات وسبل التجارة مع أهل الجنوب، وحتى لا يستغل الآسيويون فرصة انشغاله بالحرب الداخلية ويثورون ضده أو يهاجمونه في عقر داره، على حد قوله (17).
وصور خيتي الطريقة التي اتبعها لإضعاف البدو المهاجرين وإجلائهم عن الدلتا، ودعا ولده إلى أن يترسمها، وجعل لهذه الطريقة شقين، أولهما الاهتمام ببث الروح الحربية في البلاد والعناية بمجنديها الشبان، وقال له في ذلك: "انهض بجماعة الشبان تحبك العاصمة، وزد أتباعك من الرعية، ولاحظ أن بلدك عامر بنشء غض في سن العشرين، وأن الجيل الناشئ ليسعد بمن يستوحي ضميره، "فإن فعلت ذلك وحكمت ضميرك" قلدك العامة وأتاك رب كل أسرة بأبنائه راضيًا، فبهذه السياسة حارب القدماء من أجلنا منذ أن رفعت أنا شأنهم، فارفع إذن شأن نبلائك، وعظم محاربيك، واسبغ الخير على جيل الشباب من أتباعك، واحرص على أن يتزودوا بالعطايا ويطمئنوا بامتلاك الأرض، ويكافئوا بالأنعام" (18).
ولا ندري هل كانت سن العشرين التي أشار خيتي إليها هي سن التجنيد أم لا، ولكننا نتبين في سياسة تزويد الجنود الشبان بالأراضي والنعم سياسة حكيمة تجعلهم يدافعون عن أرض لهم نصيب فيها وتطمئنهم على مستقبل أهلهم إن استشهدوا من أجلها.
أما الشق الآخر من سياسة خيتي في مكافحة البدو، فهو التضييق عليهم والحد من أخطارهم عن طريق إنشاء مدن محصنة على حواف الصحراء وعلى الحدود وتعميرها بخير الرجال يسكنونها ويزرعون ما حولها ويتحصنون بها حين الشدة ويصدون منها غارات أهل البادية، وقال له في ذلك: "لا تتهيب العدو فهو لا يغير إلا على الموطن المنعزل ولا يجرأ على مهاجمة مدينة عامرة بالسكان". ثم شجعه على اتباع سياسته وقال له: "أقم الحصون في كل المناطق الشمالية. ولاحظ أن سمعة الرجل فيما يفعله ليست بالشيء الهين، والبلد العامر بالسكان لن يمسه سوء، فابن مدنًا". ثم هون عليه شأن أعدائه البدو وضعف حيلتهم في عبارات أخرى تدل على معرفته بعاداتهم وأحوال المناطق التي يعتصمون بها وتتوافد هجراتهم منها، قائلًا له: "هذا هو شأن البرابرة، فالعدو اللعين موطنه وعر، وماؤه آسن، حزون بكثرة غاباته، سيئة طرقاته بما يكتنفها من المرتفعات، ولذلك لم يستقر في مكان واحد، واستمر دائم الترحال، وظل يشاغب منذ عهد "الإله" حور، فلا هو يغلب ولا هو يغلب" (19).
ازدهار الفردية:
ليس من شك في أن المنازعات بين البيت الأهناسي والبيت الطيبي لم تكن في مصلحة البلاد دائمًا بعد أن أصبح بأس أهلها شديدًا بينهم، ولكن نتائجها تعنينا على الرغم من ذلك من ثلاث وجهات، وهي:
أولًا- أنها زكت الروح الحربية وروح النضال المنظم في حياة خاصة المصريين وعامتهم، على الرغم من أنها كانت على حساب بعضهم بعضًا، فأصبح الرجل منهم يفخر في نصوص مقبرته بأنه رب للسيف، وأنه جريء يوم الصدام، وأنه كان شديدًا بقوسه جريئًا بسيفه عظيم الهيبة بين جيرانه. ويرى أن ذلك يزكي سمعته وسمعة أسرته إلى أبد الآبدين. وتلك روح وثابة أضيفت إلى روح العصامية التي تمخضت عنها الثورة الطبقية في نهاية الدولة القديمة.
ثانيًا- أنها زادت من شعور الملوك الطيبيين والأهناسيين، بحاجتهم إلى رعاياهم والتماس تأييدهم، وزادت ما بينهم وبينهم قربًا. وعبر خيتي عن هذا الإحساس وهو يوصي ولده ويزوده بخلاصة تجاربه في الحكم والسياسة، فأوصاه بمبدإ يعتبر من أنبل المبادئ التي تمخضت عنها الثورة الاجتماعية في نهاية الدولة القديمة واحتفظ بها الانتقال، وحضه فيه على أن يقدر الفردية لذاتها قائلًا له: "لا تفرق بين ابن النبيل وابن فقير الأصل، وتخير الفرد بكفايته". وأوصاه بأن يلتزم القدوة الطيبة قائلًا له: "قل الحق في قصرك يخشاك عظماء الأرض، فاستقامة الخلق أليق بالحاكم". ثم أوصاه بالعدالة، وقال له: "إلزم العدل تخلد على الأرض، واحذر أن تعاقب خطأ، فالقتل لن يفيدك، ولكن عاقب بالضرب والحبس، وبذلك تزدهر "أحوال" البلاد، فيما عدا المتآمر، فالإله يقدر خبثه ويطلب دمه جزاء جرمه".
وأراد أن يبين له أن الناس سواسية أمام خالقهم، وأن على الملكية واجبات توازي حقوقها، وأن كل راعٍ مسئول عن رعيته، فقال له: "البشر رعايا الإله، خلق السماء والأرض بما يشتهون، وأجرى المياه دافقة، "من أجلهم". وأرسل لهم النسمات كي يحيوا بها. هم أشباه له، صدروا عن بدنه، وهو يتجلى في السماء ليلبي ما يرغبون فيه. ويخلق العشب والأنعام والطير والأسماك حتى يقتاتوا بها. ويبشر بالفجر لنفعهم، ويعبر السماء ليراهم، وإذا بكوا سمع ولباهم. وهو الذي تعهد الحكام منذ الصغر من أجلهم ورفعهم "درجات" ليكونوا سندًا لظهور ضعفائهم" (20). وما نظن أن شعبًا آخر بلغ هذا المبلغ في تكريم الإنسان والاعتراف بحقوق المحكومين في مثل ذلك العصر البعيد الذي سبق عصرنا بأكثر من أربعة آلاف عام.
ثالثًا- أنها كانت من عوامل تشجيع المصريين على إعلان عقائدهم الخاصة وآرائهم في مذهب أسلافهم، بالنقد تارة، والمدح تارة، ورغبة التعديل تارة أخرى. فقد ترتب على اهتزاز الأوضاع القديمة في سبيل البحث عن وضع جديد، كما ترتب على اعتداء بعض الثوار في أواخر الدولة القديمة على الأهرام والمقابر وتخريبهم لها ونهبهم محتوياتها وتعطيلهم شعائرها، بل وجرأتهم على معابد أربابهم أحيانًا (21)، أن ظهرت بين المصريين أربعة اتجاهات عقائدية متمايزة: اتجاه متشكك متطرف شك أصحابه في مقومات الخلود التي آمن أسلافهم بها وشادوا الأهرام والمقابر من أجلها، ورتبوا الشعائر والقرابين لصالحها، بل وشكوا في عقيدة الخلود نفسها، واتجاه متطرف آخر يقابله أخذ به المتزمتون الذين برموا بأصحاب الاتجاه الأول ورموهم بالكفر، وغلب التشاؤم على نظرتهم إلى الحياة الدنيا وأحوالها، ثم اتجاه ثالث محافظ أصر أصحابه على عقائد أسلافهم في الخلود ومقوماته وقرابينه ودعواته وإن لم يأبوا أن يضيفوا إليه جديدًا يزكيه. وأخيرًا اتجاه رابع متطور آمن أصحابه بأن الخلود حق لا شك فيه ولكنهم آمنوا في الوقت نفسه بأن سعادة الفرد في أخراه ليس من الضروري أن ترتبط ببناء المقابر الفخمة أو مواصلة تقديم القرابين وترتيل الدعوات وإقامة الطقوس التقليدية، بقدر ما ترتبط بصلاح أعمال الإنسان في دنياه وإيمانه بعدل أربابه في أخراه مع أدائه واجباته إزاءهم في الوقت نفسه.
وبدأ تيار التشكيك منذ أيام الثورة الطبقية، وعرب عنه إيبوور حينذاك بقوله: "يقول المنفعل: لو علمت أين الرب لعملت له" (22). ثم استمرت موجة الشك في طريقها، وخلف بعض المتشككين والناطقين بلسانهم مواويل سائرة كانوا يرددونها في تنغيم، ويدعون المترفين فيها إلى التمتع بمباهج الحياة الدنيا ما وسعهم إلى ذلك من سبيل، دون قلق على الآخرة وما يصيبهم فيها. ويمكن ترجمة بعض فقرات هذه المواويل بأسلوب عادي يتفق مع أسلوب أصحاب الموال المعاصر، مع تصرف يسير (23). فقد ردد أحد رواتها مواله على أنغام الجنك في حفل أقيم لذكرى أمير عزيز، قائلًا بعد أن مدح صاحب الذكرى " ... أجساد تروح وأجساد جاية من زمن الأوائل. ياما سمعنا الكثير من كلام الحكما أمثال إيمحوتب وددف حور. لكن فين الحكما، وفين ديارهم؟ انهدت جدرانهم وطاحت مساكنهم، وما عاد منها كيان، راحوا وما عاد منهم حد، راحوا وما حكى لنا عن حالهم حد، ولا حكى لنا عن مطالبهم حد، ولا طمنا عليهم حد. افرح، وخل قلبك ينسى يوم نعيك، وارض نفسك طول العمر، ادهن رأسك والبس الكتان وتعطر، تمتع بيوم الهنا ولا تمله، ما حد راح وخد معاه حاجة، وما حد راح وعاد تاني. اللي مات قلبه ما سمع صراخ حد، والنعي ما خلص من الآخرة حد" (24).
وبدأت الموجة المناقضة للأولى، أي موجة التزمت والتشاؤم واليأس من الدنيا، منذ أيام الثورة أيضًا، وعبر إيبوور عن ظهورها بانتحار بعض الناس غرقًا، وسخط الأطفال على ولادتهم، ورغبة الجميع في فناء العالم كله حتى تستريح الأرض من الضجيج على حد قوله. واستمرت هذه الموجة في طريقها، وعبر عنها بعد ذلك حوار سجله أديب مصري على بردية بين رجل سئم عيوب الحياة في عصره، وبين روحه، جاعلًا الروح تتحدث في هذا الحوار كأنها شخص مستقل. وبدأت المناقشة بين الرجل وروحه بأن أعلن لها ضيقه بمساوئ عصره، بينما أعلنت هي رضاها بدنياها ونصحته بأن يترك ما بعد الموت لما بعد الموت "وكأنها تناصر الاتجاه الأول الذي صورناه". ولما احتدم الجدل بينهما تحدته أن يحرق نفسه وينتحر إذا كان جادًّا في ضيقه بالحياة، ولكنه تردد وظل كل منهما يحاور الآخر ويداوره، حتى اضطر إلى أن يهادنها قليلًا، وهنا قصت عليه مثلين من مصائب الناس في فقد أولادهم وفقد ثرواتهم، لعلها تخفف عنه بلواه. كما قص هو عليها ما دعاه إلى الضيق بالحياة، ويبدو أنه كان قد تكفل بدعوة بين الناس ولكنه لم يجد بينهم سمعيًا ولا مجيبًا، بقدر ما وجد منهم من أساءوا إليه وشوهوا سمعته، ثم قص شكواه في ثلاث قصائد، بدأ كل قصيدة منها ببدايات متشابهة، وأخيرًا عاوده اطمئنانه فراح يؤكد لها في قصيدة رابعة إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب فيها وحسن المآب وعدل الأرباب، مما سنعود إلى تفصيله في حديث الأدب.
واستمر أصحاب الاتجاه الثالث المحافظ على عقائد أسلافهم، وكانوا أكثر عددًا ممن سواهم، وقد اعتبروا حوادث التخريب والشك حوادث عارضة، فظلوا يعنون بمقابرهم وموتاهم وقرابينهم، وسجلوا على توابيتهم دعوات كثيرة اقتبسوا بعضها من دعوات كهان الدولة القديمة، واقتبسوا بعضها من متون الأهرام، ثم ألفوا بعضها الآخر بما يناسب عصرهم ويناسب الأماني التي أصبحوا يرجونها لأنفسهم ولأهلهم في دار الآخرة. وتعرف هذه الدعوات اصطلاحًا باسم "متون التوابيت". ولعل أهم تجديداتها هو تلقيب كل متوفى بلقب أوزير؛ أملًا في أن ينعم في عالم الآخرة بما نعم به ربه أوزير، وأن يخلد فيها مثل خلوده. وكان في هذا التجديد تطور ضخم المدلول، فقد كان التلقب بلقب أوزير قاصرًا في الدولة القديمة على الفرعون المتوفى وامتيازًا دينيًّا له وحده، فلما زلزلت أركان الملكية في أواخر الدولة القديمة واقتسم سلطانها كبار حكام الأقاليم، تجرأ هؤلاء الحكام على اقتسام امتيازاتها الدينية أيضًا، فأصبحوا يرجون لأنفسهم في الآخرة ما كان الفراعنة يرجونه لأنفسهم، وتلقبوا مثلهم بلقب أوزير، وقلدهم في ذلك كبار الموظفين وكبار الكهان، ث ر الأوزيري شيئًا فشيئًا أملًا مشاعًا لكل إنسان.
وبشر هذا الاتجاه الأخير بالاتجاه الرابع المتطور وقد عبر عنه خيتي فرعون أهناسيا بنفسه قائلًا لولده وهو ينصحه بمذهبه في الدين وتقديم القرابين: "أصلح مكانك في العالم الآخر بالاستقامة وأداء العدالة ... فإن قلوب "الأرباب" ترتاح إليهما. وإن طباع رجل قويم السريرة أكثر قبولًا عند الرب من فحل "يقدمه إليه" رجل اعتاد الشرور... واعمل لربك يعمل لك بالمثل" "اذكروا الله يذكركم". ثم نصحه بمذهبه في البعث والحساب، قائلًا له: "لا تثق في امتداد السنين، فإن "قضاة الآخرة" يرون العمر كأنه ساعة، واذكر أن الإنسان يبعث ثانية بعد وفاته وتوضع أعماله على هيئة الكوم بجانبه. وأن الحياة هناك معناها الخلود. وأن الغبي هو من يستخف بها، وأن من بلغها دون أن يرتكب إثمًا سوف يعتبر فيها كأنه معبود ويسير "فيها" كأرباب الخلود (25). وكان من الطبيعي أن يظل هذا الاتجاه الرابع الواعي هو اتجاه القلة المستنيرة من المصريين دون كثرة المتشككين والمتزمتين والمحافظين. وعلى أية حال فثمة حقيقة واضحة يمكن أن تستنتج من كثرة هذه الاتجاهات، وهي دلالتها على مرونة العقائد المصرية القديمة وعدم التزامها صفة الجمود التي اعتادت أغلب المؤلفات الحديثة على أن تلصقها بها.
أسهبنا في الاستشهاد ببعض المثل العليا التي تضمنتها تعاليم خيتي في العصر الأهناسي، أو على الأصح بعض المثل العليا التي كان المصلحون ينادون بها في عهده. غير أنه لم يكن من المتوقع أن تطبق أمثالها في الحياة العامة بحذافيرها أو يلتزم الحكام بها التزامًا تامًّا فيما بينهم وبين المحكومين، وإنما كان شأنها شأن المثل العليا في كل مجتمع وزمان، بل وشأن المثل العليا في كل الأديان، ينادي المصلحون بها ثم يتفاوت الناس في مقدار تطبيقهم لها. وقد صورت هذه الأوضاع بشقيها، أي المثل العليا ومدى تطبيق الحكام لها، قصة تسمى اصطلاحًا باسم قصة "القروي الفصيح" ألفها أديب في العصر الأهناسي أو فيما بعده بقليل؛ ليصور بها ما هو كائن فعلًا في عصره من أوضاع الحكم والإدارة، ويعقب عليها بما يرجو المصلحون أن يسود عصره من أوضاع مستحبة بين الحكام والمحكومين، مما سوف نعرضه في تفصيل في حديث الأدب.
__________
(1) Papyrus Laiden, I, 344 Rt, ; A.H. Gradiner, the Admonitions of an Egyptian Sage, Leipzing, 1909.
(2) راجع عن أرقام سطور العبارات المقتبسة من بردية إييوور ومراجعها مؤلفنا عن: حضارة مصر القديمة وآثارها - ج1 ص394 - 399.
(3) Cf, J. Clere, J. Vandier, Textes De La Premier Periode Intermediaire, 1948.
(4) Turin Pap Iv, 7 "Or Iv, 8" ; Herodotus, Ii, 100 ; P.E. Newberry, Jea, 1942, 51 F; Gaidner, Egypt of the Pharaohs, 102.
(5) For Further Discussions, Jnes, 1952, 113 F.
(6) K. Sethe. In Gottingen Gelehrte Anzeigen, 1912. 705 F.
(7) Siut, Iii ;A. R., I, 395, See Alseo 413.
(8) Ibid., I, 410-11; Winlock, Bull. Metr. Mus., 1928, Ii, 11 F.
(9) Pap. Petersburg, 1116 A, Rt, 109-110.
(10) A.R., I, 404.
(11)Ibid., 407-413; Bruner, Die Texte Aus Den Graben Der Hierakleopoliten Zeit Von Siut, V, 20 F.
(12) A.R., I, 395.
(13) See. Winlock, the Ries and fall of the Middle Kingdom in Thebes, 10 F.; Baly, Jea, Xviii, 173 F.
3 وانظر للمؤلف: حضارة مصر القديمة وآثارها - ج1 ص407 - 408.
(14) Abydos List, 45, 49 ; Jea, Xii, 92, Fig. 6; Petrie, Scarabs and Cylinders, Pl. X, 7, 10.
(15) H. Frankfort, 'Egypt and Syria in the First Intermediate Period', Jea, Xii, 88.
(16) Pap. Perersburg 1116 A, Rt ; Gardiner, Jea, I, 20 F. ; A. Scharff, Der Historische Abschniff Der Lehre Fur Kanig Merlkare, 1938; A. Volten, Zwel Alteg. Politische Schriften, 1945; Chr, D'egypt. 1947, 89 F.; Zaes, 1967, 117 F.
(17) Pap. Petersburg 1116 A, Rt., 71 F. 80 F., 106.
(18) راجع: عبد العزيز صالح: "التربية العسكرية في مصر القديمة" - تاريخ الحضارة المصرية - القاهرة 1962 - ص195.
(19) Pap. Petersburg, 1116 A, Rt. 91-93.
(20) Op. Cit., 47.F.
(21) Lbid., 130 F.
(22) Pap. Leiden, 344, V, 3.
(23) Pap. Harris 500, Vi, 2-Vii, 3 And Variants, See, M. Lichtheim, Jnes, Iv "1945", 178 F., 192, F., 211 F.
(24) A. Erman, Gesprach Eins Lebensmiden Mit Seiner Seele, 1896 ; A. Scharff, Der Bericht Uber Das Streitgesprach Eines Lebensmuden Mit Seiner, Munchen, 1937 ; R.O. Faulkener, Jea, 1956, 21 F.
عبد العزيز صالح: "الحوار في الأدب المصري القديم" - المجلة، العدد التاسع - سبتمبر 1952، ص16 - 28.
(25) Pap. Petersburg, 1116 A, Rt., 128 F., 53 F.
|
|
"علاج بالدماغ" قد يخلص مرضى الشلل من الكرسي المتحرك
|
|
|
|
|
تقنية يابانية مبتكرة لإنتاج الهيدروجين
|
|
|
|
|
المجمع العلمي يطلق مشروع (حفظة الذكر) في قضاء الهندية
|
|
|