المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8091 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

آداب التعامل مع الأجير
22-6-2017
فضل زيارة يوم عاشوراء.
2023-09-10
تجهيز الامام امير المؤمنين
12-8-2017
الأوركيد أو السحلب
2024-09-05
تأثير الرياح على أشجار الموالح
25-8-2022
من أحكام الخمر وشهادة المرأة
4-8-2016


قاعدة « أصالة اللزوم في العقود » (*)  
  
281   11:26 صباحاً   التاريخ: 19-9-2016
المؤلف : آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج5 ص195 - 249
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / قاعدة اللزوم - اصالة اللزوم في العقود - الاصل في المعاملات اللزوم /

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة اللزوم » في العقود في أبواب المعاملات والمعاهدات عند الشكّ في لزوم معاملة أو معاهدة.

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في شرح معناها والمراد منها‌ :

فنقول : إنّ المراد من « الأصل » في قولهم أصالة اللزوم ، يحتمل أن يكون القاعدة الأوّلية المستفادة من بناء العقلاء في معاملاتهم ومعاهداتهم ، كما سيأتي تفصيله في الجهة الثانية التي رسمت لبيان الأدلّة الدالّة على إثبات هذه القاعدة واعتبارها عند الشكّ في لزوم معاملة أو معاهدة ، وبعبارة أخرى : في الشكّ في لزوم عقد من العقود.

ويحتمل أن يكون المراد منه ما هو مقتضى الأدلّة الشرعيّة التي تدلّ على لزوم جميع العقود والمعاهدات إلاّ ما خرج بالدليل تخصيصا ، كقوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وسائر الآيات والروايات الواردة في هذا الباب.

ويحتمل أن يكون المراد منها الاستصحاب. وسيأتي شرح جميع هذه الأمور مفصّلا إن شاء الله تعالى.

والمراد من « اللزوم » هو عدم جواز حلّ العقد من أحد الطرفين بدون رضائه الطرف الآخر ، بل عدم إمكانه في عالم التشريع ، فكما أنّ بعض العقد في عالم التكوين لا يمكن حلّه لشدّة إبرامه وإحكامه ، كذلك العقود والعهود في عالم التشريع ليست قابلة للحلّ ؛ لاعتبار الشارع إبرامها وإتقانها بحيث لا يمكن حلّها من طرف واحد بدون رضائه الطرف الآخر ، بل وفي بعض العقود يكون اعتبار إبرامها وإتقانها بنحو لا يمكن حلّها وإن كان برضائه الطرفين ، كالنكاح ، وكلّ عقد لا يتطرّق فيه الإقالة شرعا. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

ثمَّ إنّ اللزوم على قسمين : لزوم حقّي ولزوم حكميّ ، واللزوم الحقّي عبارة عن ملكيّة أحدهما التزام الآخر ، أو كلّ واحد منهما التزام طرفه. وفي الأوّل يكون اللزوم من طرف واحد ، وفي الثاني يكون اللزوم من الطرفين. وكذلك الجواز حقّي وحكميّ.

والجواز الحقّي هو أن يكون مالكا لالتزام نفسه ، ولا يكون التزامه ملكا لطرفه.

فإذا كان كلّ واحد من المتعاقدين مالكا لالتزام نفسه ، فهذا جواز حقّي من الطرفين ، وإذا كان أحدهما فقط مالكا لالتزام نفسه دون الآخر ، فهذا يكون جوازا حقّيا من طرف واحد.

بيان ذلك : أنّ في باب العقود مدلول مطابقي للعقد وهو مضمونه ، أي الذي ينشأه المتعاقدان من تبديل مال بمال ، أو غير ذلك من المضامين الكثيرة التي تنشأ بالعقود ، ومدلول التزامي ، وهو التزام كلّ واحد منهما للآخر بما أنشأه ، بمعنى أنّه يتعهّد ويلتزم بالعمل على طبق ما أنشأ ، وأن لا يتخلّف وأن لا ينقض تعهّده.

وبهذا الاعتبار يطلقون على من تخلّف عن تعهّده في باب عقد البيعة مثلا بأنّه ناقض للبيعة ولعهده.

وهكذا يكون الأمر في جميع أبواب المعاملات والعهود والعقود العهديّة دون الإذنيّة ، وسيأتي الفرق بين العقود العهديّة والإذنيّة إن شاء الله تعالى.

وأمّا دلالة العقود والعهود على هذه الدلالة الالتزاميّة فمن باب بناء العقلاء ؛ إذ بناؤهم على أنّه لو أنشأوا هذه المعاملة باللفظ المتعارف عندهم لإنشائها ، يكون لكلّ واحد من الطرفين ـ أي الموجب والقابل ـ التزام وتعهّد بالبقاء عند هذه المعاوضة ، أو أيّ شي‌ء آخر كان مضمون هذا العقد وعدم الرجوع عنه.

وهذا المعنى غير صرف الأخذ والإعطاء ، كما هو كذلك في باب المعاطاة ، ففي باب المعاطاة ليس في البين ما يدلّ على تعهّد والتزام من الطرفين ، بل مجرّد معاوضة بأن يعطى بدل ما يأخذ أو يأخذ عوض ما يعطى أو بدله.

وذلك من جهة أنّه ليس في المعاطاة غير الأخذ والعطاء الخارجيّ شي‌ء آخر يكون دالاّ على أنّهما ملتزمان بالبقاء والوفاء بهذه المبادلة ولا يرجعان عنها ؛ ولذلك قلنا إنّ المعاطاة ليس بعقد ، إذ العقد هو العهد المؤكّد لغة وعرفا ، وليس في المعاطاة في مقام الإثبات ما يدلّ على هذا المعنى ويكشف عنه ، وصرف الأخذ والإعطاء خارجا كلّ واحد عوضا وبدلا عن الآخر لا يدلّ على أزيد من نفس المبادلة والمعاوضة.

نعم قد يدلّ على هذا المعنى فعل من الأفعال غير اللفظ كوضع أحدهما يده في يد الآخر ، أو ضرب أحدهما يده على يد الآخر ، ومن هذه الجهة وبهذا الاعتبار يعبّرون عن البيع بصفقة اليمين ، وقد قال صلى الله عليه واله في قضيّة عروة البارقيّ : « بارك الله لك في صفقة يمينك » (1).

وقد يكون الخط والإمضاء دليلا على هذا ، كما أنّه يقال : إنّ العقود التي تقع بين الدول في معاملاتهم تتمّ بإمضاء من حوّل إليه الأمر من كلّ واحد من الطرفين ، وكذلك يقال : إنّ في عقد النكاح يكون وقوعه وإتمامه بإمضاء الطرفين.

وعلى كلّ حال ليس صرف العمل بمضمون العقد عقدا ، ما لم يكن دالاّ على هذا الالتزام ، من لفظ ينشأ به هذا المضمون ، أو فعل يدلّ على البقاء والالتزام بعد الرجوع عنه كوضع اليد في يد الآخر كما كان في باب البيعة ، أو ضرب اليد على يد الطرف الآخر كما في بعض أبواب المعاملات ، أو خطّ أو إمضاء كما ذكرناه.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّهم قسّموا العقود على قسمين : عقود إذنيّة ، وعقود عهديّة. وما ذكرنا من دلالة العقد بالدلالة الالتزاميّة على الالتزام بالوفاء بمضمون العقد والبقاء عنده وعدم الرجوع عنه في العقود العهديّة دون الإذنيّة ؛ إذ العقود العهديّة عبارة عن العهد المؤكّد ، وأمّا العقود الإذنيّة فهي عبارة عن مجرّد إذن أحدهما للآخر في أمر من الأمور ، كالوكالة والعارية وأمثالهما ، وإنّما عبّر عنها بالعقد ؛ لوقوع الإذن بصورة الإيجاب ، ورضا الطرف بهذا الأمر بصورة القبول ، فيكون عقدا شكليّا ، لا عقدا واقعيّا ؛ ولذلك يكون إطلاق العقد عليها إطلاقا مجازيّا لا حقيقيّا.

فليس التزام من أحدهما بالوفاء والبقاء عند هذه المعاوضة والمبادلة في البين وقوامها بالإذن فقط ، فإذا فسخ وارتفع الإذن فلا يبقى شي‌ء في البين كي يقال يجب الوفاء به والبقاء عنده ، فخروج هذه العقود من أصالة اللزوم أو من قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالتخصّص ، لا بالتخصيص كي يقال بأنّه يلزم في الآية أو ذلك الأصل تخصيص الأكثر. وأمّا العقود العهديّة فيشملها أصالة اللزوم ، وكذلك ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل كلّها.

وفرّق شيخنا الأعظم (2) في العقود العهديّة بين التعليقيّة والتنجيزيّة ، فاستشكل‌ في اللزوم في مثل السبق والرّماية والجعالة بناء على أن يكون مدرك اللزوم هو استصحاب أثر العقد ، ففي العقود التعليقيّة لو فسخ الطرف قبل حصول المعلّق عليه ليس أثر كي يستصحب بعد فسخ من عليه أداء الجعل في الجعالة ، ومن عليه السبق في السبق والرماية بناء على ما زعم من أنّ قبل حصول السبق في السبق والرماية ، وكذلك قبل ردّ الضالّة في الجعالة لا يستحقّ السبق ولا الجعل ولا يملك شيئا ، فليس شي‌ء في البين كي يستصحبه بعد الفسخ.

وسنتكلم إن شاء الله في هذا الأمر حين تكلّمنا في أنّ أحد الأدلّة على قاعدة اللزوم وعدم تأثير الفسخ هو الاستصحاب ، ونبيّن ما هو الحقّ في هذا المقام.

وخلاصة الكلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى أنّه لا فرق بين العقود العهديّة التنجيزيّة والتعليقيّة في أنّ مقتضى الأصل ـ وإن كان المراد من الأصل هو الاستصحاب ـ هو اللزوم وعدم تأثير الفسخ.

الجهة الثانية :

في بيان الأدلّة التي تدلّ على أنّ مقتضى الأصل الاوّلى في كلّ عقد هو اللزوم ، وعدم نفوذ الفسخ من كلّ واحد من طرفي المتعاقدين ، فنقول :

الأوّل : هو بناء العقلاء‌ في عهودهم وعقودهم على لزوم الوفاء والبقاء عند التزامه ، بحيث لو رفع اليد عمّا التزم من عقده وعهده يرونه ناقضا لالتزامه وتعهّده ، ويذمّونه على ذلك ، والشارع لم يردعهم عن هذه الطريقة ، بل ألزمهم بذلك ، كما سنذكره إن شاء الله.

والحاصل : أنّ مخالفة الالتزامات وعدم الاعتناء بعقده وعهده عندهم من أكبر المعايب وأخسّ الصفات وأرذلها ، إلاّ أن يجعل أحدهما لنفسه حق رفع اليد عن التزامه ، أو كلّ واحد منهما يجعل لنفسه من أوّل الأمر ذلك في ضمن العقد ، وهذا‌ يسمّى بخيار الشرط لأحد الطرفين أو كليهما. وهذا يرجع في الحقيقة إلى عدم التزامه المطلق وعلى كلّ حال ، بل التزام على تقدير دون تقدير.

وبعبارة أخرى : بعد ما عرفت أنّ العقود المنشأة بإنشاء لفظي لها دلالتان : إحداهما مطابقة ، والأخرى التزاما ، والثاني التزامه للآخر بالبقاء عند ما أنشأه بالمطابقة وعدم العدول عنه ، فالعدول والرجوع عمّا التزم به خلف ونقض ، وهذا قبيح.

وإن شئت قلت : إنّ التزامه لطرفه تمليك له ، فهذا الالتزام في اعتبار العقلاء يكون ملكا لطرفه وذلك بتمليكه إيّاه ، فكما لو وهب مالا لغيره ليس له الرجوع إليه عند العقلاء ، خصوصا بعد تصرّف الموهوب له فيه وإتلافه ، ليس له أن يضمّنه ويكون خارجا عن قاعدة الإتلاف تخصّصا لا تخصيصا ، فكذلك بعد ما التزم له بالوفاء العقلاء يعتبرون للملتزم له حقّ الإلزام له بالوفاء بما التزم به.

نعم الملتزم له لو رفع اليد عن حقّه بإسقاطه ، فلا يكون بعد ذلك ملزما بالعمل بالتزامه ، ويجوز له حلّ عقده وعهده ، وليس ذلك حينئذ خلف ونقض لعهده ، ومرجع الإقالة إلى هذا الذي ذكرنا.

فمعنى قول الملتزم للملتزم له « أقلني » أي ارفع اليد عن حقّك الذي كان عبارة عن أنّه كان لك إلزامي بالعمل بمقتضى هذا العقد ومضمونه ، فإذا كان اللزوم والإقالة من الطرفين فقهرا يرتفع اللزوم من البين ، فكأنّه بالنسبة إلى لزوم الوفاء لكلّ واحد منهما لم يكن عقد في البين ، ولعلّ هذا معنى انحلال العقد بالإقالة ، ولعلّ من هذه الجهة قالوا إنّ انحلال العقد بالإقالة وارتفاع اللزوم من البين يكون على القاعدة ، ولا يحتاج صحّة تأثيرها على وجود دليل في البين.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يمكن إنكار أنّ بناء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار على لزوم العمل بعقودهم وعهودهم ، وعدم قدرة الملتزم بمعاهدة وتعاقد ـ وإن كان التزامه بدلالة التزاميّة لألفاظ العقود والمعاهدات ـ على رفع اليد عن التزامه ، وحلّ‌ عقده وعهده.

وأمّا ما توهّم من أنّ العقد أمر وحداني وجوده قائم بطرفين ، ولا يمكن إيجاده من طرف شخص واحد ؛ لأنّ العقد عبارة عن العقدة الحاصلة بين حبلي عهد كلّ واحد من الطرفين ، فكأنّ تعهّد كلّ واحد من الطرفين بمضمون العقد حبل منه في عالم الاعتبار ، فهناك حبلان : أحدهما من طرف الموجب ، والآخر من طرف القابل ، والعقد عبارة عن تعقيد رأس الحبلين كلّ واحد بالآخر.

فالعقدة التي تحصل بين رأسي الحبلين في عالم الاعتبار هو المسمّى بالعقد ، وهذه العقدة وحداني ولكن قائم بالطرفين ، ولا يمكن أن يحصل بفعل واحد كما هو واضح ؛ لأنّها نتيجة فعلين ، فكذلك كلّ واحد منهما منفردا لا يقدر على حلّ تلك العقدة ؛ وذلك لأنّ هذه العقدة فعله وفعل غيره.

فكما أنّ في عالم الإيجاد لم يكن له إيجادها وحده ، فكذلك في عالم حلّ تلك العقدة ليس له وحده حلّها ، ومعلوم أنّ جواز رجوع كلّ واحد منهما عن التزامه مرجعه إلى حلّ تلك العقدة ، وإلاّ فما دام تلك العقدة موجودة ، فحبل عهده مشدود ويمنعه عن الرجوع. والقول بأنّ له وحده حلّ تلك العقدة مساوق مع كونه مسلّطا على فعل شخص آخر لم يجعل الله له تلك السلطنة.

ولا شكّ في أنّ هذا واضح البطلان ، وذلك من جهة أنّ هذه العقدة التي وجدت في عالم الاعتبار بعد ما فرضنا أنّ صرف المعاوضة والمبادلة لا يكون سببا لوجودها ، ولذلك قلنا بأنّ المعاطاة ليس بعقد ، إذ ليس هناك عقدة والتزام في البين ، بل صرف معاوضة ومبادلة بين المالين ، أو صرف إنشاء مضمون تلك المعاملة ـ بل سبب وجودها التزام كلا الطرفين بعدم الرجوع عن مضمون هذه المعاملة ، فحصلت العقدة من هذين الالتزامين ، فهي من فعل الطرفين ، فرفع هذه العقدة التي هي فعل الطرفين من طرف أحدهما لا يمكن إلاّ بأن يكون له سلطان على رفع سببها ، والمفروض أنّ السبب مركّب من فعلين والتزامين ، وهو ليس له سلطان إلاّ على فعل نفسه ، فله أن يرفع اليد عن التزام نفسه ، وأمّا رفع اليد عن التزام غيره الذي هو فعل الغير ، ليس له ذلك ، لعدم سلطنته على الغير.

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّ تلك العقدة وإن كانت تحصل من التزام الطرفين بالبقاء بمضمون هذا العقد ، ولكن ارتفاعها كما يكون برجوع كلا الطرفين عن التزامهما معا ، كذلك يمكن برجوع أحدهما وحده ؛ وذلك من جهة أنّ المعلول كما أنّه يرتفع بارتفاع جميع أجزاء علّته ، كذلك يرتفع بارتفاع بعض أجزائها ، وهذا واضح.

وإنّما الكلام في أنّه هل يجوز لكلّ واحد منهما رفع اليد عن التزامه منفردا ، أو يجوز لكليهما رفع اليد عن التزامهما معا ، أو لا يجوز مطلقا لا مجتمعا ولا منفردا ، أو يفصّل بأنّه لا يجوز منفردا ويجوز معا ومجتمعا ، وهذا الأخير هي الإقالة؟

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحق هو التفصيل في اللزوم الحقّي ، بأنّه يجوز رفع اليد عن التزامهما جمعا وبرضائه الطرفين دون أحد الطرفين بدون رضائه الطرف الآخر ؛ وذلك لما بيّنّا أنّ التزام كلّ واحد منهما حيث يكون برعاية الطرف الآخر فيوجد عند العقلاء وفي اعتبارهم حقّ إلزامه بالوفاء بما التزم به رعاية له. وأمّا رفع اليد عن التزامه برضا الطرف ، فلا ينافي كون الطرف له حقّ إلزامه ، وعلى هذا الأساس بنينا صحّة الإقالة وجريانها على القاعدة في كلّ معاملة وعدم احتياجها إلى ورود دليل على صحّة جريانها.

وخلاصة الكلام : أنّ الدليل على أصالة اللزوم في العقود العهديّة ـ تنجيزيّة كانت ، كالبيع والإجارة والصلح وغيرها ، أو تعليقيّة كالجعالة ـ هو بناء العقلاء على وجوب العمل بالتزامه وتعهّده ، وقبح التخلّف ورفع اليد عن ذلك الالتزام ، وذكرنا أنّ نقض العهد يعدّ عندهم من أرذل الرذائل ، ومن منافيات الشرف والفضيلة ، والشارع الأقدس لم يردعهم من هذه الطريقة ، بل أمضاها بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) كما‌ سنذكر أدلّته إن شاء الله.

وبعبارة أخرى : يرى العرف والعقلاء أنّ من التزم لشخص بشي‌ء ، فقد جعل ذمّته مشغولة له بذلك ، إذا كان هذا الالتزام في ضمن عقد وعهد ، لا أن يكون التزاما بدويّة ، وإن كان منشأ بنفس مادّة الالتزام ، بأن يقول : التزمت لك بذلك ؛ لأنّ الالتزامات البدويّة التي ليست في ضمن عقد وعهد تحسب وعدا ابتدائيّا ، ولا شكّ في حسن الوفاء به ، وأمّا وجوبه ولزوم الوفاء به عند العقلاء أو الشرع ، فيحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، ولعلّه نتكلّم فيها إن شاء الله تعالى.

ولعلّ هذا مراد شيخنا الأستاذ حيث يقول : كلّ واحد من الطرفين مالك لالتزام الآخر ، فإذا أسقط ملكيّته بمعنى حقّه ، فقهرا يكون من عليه الحقّ مخيّرا في البقاء وعدم الرجوع عمّا التزم به ، وفي عدم البقاء عند التزامه والرجوع عمّا التزم به ، فلا بدّ من أن يكون مراده من ملكيّة الطرف لالتزامه ثبوت هذا الحقّ له ، لا ثبوت الملكيّة الاعتباريّة الشرعيّة الذي هو حكم وضعيّ كالطهارة والنجاسة ، وإلاّ لم يكن قابلا للإسقاط ، فلا تكون الإقالة على القاعدة ، وتحتاج إلى دليل على صحّتها وجريانها ، إمّا عامّا وفي جميع العقود ، أو في مورد خاصّ. وقد تقدم أنّها على القاعدة ، وتجري في جميع العقود.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ لزوم العقد وعدم جواز حلّه من كلّ واحد من الطرفين منفردا منشأه بناء العقلاء على لزوم الوفاء وعدم نفوذ فسخه والرجوع عمّا التزم به وتعهّد ، والشارع الأقدس لم يردعهم عن ذلك ، بل أمضى هذه الطريقة بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وبسائر الأدلّة التي نذكرها إن شاء الله تعالى.

وأمّا أنّ العقدة التي تحصل من تعهّد الطرفين الذي هو العقد ، حيث أنّها أمر وحداني وحاصلة من فعل الطرفين ، فليس لأحدهما إزالة تلك العقدة ؛ لأنّه لا سلطان له على فعل الغير وإزالته.

ففيه : ما ذكرنا أنّ سلطنته على إزالة فعل نفسه كاف في ارتفاع تلك العقدة ، لقيامها بكلا الفعلين وكلا الالتزامين ، فإذا رجع أحدهما عن التزامه يرتفع تلك العقدة وينتقض بنقض أحدهما ، ولذا يطلق على تخلّف المبايع عن بيعته نقض البيعة ، مع أنّ الرجوع عن عهده وميثاقه من طرفه فقط.

وأمّا القول بأنّ البيعة ليست بعقد ، فليس ممّا يصغى إليه. والسرّ في ذلك أنّ العقد إمّا عبارة عن نفس تعهّدين ، أو حاصل منهما وقائم بهما ، فكما أنّه يرتفع بارتفاعهما ، كذلك يرتفع بارتفاع أحدهما. ثمَّ إنّ بناء العقلاء على اللزوم أمر قابل للردع شرعا ، كما أنّه وقع في مورد خيار المجلس ، فالعقلاء والعرف وإن كان بناؤهم على اللزوم حتّى فيما إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد ولم يتفرّقا في عقد البيع ، ولكن الشارع الأقدس نفى اللزوم ما دام لم يتفرقا عن مجلس البيع بقوله صلى الله عليه واله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (3) ـ أو « لم يتفرّقا » على بعض النسخ أو الطرق ـ فبناء العرف والعقلاء في مورد خيار المجلس مردوع وليس بحجّة.

هذا إذا قلنا بأنّ بناء العقلاء على اللزوم مطلق من حيث التفرّق عن المجلس وعدمه ، وأمّا إن قلنا بعدم إطلاقه وعدم بناء منهم في صورة عدم التفرّق وبقاء المتعاقدين في المجلس ـ وإن كان هذا الاحتمال بعيدا ، خصوصا فيما إذا طال المجلس ، كما إذا كان المتعاقدان في سيّارة أو سفينة أو في طيّارة في مسافة طويلة ، بل هما ربما يكونان في طيّارة يطول مجلسهما إلى مئات فراسخ بل آلاف ، فالعرف في أمثال هذه الموارد بناؤه على اللزوم بلا ريب ، وإن أخذنا بإطلاق دليل خيار المجلس ، وهو قوله صلى الله عليه واله : « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » ـ وقلنا بثبوت الخيار ، فلا ردع في البين ؛ لتوافق بنائهم مع الدليل الشرعي الذي مفاده ثبوت خيار المجلس ما لم يفترقا.

وأمّا في سائر الخيارات غير خيار المجلس ، كخيار الشرط والعيب ، فليس بناء‌ للعقلاء في مواردها على اللزوم قطعا ؛ لأنّ كون المعيوب مردودا قضيّة ارتكازيّة عند العرف والعقلاء ، وما ورد في الشرع من الخيار إمضاء لذلك الأمر الارتكازي.

وأمّا خيار الشرط فلا شكّ في أنّ العقلاء أيضا يحكمون بلزوم الوفاء بالشرط ، فليس لهم بناء على اللزوم.

وأمّا تخلّف الشرط أو الوصف ، فأيضا لا بناء للعقلاء على اللزوم في مواردهما.

وأمّا خيار الغبن فبناء على ما هو الصحيح في مدركه من أنّه يرجع إلى تخلّف الشرط الضمني ، فيكون من صغريات خيار تخلّف الشرط. وقد عرفت أنّه لا بناء لهم في مورد تخلّف الشرط على اللزوم.

نعم في خيار الحيوان الظاهر أنّه حكم شرعي ، وليس عدم اللزوم إلاّ من جهة ورود دليل شرعي ، وهو قوله عليه السلام « صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيّام » (4) سواء كان المراد هو خصوص المشتري ، أو كان أعمّ من البائع والمشتري ، وإلاّ فمن ناحية بناء العقلاء على اللزوم لا فرق بين أن يكون المبيع أو الثمن حيوانا أو غير حيوان.

لا يقال : إنّ خيار الحيوان جعله الشارع من جهة الاختيار ، وأنّه هل فيه عيب ونقص أم لا. وهذا المعنى ممّا لا ينكره العرف والعقلاء ، فهم أيضا لا يبنون على اللزوم في زمان الاختبار. ذلك من جهة أنّ خيار العيب عندهم مغن عن هذا الخيار ، فخيار الحيوان لا بدّ وأن يكون حكما تعبّديا.

نعم جميع الأحكام الشرعية لا بدّ وأن يكون عن ملاك ملزم لذلك الحكم من مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، فدليل خيار الحيوان أيضا مثل دليل خيار المجلس يكون رادعا عن بناء العقلاء على اللزوم في مورد خيار الحيوان ، أي فيما إذا كان المبيع‌ أو الثمن حيوانا.

وخلاصة الكلام : أنّ في كلّ مورد حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم ، فإن لم يكن بناء العقلاء أيضا على اللزوم فلا كلام ولا إشكال ، وأمّا إذا كان بناؤهم على اللزوم ، فالدليل الذي يدلّ على حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم يكون رادعا لبناء العقلاء.

هذا في العقود العهديّة التنجيزيّة كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها واضح ، وأمّا العقود العهديّة التعليقيّة كالجعالة والسبق والرماية والوصيّة وأمثالها ، فأيضا لا شكّ في أنّ بناء العقلاء على لزومها بعد التلبّس بالعمل في الأوّلين ، وبعد الموت في الثالث بناء على كونها من العقود ، وأمّا لو قلنا بعدم احتياجها إلى القبول وأنّها إيقاعات ، فخارجة عن محلّ البحث موضوعا.

وأمّا العقود الإذنيّة التي لا تعهّد فيها وقوامها بالإذن فقط ، فقد تقدّم أنّها خارجة عن الموضوع تخصّصا لا تخصيصا ؛ لأنّه لا تعهّد ولا التزام فيها ، بل قلنا إنّ إطلاق العقد عليها ليس إلاّ من باب المشاكلة ، وإلاّ ليس فيها عهد وعقدة بين الطرفين ؛ ولذلك قالوا إنّها جائزة بالذات مقابل العقود اللازمة بالذات.

وخلاصة الكلام : أنّ بناء العرف والعقلاء على لزوم الوفاء بالتعهّدات والالتزامات ، فالعقود الإذنيّة ـ التي قوامها الإذن كالوكالة ـ لا التزام ولا تعهّد فيها خارجة عن دائرة هذا البناء ، وأمّا العقود العهديّة فداخلة بكلا قسميه ، سواء كانت تنجيزيّة أم تعليقيّة.

نعم في العقود التعليقيّة نزاع صغروي ، وهو أنّها هل تحتاج إلى القبول كالوصيّة والجعالة والسبق والرماية ، أم لا؟ فإن قلنا بعدم الاحتياج وأنّها إيقاعات ، فهي خارجة عن موضوع هذا البناء ، وإلاّ فحالها حال العقود التنجيزيّة.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فأقول‌ :

التمسّك بهذه القاعدة وبناء العقلاء على لزوم معاملة كالوقف أو الجعالة مثلا عند الشكّ في لزومها بعد الفراغ عن كون تلك المعاملة من العقود ، وإلاّ لو علمنا بأنّها ليست من العقود ، فهي خارجة عن موضوع هذه القاعدة يقينا ، وكما أنّه لو شككنا أنّها عقد أم لا ، يكون التمسّك بها لإثبات لزومها من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لا يجوز قطعا ، وهو من الواضحات.

فبعد إحراز أنّها من العقود ، فتارة يكون منشأ الشكّ هي الشبهة الحكميّة ، وأخرى هي الشبهة الموضوعيّة.

فالأوّل : كما إذا شكّ في لزوم الوقف ، مثلا لو مات الواقف قبل أن يقبض العين الموقوفة ، فبناء على أنّه من العقود كما رجّحناه وقلنا إنّه يحتاج إلى القبول يحكم عليه باللزوم لأجل هذه القاعدة ، وكذا في باب المعاطاة لو قلنا بأنّه عقد ، وإن كان الصحيح عندنا خلافه.

وكذا في سائر موارد الشكّ في الحكم الشرعي بالجواز أو اللزوم بعد الفراغ عن كونه عقدا يصحّ التمسّك بهذه القاعدة لإثبات اللزوم ، ولا يصغى إلى ما يقال بأنّ البناء العملي لا عموم ولا إطلاق فيه مثل باب الألفاظ ، كي يتمسّك به لرفع الشكّ والحكم باللزوم.

وذلك من جهة أنّ هذا البناء بعد إمضاء الشارع له ولو من جهة عدم الردع يستكشف منه حكم الشارع بلزوم كلّ عقد ، فيكون كما إذا ورد عامّ لفظي يكون له عموم وإطلاق ، وبهذا البيان أثبتنا الإطلاق للإجماع إذا كان معقده عنوانا من العناوين.

وأمّا الثاني : أي إذا كان منشأ الشكّ الشبهة الموضوعيّة ، كما إذا شككنا أنّ المعاملة الواقعة هل هي صلح كي يكون لازما ، أو هبة لغير ذي الرحم كي يكون جائزا ، أو شكّ في أنّ الموهوب له ذي رحم أو أجنبيّ ، كي يكون لازما في الأوّل وجائزا في‌ الثاني؟ فيصحّ التمسّك بهذه القاعدة لإثبات لزومه.

الثاني : الأدلّة والعمومات والإطلاقات اللفظيّة من الآيات والروايات :

فمن الأوّل قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وتقريب دلالتها على لزوم جميع العقود هو أنّه لا شبهة في أنّ كلمة « العقود » بما أنّه جمع معرّف بالألف واللام يكون من ألفاظ العموم ودالاّ عليه ، فيكون معنى الآية : يجب الوفاء بجميع العقود.

وهذا العموم الأفرادي الذي هو ظاهر الآية ومدلول مطابقي لها ، يستتبع عموما أزمانيّا أيضا بدلالة الاقتضاء ، لأنّ الآية لو كانت مهملة من هذه الجهة يصدق امتثالها بالوفاء في آن من الآنات ، فيكون هذا الحكم لغوا لا فائدة فيه ، فصونا للكلام عن اللغويّة لا بدّ وأن نقول بأنّ المراد وجوب الوفاء في كلّ زمان.

ولا شكّ في أنّ وجوب الوفاء في كلّ زمان يكون من لوازم اللزوم ، بل يكون عرفا مساوقا معه ويصحّ التعبير عن اللزوم به عرفا.

وأمّا توهم أنّ وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم العمل بمضمونه ما دام موجودا وباقيا ، ولا يدلّ على عدم جواز إزالته بالفسخ ؛ لأنّه لا تنافي بين جواز إزالته ووجوب الوفاء به ما دام موجودا ، فلو قال : أكرم زيدا في كلّ زمان ما دام موجودا في البلد ، فجواز إخراجه من البلد لا ينافي وجوب إكرامه في كلّ زمان ما دام موجودا في البلد.

وبعبارة أخرى : يكون من قبيل الأصل الحاكم مع الأصل المحكوم ، فوجوب العمل بالأصل المحكوم والجري بمقتضاه في كلّ زمان لا ينافي مع مقتضى دليل الأصل الحاكم ؛ لأنّ العمل بمقتضى أصل المحكوم معلّق عقلا على بقاء موضوعه ، أي كونه شاكّا ، فإذا ارتفع موضوعه بالأصل الحاكم ، لا يبقى تعارض في البين ؛ ولذلك قلنا في باب تعارض الأدلّة أنّه لا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم.

فهاهنا حلّ العقد وإفناؤه لا ينافي وجود العمل بمقتضاه دائما وفي كلّ زمان ؛ لأنّ‌ العمل بمقتضاه عقلا موقوف على بقائه ، فإذا ارتفع لا يبقى موضوع لهذا الحكم.

وفيه أوّلا : ما ذكرنا أنّ هذه العبارة ، أي وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان مساوق في المتفاهم العرفي مع القول بأنّ كلّ عقد لازم لا يمكن ـ أو لا يجوز ـ حلّه ونقضه.

وثانيا : الظاهر من قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ليس المراد به وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهّد به ، كي يكون معناه وجوب العمل بمقتضاه ، بل المراد به وجوب الوفاء بنفس عقوده وعهوده وأن لا ينقض عقده وعهده ، فابتداء الواجب التكليفي هو البقاء على عهده وعدم الرجوع عن التزامه ، لا وجوب العمل بما التزم به ، نعم وجوب العمل بما التزم به من آثار البقاء على عهده وحفظ تعهّده والتزامه.

فبناء على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (5) من انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي ، فينتزع اللزوم قهرا من هذا الوجوب التكليفيّ ، أي وجوب البقاء على تعهّده والتزامه وحرمة نقضه وحلّه.

وهذا الكلام ، أي انتزاع الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي وإن كان لا أساس له عندنا ، وأثبتنا فساده في الأصول ، وبيّنّا في كتابنا « منتهى الأصول » (6) أنّ بعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة والملكيّة والزوجيّة وأمثالها مستقلاّت في الجعل وليست منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، بل هي موضوعات لها ، فيكون الأمر بالعكس ، أي يكون الحكم التكليفيّ من آثار الحكم الوضعي ، فتكون حرمة الاستعمال فيما هو مشروط بالطهارة أو الشرب من آثار النجاسة ، وكذلك الأمر في الملكيّة والزوجيّة وغيرهما.

ولكن هاهنا لا نحتاج إلى الالتزام بأنّ وجوب الوفاء بالعقود حكم تكليفي ينتزع‌ منه ، فإنّ هذا يشبه الأكل من القفا ، بل نقول من أوّل الأمر أنّ وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم البقاء عليه وعدم نقضه وحلّه ، وهذا عين اللزوم ، وإن شئت قلت : إنّ معنى العقد عرفا هو الالتزام والتعهّد بأمر ، فهذا المعنى بنفسه يقتضي عند العرف والعقلاء البقاء على تعهّده وعدم جواز حلّه ونقضه.

وبعبارة أخرى : يرونه في عالم اعتبارهم أمرا ثابتا غير ممكن النقض ؛ ولذلك يرون الخارج عن التزامه ناقضا لعهده ، وهذا عين اعتبار اللزوم عندهم في العقود والعهود ، والشارع أمضى هذا اللزوم الذي في اعتبارهم للعقود بقوله ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).

فمفاد هذه الآية تثبيت ما هو ثابت عندهم ، وتقرير أهل العرف في لزوم العقود في اعتبارهم.

فكأنّ هاهنا اعتبارين : أحدهما من قبل العرف وهو اعتبارهم اللزوم في عقودهم وعهودهم ، سواء كانت في أبواب المعاملات أو في غيرها. ثانيهما : من قبل الشرع ، وهو إمضاء ذلك الاعتبار العرفيّ وتثبيته في عالم الاعتبار الشرعي.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين (7) من الوجوه الأربعة في المراد من العقود في الآية :

أحدها : أنّ المراد من هذه الكلمة هو عهود أهل الجاهليّة. ذكره جمع من المفسّرين وفيهم ابن عبّاس ، وهذا المعنى لا بدّ من توجيهه ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد.

ثانيها : هو العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بأن لا يعبد والشيطان.

ثالثها : العقود والعهود التي بين الناس في معاملاتهم وغيرها.

رابعها : أنّ المراد به العهود والمواثيق التي أخذ من أهل الكتاب في التوراة من عدم إنكارهم لنبوّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه واله وتصديقهم لنبوّته ، وأنّ كلّ ما جاء به من الأحكام‌ فهو حقّ ومن عند الله.

فهذه المعاني وإن كانت في حدّ نفسها صحيحة وذكرها المفسرون ، ولكنّه من الواضح أنّ الاعتبار بعموم الألفاظ ، ولا يكون خصوصيّة المورد مخصّصا ، وكذلك تطبيق المفسّرين بل الأئمّة : على بعض موارد ذلك العامّ. ولا شكّ في أنّ لفظ « العقود » عامّ يشمل كلّ عقد صدر من المتعاقدين ، وكلّ واحد من هذه المعاني التي ذكروها مصداق من مصاديق العامّ ، وشموله له لا ينفى شموله للمصاديق الأخر.

فظاهر الآية بناء على ما ذكرنا في المراد منها هو لزوم كلّ ما يصدق عليه العقد ويحمل عليه حملا حقيقيّا لا تجوّزا.

ثمَّ إنّه استشكل على دلالة هذه الآية على اللزوم بلزوم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، فيسقط العموم عن الحجّية ولا يمكن التمسّك به ؛ لاستهجانه ولزوم تخصيص الأكثر من جهة خروج العقود الجائزة عن هذا العموم قطعا ، وكذلك المعاطاة بناء على تحقّق الإجماع على جوازه ، وهي كثيرة جدّا ، خصوصا المعاطاة ؛ وذلك لأنّ أغلب معاملات الأسواق والمعاوضات من البيوع والإجارات وغيرهما بالمعاطاة ، بل لا يبعد دعوى كون جميعها بالمعاطاة ، وكذلك العقود اللازمة في موارد الخيارات.

وفيه : أنّ العقود الجائزة بالذات لا بواسطة جعل الخيار من الله تعالى أو من قبل المتعاقدين قد تقدّم أنّها هي العقود المسمّاة بالإذنيّة ، مقابل العقود العهديّة ، وبيّنّا أنّ تلك العقود المسماة بالإذنيّة التي قوامها بالإذن في الحقيقة ، ليست بعقد ، كالوكالة أو العارية مثلا ، إذ ليس تعهّد في البين ، وقلنا إنّ إطلاق العقد عليها من باب المشاكلة ، ومن جهة أنّ الإذن فيها يصدر بشكل الإيجاب ، ورضا الطرف بالعمل على طبق ذلك الإذن يكون بصورة القبول وبشكله ، فخروج تلك العقود عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يكون بالتخصّص لا بالتخصيص ، وقد تقدّم كلّ ذلك.

وأمّا المعاطاة ، فقد بيّنّا في محلّه أنّه ليس بعقد ، بل هو صرف مبادلة بين العوضين‌ وليس تعهّد في البين. وإن شئت قلت : كما أنّه يمكن أن ينقل مالا من مكانه إلى مكان مال آخر ، وذلك المال الآخر ينقل من مكانه إلى مكان المال الأوّل ، فيبدّل مكان كلّ واحد من المالين إلى مكان الآخر ، كذلك في عالم الاعتبار يمكن إنشاء هذه المبادلة بين المالين بدون أن يكون التزام من المتعاملين أو أحدهما في البين ، ومن دون أن يكون تعهّد بالبقاء عند هذه المبادلة منهما أو من أحدهما. وهذا هو المسمّى بالمعاطاة ، فليس في المعاطاة عقد وعهد أصلا ، فيكون خروجه عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) خروجا موضوعيّا ، ويكون من باب التخصّص لا التخصيص.

وأمّا العقود اللازمة في موارد الخيارات ، فهي في الموارد التي يكون الخيار مجعولا من قبل المتعاقدين ، فلا يشمله هذه الآية ؛ لأنّ الآية معناها كما تقدّم لزوم الوفاء بالتزامه وتعهّده ، فإذا كان تعهّده والتزامه مشروطا بشرط ومقيّدا بأمر كما في مورد خيار الشرط والغبن ، بناء على رجوع الأخير إلى تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي العوضين في الماليّة ، ففي مورد فقد الشرط والقيد لا التزام كي يكون الوفاء به واجبا ، فيكون خروج تلك الموارد عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) أيضا خروجا موضوعيّا لا من باب تخصيص هذه القاعدة.

نعم في الخيارات المجعولة من قبل الشارع مع كون الالتزام الذي قلنا إنّه مدلول التزامي للألفاظ التي تنشأ بها العقود مطلقا من الطرفين المتعاملين غير مقيّد بشي‌ء وغير مشروط بشرط ، كخيار المجلس ، وخيار الحيوان وما شابههما ، يكون تخصيصا للقاعدة.

وأنت خبير بأنّ هذا المقدار ليس من التخصيص المستهجن ، فإشكال لزوم تخصيص الأكثر في عموم هذه القاعدة لا أساس له.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال بأنّ موارد الخيارات المجعولة من قبل الشارع أيضا ليس من باب التخصيص ، بل يكون شبيها بالحكومة ، بأن يقال مثلا في خيار‌ المجلس أو خيار الحيوان : جعل الشارع التزامهما في تلك المدّة كلا التزام ، فكأنّهما لم يلتزما بالبقاء عند هذه المعاملة ما دام كونهما في المجلس ولم يفترقا بالنسبة إلى خيار المجلس ، وكذلك كأنّهما لم يلتزما في مدّة ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ، فيكون أيضا خروجهما وأمثالهما أيضا خروجا موضوعيّا ، غاية الأمر خروجا موضوعيّا تعبّديا لا تكوينيّا ، كما هو الشأن في جميع موارد الحكومة ، وأنّ التوسعة والتضييق فيها في جانب الموضوع أو المحمول تعبّدي ، لا تكويني ووجداني.

وبعبارة أخرى : التصرّف في باب الحكومة في جانب الموضوع أو المحمول في القضيّة الشرعيّة المتكفلة لبيان حكم من الأحكام ، ولا نظر في ذلك الباب إلى التضيّق في الحكم ، وإن كان التضيق في الموضوع أو المحمول ينتج ذلك أيضا.

فنقول فيما نحن فيه : إنّ الشارع الأقدس في مدّة بقاء المتبايعين في المجلس ، أو مدّة ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ، جعل التزامهما بهذه المعاملة كلا التزام ، لا أنّه مع فرض البناء على وجود الالتزام نفى الوفاء بذلك الالتزام ، كي يكون من باب التخصيص ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وفرضنا أنّ أكثر أفراد العلماء هم النحويّون مثلا ، فقال : النحوي ليس بعالم ، فليس هذا من باب تخصيص الأكثر ، بل من جهة أنّ الشارع أخرج النحوي عن موضوع حكمه خروجا تعبّديا ، فليس من باب التخصيص كي يكون مستهجنا إذا كان الخارج أكثر الأفراد.

ويمكن أيضا أن يقال : إنّ ما نحن فيه ليس من قبيل التخصيص كي يقال بأنّ الخارج أكثر فهو مستهجن ، بل من قبيل تقييد الإطلاق.

وذلك من جهة أنّ عموم لفظ « العقود » باعتبار الأفراد لا باعتبار الأزمان ، فالحكم ثبوته في جميع الأزمان ليس من ناحية صيغة العموم ، بل من جهة الإطلاق الأزماني الثابت بدلالة الاقتضاء ، صونا عن لغويّة جعل الخيار لو كان ثبوته في زمان ما فقط. وتقييد ذلك الإطلاق بالنسبة إلى قطعة من الزمان ، أي زمان بقاء المجلس‌ وعدم حصول الافتراق ، وكذلك ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ليس من باب تخصيص العموم ، كي يقال بأنّه مستهجن ، بل صرف تقييد إطلاق ، فلا يأتي هذا الكلام ولا مجال للإشكال به على التمسّك بهذا العموم.

وذلك من جهة أنّ الإطلاق وشمول الحكم لجميع الحالات والخصوصيّات الواردة على المطلق ليس بالوضع ، كما هو مذكور في محلّه ، وإنّما الشمول لدليل الحكمة وبمقدّماتها ، ففي كلّ مورد وبالنسبة إلى أيّ خصوصيّة جاء دليل على التقييد ، يبطل الإطلاق بالنسبة إلى تلك الخصوصيّة ويرتفع من البين ، فلو قيّد المطلق بحيث لا يبقى له إلاّ فرد واحد لا يكون مستهجنا.

بخلاف العامّ فإنّه موضوع للعموم ، فيكون ظاهره العموم ، خصوصا إذا كان المخصّص منفصلا ، فبعد تخصيص الأكثر إذا تبيّن أنّ مراده من هذا العموم ليس إلاّ أفراد قليلة ، فألقى طرفه أنّ مطلوبه العموم ، مع أنّه لم يرد إلاّ بعضه الأقلّ ، فيكون مثل هذا الكلام ركيكا ومستهجنا.

وخلاصة الكلام : أنّ العامّ كاشف عن إرادة العموم بالوضع ، وليس ظهوره معلّقا ، نعم إذا جاء المخصّص حيث أنّه أكشف ، يكون مقدّما على العموم. وأمّا ظهور المطلق في الإطلاق فمعلّق على عدم البيان ، فإذا جاء البيان لا يبقى موضوع للإطلاق.

فتقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ من باب حكومة أصالة الظهور في طرفه على أصالة الظهور في طرف العامّ ، وأمّا التقييد في باب الإطلاق فهو رافع لموضوع ظهور الإطلاق حقيقة وتكوينا ، فكأنّه من قبيل الورود.

وأيضا من الأوّل : ـ أي الآيات ـ قوله تعالى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .

تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم العقود ، هو أنّ الظاهر من الأكل في المقام مطلق التصرّفات والانتفاعات بالأموال، لا خصوص الازدراد ؛ إذ في جملة كثيرة من الأموال لا يمكن ذلك.

فظاهر الآية هو النهي وتحريم التصرّفات الباطلة ، أي على وجه لم يشرع في أموال الناس ؛ إذ لا شكّ في جواز جميع التصرفات في أموال نفسه إلاّ أن يكون ذلك السنخ من التصرّف حراما ، كالإسراف ، والتبذير وغيرهما من التصرّفات المحرّمة الكثيرة.

ولا يمكن أن يكون المراد من الباطل في الآية هذا القسم من التصرّفات ، أوّلا بقرينة « بينكم » لأنّ أمثال هذه التصرّفات محرّمة وإن لم يكن غيره في البين ، فهذه الكلمة خصوصا مع قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) تكون قرينة على أنّ المراد من الأكل بالباطل هو التصرّف في مال الغير من غير وجه شرعي وبغير استحقاق ، كالغصب والخيانة والسرقة والربا وبشهادة الزور ، أو باليمين الكاذبة ، أو بالرشوة ، أو بالبيوع الفاسدة كالبيع الغرري ، أو سائر المعاملات الفاسدة الباطلة في الشرع ، مثل أنواع القمار ، إلى غير ذلك من العقود والمعاملات الفاسدة ، كالمعاملات التي تقع عن إكراه الطرف.

فمعنى الآية بحسب الظاهر ، وما هو المتفاهم العرفيّ منها أنّ جميع هذه التصرّفات في أموال الناس حرام ، إلاّ أن يكون التصرّف في مال الغير بالوجه الشرعيّ ، وعبّر سبحانه وتعالى عن ذلك الوجه بقوله ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) أي عند العرف مع عدم ردع الشارع عن مثل ملك التجارة ، بل إمضائها ؛ وذلك من جهة أنّ قولهم بكفاية عدم الردع من قبل الشارع من باب أنّه كاشف عن الإمضاء ، وإلاّ فهو بنفسه لا أثر له ، فإذا كان معنى الآية ما عرفت ، فدلالتها على اللزوم واضحة.

بيان ذلك : أنّه بعد الفراغ عن حصول الملكيّة والنقل والانتقال بمحض وجود‌ العقد التامّ الواجد لجميع شرائط الصحّة من الطرفين ، ففسخ أحدهما من دون رضا الآخر يكون تصرّفا في مال الغير بدون أن يكون تجارة عن تراض منهما ، فيكون أكلا لمال الغير بالباطل ، أي بوجه غير شرعي.

فالفسخ الذي أثره إرجاع مال الغير إلى صاحبه الأوّلي من دون رضا من ملك بالعقد ، يكون داخلا في المستثنى منه ، فيكون منهيّا عنه ، فيكون باطلا وغير نافذ ، وهذا معنى مساوق للزوم.

وخلاصة الكلام : أنّ ظاهر الآية هو أنّ سبب جواز أكل أموال الناس منحصر في الانتقال إليه بالتجارة التي تكون عن تراض منهما ، كما هو مفاد الاستثناء عن العموم.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ عقد المستثنى منه وحده كاف في إثبات هذا الحكم ، أي أصالة اللزوم في العقود ، لو كان المراد من الأكل بالباطل هو الأكل من غير سبب شرعيّ.

لا يقال : إنّ الفسخ لو كان مؤثّرا يكون سببا شرعيّا ، ويخرج به كون الأكل أكلا لمال الغير بالباطل ، فيكون هذا الاستدلال دوريّا ، لأنّ عدم تأثير الفسخ موقوف على كون أكل المال به أكلا بالباطل ، وكونه كذلك موقوف على عدم تأثير الفسخ ، وألاّ يكون الأكل على وجه شرعيّ ، وليس من أكل المال بالباطل.

لأنّ الآية حصرت سبب جواز أكل مال الغير في التجارة عن تراض ، ومعلوم أنّ الفسخ من دون رضائه الطرف الآخر ليس من التجارة عن تراض.

إن قلت : أليس يجوز أكل مال الغير بإباحة مالكه ، وليست الإباحة تجارة عن تراض؟

قلنا أولا : إنّ المراد من الأكل هاهنا هو التملّك ، لا المعنى المعروف المقابل للشرب كما تقدّم ذكره ، والتملّك لا يحصل بالإباحة ، بل يحتاج إلى تمليك من قبل الله أو من قبل مالكه.

وثانيا : أنّ عقد المستثنى منه عامّ كسائر العمومات الشرعيّة قابل للتخصيص ، فمفاده وإن كان عدم جواز التصرّف في مال الغير مطلقا ، ولم يخرج في ظاهر الآية عن هذا العموم إلاّ كون الأكل من باب التجارة عن تراض ، ولكن يمكن تخصيصه بدليل آخر أيضا كسائر العمومات التي ترد عليها مخصّصات كثيرة ومتعدّدة ، ما لم تصل إلى حدّ تخصيص الأكثر ، فهاهنا أيضا خصّص العامّ بدليل جواز التصرّف بإباحة المالك.

وثالثا : ليس مورد إباحة المالك من الأكل بالباطل ، لا في نظر العرف وهو واضح ، ولا في نظر الشرع ؛ لأنّ الممنوع والمنهيّ في نظر الشرع هو أكل مال الغير من غير إذنه وبدون طيب نفسه ، وأمّا مع أحدهما فلا يرى الأكل باطلا ، ففي مورد الإباحة بل في كلّ مورد صدر الإذن من قبل الشارع بجواز التصرّف فيه ، ليس من الأكل بالباطل ، لا في نظره ولا في نظر العرف ، فلا يشمله هذا العامّ.

ورابعا : يظهر من الآية المقابلة بين الأكل بالباطل وكونه عن تجارة مع تراضى الطرفين بطور المنفصلة المانعة الخلوّ ، بمعنى أنّ الأكل لمال الغير لا يخلو من أحد هذين الأمرين : إمّا يكون بوجه غير شرعي وباطلا ، وإمّا أن يكون من باب التجارة عن تراض ، ولا ريب في أنّ موارد صدور الإذن من الشارع بجواز الأكل والتصرّف ، أو المالك كذلك ليس بوجه غير شرعيّ ، ولا يصدق عليها أيضا أنّها تجارة عن تراض.

فلا بدّ من حمل الآية على معنى يلتئم مع هذا الحصر ، وعدم خلوّ الأكل عن أحد هذين ، أي كونه إمّا باطلا أو يكون تجارة عن تراض ، وهو أن يقال :

إنّ المراد منها أنّ هذه المعاملات والمعاوضات والمبادلات التي تقع بينكم لا يخلو من أحد أمرين : إمّا باطل ويكون بوجه غير شرعيّ ، فهذا القسم حرام ، وليس لكم ارتكابه ويجب الاجتناب عنه ، وإمّا أن يكون تجارة عن تراض ، وهذا القسم لا مانع من ارتكابه بل ندب إليه الشرع. وأمّا الحرمة في القسم الأوّل فهل هي وضعي أم تكليفي؟ فبحث آخر ، وإن كان الظاهر منها الوضعيّ ، بقرينة كلمة الباطل‌ وإطلاقها عليها.

إذا عرفت ما ذكرنا في معنى الآية ، فلا يبقي إشكال في دلالتها على المطلوب ، أي اللزوم.

بيان ذلك : أنّ القضية المنفصلة المانعة الخلوّ رفع كلّ واحد من طرفيها يثبت وجود الطرف الآخر ، فإذا لم يكن المعاملة المشروعة من مصاديق التجارة عن تراض تكون باطلة ، وفيما نحن فيه من المعلوم أنّ الفسخ بدون رضائه الطرف الآخر ليس تجارة عن تراض ، فيكون باطلا غير نافذ ، وهذا من لوازم اللزوم.

وإن شئت قلت : إنّ مفاد الآية قضيتين كلّيتين ، إحداهما أنّ كلّ معاملة ليست بباطلة لا بدّ وأن تكون تجارة عن تراض ، والأخرى أنّ كلّ معاملة ليست تجارة عن تراض فلا محالة تكون باطلة ، وهذا معنى كون مفادها قضيّة منفصلة مانعة الخلوّ ، وباقي ما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى الإيضاح.

وخلاصة الكلام : أنّ الآية حسب المتفاهم العرفي الذي هو معنى الظهور وهو الحجة ، هو أنّ ما ليس بتجارة عن تراض فهو باطل ، لا أنّ كلّ معاملة تكون من مصاديق عنوان تجارة عن تراض تكون صحيحة ؛ كي يرد عليه النقوض الكثيرة ، كالمعاملات غير المشروعة من جهة مبغوضيّة نفس عناوينها كالقمار والرباء ، أو من جهة خلل في العقد ، أو في المتعاقدين، أو في العوضين ، والأمثلة واضحة ، فإنّها باطلة مع كونها تجارة عن تراض يقينا.

إن قلت : إنّ الآية مركّبة من عقدين : عقد المستثنى ، وعقد المستثنى منه. والأوّل سلبيّ مفاده عدم جواز أكل المال بالباطل ، والثاني إيجابي مفاده جواز الأكل إن كانت المعاملة تجارة عن تراض ، فليس هاهنا ما يكون مفاده أنّ ما ليس بتجارة عن تراض يكون من الأكل بالباطل الذي هو مبنى هذا الاستدلال .

وذلك من جهة أنّ في العقد الأوّل موضوع الحكم بالحرمة هو أكل المال بالباطل ، والحكم لا يثبت موضوعه. والمفروض أنّ الموضوع فيما نحن فيه مشكوك ؛ لأنّه بناء على اللزوم الفسخ لا يؤثّر ، فيكون أكل المال بالفسخ أكلا بالباطل ، وبناء على عدمه يؤثّر الفسخ ، فلا يكون الأكل به أكلا بالباطل.

وحيث أنّ اللزوم مشكوك فيكون موضوع الحرمة مشكوكا ، فيكون الاستدلال بهذا العموم لعدم تأثير الفسخ لكونه أكلا بالباطل من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لا يقول به أحد ، ولا يمكن أن يقول به أحد.

وفي العقد الثاني موضوع الحكم الإيجابي أي جواز الأكل هو كون المعاملة تجارة عن تراض ، وهذا الحكم الإيجابي ، لا يدلّ على أنّ كلّ ما ليس بتجارة عن تراض فهو من الأكل بالباطل ، نعم انتفاء الجواز بانتفاء كونه تجارة عن تراض حكم عقلي ومن باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

قلنا : إنّ نفس جعل المقابلة بين أكل المال بالباطل ، وبين كونه عن تجارة عن تراض يدلّ على أنّ ما ليس من التجارة عن تراض فهو من أكل المال بالباطل ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ففي الحقيقة في مورد الشكّ في لزوم معاملة عقديّة يثبت الموضوع بعد أن فسخ المعاملة للعقد الأوّل ـ أي المستثنى منه ـ بالعقد الثاني ـ أي المستثنى ـ وقرينيّته .

فكلّ واحد من العقدين وحده وإن لم يدلّ على عدم تأثير الفسخ ، ولا على اللزوم ، إلاّ أنّه بانضمام أحدهما إلى الآخر والتعمّق في مجموع الآية تحصل هذه النتيجة ، أي يكون إرجاع المال بالفسخ مع عدم رضائه الطرف الآخر من أكل مال الغير بالباطل الذي هو موضوع الحرمة في عقد المستثنى منه ، فيكون الفسخ غير مؤثّر ، وهو من لوازم اللزوم.

وأمّا الثاني : أي الأخبار التي تدلّ على لزوم كلّ عقد مملّك :

فمنها : قوله عليه السلام : « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (8).

بيان ذلك : أنّه بعد الفراغ عن أنّ العقد سبب لانتقال كلّ واحد من العوضين إلى صاحب العوض الآخر ، وصيرورته ملكا ومالا له ، فلو كان إرجاع ذلك المال إلى صاحبه الأوّل بصرف الفسخ من دون طيب نفس الطرف ، أي من انتقل المال إليه بالعقد ، جائزا ـ الذي هو معنى عدم اللزوم ـ يلزم أن يكون أكل مال المسلم بدون طيب نفسه جائزا ، والحديث ينفيه : فالحديث يدلّ على عدم تأثير الفسخ وهو ملازم مع اللزوم.

وأمّا توهّم : أنّه بعد الفسخ يشكّ في أنّه مال الغير ؛ إذ على تقدير كون العقد أو المعاملة جائزة ، فبعد الفسخ يخرج عن كونه مال الغير قطعا ، وعلى تقدير كونه لازما يبقى بعده على كونه مال الغير ، وحيث أنّ كلا الأمرين غير معلوم ، فكونه مال الغير بعد الفسخ مشكوك ، فيكون التمسّك بالحديث من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، وهو واضح البطلان ؛ للزوم إحراز موضوع الحكم.

ففيه : أنّ عدم كونه مال الغير متوقّف على تأثير الفسخ في إرجاع المال إلى صاحبه الأوّل ، وإلاّ فمع عدم تأثيره وعدم انحلال العقد لا وجه لخروجه عن ملك من انتقل إليه بالعقد ، بل باق على ملكه يقينا من دون احتياج إلى استصحاب بقائه على ذلك ، وتأثير الفسخ متوقف على عدم كونه مال الغير ، وإلاّ يلزم أن يكون التصرّف في مال الغير بإخراجه عن ملكه بدون طيب نفسه حلالا وجائزا ، والحديث ينفيه ، فلا يمكن إثبات جواز التأثير بالشكّ في كونه مال الغير ، ويكون دورا واضحا.

وإن شئت قلت : إنّ إرجاع المال إلى نفسه وإخراجه عن ملك طرفه بالفسخ متوقّف على عدم كونه ملكا لذلك الطرف حال الإخراج ، وعدم كونه ملكا له في ذلك الحال متوقّف على الإخراج بذلك الفسخ ، إذ ليس سبب آخر في البين على الفرض ، فالإخراج بذلك الفسخ متوقّف على نفسه ، نعم شمول هذا الحديث للفسخ في العقد المشكوك اللزوم منوط بالقول بحصول الملكيّة بعد تماميّة العقد ، كما هو الصحيح.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ دلالة هذا الحديث على اللزوم يشمل جميع المعاملات ، سواء كانت عقديّة أو بالمعاطاة ، بناء على حصول الملكيّة بالمعاطاة ، كما هو الصحيح. وأمّا بناء على أنّها مفيدة للإباحة من دون حصول ملكيّة في البين ، فلا ؛ لأنّه بناء على القول بالإباحة لا يكون المباح له ماله ، كي يقال بأنّه لا يمكن إرجاعه بدون طيب نفسه ، وكذلك لا يشمل المعاملات التي ليست مملّكة كالنكاح ـ مثلا ـ وإن كان عقدا ، وهو واضح.

وممّا تقدّم ذكره يظهر أنّ دلالة هذا الحديث على لزوم المعاملات المملّكة في غاية الوضوح ، ولا فرق بين وقوع تلك المعاملات بالعقد أو بالمعاطاة ؛ ولذلك قلنا في مبحث بيع المعاطاة أنّ مقتضى القاعدة المتّخذة من الروايات ، بل بناء العقلاء لزوم بيع المعاطاة ، ولكن الذي أخرجنا عن الالتزام بهذه القاعدة هو دعوى الإجماع من جمع من أعاظم الفقهاء.

ومنها : قوله عليه السلام : « الناس مسلّطون على أموالهم » (9).

بيان ذلك : أنّ السلطنة على المال التي أمضاها الشارع ـ لأنّ العرف والعقلاء أيضا يعتبرون المالك ذا سلطان على ماله ـ أعمّ من السلطنة على التصرّفات التكوينيّة ـ كالأكل والشرب واللبس والركوب والسكنى ، وهكذا في المأكولات‌ والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن ، وهكذا الأمر في غير المذكورات ـ ومن السلطنة على التصرّفات التشريعيّة ، كالبيع والهبة والوقف والصلح ، وأمثال تلك العناوين ممّا توجد بإنشاءاتها في عالم الاعتبار التشريعي.

وبعبارة أخرى : كما أنّ المالك في نظر العرف والعقلاء ذو سلطان على التصرّفات التكوينيّة ، كذلك في نظرهم له السلطنة بالنسبة إلى التصرّفات في عالم اعتبارهم ، كأنواع المعاملات والمبادلات الواقعة عليه عندهم ، وقد أمضى الشارع هذه السلطنة التي عند العرف تكوينا وتشريعا ، ولا شكّ في أنّ العرف والعقلاء كما أنّهم يرون جواز كلا القسمين من التكوينيّة والتشريعيّة للمالك عندهم ، كذلك يرون له حقّ منع الغير عن التصرّف بكلا قسميه ، أي يرون له ـ مثلا ـ حقّ المنع عن أكله وعن بيعه أو هبته.

فبناء على أن يكون مفاد هذا الحديث الشريف إمضاء ما عليه العرف ، كما هو الظاهر منه ، يكون مفاده أنّ للمالك بعد العقد حق المنع عن إرجاع المالك الأوّل هذا المال الذي خرج عن ملكه إلى نفسه ثانيا بواسطة الفسخ ، ومرجع هذا إلى عدم تأثير الفسخ ، وهذا هو اللزوم.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما ربما يقال بأنّ موضوع هذه السلطنة ومتعلّقها هو أن يكون ماله ، وبعد الفسخ كونه ماله مشكوك ، لاحتمال عدم اللزوم وتأثير الفسخ.

وذلك من جهة أنّه بناء على ما ذكرنا ليس لغير المالك بدون إذنه ورضاه حقّ الفسخ ؛ لأنّ الفسخ أيضا من التصرّفات الاعتباريّة التي قلنا إنّ للمالك منعه عنها ، وهذا دليل على عدم تأثير الفسخ ، فيكون موضوع السلطنة الذي هو عنوان ماله موجودا ، فيشمله الحديث.

وخلاصة الكلام في هذا المقام هو أنّ المالك هل له السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله فقط ، غاية الأمر أعمّ من التكوينيّة والتشريعيّة ، أم لا ، بل له أيضا مضافا إلى ذلك حقّ منع الغير عن التصرّف في ماله ، وإن كان التصرّف اعتباريّا كإيقاع‌ المعاملات عليه ، بمعنى أنّ تصرّفات غير المالك بدون إذن المالك ورضاه إن كان تصرّفا خارجيّا في المال يكون حراما ؛ لقوله عليه السلام : « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » وأمّا إن كان تصرفا اعتباريّا وفي عالم المعاملات والمبادلات الاعتباريّة ، فيكون تلك التصرّفات لغوا لا أثر لها ، كالتصرّفات التي تصدر من الفضولي ، وحيث أنّها بدون إجازة المالك وإذنه فلا أثر لها وإن لم يكن حراما.

فالتصرّفات التكوينيّة في مال الغير حرام ، سواء كان بإتلاف نفسه أو شي‌ء من أوصافه ، أو من منافعه ، أو باستيفاء منافعه ، أو بحبس تلك المنافع عن مالكه ، كلّ ذلك بقاعدة الإتلاف ، أو قاعدة على اليد ؛ ففي جميع ذلك يكون الأمران ، أي الحرمة التكليفيّة والضمان وضعا ؛ وذلك من جهة أنّ التصرّف التكوينيّ تنطبق عليه إحدى هاتين القاعدتين ، أي الإتلاف وعلى اليد غالبا.

وأمّا التصرّفات الاعتباريّة ، أي نقلها بالإنشاءات المعهودة من العقود والإيقاعات ، فمن حيث أنّها فعل غير المالك وأمر خارجي لا مساس لها بمال الغير ، ومن حيث منشآتها أمور اعتباريّة لا وجود لها في عالم الاعتبار ، ويحتاج وجودها في عالم الاعتبار الشريعيّ أيضا إلى إذن المالك أو إجازته ، والمفروض فيما نحن فيه ـ أي الفسخ ـ أنّه بدون إذن المالك وإجازته، فلا يوجد في عالم الاعتبار التشريعي فيكون لغوا لا أثر له ، فيبقى المال في ملك من ملك بالعقد ، وهذا دليل على البقاء من دون حاجة إلى الاستصحاب.

فموضوع السلطنة باق وموجود ، والنتيجة حيث أنّ الفسخ يتعلّق بمال الغير بدون إذنه ورضاه ، فلا أثر له.

إن قلت : إنّ ما ذكر صحيح إن كان الفسخ عبارة عن إرجاع المال واسترداد ما انتقل منه إلى طرفه ، فحينئذ يمكن ان يقال : حيث أنّ الطرف مسلّط على ماله ، فله المنع عن إرجاع ماله إلى صاحبه الأوّل بدون إذنه ورضاه ، وأمّا لو كان الفسخ عبارة عن‌ حلّ العقد ونقض العهد ، كما هو الصحيح وعليه بنى المحقّقون في مبحث الخيارات ، فليس للفسخ علاقة وتعلّق بالمال المنتقل إلى طرف الفاسخ كي يقال بأنّه بدون إذن مالكه يكون منافيا مع السلطنة المطلقة التي للمالك التي هي مفاد هذا الحديث الشريف.

قلنا : إنّ السلطنة المطلقة التامّة للمالك على ماله التي ثابتة له عند العرف والعقلاء ، ومفاد هذا الحديث وهو إمضاء ما عند العرف ، تنافي إمكان إرجاع ماله بدون إذنه وإجازته ، ولو كان بتوسط حلّ العقد ، فقاعدة تسلط الناس على أموالهم في نظر العرف والعقلاء تمنع عن انحلال العقد بفسخه ، وتبيّن عدم قدرته في عالم التشريع على حلّ العقد الذي يكون سببا لخروج ماله عن ملكه بدون رضاه وإجازته.

وإن شئت قلت : إنّ الفسخ بعنوانه الأوّلى حلّ العقد ، وبعنوانه الثانوي إرجاع كلّ واحد من العوضين إلى مالكه الأوّل ، فإذا كان الإرجاع والإخراج عن ملكه بدون إذنه منافيا لسلطنته ، فالسبب الذي يترتّب عليه هذا الأمر أيضا يكون منافيا لسلطنته ، فيكون منفيّا بهذا الحديث ، فهما ضدّان ، أي قدرته على حلّ العقد مع كون طرفه ذا السلطنة المطلقة التّامة ضدّان ، فلا يصحّ جعلهما ، وحيث أنّ السلطنة ثابتة بهذا الحديث ، فلا بدّ وأن نقول بعدم قدرته شرعا على حلّ العقد الذي هو مناف بهذه السلطنة.

نعم لو قلنا بأنّ المالك له السلطنة فقط على أنواع التصرّفات في ماله ، وأمّا منعه للغير فلا ، فحينئذ يمكن أن يقال بجواز حلّ العقد بالفسخ ، وإن كان أثره إرجاع كلّ واحد من العوضين إلى صاحبه الأوّلي على رغم المالك الفعلي بالعقد.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الاحتمال بعيد عن الصواب ، والنتيجة أنّه ليس لكلّ واحد من الطرفين فسخ العقد وحلّه ، إلاّ أن يكون بجعل منهما ، أو بجعل من قبل الشارع كخيار المجلس ، أو كان العقد من العقود الجائزة بالذات كالعقود الإذنيّة التي قلنا‌ إطلاق العقد عليها إطلاق عنائي مسامحي ، ولو فسخ لا يؤثّر ، وهذا معنى اللزوم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تفصيل شيخنا الأستاذ في المقام بين أن يكون الخيار ، أي ملك فسخ المعاملة وإقرارها متعلّقا بالعقد أو بالعين ـ فقال في الأوّل إنّ في مورد الشكّ لا يمكن التمسّك بهذه القاعدة لإثبات اللزوم ؛ لأنّ الفسخ لا يرجع إلى تصرّف غير المالك في العين المملوكة لغيره كي يكون منافيا مع سلطنة ذلك الغير على ماله ؛ وذلك لأنّ الخيار يبطل التبديل الواقع من المتعاقدين من دون إرجاعه للعين ، وإنّما يكون رجوعها يحصل قهرا بواسطة حلّ العقد. وأمّا في الثاني ، أي في صورة القول بأنّ الخيار متعلّق بالعين ، فيجوز التمسّك بهذه القاعدة في مورد الشكّ لإثبات اللزوم ، لمنافاة الخيار بناء على هذا مع سلطنة الطرف على منع الغير عن التصرّف في ماله ، وإن كان بإخراجه عن ملكه ـ ليس كما ينبغي.

ومنها : قوله صلى الله عليه واله : « المؤمنون عند شروطهم » (10).

ودلالة هذا الحديث الشريف على المطلوب مبنيّ على أمرين :

أحدهما : شمول الشرط للعقود الابتدائيّة ، بمعنى أن يكون المراد منه مطلق الإلزام والالتزام ، وإلاّ لو كان خصوص الإلزام أو الالتزام في ضمن العقود فلا يشمل العقود الابتدائيّة ، وذلك واضح.

ولا يخفى أنّ إثبات هذا المعنى ، أي كون المراد منه مطلق الإلزام والالتزام موقوف إمّا على كون هذا المعنى معنى حقيقيّا لهذه الكلمة ، وإمّا أن يكون في المقام قرينة على إرادة هذا المعنى مجازا. والثاني واضح عدمه ، وأمّا الأوّل فلا طريق له إلاّ انسباق هذا المعنى إلى أذهان أهل العرف في موارد الاستعمالات ، والظاهر أيضا عدمه بل الذي‌ ينسبق إلى الذهن من هذه اللفظة في موارد الاستعمالات هو ما يكون له ارتباط وعلاقة بشي‌ء آخر وجودا أو عدما.

وأمّا ما ذكره في القاموس (11) من أنّه الإلزام والالتزام في ضمن البيع ، فهو تعريف بالأخصّ ببيان بعض مصاديقه ، وإطلاق الأصوليّين مفهوم الشرط في قولهم أنّ للقضيّة الشرطيّة مفهوم يرجع إلى هذا المعنى ، بمعنى أنّ وجود التالي مربوط ومعلول لوجود المقدّم ، فيلزم من عدمه العدم ، وكذا قول المنطقيّين في باب القضايا القضيّة الشرطيّة وتقسيمها إلى المتّصلة والمنفصلة ، وقول النحويّين أنّ كلمة « إن » و« متى » وأمثالهما أداة الشرط ، كلّها يرجع إلى ما قلنا من أنّه يطلق على ما فيه نحو ارتباط بغيره.

فالالتزامات الابتدائيّة وكذلك إلزاماتها التي لا ربط بينها وبين غيرها لا يطلق عليها الشرط إطلاقا حقيقيّا ، ولذلك قلنا إنّ الشروط الابتدائيّة التي ليست في ضمن عقد لازم لا يجب الوفاء بها ؛ لعدم شمول قوله صلى الله عليه واله : « المؤمنون ـ أو المسلمون ـ عند شروطهم » لتلك الشروط ؛ لعدم انطباق مفهوم الشرط بمعناه الحقيقي عليها ، لا أنّ عدم وجوب الوفاء بها لأجل وجود المخصّص ، وهو الإجماع على عدم لزوم الوفاء بها.

وخلاصة الكلام : أنّ القول بأنّ الإلزامات والالتزامات الابتدائيّة شروط بالمعنى الحقيقي ، ممّا لا يساعد عليه الوجدان وفهم العرف.

وأمّا إطلاق الشرط في بعض الأخبار على بعض الأحكام الشرعيّة ، كقوله صلى الله عليه واله : « شرط الله قبل شرطكم » (12) أي : كون الولاء لمن أعتق ، أو قوله عليه السلام : « في الحيوان كلّه شرط ثلاثة أيّام » (13) وأمثالهما ، فالظاهر أنّ ليس المراد منهما الجعل الابتدائي من دون‌ ملاحظة ارتباطه مع غيره كما توهّم ، إذ يمكن أن يكون المراد منهما هو الجعل الإلهي بملاحظة كون العمل بما ألزم فعله أو تركه ، وامتثاله بالإيجاد في الأوّل والترك في الثاني ، وترتيب الأثر في الوضعيّات شرطا لدخول الجنّة.

فكأنّ الله تبارك وتعالى جعل امتثال أحكامه والعمل بها مقدمة وشرطا لدخول الجنّة ، ولعلّ بهذا الاعتبار يقول جلّ جلاله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة: 111] وأيضا قوله تعالى {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } [التوبة: 24] وأيضا قوله تعالى {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] .

وخلاصة الكلام : أنّه يظهر من الآيات والأخبار أنّ الأحكام الشرعيّة ـ وضعيّة وتكليفيّة ـ امتثالها والعمل على طبقها وترتيب الأثر عليها في الوضعيّات شروط في عالم العهد والميثاق الذي يعتبر عنه بعالم الذّر في الأخبار من قبل الله تعالى لدخول الجنّة التي وعد بها المتّقون.

والحاصل : أنّ القول بأنّ الشرط بحسب مفهومه العرفي وما هو معناه الحقيقي يشمل مطلق الجعل الابتدائي كي يكون جميع العقود الابتدائيّة من مصاديق ذلك المفهوم ، ممّا ينكره الوجدان وما هو المتفاهم العرفيّ من هذه الكلمة.

ثانيهما : أن تكون هذه الجملة دالّة على وجوب الوفاء بالشروط تكليفا أو وضعا ، فيكون معناها أنّه يجب الوفاء على المؤمنين بشروطهم ، فيكون مساقها مساق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بعد هاتين المقدّمتين ، أي كون الشروط عبارة عن مطلق الإلزامات والالتزامات ، وكون معنى الجملة وجوب الوفاء بتلك الإلزامات والالتزامات ، وقد تقدّم شرح دلالة ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) على اللزوم.

والإنصاف أنّ هذه المقدمة الثانية لا إشكال فيها.

بيان ذلك : أنّ قوله « عند شروطهم » ظرف لغو متعلّق بأفعال العموم ، وهذا ظاهر الكلام لا يحتاج إلى الدليل ، كما بيّنّا ذلك في نظائره ، مثل قوله صلى الله عليه واله : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (14).

فتقدير الكلام أنّ المؤمنين أو المسلمين ثابتون أو واقفون أو مستقرّون ـ وأمثال ذلك ـ عند شروطهم ، فهي إمّا من قبيل إنشاء الحكم بصورة الأخبار الذي هو آكد في الوجوب من الجملة الطلبيّة الإنشائيّة ، كما قرّرناه في الأصول ، فيكون المعنى : يجب الثبوت عند الشروط وعدم الخروج عمّا التزم به ، وهذا المعنى من لوازم اللزوم.

وإمّا مفاده يكون ابتداء هو الحكم الوضعي ، بأن يكون الحكم بالثبوت كناية عن اللزوم. ويدلّ عليه استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الجملة في قوله « من شرط لامرأته بشرط فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا » (15) فتمسّك بهذا الحديث النبويّة لوجوب الوفاء.

وعلى كلّ تقدير يكون مفاد الجملة هو اللزوم على تقدير صحّة المقدّمتين.

لكن عرفت أنّ صحّة المقدّمة الأولى في غاية الإشكال ، بل مناف للوجدان ؛ فلا دلالة لهذا الحديث الشريف على وجوب الوفاء بكلّ عقد كي يكون مفاده لزومها.

نعم يدلّ على وجوب الوفاء بالشروط الضمنيّة التي تقع في ضمن العقود اللازمة.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في لزوم البيع بعد التفرّق عن مجلس المعاملة ، بقوله صلى الله عليه واله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » وإذا تفرّقا ـ أو « إذا افترقا » على اختلاف‌ طرق نقل الحديث الشريف ـ وجب البيع ولا خيار بعد الرضا » (16).

والمراد من الرضا في الحديث الشريف هو الرضا المعاملي ، أي اختيار المعاملة من غير كره ولا إجبار عليها ، لا طيب النفس ؛ وذلك لأنّ كثيرا من المعاملات ليست عن طيب نفس ، بل الحاجة والضرورة دعته إلى إيقاع المعاملة ، وعلى كلّ حال الذي لا يمكن إنكاره دلالة الحديث الشريف على لزوم البيع بعد انقضاء المجلس وحصول الافتراق بين المتبايعين ، وبناء على هذا إذا طرأ شكّ في لزوم البيع بعد حصول الافتراق لعروض حالة أوجبت الشكّ ، نتمسّك بهذه الأخبار للزومه وعدم الاعتناء بالشكّ.

وأمّا ما توهّم من أنّ الشارع جعل الافتراق غاية لهذا الخيار الخاصّ ، أي خيار المجلس ، ولا ينافي ذلك ثبوت الخيار من جهة أخرى إذا جاء الدليل عليه ، فليس أدلّة سائر الخيارات مخصّصا لهذا العموم ، وفي الحقيقة لا عموم في البين يدلّ على اللزوم مطلقا ، بل اللزوم يكون من ناحية خاصّة ، أي تماميّة خيار المجلس بحصول الافتراق فقط ، فلو احتملنا وجود خيار من ناحية أخرى ليس عموم يرفع الشكّ.

فعجيب من جهة أنّ قوله صلى الله عليه واله « إذا افترقا وجب البيع » بعد قوله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » ظاهره وجوب البيع ولزومه من جميع النواحي ، ولا وجه لتقييده بناحية هذا الخيار ، أي خيار المجلس ، وإلاّ لو فتح هذا الباب لانسدّ باب التمسّك بالإطلاقات في جميع الموارد ، خصوصا بملاحظة قوله صلى الله عليه واله « ولا خيار بعد الرضا » الذي نفي فيه جنس الخيار بلا النافية للجنس ، فيكف يمكن أن يقال إنّ المنفي هو انتفاء هذا الخيار فقط ، ولا يدلّ على انتفاء مطلق الخيار بحصول التفرّق.

فالحقّ أنّ هذا الحديث يدلّ على اللزوم مطلقا ومن جميع النواحي ، لا من ناحية خيار المجلس فقط ، فأدلّة سائر الخيارات تكون من قبيل المخصّصات والمقيّدات لهذا العموم والإطلاق. نعم هذه الرواية أو الحديث لا تدلّ على اللزوم إلاّ في البيع ، وأمّا في سائر العقود والمعاملات فلا بدّ من التماس دليل آخر على اللزوم.

ثمَّ بعد ما عرفت ما ذكرنا تعرف أنّ مقتضى هذه العمومات والإطلاقات ، هو كون الأصل في أبواب العقود والمعاملات هو اللّزوم ، ولا يؤثّر الفسخ إلاّ بدليل خاصّ لأدلّة الخيارات ، فأصالة اللزوم حيث أنّها من باب أصالة الإطلاق أو أصالة العموم ، فهي قابلة للتقييد والتخصيص ، والمخصّصات هي أدلّة الخيارات.

ثمَّ إنّ مفاد الإطلاقات والعمومات المذكورة مختلفة من حيث السعة والضيق.

فالعموم الأوّل ـ أي بناء العقلاء ـ أوسع وأشمل من الجميع ؛ إذ يشمل جميع العقود والمعاهدات ، معاوضيّة كانت أو غير معاوضية ، مملّكة كانت أو غير مملّكة ، بل يشمل الإيقاعات أيضا.

وأمّا الثاني : أي قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل جميع العقود مطلقا ولا يشمل الإيقاعات ، وأمّا خروج العقود الإذنيّة عن مفادها ، فقد قلنا إنّها ليس من باب التخصيص ، بل يكون خروجها خروجا موضوعيّا وبالتخصّص ، لأنّها عقد صورة وليست في الحقيقة بعقد. وأمّا العقود العهديّة فيشملها ، سواء كانت معاوضيّة ومملكة أو لم تكن كذلك ، حتّى يشمل مثل عقد البيعة الشرعيّة الصحيحة ، بل المعاهدات التي تقع بين المسلمين وغيرهم إن كانت جائزة وكانت على طبق المقرّرات الشرعيّة.

وأمّا الثالث : أي قوله تعالى { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فبناء على ما تقدّم في وجه دلالته على اللزوم وعدم تأثير الفسخ يكون مختصّا بالعقود المملّكة ، وفي أبواب المعاوضات التي يصير كلّ واحد من‌ العوضين ملكا لصاحب العوض الآخر ، فكون الفسخ مؤثّرا وموجبا لحلّ العقد ورجوع كلّ واحد إلى ملك مالكه الأوّلي بدون رضائه من ملكه بالعقد أو بالمعاطاة يكون من أكل مال الغير بالباطل.

وأمّا الرابع : أي قوله عليه السلام « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه » فمساقه مساق الآية المتقدّمة ، أي يكون دلالته على اللزوم في خصوص المعاملات المملّكة ، سواء كانت بالمعاطاة أو بالعقد.

وأمّا الخامس : أي حديث السلطنة فأيضا مثل سابقيه يدلّ على لزوم كلّ معاملة مملّكة ، سواء كانت بالعقد أو كانت بالمعاطاة.

وأمّا السادس : أي حديث « المؤمنون ـ أو المسلمون ـ عند شروطهم » فيدلّ على لزوم كلّ ما يسمّى شرطا. وقد بيّنّا في وجه اللزوم ـ بعد صدق الشرط ـ قول أمير المؤمنين عليه السلام : « من شرط لامرأته شرطا فليف لها به » (17) ومفاد هذه الرواية كما تقدّم وجوب الوفاء بشرطه الذي شرط على نفسه والتزم به ، فمفاد هذا الحديث الشريف الذي رواه الفريقان ـ ومن هذه الجهة ربما يطمئنّ الإنسان بصدوره عنه صلى الله عليه واله بل يقطع ـ هو الوقوف والثبوت عند التزاماته مطلقا ، سواء كانت تلك الالتزامات بدويّة ، أو كانت في ضمن العقود اللازمة. وقد تقدّم أنّ هذا المعنى مساوق للزوم.

وهذا الدليل يشمل جميع الالتزامات التي التزم بها المؤمن ، سواء كانت في أبواب المعاملات والمعاوضات ، أو كانت في غيرها ، فيمكن أن يقال : إنّ هذا الدليل أشمل من الأدلّة السابقة ؛ إذ له إطلاق من أغلب الجهات.

وأمّا السابع : أي الأخبار الواردة في لزوم البيع بعد الافتراق ، فلا شكّ في أنّها‌ ىتدلّ على لزوم خصوص البيع بعد انقضاء المجلس وحصول التفرّق.

ثمَّ إنّه لو فرضنا عدم دلالة الأدلّة السابقة على لزوم العقود ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فنقول :

لا شكّ في أنّه لو كان للحكم الشرعي ، أو الموضوع الذي له أثر شرعي حالة سابقة متيقّنة ، وشكّ في بقاء تلك الحالة يستصحب ، إن كان لبقاء تلك الحالة أثر شرعي في حال الاستصحاب ، فنرى هل هاهنا يمكن استصحاب نفس اللزوم أو ما يكون لازما أو ملزوما أو ملازما له ، فيثبت بها اللزوم ، أم لا يمكن شي‌ء من ذلك؟

أقول : أما استصحاب نفس اللزوم ـ وإن قلنا بأنّه حكم وضعي قابل للجعل ابتداء ، بلا توسيط جعل آخر كي يكون منشأ لانتزاعه أو اعتباره ـ فلا مجال له هاهنا ، أي في مورد الشكّ في لزوم معاملة أو عقد ابتداء ؛ لأنّه متى كان لازما كي يستصحب؟

نعم لو كان عقدا ومعاملة لازما ابتداء ، وشككنا في طروّ الجواز عليها لاحتمال وجود خيار لم يكن دليل على وجوده ولا على عدمه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا مانع من استصحاب نفس اللزوم ، وإلاّ ففي غير هذه الصورة فاستصحاب نفس اللزوم لا معنى له.

وأمّا استصحاب الملكيّة السابقة على الفسخ الذي ينتج اللزوم ، ففيه تفصيل ، إجماله أنّ هذا الاستصحاب المدّعى في المقام تارة يدّعى أنّه من قبيل استصحاب الكلّي ، وأخرى أنّه استصحاب شخص الملكيّة المنشأة بالعقد أو بالمعاطاة ، والفعل من طرف واحد أو الفعل الصادر من الطرفين.

أمّا الثاني : أي استصحاب شخص الملكيّة ، ففيه : أنّه من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، فلا يجري أوّلا على ما هو التحقيق وسنبيّن وجهه. وثانيا : على فرض الجريان يكون مثبتا ، أمّا عدم جريان الفرد المردّد ؛ لأنّ شخص هذه الملكيّة التي وجدت‌ بإنشاء المتعاملين المردّدة بين أن يكون مستقرّة لا تزول بالفسخ ، وغير الثابتة التي تزول بالفسخ ليست قابلة للبقاء ؛ لأنّه بعد الفسخ إن كانت متزلزلة غير مستقرّة فقد زالت وانعدمت بالفسخ ، وإن كانت مستقرّة غير متزلزلة فهي وإن كانت باقية بعد الفسخ ، ولكن ليست فردا مردّدا فالفرد المردّد بوصف أنّه مردّد غير قابل للبقاء ، فلا يمكن استصحابه ، والفرد المعيّن وإن كان قابلا للبقاء ، لكنّه ليست معلومة ومتيقّنة في وقت من الأوقات ، فما هو متيقّن ـ أي الفرد المردّد ـ ليس قابلا للبقاء ، وما هو قابل للبقاء ـ أي الفرد المعيّن ـ لم يكن متيقّنا.

فعلى كلّ واحد من التقديرين يختلّ أحد أركان الاستصحاب ، أي إمّا لا يكون اليقين السابق ، أو لا يكون الشكّ في البقاء لاحقا.

فاختلال الركن الأوّل إذا فرضنا المستصحب فردا معيّنا ، واختلاف الركن الثاني ـ أي الشكّ في البقاء ـ إذا كان المستصحب فردا مردّدا ، فاستصحاب الفرد والشخص لا مجرى له.

وأمّا الأوّل : أي استصحاب الكلّي ، أي الجامع بين الملك المستقرّ الثابت وبين المتزلزل كي يكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي ، كاستصحاب كلّي الحدث الجامع بين الحدث الأصغر والأكبر ، بأن يقال : هذا الجامع وجد بمحض وجود العقد تامّ الأجزاء والشرائط ، أو وجود معاملة المعاطاة مثلا ، فإن كان وجوده في ضمن الملك المتزلزل غير المستقرّ ، انعدم بالفسخ ، وإن وجد في ضمن الملك المستقرّ فبعد الفسخ لا ينعدم مثل انعدامه في القسم الأوّل ، بل باق ، وهذا الترديد في الانعدام والبقاء يرجع إلى الشكّ في البقاء ، فيتمّ أركان الاستصحاب من اليقين بوجوده المستصحب سابقا ، والشكّ في بقائه لاحقا.

واعترض على هذا الاستصحاب من وجوه :

منها : أنّ هذا الاستصحاب مثبت ، من جهة أنّ بقاء قدر المشترك لا يثبت‌ عنوان اللزوم.

ولكن جواب هذا الإشكال سهل ، وهو أنّ المراد والمقصود من النزاع في اللزوم وعدمه هو المعاملة أو العقد ينحلّ بالرجوع والفسخ ، أم لا ويبقى أثره ، فإثبات بقاء الأثر وعدم الانحلال بالرجوع أو الفسخ كاف في إثبات هذا المقصود ، ولا نحتاج إلى إثبات عنوان اللزوم كي يقال بأنّه مثبت.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : أنّ عنوان اللزوم عنوان ومفهوم انتزاعيّ ، ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد بعد فسخ أحدهما بدون رضا الآخر ، أو يقال : بأنّه وإن كان من الأحكام الشرعيّة الوضعيّة ولكنّه ينتزع من الأحكام التكليفيّة ، كما أنّه نسب ذلك إلى الشيخ الأنصاري (18) فأيضا ينتزع قهرا من بقاء أثر العقد الثابت بالاستصحاب.

ومنها : ما اعترض به صاحب الكفاية في تعليقته على مكاسب شيخنا الأعظم الأنصاري (19) بأنّ هذا الاستصحاب من الشكّ في المقتضي ، فمن يقول بعدم جريانه في الشكّ في المقتضي ليس له أن يستند في إثبات اللزوم بهذا الاستصحاب.

وفيه : أنّ المراد من الشكّ في المقتضي ـ الذي لا نقول بجريان الاستصحاب فيه ـ هو أن يكون الشكّ في استعداد بقائه في عمود الزمان ، بحيث يحتمل تماميّة قابليّة بقائه وفناء عمره وارتفاعه من عند نفسه ، من دون وجود مزيل ورافع له. وما نحن فيه ليس هكذا ، بل قابل للبقاء ما دام موضوعه موجودا كما هو شأن كلّ حكم شرعي ، فما لم يأت الفسخ لا يشكّ في بقائه، وإنّما الشكّ في البقاء يحصل بعد وجود محتمل الرافعيّة ، وقد دافعنا عن أمثال هذه الشبهات تفصيلا في الأصول في بيان معنى الشكّ في المقتضي ، وأنّ أغلب الشبهات من جهة عدم الوصول إلى معنى الشكّ في المقتضي.

ومنها : معارضته مع الاستصحاب الحاكم عليه ، وهو استصحاب بقاء علقة المالك الأوّل من جهة الشكّ في أنّ المالك الأوّل بعد وقوع المعاملة التي يشكّ في لزومها انقطعت علاقته عن هذا المال بالمرّة ، أو بقيت حيث يقدر ـ بسبب ذلك المقدار الباقي من تلك العلاقة ـ على إرجاع ذلك المال إلى نفسه.

وبعبارة أخرى : هذه المعاملة التي وقع الشكّ في لزومها هل صارت سببا لخروج المال عن يد المالك الأوّل بحيث صار المالك الأوّل مثل الأجنبي ، وصار كأنّه لم يكن مالكا؟ أو بقي له حقّ الإرجاع بتوسّط الفسخ؟ فبقاء ذلك المقدار الذي قد يعبّر عنه بملك أن يملك ، مشكوك فيستصحب. ولا شكّ في حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء ملكية المالك الثاني ؛ لأنّه رافع في عالم التشريع لموضوع استصحاب الأخير ؛ إذ بقاء علاقة المالك الأوّل وقدرته على إرجاع المال إلى نفسه بالفسخ موجب للعلم بعدم بقاء ملكيّة المالك الثاني في عالم التعبّد والتشريع ، فلا يبقى شكّ في البين كي يستصحب.

وفيه : أنّه لا شكّ في ارتفاع الإضافة التي كانت بين المالك الأوّل وهذا المال بنفس العقد التامّ الأجزاء والشرائط ، وهذا هو معنى انتقال المال بالبيع مثلا من البائع إلى المشتري بالنسبة إلى المثمن ، وبالعكس بالنسبة إلى الثمن ، فلا يبقى إضافة بين المال والمالك الأوّل ؛ لأنّ الإضافة اعتباريّة ، ولا تتقطّع كي يقال قطعة ارتفعت بالبيع وبقي قطعة منها ، فلو كان علاقة وإضافة بين المالك الأوّل والمال ، لا بدّ وأن يكون حادثا بسبب الفسخ ، فليس شي‌ء يحتمل بقاؤه كي يستصحب.

وبعبارة أخرى : العقد المشكوك اللزوم ليس أمره أعظم من الموارد المعلوم جوازها بسبب الخيار ، وفي العقد الخياري يحدث علاقة بسبب الخيار ، وإلاّ فالعلاقة التي كانت بين الملك والمالك زالت بالمرّة بالعقد ، والخيار المجعول من قبل المتعاقدين أو من قبل الله تعالى يوجب حدوث علاقة جديدة بين ذي الخيار والمال الذي انتقل منه إلى طرفه المسمّى بحقّ الإرجاع ، أو كونه مالكا لأن يملك.

وأمّا بناء على قول من يقول إنّ ملكيّة المشتري مثلا للثمن متوقّفة على انقضاء زمن الخيار ، وإلاّ فقبل انقضاء زمن الخيار لا تحصل ملكيّة بنفس العقد ، فلا تحصل علاقة جديدة بالفسخ ، بل الملكيّة من الأوّل موجودة لذي الخيار ، وعلى هذا أيضا لا وجه للاستصحاب ؛ لبقاء الملكيّة قطعا.

ولكن مثل هذا الكلام على تقدير صحّته في العقود الخياريّة ، لا يمكن القول به في مطلق العقود الجائزة ؛ لأنّه لو لم تحصل الملكيّة بنفس العقد فلا تحصل أصلا ؛ لأنّه ليس هناك خيار كي يقال بحصول الملكيّة بعد انقضاء زمان الخيار.

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ علاقة المالك تزول بمحض وجود العقد الناقل ، ولا يبقى منها شي‌ء قطعا ويقينا ، فليس شي‌ء يشكّ في بقائه كي يستصحب.

وأما احتمال : أن يكون الاستصحاب من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، بأن يقال : إنّ الملكيّة مثل السواد والبياض من الطبائع المقولة بالتشكيك ، فلها مراتب مختلفة بالشدّة والضعف ، فإذا جاء الفسخ فمن الممكن أن يذهب ببعض مراتبها ويبقى البعض الآخر ، فإذا شكّ في بقاء البعض يستصحب بقاؤه بعد الفسخ ، فيبقى بعد الفسخ على ملك المالك الثاني ، وهذا عبارة أخرى عن اللزوم ، لأنّه بالفسخ لم ترتفع الملكيّة بتمامها ، بل بقي مرتبة منها ، والمعاملة الجائزة أو العقد الجائز هو أن يرجع المال بالفسخ إلى صاحبه الأوّل ، ولا يبقى للمالك الثاني شي‌ء منه.

هذا ، ولكن فيه أنّ الأمور الاعتباريّة وإن كان من الممكن اعتبارها شديدا أو ضعيفا ، كما اعتبر ذلك في النجاسة والحدث ، فالحدث الأكبر أشدّ من الحدث الأصغر ، فقد عبّر في الرواية في مقام السؤال عن المرأة الجنب إذا حاضت أنّه جاءها ما هو أعظم ، أي الحيض أعظم من الجنابة ، أو نجاسة البول أشدّ من نجاسة الدّم مثلا ، فلا ينبغي أن يشكّ في أنّ الأمور الاعتباريّة أيضا مثل الأمور التكوينيّة يمكن أن يكون لبعض أنواعها مراتب مختلفة بالشدّة والضعف مقولة بالتشكيك ، وذلك باعتبار بعض‌ أفراد نوع من أنواعها أشدّ من الفرد الآخر ، فيعتبر في نجس من أنواع النجاسات نجاسة شديدة ، وفي نجس آخر منها نجاسة ضعيفة ، ففي النجاسة الحاصلة من ملاقاة جسم للبول يمكن أن يعتبر نجاسة شديدة بحيث إذا غسل مرّة تزول مرتبة وتبقى مرتبة منها ، فيحتاج إلى غسلة ثانية لزوال المرتبة الباقية.

ولكن الملكيّة في الاعتبار العرفي ليست هكذا ، بل هي أمر بسيط يدور أمرها بين الوجود والعدم ، ولا يمكن في نظر العرف والعقلاء أن تنعدم مرتبة منها وتبقى مرتبة أخرى ، فيدور أمرها بين أن تبقى بتمامها أو تزول بتمامها ، فبناء على هذا لا يمكن استصحاب بقاء مرتبة ضعيفة عن الملكيّة للمالك الثاني بعد فسخ المالك الأوّل ، كي ينتج نتيجة اللزوم.

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ استصحاب الملك الكلّي الجامع بين الملكيّة المستقرّة الثابتة التي لا تزول بالفسخ ، وبين الملكيّة المتزلزلة التي تزول بالفسخ لا مانع منه ، ونتيجته لزوم المعاملة التي شكّ في لزومها.

وأمّا الإشكال على هذا الاستصحاب بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن حدوث الفرد الباقي ، والأصل عدمه ، فلا يبقى موضوع لهذا الاستصحاب.

ففيه أوّلا : أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسببا عن الشكّ في حدوث ذلك المشكوك الحدوث الذي لو كان حادثا لكان الكلّي باقيا ، أعني الفرد الباقي ، بل من لوازم كون الحادث ذلك الفرد الذي ارتفع يقينا ، أو الذي بقي يقينا.

وبعبارة أوضح : الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن أنّ الحادث أيّ واحد من هذين الفردين بمفاد كان الناقصة. وليس في البين ما يعيّن أنّ الحادث أيّ واحد من الفردين ؛ وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الكلّي لا يرتفع إلاّ بارتفاع منشئه.

وثانيا : في حكومة الأصل الجاري في السبب على الأصل المسبّبي لا بدّ أن يكون الترتّب والسببيّة بينهما شرعيّا ، وتفصيل المسألة في الأصول ذكرناه في كتابنا‌ « منتهى الأصول » (20).

وخلاصة الكلام : أنّ العدم النعتي ، أي عدم كون الحادث الذي وجد هو الفرد الباقي ليس له حالة سابقة ، والعدم المعمولي أي عدم حدوث الفرد الباقي مثبت ؛ لأنّ لازمه عقلا هو حدوث الفرد الزائل الذي لازمه القطع بارتفاع الكلّي فافهم.

وثالثا : أصالة عدم حدوث الفرد الباقي معارض بأصالة عدم حدوث الفرد الزائل.

نعم أنكر شيخنا الأستاذ (21) كون الاستصحاب هاهنا من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ؛ لأنّ اختلاف الملك بكونه مستقرّا ومتزلزلا ليس لعروض خصوصيتين على الملك يكون بإحداهما مستقرّا وبالأخرى يسمّى متزلزلا ، بل الاختلاف يكون بنفس الارتفاع والبقاء ، من جهة أنّ تنوّعه بنوعين ليس باختلاف سبب الملك ، ولا باختلاف حقيقته وماهيّته ، من غير جهة أنّ أحدهما يرتفع بالفسخ والآخر لا يرتفع.

فإذا كان الأمر كذلك وكان تنوّعه بنفس اللزوم والجواز ، فينتفي أحد ركني الاستصحاب على أيّ حال ، لأنّ أحد النوعين أي الجائز مقطوع الارتفاع ، والآخر أي اللازم مشكوك الحدوث من أوّل الأمر.

وبعبارة أخرى : بناء على ما ذكر ليس في البين إلاّ ملكيّة واحدة مردّدة بين أنّ الشارع حكم بلزومها ، أو حكم بجوازها بواسطة اختلاف أسبابها ، فمع قطع النظر عن حكم الشارع باللزوم والجواز لا تعدّد ولا تنوّع كي يقال بأنّ الجامع كان متيقّن الوجود فصار مشكوك البقاء ، بل ملكيّة واحدة لم يعلم أنّ الشارع حكم عليه باللزوم أو الجواز.

فليس الجامع هاهنا من قبيل الكلّي الذي له وجود بوجود هذا الفرد وله وجود آخر بوجود الفرد الآخر ، كما هو الشأن في الكلّي الطبيعي في الموارد الأخر ، بل ها هنا يشبه الفرد الشخصي المردّد بين كونه كذا وبين كونه كذا.

فالشكّ في البقاء فيه يرجع إلى أنّ هذا الكلّي الذي حكم عليه الشارع بالبقاء أو بالزوال هل هو باق أم لا؟ ومعلوم أنّ هذا الكلّي الذي إمّا باق أو زائل على كلّ واحد من التقديرين ليس قابلا للإبقاء ؛ لأنّه على تقدير الزوال ممتنع البقاء ، وعلى تقدير البقاء يكون إبقاؤه تعبّدا من قبيل تحصيل الحاصل بل أسوء منه ؛ لأنّه يكون من تحصيل ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد ، ولا يقاس بالكلّي الذي له فردان : باعتبار إضافة خصوصية إلى الطبيعة يحصل فرد منها ، وبإضافة خصوصيّة أخرى بدل الأولى يحصل فرد آخر ؛ لأنّه هناك للطبيعة وجودان : وجود منضمّ إلى هذه الخصوصية ، ووجود آخر منضمّ إلى خصوصية أخرى.

فالشكّ في أنّ الخصوصية المنضمّة إلى الطبيعة أيّة واحدة من الخصوصيّتين موجب للشكّ في بقاء الطبيعة ؛ لأنّ مرجع الشكّ الأوّل إلى أنّه هل الجامع بين الوجودين وجد في ضمن وجود الفرد الزائل كي يكون زائلا ، أو وجد في ضمن وجود الفرد الباقي كي يكون باقيا ، فيكون شكّا في بقاء ذلك الجامع الذي نسمّيه بالكلّي.

وفيما نحن فيه ليس للملكيّة وجودان ، أحدهما في ضمن الذي حكم عليه الشارع بالبقاء ، والآخر في ضمن الذي حكم عليه بالزوال ، بل وجود واحد إمّا حكم عليه بالبقاء أو بالزوال ، فالاستصحاب مرجعه إلى أنّ هذا الوجود الباقي باق ، أو هذا الوجود الزائل باق ، وكلاهما محالان ، كما بيّنّا وجهه ، وعبّر عن هذا المعنى شيخنا الأستاذ (22) بأنّه يلزم منه إدخال عقد الجمل في عقد الوضع ، فافهم فإنّه دقيق‌ وبالتأمّل حقيق.

وهذا الكلام ، أي كون الملكيّة مستقرّة أو متزلزلة ليس باعتبار اختلاف في حقيقة الملك ، بل إنّما هو باعتبار حكم الشارع في بعض المقامات عليه بالزوال برجوع المالك ، وفي بعض المقامات الأخر بعدم الزوال بالرجوع ، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك ، لا اختلاف حقيقة الملك.

فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب ، لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب ، وقد أخذه شيخنا الأستاذ من الشيخ الأعظم الأنصاري ولكن الشيخ الأعظم (23) علّل بهذا صحّة جريان الاستصحاب ، وشيخنا الأستاذ (24) علل به عدم صحّة جريانه. والتوفيق بين الكلامين أنّ شيخنا الأستاذ أراد به عدم جريان استصحاب الكلّي ، والشيخ الأعظم أراد صحّة استصحاب الشخصيّ وأنّه ليس من الكلّي ولا من الفرد المردّد ، وكلا القولين في غاية القوّة والمتانة.

أمّا الأوّل : أي عدم جريان استصحاب الكلّي ، فقد بيّنّا وجهه فلا نعيد.

وأمّا القول الثاني : كون هذا الاستصحاب شخصيّا وأنّه ليس من الفرد المردّد فلا مانع من جريانه ؛ فلأنّ الملكيّة الحاصلة من العقد أو من المعاملة الخارجيّة شخصي لا تعدّد فيها على الفرض ؛ لأنّ المفروض أنّ اللزوم أو الجواز من الأحكام الشرعيّة للسبب لا من خصوصيّات المسبّب.

فالمسبّب باق على النحو الذي أنشأ ووجد في عالم الاعتبار ، أي على تشخّصه وتفرّده ، فبواسطة الشكّ في أنّ الشارع حكم باللزوم وعدم الرجوع أو الجواز ورجوع المال إلى مالكه الأوّلى يشكّ في بقائه فيستصحب ؛ لتماميّة أركانه من اليقين بوجود الملكيّة الشخصيّة ، والشكّ في ارتفاعها بواسطة الشكّ في حكم الشارع باللزوم‌ أو الجواز.

نعم يبقى شي‌ء وهو دليل أنّ الملكيّة المنشأة واحدة لا تعدّد فيه.

أقول : بعد أن فرضنا أنّ الجواز واللزوم ليسا من خصوصيات الملك المسبّب ، بل من الأحكام الشرعيّة للسبب المملّك ، وأيضا بعد أنّ المفروض أنّ المنشئ أنشأ بإنشاء واحد ملكيّة شي‌ء واحد ، كلّيا كان ذلك الشي‌ء أو كان جزئيّا خارجيّا ممتنع الصدق على كثيرين. فبإنشاء واحد على متعلّق واحد لا يمكن جعل ملكيّتين ، بل لا يمكن ذلك ولو كان بإنشاءات متعدّدة ؛ إذ باعتبارات متعدّدة لو اعتبر حرّية شخص أو رقّيته أو ملكيّة مال ، لا يحصل إلاّ حرّية أو رقية أو ملكيّة واحدة ؛ وذلك من جهة أنّ اعتبارها ثانيا بعد حصولها لغو بل محال ؛ لأنّه من قبيل تحصيل الحاصل ، فإذا باع المالك ماله مثلا وأنشأ ملكيّة لزيد مثلا فلا أثر لإنشاء ملكيّة له ثانيا ، بل لا يمكن.

وخلاصة الكلام : أنّ البائع مثلا أنشأ شخصا من الملكيّة يكون تشخّصها بتشخّص متعلّقها وموضوعها ، فيكون إنشاء طبيعة في عالم الاعتبار كإيجادها في عالم التكوين ، وحيث أنّ متعلّق ذلك الأمر الاعتباري شخص واحد ، فقهرا يتشخّص بتشخّصه كالعرض بموضوعه. وكونها مردّدة بين اللزوم والجواز تقدّم أنّه ليس من الخصوصيّات اللاحقة لها ، فثبت أنّ الملكيّة المنشأة شخص واحد لا تعدّد فيه ، فلا مانع من استصحاب ذلك الشخص بعد حصول الشكّ في بقائه من ناحية الشكّ في الحكم الشرعيّ ببقائه أو لزومه.

فخلاصة الكلام في المقام : أنّه إن قلنا بأنّ اللزوم والجواز من الخصوصيّات اللاحقة للملكيّة المنوّعة أو المصنّفة لها ، أو لحقوقهما لها كلّ واحد منهما لخصوصيّة فيها غير الخصوصيّة الأخرى ، فيجري فيها استصحاب الكلّي الجامع بينهما كسائر الاستصحابات التي من القسم الثاني من أقسام الاستصحاب الكلّي على ما هو الصحيح من صحّة جريانها. وأمّا إن قلنا بأنّهما ليسا من الخصوصيّات المنوّعة أو‌ المصنّفة للملكيّة ، بل هما حكمان شرعيّان لها باعتبار اختلاف أسبابها ، فيجري فيها الاستصحاب الشخصي كما تقدّم.

ثمَّ إنّه ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري (25) أنّه لو شكّ في أنّ اللزوم والجواز من خصوصيّات الملك ، أو حكمان شرعيّان يتعلّقان بالملك باعتبار اختلاف أسبابه أيضا يجري الاستصحاب.

وما ذكره واضح على ما ذكرنا ؛ لأنّه بناء على كونهما من خصوصيّات الملك يكون الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، ويكون من قبيل الحدث المردّد بين الأصغر والأكبر فتوضّأ ، فإن كان الأصغر ارتفع ، وإن كان الأكبر فباق ، فيستصحب الجامع بينهما.

وفيما نحن فيه بناء على أن يكونا ـ أي اللزوم والجواز ـ من خصوصيّات الملك ، فيعد الفسخ إن كان جائزا فقد ارتفع ، وإن كان لازما فالملك باق ، فيستصحب الملك الكلّي الجامع بين الخصوصيّتين.

وأمّا بناء على كونهما حكمان شرعيّان يردّان على الملك باعتبار اختلاف أسبابه ، فيستصحب شخص الملكيّة المنشأة من جهة الشكّ في ارتفاعها بعد ثبوتها يقينا ، فلا إشكال على كلّ واحد من التقديرين في جريان الاستصحاب وتماميّة أركانه ، غاية الأمر في أحد الفرضين يكون الاستصحاب كلّيا ، وفي الآخر يكون شخصيّا.

ولا يتوهّم : أنّه بناء على ما ذكرنا وتقدّم في أوّل بحث جريان الاستصحاب أنّ استصحاب الشخص لا يجري ؛ لأنّ مرجعه إلى استصحاب الفرد المردّد ، وهو لا يجوز فقولكم إنّه يجرى على كلا الفرضين مناقض لما تقدّم.

وذلك من جهة أن قولنا بعدم جريان الاستصحاب الشخصي وأنّه من استصحاب الفرد المردّد كان مبنيّا على أنّ يكون اللزوم والجواز من الخصوصيّات‌ المنوّعة للملك ، وأمّا إذا كانا من الأحكام الشرعيّة التي جعلهما باعتبار اختلاف الأسباب كما هو المفروض في محلّ الكلام ، فلا مانع من جريان الاستصحاب الشخصي ، فلا مناقضة بين الكلامين.

خاتمة البحث في هذه القاعدة‌ :

وهو أنّه وعدنا في صدر المسألة بيان جريان الاستصحاب في العقود التمليكيّة التعليقيّة وإثبات لزومها به عند الشكّ. والمراد من العقود التعليقيّة هو أن يكون التمليك معلّقا على أمر غير حاصل.

ويظهر ممّا أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري عدم جريان استصحاب الملكيّة في تلك العقود قبل حصول ذلك الأمر المعلّق عليه لو شكّ في لزومها.

مثلا لو شكّ في لزوم الجعالة قبل حصول ما جعل على تحصيله الجعل ، أو شكّ في لزوم عقد المسابقة قبل حصول السبق ، فلا يصحّ إثبات لزومهما باستصحاب ملكيّة الجعل في الجعالة ، أو السبق في عقد المسابقة ؛ وذلك من جهة عدم حصول ملكيّة الجعل والسبق كي يستصحب ، والمستصحب قبل وجود المعلّق عليه لا وجود له ولا عين ولا أثر له ، فأيّ شي‌ء يستصحبه ، وكيف يستصحب؟

وفيه : أنّ الشارع في هذه العقود التعليقيّة يمضي ما أنشأه العاقد ، كما أنّه في العقود التنجيزيّة أيضا يمضي ما أنشأه العاقد ، وليس فرق بين إمضاء الشارع في النوعين التعليقيّة والتنجيزيّة ، وإنّما الفرق بينهما في المنشأ ، فإنّ المنشأ في العقود التنجزيّة الملكيّة المنجّزة ، وفي العقود التعليقيّة الملكيّة المعلّقة.

فالعاقد في العقود التعليقيّة مثل الجعالة والسبق والرماية ينشأ ملك الجعل على تقدير ردّ الضالّة ، وملكيّة السبق في عقد السبق والرماية على تقدير حصول السبق وإصابة الرمي ، وهذا الإنشاء يشبه جعل الشارع الأحكام الكليّة على موضوعاتها‌ على نحو القضية الحقيقيّة ، أى على الموضوعات المقدّرة وجودها.

فالحكم الكلّي المجعول على موضوع سواء كان ذلك الموضوع مقيّدا بوصف أو كان مشروطا بشرط يكون الموضوع ذلك المركّب المفروض الوجود ، فإذا قال الشارع : يجب الحجّ على العاقل البالغ المستطيع الحرّ ، أو قال بصورة القضيّة الشرطية : من كان عاقلا بالغا حرّا مستطيعا يجب عليه الحجّ ، فالموضوع عبارة عن الإنسان الواجد لهذه الصفات ، فكلّما وجد في الخارج إنسان جامع لهذه الصفات يتحقّق الموضوع ويوجد وينطبق ما هو الموضوع عليه ، فإن أتى بذلك المركّب يكون ممتثلا ، وإن لم يأت يعدّ عاصيا متمرّدا ، وفي أيّ وقت رفع الشارع هذا الحكم عن ذلك الموضوع بدون أيّ تغيير في جانب الموضوع ، من فقد شرط أو جزء أو وجود مانع ، يعدّ هذا نسخا ، فلو شكّ في بقاء هذا الحكم على هذا الموضوع المفروض الوجود ، بدون أيّ تغيير ، يستصحب بقاؤه لتماميّة أركانه ، ويسمّى باستصحاب عدم النسخ ، ولا كلام ولا إشكال ولا خلاف في جريانه ، والاستصحاب في العقود التعليقيّة من هذا القبيل.

ففي قضيّة فقد صواع الملك في قضيّة يوسف الصدّيق مع إخوته ، جعل حمل بعير لمن جاء بصواع الملك ، أي : الجام الذي يشرب فيه أو منه ، وردّ هذه الضالّة أي جام الملك ، فيشبه هذا الجعل ، أي جعل ملكيّة حمل بعير لمن يأتي بصواع الملك جعل حكم كلّى على الموضوع المقدّر وجوده.

فهاهنا أيضا الموضوع المقدّر وجوده كلّ إنسان جاء بجام الملك ، غاية الأمر هناك ، أي في القضايا المتكفّلة لجعل الأحكام الشرعيّة الجعل ابتداء من قبل الشارع ، وها هنا أي في باب العقود التعليقيّة الجعل ابتداء من المالك ، والإمضاء من الشارع ، فكما أنّ استصحاب عدم النسخ في الأحكام الكلّية لا إشكال فيه لتماميّة أركانه ، فكذلك هاهنا استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة من قبل المالك لا إشكال فيه.  

والعجب من شيخنا الأعظم الأنصاري (26) أنّه قال بصحّة الاستصحاب التعليقي مع أنّه غير صحيح ، وأنكر جريان الاستصحاب هاهنا ، وقد عرفت أنّ صحّة الاستصحاب هاهنا وجريانه لا إشكال فيه.

وأمّا عدم صحّة الاستصحاب التعليقيّ وأنّه لا يجري ، فبيانه وإيضاحه موقوف على بيان مقدّمة : وهي أنّ استصحاب التعليقي عبارة عن أن يكون موضوع الحكم الشرعي مركّبا من جزئين ، سواء كان أحد الجزئين قيدا ووصفا للآخر ، أو كان شرطا له ، فالأوّل كالعنب المغلي ، والثاني كالعنب إذا غلى ، فتغيّر أحد الجزئين قبل وجود الجزء الآخر.

مثلا جفّ العنب قبل أن يغلي وصار زبيبا ، فشكّ في أنه إذا انضمّ إلى الجزء الآخر بعد حدوث هذا التغيّر هل يبقى الحكم السابق أم لا؟ فإذا غلى الزبيب هل يكون شربه حراما ويكون نجسا ، كما أنّه لو كان يغلي في حال عدم الجفاف والعنبية كان له هذا الحكم يقينا.

وبعد وجود هذا الشكّ هل يصحّ استصحاب الحكم السابق فيقال : إنّ هذا الزبيب حين ما كان عنبا كان شربه حراما على تقدير الغليان ، والآن بعد ما صار زبيبا أيضا كذلك ، أي يكون شربه حراما على تقدير الغليان ، وهذا يسمّى بالاستصحاب التعليقيّ؛ لأنّه عبارة عن إبقاء الحكم المعلّق لا المنجّز.

وفي صحّته وجريانه خلاف.

والأصحّ عندي عدم صحّته ؛ وذلك من جهة أنّ العنب لم يكن له حكم كي بعد جفافه والشكّ في بقاء ذلك الحكم يستصحب ؛ وذلك من جهة أنّ العنب كان جزء الموضوع ، والجزء الآخر هو الغليان ، وقبل وجود الموضوع بتمام أجزائه محال أن يوجد الحكم ؛ لأنّ وجود الحكم قبل ذلك خلف ، أي يلزم منه أن يكون ما فرضته موضوعا‌ لا يكون موضوعا ، ويكون من هذه الجهة حال الموضوع المركّب حال العلّة المركّبة ، أي كما لا يمكن وجود المعلول قبل وجود علّته بتمام أجزائها ، كذلك لا يمكن وجود الحكم قبل وجود الموضوع بتمامه ، والبرهان في الموردين هو لزوم الخلف.

فبناء على هذا لم يكن للعنب قبل أن يجفّ ما لم يغل حكم كي يبقى بالاستصحاب إلى حال الجفاف.

وأمّا القول بأنّ الحرمة والنجاسة الفعليّة وإن لم تكونا للعنب قبل الغليان لعدم موضوعهما قبل الغليان ، ولكنّ الحرمة والنجاسة التقديريّتان كانتا له ، بمعنى أنّه كان يصحّ أن يقال قبل الغليان : إنّ العنب يتّصف بالحرمة والنجاسة على تقدير غليانه ، وهذا نحو وجود للحكم ، ولا بأس بأن نسمّيه بالحكم التقديري.

وقد اختار هذا القول في الكفاية (27) ، وأصرّ في وجود الحكم التقديري قبل وجود ما علّق عليه ، أي الجزء الآخر ، وقال : فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجودا فعلا ، لا أنّه لا يكون موجودا أصلا ولو بنحو التعليق.

ولكن أنت خبير بفساد هذا القول العجيب ؛ إذ لا شكّ في أنّ بداهة العقل يحكم بوجود كلّ معلول عند وجود علّته ، فهل يصحّ عند عدم وجود علّة شي‌ء أن يقال بالوجود التقديري لذلك المعلول في ظرف عدم علّته ، مثلا لا شكّ في أنّ غروب الشمس علّة لوجود الليل ، أفيصحّ أن يقول في وقت الظهر وارتفاع الشمس أنّ الليل موجود بالوجود التقديريّ؟ نعم الموجود هي الملازمة بين وجود العلّة والمعلول ، والحكم والموضوع ، والملازمة حكم عقلي لا دخل ولا ربط لها بالأحكام ، وقد يتحقّق بين الممتنعين كتعدّد الآلهة وفساد السماوات والأرضين ، ووجود الملازمة بين شيئين لا يدلّ على وجود طرفي الملازمة ، بل تثبت وتصدق كما ذكرنا بين الممتنعين.

وأعجب من هذا ما نسب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري (28) ـ قدّس الله روحه ـ من تصحيح الاستصحاب التعليقيّ بإرجاعه إلى استصحاب الملازمة.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ الملازمة بين الشيئين حكم عقليّ أزلي ، ليس قابلا للجعل الشرعي ، وهو اعترف بذلك وقال بأنّ الملازمة وكذلك السببيّة لا يمكن أن يكونا مجعولين بالجعل الشرعي ، فالقول باستصحاب الملازمة مناقض مع ذكره في الأحكام الوضعيّة من عدم إمكان جعل الملازمة والسببيّة.

وذلك من جهة أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون إمّا من المجعولات الشرعيّة بنفسه ، أو يكون له أثر مجعول كي يكون قابلا للتعبّد ببقائه ، والسرّ في أنّ الملازمة ليست قابلة للجعل الشرعي أمّا في المقام ، فمن جهة أنّ فرض عدم الملازمة بين الحكم وموضوعه يرجع إلى جواز الانفكاك بينهما ، وهذا خلف ، أي يكون خلاف فرض كونهما موضوعا وحكما ، وهذا مناقضة ومحال.

فالعقل ينتزع الملازمة من كون الانفكاك بين شيئين محالا ، سواء كان بين العلّة والمعلول ، أو الحكم والموضوع ، أو بين معلولي علّة واحدة المسمّى بالمتلازمين ، فإذا كان الأمر كذلك ، فلا يبقى مجال للجعل الشرعي ، بل لا يمكن ؛ لأنّ انتزاعه قهريّ ، ويكون من لوازم الذات التي لا يتطرّق الجعل إليها مطلقا ، لا تكوينا ولا تشريعا ، كالإمكان بالنسبة إلى الممكنات ، والشيئيّة بالنسبة إلى الأشياء.

وثانيا : على فرض أن تكون الملازمة من المجعولات الشرعيّة ، تكون بين تمام الموضوع وحكمه ، فإنّها لا ينفكّان. وأمّا جزء الموضوع مع جزئه الآخر مع الحكم فليسا بمتلازمين ، بل لا بدّ من الانفكاك بينهما ، وإلاّ يلزم الخلف ، أي يلزم ما فرضته جزء الموضوع أن يكون تمام الموضوع.

ففي المثال المفروض الملازمة بين العنب المغلي مع الحرمة والنجاسة ، وأمّا العنب‌ مع عدم الغليان فلا ملازمة بينه وبين الحرمة والنجاسة ، فلا ملازمة كي يستصحب بقاؤها في ظرف الشكّ في البقاء بواسطة جفافه وصيرورته زبيبا.

وها هنا إشكالات وأنظار من القائلين بصحّة الاستصحاب التعليقي ، ولكن نحن لسنا بصدد تحرير هذه المسألة من جميع النواحي والجهات ، وقد حقّقناها ودفعنا جميع ما أوردوا عليها في كتابنا « منتهى الأصول » ومن أراد فليراجع إليها.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً باطناً.

______________

(*) « القواعد والفوائد » ج 2 ، ص 242 ؛ « الحقّ المبين » ص 68 ؛ « خزائن الأحكام » ش 3 ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص 32 ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص 174 ؛ « القواعد » ص 251 ؛ « قواعد فقه » ج 2 ، ص 136 ؛ « قواعد الفقه » ص 27 ؛ « قواعد فقهي » ص 273 ؛ « قواعد فقهيّة » ص 241 ؛ « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 319 ؛ « أصل صحت وأصل لزوم » احمد شهيدى ، ماجستير ، جامعة الشهيد بهشتي ، 1359.

(1) « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 205 ، ح 26 ؛ « مستدرك الوسائل » ج 13 ، ص 245 ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب 18 ، ح 1.

(2) « المكاسب » ص 85.

(3) « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 6 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 20 ، ح 85 ، باب عقود البيع ، ح 2 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 346 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 3.

(4) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 67 ، ح 287 ، باب ابتياع الحيوان ، ح 1 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 349 ، أبواب الخيار ، باب 3 ، ح 2.

(5) « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 601.

(6) « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 395.

(7) انظر : « مجمع البيان » ج 2 ، ص 150.

(8) « الكافي » ج 7 ، ص 273 ، باب القتل ، ح 12 ؛ « الفقيه » ج 4 ، ص 92 ، باب تحريم الدماء والأموال بغير حقّها ... ، ح 5151 ؛ « وسائل الشيعة » ج 3 ، ص 424 ، أبواب مكان المصلي ، باب 3 ، ح 1 ؛ وج 19 ، ص 3 ، أبواب القصاص في النفس ، باب 1 ، ح 3. والنص في جميع المصادر هكذا : « لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه ».

(9) « سنن الكبرى » ج 6 ، ص 100 ؛ « سنن الدار قطني » ج 3 ، ص 26 ، ح 91 ؛ « تذكرة الفقهاء » ج 1 ، ص 489 ؛ « عوالي اللئالي » ج 3 ، ص 208 ، ح 49.

(10) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 371 ، ح 1503 ، باب المهور والأجور و... ، ح 66 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 232 ، ح 835 ، باب من تزوّج المرأة على حكمها في المهر ، ح 4 ؛ « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 30 ، أبواب المهور ، باب 19 ، ح 4.

(11) « القاموس المحيط » ج 2 ، ص 381 ( شرط ).

(12) « تفسير العيّاشي » ج 1 ، ص 240 ، ح 121 ؛ « وسائل الشيعة » ج 15 ، ص 31 ، أبواب المهور ، باب 20 ، ح 6.

(13) « الفقيه » ج 3 ، ص 201 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 3761 ؛ « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 24 ، ح 101 ، باب عقود البيع ، ح 18 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 349 ، أبواب الخيار ، باب 3 ، ح 1.

(14) « سنن أبي داود » ج 3 ، ص 296 ، ح 3561 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 802 ، ح 2400 ؛ « مسند احمد » ج 5 ، ص 8 و13 ؛ « سنن البيهقي » ج 6 ، ص 95.

(15) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات وفقه النكاح ، ح 80 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.

(16) « الكافي » ج 5 ، ص 170 ، ح 4 ـ 6 ؛ « التهذيب » ج 7 ، ص 24 ، ح 100 وج 7 ، ص 20 ، ح 85 ؛ « الاستبصار » ج 3 ، ص 72 ، ح 24 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 345 ، أبواب الخيار ، باب 1 ، ح 1 ـ 3 ؛ « صحيح البخاري » ج 3 ، ص 84 ؛ « سنن النسائي » ج 7 ، ص 248 ؛ « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 1163 ؛ « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 736 ، ح 2182 ؛ « سنن الترمذي » ج 3 ، ص 547 ، ح 1245.

(17) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 467 ، ح 1872 ، باب الزيادات وفقه النكاح ، ح 80 ؛ « وسائل الشيعة » ج 12 ، ص 353 ، أبواب الخيار ، باب 6 ، ح 5.

(18) « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 601.

(19) « حاشية كتاب المكاسب » ص 13.

(20) « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 540 ـ 541.

(21) « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 165.

(22) « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 174.

(23) « المكاسب » ص 85.

(24) « المكاسب والبيع » ج 1 ، ص 174.

(25) « المكاسب » ص 85.

(26) « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 653.

(27) « كفاية الأصول » ص 411.

(28) « فرائد الأصول » ج 2 ، ص 654.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.