المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8195 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
عمليات الخدمة اللازمة للجزر
2024-11-24
العوامل الجوية المناسبة لزراعة الجزر
2024-11-24
الجزر Carrot (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-24
المناخ في مناطق أخرى
2024-11-24
أثر التبدل المناخي على الزراعة Climatic Effects on Agriculture
2024-11-24
نماذج التبدل المناخي Climatic Change Models
2024-11-24

النقد الأدبي في القرن الثالث الهجري
22-3-2018
تخفيض او احتواء التكاليف
10-7-2020
Quantified System
8-2-2022
محاصيل الالياف- المحاصيل النباتية- الأبكا (قنب مانيلا)
27-12-2016
مقومات القوة المورفولوجية- الموقع الفلكي
28-11-2021
المنهج الحركي
11-3-2016


قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » (*)  
  
791   12:40 مساءاً   التاريخ: 16-9-2016
المؤلف : آية الله العظمى السيد محمد حسن البجنوردي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج3 ص70 - 108.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / البينة واليمين - البينة على المدعي واليمين على من انكر /

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها :

وهو أمران‌ :

الأوّل : قوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (1)‌.

واشتهار هذا الحديث بين طوائف المسلمين يوجب الوثوق والاطمئنان بصدوره عنه صلى الله عليه واله ، فلا ريب في حجّيته واعتباره.

وروى في دعائم الإسلام عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن آبائه عن أمير المؤمنين : « أنّ رسول الله صلى الله عليه واله قال : البيّنة في الأموال على المدّعي واليمين على‌ المدّعي عليه » الحديث (2) ‌.

عوالي اللئالي عن النبيّ صلى الله عليه واله أنّه قال : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » (3).

وفي كتاب الاستغاثة في كلام له في قصّة فدك مع قول الرسول صلى الله عليه واله بإجماع الأمّة : « البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » (4).

محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال عليه السلام : « قال رسول الله صلى الله عليه واله : إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (5).

وأيضا محمّد بن يعقوب في الكافي بإسناده عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه واله : البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من ادّعى عليه (6) ».

وفيما ذكرنا في مدرك هذه القاعدة غنى وكفاية ، وإن كان هناك روايات من طرقنا وطرق مخالفينا تركناها لعدم الاحتياج إليها.

الثاني : الإجماع من جميع علماء الإسلام قاطبة ، ومن جميع الطوائف منهم‌ ، وهذا الإجماع المحقّق من جميع طوائف المسلمين وإن لم يكن من الإجماع المصطلح ـ كما نبّهنا‌ عليه مرارا ـ إلاّ أنّه يوجب الوثوق بل القطع بصدور هذا الحديث الشريف عنه صلى الله عليه واله فلا إشكال في هذه القاعدة من حيث المدرك.

[ الجهة ] الثانية‌

وهي العمدة هو بيان المراد من هذا الحديث ،

وتوضيح ما يفهمه العرف منه :

فنقول في مقام شرح مفهوم العرفي لألفاظ هذا الحديث : أمّا « البيّنة » فهي عبارة عن شاهدين ذوي عدل من المؤمنين حسب المتفاهم العرفي ، وقد تكلّمنا في ظهورها عرفا في هذا المعنى في قاعدة حجّية البيّنة ، وهذا لا ينافي كون هذه الكلمة لغة بل وعرفا أيضا بمعنى مطلق الحجّة الواضحة والبرهان ، كما أنّها استعملت في القرآن الكريم في خمسة عشر موضعا بهذا المعنى ، أي الدليل والبرهان والحجة الواضحة.

وذلك من جهة أنّ المنكر ـ كما سنذكر ـ من كان قوله مطابقا للحجّة الفعليّة ككونه ذا اليد ، فلا بدّ وأن يكون المراد من البيّنة التي جعلها صلى الله عليه واله وظيفة المدّعي دون المنكر معنى آخر غير مطلق الحجّة ، وليس معنى آخر في البين يحتمل أن يكون هو المراد إلاّ هذه الحجّة الخاصّة ، أعني شهادة عدلين.

هذا ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة في الموارد الخاصّة بمطالبة الشهود من المدّعي والحكم له على طبق شهادتها ، مضافا إلى أنّ أحدا من الفقهاء لم يحتمل غير هذا المعنى لها في هذا الحديث.

وأمّا كلمة « على » فباعتبار أنّ هذه الوظيفة ـ أي كون إقامة البيّنة على ثبوت ما يدّعيه ـ موجّها إليه تكون كلفة عليه.

وأمّا « اليمين » فهو الحلف والقسم ، وهذا واضح معلوم لا يحتاج إلى شرح وإيضاح.

وأمّا « المدّعي » فقيل في تعريفه وجوه :

[ الوجه ] الأوّل : هو أنّ المدّعي عبارة عمن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة وإن كان موافقا مع الحجّة غير الفعليّة ، أي كان مثلا موافقا مع الأصل ولكن هناك أمارة على خلافه ، فحيث أنّ الأمارة حاكمة على ذلك الأصل ـ لذهاب موضوعه بها تعبّدا ـ كانت الحجّة الفعليّة هي الأمارة دون الأصل ، فيكون مدّعيا بناء على هذا التعريف. مثلا لو ادّعي أنّ هذا اللحم الذي في السوق غير مذكّى ، ويريد بذلك إبطال المعاملة ، فقول هذا الشخص وإن كان مطابقا مع الأصل ـ أي أصالة عدم التذكية ـ ولكن حيث أنّ سوق المسلم ويده كذلك أمارة على التذكية ، فأصالة عدم التذكية محكومة بتلك الأمارة ، فتكون تلك الأمارة هي الحجّة الفعليّة ، فيكون قول ذلك الشخص مخالفا للحجّة الفعليّة ، أعني تلك الأمارة وإن كان موافقا مع الأصل ـ أي أصالة عدم التذكية ـ فيكون مدّعيا.

وكذلك مدّعي الفساد في باب المعاملات يكون مدّعيا ، مع أنّ قوله موافق لأصالة عدم النقل والانتقال ، وذلك لما ذكرنا من أنّ المدار في تشخيص المدّعي هو أن يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وإن كان مطابقا مع أصل محكوم ، أو أمارة كذلك.

وفيما ذكرنا من الفرع ـ أي دعوى الفساد في أبواب المعاملات ـ قوله : مخالف للحجّة الفعليّة ، أي أصالة الصحّة ، وإن كان موافقا لأصالة عدم النقل والانتقال.

وبناء على هذا التعريف للمدّعي ، فقد يختلف في كونه مدّعيا أو منكرا لاختلاف كلامه ، مثلا لو قال في مقام دعوى الطرف دينا عليه ، أو عينا عنده أمانة أو غصبا : ليس لك في ذمّتي أو عندي شي‌ء ، يكون منكرا ، لكون قوله موافقا مع الحجّة الفعليّة ، أي أصالة عدم اشتغال ذمّته له بشي‌ء ، وكذلك في ادّعاء العين ، الأصل عدم كونه عنده.

وأمّا لو قال في الأوّل : أدّيته ، وفي الثاني : رددته ، يكون مدّعيا ، لأنّ قوله يكون‌ مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهي أصالة عدم أدائه في الأوّل ، وأصالة عدم ردّه في الثاني.

وكذلك الأمر في الدعوى على ذي اليد بما هو تحت يده ، فلو قال : إنّ هذا ليس لك ، أو قال : لنفسي ، يكون منكرا ، لأنّ قوله موافق للحجّة الفعليّة ، أي : كونه ذا اليد. وأمّا لو قال : بأنّك وهبتني ، أو اشتريت منك ، أو ادّعي الانتقال إليه بناقل آخر بعد إقراره بأنّه كان له ، فيكون مدّعيا ، لأنّه أسقط يده عن الاعتبار بإقراره الضمني أو الصريح.

الوجه الثاني : هو أنّ المدّعي من لو ترك دعواه ترك. وبيانه أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يدّعي بثبوت دين ، أو عين، أو حقّ على خصمه. وبعبارة أخرى :

يريد إلزامه بأحد الأمور المذكورة.

والمنكر في مقابله يردّ دعواه وينكر كونه ملزما بأحد هذه الأمور ، فإنكاره ـ في قبال ادّعاء المدّعي ـ يكون من قبيل القبول في مقابل الإيجاب ، ورتبته متأخّرة عن الدعوى ويكون متفرّعا عليها ، فكونه منكرا متفرّع على وجود مدّع يدّعي شيئا عليه، فإذا ترك دعواه فلا مدّعي ولا منكر في البين ، وهذا هو المراد من قولهم « لو ترك ترك » ومن تعريفهم المدّعي بتلك الجملة.

وهذا المعنى للمدّعي موافق لما يفهمه العرف من هذه الكلمة ، لأنّ المدّعي عندهم من يريد إلزام خصمه بثبوت أمر عليه ، فهو المتعرّض لطرفه ، فلو ترك التعرّض ولم يطالب خصمه بشي‌ء ، لا يتعرّض الخصم له من ناحية هذه المخاصمة.

نعم يمكن أن يكون للخصم دعوى آخر عليه ، فلا يتركه بل يطالبه ، ولكن من جهة ادّعاء آخر من طرف المنكر.

وأمّا باب التداعي ، ففي الحقيقة هناك دعويان ، في إحديهما يكون هذا مدّع والآخر منكر ، وفي الأخرى بالعكس ، أي يكون المدّعي في الدعوى الأولى منكرا في الأخرى ، والمنكر فيها مدّعيا في هذه الدعوى. وفي كلّ واحدة من الدعويين لو ترك‌ المدّعي دعواه ، يترك من ناحية تلك الدعوى ولا يتعرّض له خصمه من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى مثلا لو كان مال مطروحا على الأرض ووقع عليه التلف ، وكلّ واحد من المتخاصمين لا بدّ له عليه ، ويدّعي أنّه له ، فكلّ واحد منهما ، يدّعي على الآخر إنّك أتلفت مالي ، فلو ترك أحدهما دعواه يترك من ناحية هذه ، ولا يتعرّض له الآخر من ناحية هذه الدعوى ، وإن كان يتعرّض له من ناحية دعوى أخرى.

وكذلك لو كان المال في يدهما معا ، فكلّ واحد منهما بالنسبة إلى نصفه مدّع ، وبالنسبة إلى النصف الآخر منكر ، وذلك من جهة أنّ يد كلّ واحد منهما على الكلّ غير تامّة ، لأنّ معنى التماميّة وعدم النقصان في اليد أن يكون له جميع المتصرّفات المباحة ، ومنع جميع الأغيار ، وحيث أنّه مع الشريك ليس له منعه ، فهذه اليد الناقصة على الكلّ تعتبر يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء إن كان الشريك واحدا ، وعلى الثلث إنّ كانا اثنين ، وعلى الربع ، إن كان شركائه ثلاثة ، وهكذا.

فإذا كان المال في يد اثنين مثلا ، فتعتبر يد كلّ واحد منهما على المجموع يدا تامّة على النصف عند العرف والعقلاء ، فبالنسبة إلى النصف الذي تحت يد كلّ واحد منهما يكون ذو اليد منكرا ، وبالنسبة إلى النصف الآخر مدّعيا ، فكلّ واحد منهما منكر بالنسبة لما في يده ، ومدّع بالنسبة لما في يد الآخر ، فيدخل في باب التداعي والتحالف ، ولكن كلّ واحد لو ترك المخاصمة بالنسبة لما في يده الآخر يترك من حيث هذه الدعوى ، ولا يتعرّض له الآخر من هذه الجهة ، وإن كان له تعرّض من ناحية النصف الآخر الذي في يده. فلا يرد النقض على هذا التعريف بمسألة التداعي وأن المدّعي فيها لو ترك لا يترك.

الوجه الثالث : هو أنّ المدّعي عبارة عمّن يكون قوله مخالفا للظاهر ، ومقابله المنكر وهو الذي يوافق قوله الظاهر. كما أنّه إذا ادّعى أنّ هذه الدار التي تسكنها هي داري ، أو الزوجة التي تحتك هي زوجتي ، فهذا القول خلاف ظاهر الحال ، فيكون من‌ يدّعيه مدّعيا ، ومن تكون الدار تحت يده وينكر كونها للمدّعي منكرا ، وكذلك الأمر في مثال الزوجة.

وفيه : أنّ هذا الظاهر الذي يكون قوله مطابقا معه ، إن كان حجّة معتبرة بالفعل ـ أي : كان أصلا معتبرا ، أو أمارة معتبرة ـ فيرجع إلى الوجه الأوّل ، أي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، من وجوه تعريف المدّعي وإن كان من الظنون غير المعتبرة.

فكونه موافقا معه لا ينافي مع كونه مدّعيا ، كما أنّه لو ادّعى شخص من الصلحاء وأهل الشرف على ذي اليد المتّهم بالسرقات أنّ هذا الذي تحت يده هو لي وملكي وأنّه سرقه منّي.

ولعلّ من يعرف المدّعي بأنّه عبارة عمّن يدّعي أمرا خفيا ، والمنكر من يقابله ـ أي : ينكر ثبوت مثل هذا الأمر الخفيّ ـ مراده من هذا التعريف هو هذا الوجه الثالث : لأنّ الأمر الخفيّ هو ما لا يكون ظاهرا.

ثمَّ إنّ المراد من هذه الكلمة ـ أي : كلمة الظاهر في قوله : إنّ المدّعي هو من يخالف قوله الظاهر ـ هل هو الظهور الشخصي أو الظهور النوعي؟

والحقّ في هذا المقام هو أنّ مرادهم من الظاهر إن كان هي الحجّة المعتبرة ، فالمراد لا محالة يكون هو الظهور النوعي لا الشخصي ، وذلك لأنّ الحجج والأمارات بل مطلق الأدلّة ـ وإن كانت من الأصول حجّيتها باعتبار ظهورها النوعية ، وليست دائرة مدار الظنّ الشخصي.

وأمّا إن كان المراد منه هو الظهور العرفي ـ وإن لم يكن حجّة ـ فقابل لكلا الأمرين ، أي الظهور النوعي والشخصي ، ولكن الظاهر أنّ مرادهم في هذا التعريف هو الظهور العرفي الشخصي.

وعلى كلّ حال هذا التعريف لا يخلو عن الخلل ، لأنّ من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ـ كما إذا ادّعى على ذي اليد بما في يده ـ يكون مدّعيا ولو لم يكن قوله‌ مخالفا للظاهر.

اللهمّ إلاّ أنّ يقال : إنّ المراد من الظاهر في التعريف هي الحجّة الفعليّة ، فيرجع إلى الوجه الأوّل من وجوه تعريفه.

الوجه الرابع : هو أنّ المدّعي من يريد إثبات أمر على خصمه ، سواء أكان ذلك الأمر اشتغال ذمّة طرفه وخصمه له ، أو تقريغ ذمّة نفسه عمّا اشتغلت به لخصمه.

فالأوّل كما إذا ادّعى عليه أنّه مديون بكذا ، والثاني كما إذا ادّعي أداء ما كان عليه من دين له؟

وأنت خبير بأنّ هذا التعريف أيضا يرجع إلى بعض المذكورات.

الوجه الخامس : أنّ المرجع في فهم هذه اللفظة هو العرف فهو يعيّن ويشخّص ما هو المراد منها.

وفيه : أنّ هذا الكلام صحيح ولا مناص منه ، لأنّ المرجع في باب مفاهيم الألفاظ هو العرف ، إذ لم يخترع الشارع طريقا خاصا في باب إلقاء الأحكام إلى المكلّفين ، بل طريق الإفادة عنده ما هو الطريق عند العرف في محاوراتهم في مقام الإفادة والاستفادة ، فإذا قال عليه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » فلا بدّ في فهم ألفاظ هذا الحديث من المراجعة إلى العرف ، لأنّ الخطابات الشرعيّة في محاوراته على طريقة العرف ، وعلى طبق محاوراتهم.

ولكن جميع التعاريف السابقة والوجوه المذكورة كانت بنظر من ذكرها وعرف المدّعي بها ما هو المتفاهم العرفي من هذه اللفظة ، لا أنّها من جهة اصطلاح جديد من قبل الشارع وأنّه صلى الله عليه واله استعمل هذه اللفظة بذلك الاصطلاح.

الوجه السادس : أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين : إمّا الأصل ، أو‌ الظاهر ، وقد عرفت الحال وكذلك المراد من كليهما.

هذه هي جملة الوجوه التي ذكروها في بيان معنى المدّعي والمراد منه.

ولكن الظاهر من لفظة « المدّعي » في مقام الخصومة وفي مقابل المنكر حسب المتفاهم العرفي ـ الذي هو المناط في باب تعيين مراد المتكلم ـ هو أن يكون ما يدّعيه ممّا ليس عليه حجّة فعليّة ، إذ لو كان على ما يدّعيه على خصمه من عين أو دين أو حقّ حجّة فعلية ، فيعمل على طبق تلك الحجّة.

وبعبارة أخرى : المدّعي يريد في مقام المخاصمة أن يثبت ما يدّعيه ، ولذلك يطالب بالبيّنة.

وأمّا إذا كان ثابتا لكونه على طبق الحجّة الفعليّة ، فلا معنى لأن يكون في مقام إثبات ما يدّعيه ، لأنّه يكون من قبيل تحصيل الحاصل ، وأيضا لا معنى لأن يطالب بالبيّنة ، فالذي تحت يده مال ويتصرّف فيه كيف ما يشاء ، فبعد الاعتراف بأنّ اليد أمارة الملكيّة ، فمالكيّة ذي اليد لذلك المال الذي تحت يده ثابتة لا تحتاج إلى دليل الإثبات ، فلا معنى لإطلاق المدّعي عليه.

نعم لو ادّعي شخص آخر ـ الذي ليس له يد على هذا المال ـ أنّه له ، يطالب بالدليل على ما يدّعيه ، ولا بدّ له في إثبات ما يدّعيه أن يأتي بدليل حاكم على اليد ، وهي البيّنة على ما قرّره الشارع ، وإلاّ لو لم يكن أقوى من اليد بالحكومة أو التخصيص يتعارضان ويتساقطان.

وخلاصة الكلام : أنّ قوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بيان لوظيفة المتخاصمين ، وعبّر عن أحد المتخاصمين بالمدّعي وعن الآخر بالمنكر ، فجعل البيّنة وظيفة المدّعي واليمين وظيفة المنكر.

وحيث أنّه صلى الله عليه واله لم يخترع طريقا خاصّا في محاوراته لتبليغ الأحكام ، بل كان صلى الله عليه واله يتكلّم بما هو طريقة العرف ، فلا بدّ في فهم مراده صلى الله عليه واله من الرجوع إلى ما يفهمه العرف‌ من كلامه صلى الله عليه واله ، إلاّ أن يثبت نقل من المعنى العرفي إلى معنى آخر عند الشارع كي يكون حقيقة شرعيّة ، أو استعمله في ذلك المعنى الآخر مجازا ، وذلك يحتاج إثباته إلى دليل ، وإلاّ فبحسب الطبع الأولى لا بدّ في فهم مراده صلى الله عليه واله من مراجعة العرف.

وقد عرفت أنّ لفظة « المدّعي » حسب المتفاهم العرفي ، هو من يحتاج في إثبات ما يدّعيه إلى مثبت خارجي ، ولا يكون ثابتا في نفسه ، فبناء على هذا يكون الوجه الأوّل من الوجوه التي ذكرناها لمعنى المدّعي ـ أي : من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ـ هو الصحيح في معناه.

ثمَّ إنّ تقييد الحجّة بالفعليّة من جهة أنّها لو لم تكن فعليّة ، بل كانت محكومة بحجّة الخصم وكانت حجّة الخصم هي الفعليّة ، فموافقة قوله لمثل هذه الحجّة المحكومة لا يخرجه عن كونه مدّعيا. مثلا لو ادّعى فساد المعاملة الواقعة بينهما ، فقوله وإن كان موافقا مع أصالة عدم النقل والانتقال ـ الذي قيل بأنّه الأصل في باب المعاملات ـ إلاّ حيث أنّها محكومة بأصالة الصحّة يكون مدّعيا ، لمخالفة قوله للحجّة الفعليّة التي هي أصالة الصحّة ، فيما إذا كان المورد ممّا يجري فيه هذا الأصل.

وبعد ما عرفت من هو المدّعي ، فالمنكر هو مقابل المدّعي ، بمعنى أنّ هذين المفهومين متقابلان ، لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في مخاصمة واحدة من جهة واحدة في زمان واحد ، وذلك من جهة أنّ مفاد قول المدّعي بثبوت أمر ـ من دين أو عين أو حقّ ـ على خصمه ، ومفاد قول المنكر نفي ذلك الأمر ، فهما متقابلان نفيا وإثباتا ، فبأيّ معنى من المعاني المذكورة فسّرت المدّعي ، يكون معنى المنكر عدم ذلك المعنى.

مثلا بناء على ما اخترنا من أنّ المدّعي من كان قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، فالمنكر عبارة عمّن لا يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر المعاني المذكورة.

فإذا قلنا بأنّ المدّعي هو من لو ترك ترك ، فالمنكر هو الذي لو ترك لم يترك.

وكذلك إن قلنا بأنّه عبارة عمّن يكون قوله خلاف الظاهر ، فالمنكر من يكون قوله موافقا للظاهر.

وإن قلنا : إنّ المدّعي هو من يكون مفاد قوله إثبات أمر على خصمه ، فالمنكر هو الذي مفاد قوله نفي ذلك الأمر.

وإن قلنا إنّ المرجع في تعيين المراد من المدّعي والمنكر هو العرف ، فالعرف يرى المنكر من ينفي ما يدّعيه المدّعي.

وإن قلنا : إنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا لأحد الأمرين ، أي الظاهر أو الأصل ، فالمنكر من لا يخالف قوله أحدهما.

وإذا ظهر لك معنى المدّعي والمنكر والبيّنة واليمين ، فلا يبقى إجمال في المراد من هذه القاعدة وفي مضمون الحديث الشريف.

نعم ينبغي التكلم عن أمور‌ :

الأوّل : فيما إذا شكّ في تشخيص المدّعي عن المنكر لأجل عدم إحراز كون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة أو موافقا لها ـ سواء أكان منشأ الشكّ هو الشكّ في حجّية ما هو مخالف له يقينا ، أو كان الشكّ في مخالفته له مع حجّيته يقينا ـ فهل يمكن التمسك لإثبات ما يدّعيه بالبيّنة أم لا؟

فيه إشكال لا من جهة الشكّ في عموم حجّية البيّنة ـ وذلك لما أثبتنا عموم حجّيتها في جميع الموضوعات ـ بل من جهة أنّ قوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر »خصّص ميزانيّة البيّنة في مقام القضاء بالمدّعي ، فإذا شكّ في كونه‌ مدّعيا يشكّ في تأثير البيّنة في حقّه ، فلا يصحّ ولا يجوز الحكم له مستندا إلى قيام البيّنة على ما يدّعيه ، لعدم إحراز ميزانيتها للحكم لمثل هذا الشخص.

نعم لو طلب منه الخصم أن يحلف فحلف ، وجب الحكم له مع طلبه من الحاكم ، للعلم إجمالا بوجود الميزان ، إمّا البيّنة لو كان هو المدّعي واقعا ، وإمّا الحلف لو كان هو المنكر بحسب الواقع ، والواقع لا يخلو منهما ، وإلاّ يلزم ارتفاع النقيضين.

نعم لو انفرد كلّ واحد منهما بأحد الأمرين ـ أي البيّنة والحلف ـ فلا يجوز الحكم له ، لعدم إحراز وجود الميزان في حقّه ، كما أنّه لو اجتمع الاثنان ـ أي الحلف والبيّنة ـ لأيّ واحد من المتخاصمين في المفروض جاز أو وجب الحكم له ، للعلم الإجمالي المذكور بوجود الميزان في حقّه.

ولكن أنت خبير بأنّ الشكّ في كونه مدّعيا إذا كان منشأه الشبهة الحكميّة ـ أي الشكّ في حجّية ما هو قوله مخالف له يقينا ـ فبأصالة عدم حجّية ذلك المشكوك الحجّية يثبت عدم حجّيته ، فيثبت عدم كونه مدّعيا ، فلا يكون وظيفته البيّنة قطعا.

وأمّا إذا كان منشأه الشبهة المصداقيّة ـ أي كانت حجّيته معلومة ، ولكن الشكّ في مخالفة قوله لذلك المعلوم الحجّية ـ فحيث أنّ أصالة عدم المخالفة لا تجري ، لأنّ عدم المخالفة عدم نعتي ليس له حالة سابقة بناء على ما حقّقناه في كتابنا « منتهى الأصول » (7) فلا يمكن إحراز أنّه ليس بمدّع وإن قلنا بأنّ المدّعي موضوع مركّب من قول يكون مفاده إثبات أمر على طرفه ، ومن مخالفة ذلك القول للحجّة الفعليّة ، فيكون الأمر في هذه الصورة كما ذكرنا من عدم جواز الحكم بالبيّنة فقط ، أو الحلف وحده.

وأمّا توهّم أنّ عموم « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله » (8) بضميمة عموم حجّية البيّنة بالنسبة إلى كلّ‌ موضوع ـ يشمل المقام ـ لأنّه بعد قيام البيّنة يكون ما حكم على طبق البيّنة حكمهم : بحسب الظاهر.

ففيه : أنّه بعد الفراغ عن أنّ مطلق الحجّة ليس ميزانا للقضاء ، بل الميزان في باب القضاء هي البيّنة والأيمان ، لقوله صلى الله عليه واله : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » وقطعه صلى الله عليه واله الشركة بالتفصيل بقوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » فالحكم على طبق البيّنة يكون حكمهم : إن كان قيامها على ما يدّعيه المدّعي.

وكذلك الحكم على طبق الحلف إن كان صدر الحلف من المنكر ، فلا بدّ من إحراز المدّعي والمنكر ، وإلاّ يكون من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لم يقل به أحد ولا ينبغي أن يقال به.

الثاني : أنّه يعتبر في سماع الدعوى عن المدّعي أمور‌.

وقبل بيان هذه الأمور يجب أن نبيّن أنّ حقيقة الدعوى والمخاصمة لا يتحقّق إلاّ بأن تكون على نحو يوجب إلزام الخصم ـ على تقدير ثبوت ما يدّعيه في الواقع أو بالحجّة ـ بالخروج عن عهدة ما ثبت عليه ، سواء أكان ذلك الأمر الثابت عليه عينا أو دينا أو حقّا.

وبعبارة أخرى : تكون الدعوى ملزمة على الخصم أمرا حتّى يستحقّ المطالبة عنه ، ولذلك قالوا : لو ادّعي أنّه وهبني الشي‌ء الفلاني مع اعترافه بعدم قبضه ، فمثل هذه الدعوى لا تسمع ، لأنّها ليست بملزمة على الخصم شيئا ، لأنّ إنكاره يعدّ رجوعا وإن كان المدّعي صادقا في دعواه.

وكذلك الأمر في كلّ ما يشترط صحّته بالقبض والإقباض ، كبيع الصرف والسلم ، ففي جميع هذه الموارد وما يشبهها لا تسمع الدعوى ، لأنّه على تقدير ثبوت ما يدّعيه واقعا ، أو في مقام الظاهر بحسب الدليل والحجة ، لا يكون من قبل دعواه إلزام على الخصم ، ولا يستحقّ مطالبة شي‌ء عنه ، فيكون سماع مثل هذه الدعوى ومطالبة البيّنة عن المدّعي لغوا وبلا فائدة.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ جملة من هذه الأمور التي سنذكر اعتبارها في سماع الدعوى مبنيّ على هذا الأساس.

فمنها : كونه واجدا لشرائط التكليف‌ ، مثل البلوغ والعقل ، وقد ادّعى بعضهم عليه الإجماع ، ونفى الخلاف بعض آخر ، فلا تسمع دعوى المجنون ولا الصبيّ وإن كان مراهقا مميّزا وبلغ من العقل والعلم ما بلغ ، لوجوه :

الأوّل : الأدلّة الدالّة على عدم اعتبار كلامه وأنّه مسلوب العبارة ، وللأدلّة الدالّة على رفع القلم عنه وعدم جواز أمره.

وفيه : أنّ المراد من تلك الأدلّة عدم الاعتبار بكلامه ، وعدم جواز أمره في المعاملات مستقلاّ ، وعدم نفوذ تصرّفاته في أمواله فيما إذا لم تكن بإذن الولي ، لما ورد من قبول قوله وترتيب الأثر في بعض المقامات والموارد ، كباب الوصيّة إذا بلغ عشرا ، ولما اخترناه من شرعيّة عباداته.

وأمّا أدلّة رفع القلم ، قلنا في محلّه إنّ المراد قلم الإلزام ، أي الوجوب والحرمة ، وهذا من جهة الإرفاق به.

وأمّا ادّعاء الإجماع ، فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى ، فلذهاب جماعة إلى سماع دعوى الصبيّ المميّز المراهق في غير الماليّات ، كما إذا ادّعى جناية عليه ، أو أخذ شي‌ء منه قهرا وبالقوّة وله شهود على ذلك.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ المظنون ـ بل المقطوع ـ أنّ مدرك المتّفقين على فرض وجود الاتّفاق وتحقّقه هو ما ذكرنا من أدلّة رفع القلم وعدم جواز أمره وغير ذلك ممّا تقدّم ، فليس من الإجماع المصطلح.

الثاني : أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى ـ من وجوب السماع وقبول البيّنة والإقرار وسقوطها ، أي الدعوى بحلف المنكر وغير ذلك ـ على دعواه.

وفيه : أنّ عموم « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » واف بلزوم ترتيب تلك الآثار.

الثالث : عدم سلطنة الصبي على المطالبة بذلك الشي‌ء الذي يدّعي ثبوته على الطرف ، فلا يمكن أن يكون له السلطنة على إلزام الطرف بأمر الذي من شؤونه السلطنة على مطالبته بذلك الأمر ، وإلاّ يلزم انفكاك اللازم عن الملزوم.

بيانه : أنّ حقيقة الدعوى المسموعة هي أن يكون المدّعي له السلطنة على إلزام خصمه بثبوت أمر ، من عين أو مال أو حقّ عليه ، وإن كان بتوسّط إقامة البيّنة على ذلك الأمر ، ولازم هذه السلطنة هو أن يكون له السلطنة على مطالبة ذلك الأمر ، فإذا جاء الدليل على نفي الأخيرة عن الصبي لصغره وعدم بلوغه إلى مرتبة الكمال ، فلازم نفي اللازم نفي الملزوم بالدلالة الالتزامية. هذا ما أفاده أستاذنا المحقق في هذا المقام.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين سلطنته على إلزام الخصم وإثبات أمر عليه ، وسلطنة نفسه على مطالبة ذلك الأمر ، بل تكون سلطنة المطالبة بذلك الأمر لوليّه ، وذلك كما أنّه لو اشترى الولي شيئا يصير ملكا له ، ومن شؤون الملكيّة سلطنة المالك على ملكه بأنّ له أنحاء التصرّفات المشروعة ، ولكن بالنسبة إلى الصبي ليس له هذه التصرّفات مباشرة ، بل تكون هذه السلطنة لوليّه.

فالإنصاف أنّه لو لم يكن إجماع الكلّ واتّفاقهم في البين ، لكان مقتضى القواعد الأوّلية سماع قوله ، خصوصا في غير الماليات ، كادّعائه جناية عليه إذا كان مراهقا‌ً ذكيّا فطنا عاقلا عالما. وأمّا حديث انصراف الأدلّة ـ مثل قوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » ـ عن الصبيّ وإن كان مراهقا ، فدعوى بلا بيّنة ولا برهان.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه على خصمه لنفسه ، أو لموكله ، أو لمن له الولاية عليه بأحد أنحاء الولايات‌. وأمّا لو لم يكن لما يدّعيه تعلّق به أصلا وكان أجنبيّا عنه ، فلا يصدق عليه المدّعي في مقابل المنكر وفي مقام المخاصمة ، وإن كان يطلق عليه المدّعي بالمعنى الأعمّ ، لأنّه بذلك المعنى الأعمّ يصدق على كلّ من ادّعى أمرا حتّى على المنكر ، لأنّه أيضا يدّعي عدم ثبوت حقّ عليه من جانب المدّعي ، وذلك من جهة أنّ المدّعي في مقام المخاصمة يطالب الطرف بأمر يدّعي ثبوته عليه ، فلا يصدق بهذا المعنى على من هو أجنبيّ عن ذلك الأمر ، وليس له أن يطالب الطرف به ، وإن كان بعد ثبوته بالبيّنة.

نعم لا بأس بأن يقال بسماع دعوى من له حقّ التصدّي في الحسبيات ، إذا كان ذلك الحقّ الذي يدّعيه راجعا إلى من له حقّ التصدّي في أموره وشؤونه ، وذلك كأموال الغيّب والقصر أو حقوقهم.

فإذا كان لأحد هؤلاء عين أو دين أو حقّ على شخص آخر ، فيكون لمن يجوز له التصدّي في أمورهم أن يدّعي على ذلك الشخص ، ويثبت عليه ذلك الأمر بالبيّنة ، ثمَّ يطالبه بما ثبت عليه حسبة. وأمّا من هو أجنبيّ محض عما يدّعيه ، فليس له أن يدّعي ، وإن ادّعى تكون دعواه لغوا لا يترتّب على قوله أثر من الآثار ، من وجوب إحضار المدّعي عليه ، ووجوب الحلف ، أو الردّ إن لم يكن للمدّعي بيّنة وطلب الحلف من خصمه.

نعم لو أقام بيّنة في المفروض يجب ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه البيّنة ، ولكن من جهة عموم حجّية البيّنة لا من جهة فصل الخصومة.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه ممّا يصحّ تملّكه شرعا‌ ، فلا تسمع دعوى من يدّعي على خصمه كذا مقدار من الخمر ، أو عدد كذا من الخنزير ، ولو كانت الدعوى على كافر ، ولكن هذا فيما إذا كان محطّ الدعوى هي ملكيّة أحدهما ، وأمّا لو كان محطّ الدعوى هو حقّ الاختصاص للانتفاعات المحلّلة المباحة ـ مثلا الخمر الذي في يد كافر أو مسلم يدّعي أنّ له حقّ الاختصاص به لأن يخلّله أو ينتفع به منفعة محلّلة أخرى ـ فلا وجه لعدم سماع مثل هذه الدعوى.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه أمرا ممكنا عقلا وعادة ، وجائزا شرعا‌. فلو ادّعى أنّه سرق هذا منّي قبل أربعين سنة الشي‌ء الفلاني ، وعمره أقلّ من عشرين سنة مثلا ، أو ادّعى أنّه مديون لي بمبلغ فلان واستقرض منّي ، والمبلغ كثير والمدّعي فقير بحيث أنّه غير ممكن عادة إقراض هذا المبلغ الكثير ، أو يدّعي عليه مبلغا من باب الربا أو القمار ممّا لا يجوز شرعا ولا يمكن أن يكون مديونا شرعا من تلك الجهة ، ففي جميع هذه الموارد وما يماثلها لا تسمع الدعوى ، لأنّ حقيقة الدعوى عبارة عن ادّعاء ثبوت أمر ـ من مال أو حقّ ـ على من هو خصمه ، وفي هذه الموارد يكون مثل هذه الدعوى باطلا ، لعدم إمكان ثبوته إمّا عقلا أو عادة أو شرعا.

ومنها : أن يكون ما يدّعيه معلوما بالنوع والوصف والقدر‌ ، وأمّا لو كان مجهولا من هذه الجهة فلا فائدة ولا ثمرة لمثل هده الدعوى.

فلو ادّعي أنّ لي عليه مالا أو ثوبا أو فرسا فلا تسمع ، وعلّلوا عدم سماع الدعوى بأنّه لو اعترف المدّعي عليه لا يثبت عليه شيئا ، لأنّ المجهول لا يثبت بما هو مجهول ، لا في الخارج ولا في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّه لو اعترف المدّعي عليه بذلك المجهول ، أو أقام البيّنة عليه يلزم بالتفسير والتعيين نوعا ووصفا وقدرا ، كما أنّه لو أقرّ ابتداء من دون سبق دعوى بالتفسير ، فإن قبل المقرّ له فهو ، وإلاّ يحلف المقرّ على نفي الزائد ، فليكن الأمر فيما نحن فيه أيضا‌ كذلك ، فإن أقرّ المدّعي عليه به يكون الأمر كما ذكرنا ، وإلاّ فيلزم المدّعي بالتفسير ، فإن فسّر يعمل معه ومع المدّعي عليه بقانون القضاء ، ويطبق عليه ضوابط وموازين باب المدّعي والمنكر ، وإن لم يفسّر فإن أنكر المدّعي عليه يحلف إن لم يقم البيّنة على ذلك المجهول وطلب الحلف منه ، وإن أقرّ يلزم بالتفسير ويكون الأمر كما تقدّم في الإقرار الابتدائي.

وعلى كلّ حال لا وجه لعدم سماع هذه الدعوى مع بنائهم على نفوذ الإقرار بالمجهول والوصيّة به.

نعم لو ادّعي ما يكون مجهولا مطلقا ، مردّدا بين ما له قيمة وما ليس له قيمة ـ كما إذا قال : لي عليه شي‌ء ـ يمكن أن يقال بعدم سماع هذه الدعوى.

والفرق بين الصورتين هو أنّه في الصورة الأولى لو أقرّ المدّعي بما ادّعاه يثبت عليه شي‌ء ، وهو القدر المتيقّن ممّا ادعاه ، وفي الصورة الثانية ليس قدر متيقّن ماليّ في البين ، لأنّه من الممكن بل المحتمل أن لا يكون ذلك المردد مالا ، فلا يثبت عليه شي‌ء ولو أقرّ به أو أقيمت البيّنة عليه.

هذا ، مع أنّه يلزم في باب الدعوى أن يكون ملزما على المدّعى عليه شيئا لو أقرّ به ، أو أقيمت البيّنة على ما يدّعيه.

ومنها : ما قيل بأنّ من شرائط قبول دعوى المدّعي أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدّعي عينا أو مالا أو حقّا على المدّعى عليه‌ ، فلا تسمع دعواه إن قال : إنّ هذا التمر من نخلي ، أو هذا العجل من بقرتي ، أو هذا الغزل من صوفي وأمثال ذلك ؛ لأنّه لا منافاة بين كون المذكورات كما قال وعدم كونها له ، إذ من الممكن انتقالها إليه بناقل شرعي ، فأمثال هذه الدعاوي لا تدلّ على استحقاق المدّعي شيئا ، حتّى ولو أقرّ المدعى عليه بما ادّعاه المدّعي ، أو أقام المدّعي بيّنة على ما ادّعاه.

وأمّا حديث تبعيّة الفرع للأصل في الملكيّة ـ بمعنى أنّه لو أقرّ بأنّ هذا العجل من‌ بقرة فلان ، أو هذا التمر من نخلة فلان ، فلازم هذا الإقرار إقراره بأنّ العجل لصاحب البقرة ، والتمر لصاحب النخلة ـ فلا أساس له في مقابل اليد التي هي أمارة الملكيّة.

وأمّا الفرق بين أن يقرّ بأنّ هذا الغزل من قطنك أو هذا الدقيق من حنطتك ، وبين أن يقرّ بأنّ هذا العجل من بقرتك أو هذا الغلام من أمتك بأنّه في الصورة الأولى إقرار بأنّ هذا الغزل لصاحب القطن وأنّ هذا الدقيق لصاحب الحنطة ، بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه ليس إقرارا بأنّ العجل لصاحب البقرة والغلام لصاحب الأمة ، وذلك لأنّ الدقيق والغزل عين الحنطة والقطن ، بخلاف العجل فإنّه ليس عين البقرة وكذلك الغلام ليس عين الأمة.

فلا يخلو من تأمّل وإشكال ، وذلك لأنّه وإن كان الدقيق عين الحنطة ، والغزل عين القطن خارجا ، بخلاف العجل والغلام إلاّ أنّ هذا المقدار من الفرق لا يؤثّر في المقام ، إذ المقرّ مأخوذ بظاهر كلامه ، وصرف الاحتمال على خلاف ما هو ظاهر الكلام لا يضرّ بحجّية ظهوره في كونه كاشفا عن مراده ، فلا بدّ وأن ينظر إلى ظاهر هذه الدعاوي ، وهل لها ظهور في استحقاق المدّعي شيئا على المدّعى عليه أم لا؟

فنقول : أمّا الصورة الثانية ، أي ما كان لهما وجودان وملكيّة أحدهما لا يلازم ملكيّة الآخر ، بل يمكن أن يكون الأصل له دون الفرع ، وكذلك العكس ، فقوله هذا الغلام متولّد من جاريتي ، أو هذا العجل من بقرتي ، ظاهر في أنّ الأصل له في حال إنشاء الدعوى ، ولا ظهور لهذا الكلام أنّ الفرع أيضا له ، إلاّ أن ينضم إلى قوله : ولم ينتقل الفرع إلى غيري بناقل شرعي مطلقا وهو لي.

ومنها : ما قيل : إنّ من شرائط سماع دعوى المدّعي أن يكون له خصم في مقابله ، ينازعه ويخاصمه وينكر ما يدّعيه‌ ، وإلاّ لو لم يكن له خصم في البين ويريد إصدار الحكم فعلا ليقطع النزاع المحتمل فيما سيأتي ـ لأنّه لو وقع النزاع فيما بعد ربما لا يتمكّن من إثبات دعواه في ذلك الزمان ، لفقد البيّنة الموجودة عنده الآن في ذلك الوقت ، أو‌ لجهة أخرى ـ فلا تسمع.

وأمّا تمسّك القائل بهذا الشرط ولزوم وجود الخصم حين سماع الدعوى بأنّ أدلّة القضاء والحكم وكذلك تعيين الوظيفة لكل واحد من المدّعي والمنكر ، كلّ ذلك في مورد المخاصمة ووقوع النزاع ، ولقطع النزاع والمخاصمة بين الطرفين ، فإن لم يكن نزاع ومخاصمة لا يبقى مورد لسماع دعوى المدّعي والحكم له على طبق بيّنته ، لأنّ هذه الأمور شرعت لدفع المخاصمة وقطع النزاع.

وفيه : أنّه بعد الفراغ عن عموم حجّية البيّنة وجعل المجتهد العادل المتّصف بكذا وكذا حاكما ، وعدم تقييد حكومته بمورد المخاصمة وقطع النزاع وإن كان ذلك حكمة جعله ، فالبيّنة أمارة شرعيّة بالنسبة إلى ما يدّعيه المدّعي ، وكذلك الحكم. فيثبت ما حكم به الحاكم حتّى في الأزمنة المتأخّرة.

نعم لا يجب على الحاكم سماع مثل تلك الدعوى ، والحكم بتلك البيّنة ، لأنّ وجوبها في موارد المخاصمة كما قال.

ومنها : أنّه يشترط في وجوب سماع دعوى المدّعي كون دعواه عن بت وجزم ، فلو كان ادّعاءه بصرف الاحتمال وهما أو شكا بل ولو ظنا لا يقبل ، وحكى في الجواهر عن الكفاية نسبة القول ـ باشتراط وجوب سماع الدعوى بهذا الشرط ـ إلى الشهرة (9) ، وقيل في وجهه وجوه :

الأوّل : عدم صدق المدّعي عرفا على من لم تكن دعواه عن بتّ وجزم ، وذلك لما ذكرنا في تعريف المدّعي بأنّه من يدّعي ثبوت أمر على خصمه ، ومعلوم أنّ ادّعاء الثبوت غير احتمال الثبوت وإن كان الاحتمال ظنيّا.

الثاني : أنّه لو ادّعى وهما أو شكّا أو ظنّا ، وقلنا بوجوب السماع ، فيجب الحكم‌ بنكول المنكر عليه أو مع يمين المدّعي ، وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك. أمّا بناء على وجوب الحكم على المنكر بصرف نكوله وعدم حلفه ، فمن جهة أنّ المدّعي يشكّ في استحقاقه على الفرض ، فلا يجوز له الأخذ بعد الحكم ، فيكون الحكم لغوا ، فيكون السماع لا فائدة فيه بل لا معنى له.

وأمّا بناء على أنّ الحكم بثبوت الحقّ على المنكر بعد عدم البيّنة ونكوله عن الحلف متوقّف على يمين المدّعي ، ففيه مضافا إلى عدم جواز الأخذ عدم جواز حلفه ، لأنه لا حلف إلاّ عن بتّ ، ففي كلا الشقّين يكون الحكم لغوا.

الثالث : أنّه في الدعاوي الصحيحة المنكر ، له الخيار بين أن يحلف أو يردّ إلى المدّعي ، وفي المقام لا يمكن الردّ ، لعدم علم المدّعي بثبوت الحقّ ، فلا يجوز له أن يحلف فلا وجه للردّ. والعمدة فيما ذهب إليه المشهور ـ من اشتراط سماع الدعوى إلى كونها عن بتّ وجزم ـ هو الوجه الأوّل ، أي عدم كونه مدّعيا عرفا إلاّ مع الجزم في دعواه ، وإلاّ فبصرف أن يقول : احتمل أن يكون فلان مديون لي بكذا ـ أو احتمل أن يكون عين مالي الفلاني عنده ـ لا يصدق عند العرف أنّه مدّع وطرفه منكرا ، ويكون مدّعى عليه.

وأمّا الوجه الثاني والثالث فضعفهما واضح ، إذ عدم إمكان ترتّب بعض آثار الدعاوي الصحيحة على الدعوى غير الجزمي لا يوجب عدم سماعها ، وعدم ترتيب الآثار الممكنة.

وأمّا التفاصيل المنقولة في هذه المسألة عن جماعة من الأساطين قدس سرّهم من وجوب السماع في مورد التهمة دون غيره ، أو في صورة الظنّ دون الوهم والشكّ ، أو السماع فيما يعسر الاطّلاع عليه دون غيره ، أو السماع في صورة احتمال صدور الإقرار من الطرف ، أو وجود البيّنة للمدّعي دون غيرها ، فكلّها ممّا لا وجه لها ، وما ذكروها في وجه هذه التفاصيل لا يمكن الركون إليها.

نعم ذكر صاحب الجواهر (10) في وجه التفصيل بين مورد التهمة وبين غيره ـ أي فيما إذا اتّهم المدّعي المنكر ـ أخبارا مؤيّدا لما ذهب إليه من الإحالة إلى العرف في وجوب السماع ، بمعنى أنّ العرف هل يرون مثل هذه الدعوى من الدعاوي المقبولة عندهم ، أم لا يعتنون بها؟

وهذه الأخبار هي خبر بكر بن حبيب ، قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه ، قال عليه السلام : « إن اتّهمته فاستحلفه ، وإن لم تتّهمه فليس عليه شي‌ء » (11).

وأيضا خبره الآخر عنه عليه السلام : « لا يضمن القصّار إلاّ ما جنت يده وإن اتّهمته أحلفته » (12).

وخبر أبي بصير عنه عليه السلام أيضا : « لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين ، فيخوف بالبيّنة ويستحلف ، لعلّه يستخرج منه شيئا » (13).

ولكن أنت خبير بأنّ هذه الأخبار مفادها استحلاف المدّعي ، لا المنكر الذي هو محلّ كلامنا. وإن شئت قلت : يد القصار والحائك والصائغ يد أمانة ، والتلف عندهم لا يوجب الضمان إلاّ إذا اتّهمهم بالإتلاف أو بالتعدّي والتفريط في حفظه فله أن يستحلفهم ، وهذا المعنى أجنبي عن محلّ كلامنا الذي هو عبارة عن إحلاف المنكر مع‌ كون الدعوى غير جزميّة وعدم البيّنة لذلك المدّعي.

وأمّا ما اختاره صاحب الجواهر خلافا للمشهور في هذه المسألة من إحالته إلى العرف وأنّهم إذا رأوها من الدعاوي المقبولة تقبل ويجب سماعها.

ففيه : أنّه بعد ما حكم الشارع بأنّ البيّنة وظيفة المدّعي ، والحلف وظيفة المنكر ، ففي تشخيص المدّعي والمنكر المرجع هو العرف.

وبعد ما عرفنا أنّ المدّعي عند العرف عبارة عمّن يخبر جزما بثبوت أمر له على خصمه وطرفه ، فإن لم يكن إخباره عن بتّ وجزم ، بل قال : احتمل أن يكون لي علىّ فلان كذا ، فلا يكون مشمولا لقوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر ».ففي مثل هذه الصورة قول العرف ـ بأنّها من الدعاوي المقبولة ـ لا أثر له ، ولا يوجب وجود موضوع وظيفة البيّنة واليمين.

وأمّا ما أفاده أستاذنا المحقّق في كتاب قضائه من سماع الدعوى الاحتمالي إذا قام أمارة على تهمة المدّعى عليه ، إذ العرف يسمعون مثلها ، وبناؤهم متّبع ما لم يردعهم الشارع ولم يثبت ذلك ، بل ثبت خلافه ، لخبري حبيب بن بكر ، وخبر أبي بصير الذين تقدّما.

ففيه : أنّ بناء العرف على سماع الدعوى غير الجزمي في مورد اتّهام المدّعى عليه ليس متّبعا شرعا إن لم ينطبق عليها موازين القضاء ، وقد عرفت عدم انطباقها عليها.

وأمّا إمضاء الشارع لبنائهم بتلك الأخبار ، فقد عرفت أنّها أجنبيّة عن مقامنا ، إذ أنّها تدلّ على استحلاف مدّعي التلف مع اتّهامه ، ولا ربط لها باتّهام المدّعى عليه الذي هو محلّ الكلام.

ومنها : تعيين المدّعى عليه‌ ، فلو قال : أحد هذين ، أو أحد هؤلاء الأشخاص مديون لي بكذا ، لا تسمع ، لأنّه لا أثر لهذه الدعوى لو قامت البيّنة ، أو أقرّا بما ادّعى عليهما بنحو الترديد ، إذ ثبوت الحقّ عليهما بنحو الترديد لا يمنع عن البراءة في حقّ كلّ‌ واحد منهما ، لشكّ كلّ واحد منهما في اشتغال ذمّته.

ولا يقاس بما إذا علم أو أقام الدليل المعتبر على كونه مديونا لأحد شخصين أو لأحد الأشخاص ، لأنّه هناك يعلم باشتغال ذمّته، فيجب عليه بحكم العقل تفريغ ذمّته بالجمع بين المحتملات ، ولكن حيث أنّه ضرر فإمّا أن يقرع أو يقسّم بينهما ثنائيا إن كانا اثنين ، وثلاثيا إن كانوا ثلاثة ، وهكذا بقاعدة العدل والإنصاف التي هي قاعدة معتبرة عند العقلاء.

وأمّا فيما نحن فيه فليس إلاّ الشكّ في اشتغال الذمّة بالنسبة إلى كلّ واحد منهما ، ومعلوم أنّه مجرى البراءة.

وأمّا ما يقال من أنّ إجراءهما يكون ضررا على ذلك الشخص الذي يكون له الحقّ على أحدهما المردّد ، فلا بدّ من أن يقرع بينهما أو يقسّم ، كما قلنا فيما إذا يعلم باشتغال ذمّته لأحدهما.

ففيه : أنّه كلّ واحد منهما يجري البراءة مستقلاّ ، وليست براءته وتكليفه مربوطا بتكليف الآخر وبراءته ، ولا يلزم من إجراء برأيه كلّ واحد منهما العلم بضرر ذلك الشخص.

نعم يحتمل ذلك ، ولكن هذا المعنى ـ أي : احتمال ضرر الغير من إجراء البراءة في الماليّات والحقوق ـ موجود في جميع موارد الشبهة البدويّة ، ولم يحتمل أحد عدم جريان البراءة في الحقوق والماليّات في الشبهات البدويّة لأجل هذا الاحتمال.

والإنصاف أنّ هذه الدعوى مرجعها إلى دعويين احتماليتين ، كلّ واحدة منهما متّجهة إلى أحدهما ، وقد عرفت الحال في الدعوى غير الجزمي ، أي الاحتمالية.

ومنها : أنّه لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه‌ ، بل تسمع وإن كان غائبا ، بأن يكون في خارج البلد ، أو كان مسافرا على المشهور وادّعى بعضهم عليه الإجماع ، وتدلّ عليه أخبار :

منها : مرسل جميل : « الغائب يقضى عليه إذا أقامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلاّ بكفلاء » (14).

ومثله خبر محمّد بن مسلم و     زاد : « إذا لم يكن مليّا » (15) .

 ومنها : قوله صلى الله عليه واله لهند زوجة أبي سفيان بعد ما ادّعت أنّ أبا سفيان رجل شحيح وأنّه لا يعطيها ما يكفيها وولدها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » (16).

ومنها : خبر أبي موسى الأشعري : كان النبيّ صلى الله عليه واله إذا حضر عند خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الآخر ، قضى للذي وفى على الذي لم يف ، اي : مع البيّنة (17).

ومقتضى الأصل الأولى وإن كان عدم نفوذ الحكم فيما شكّ في نفوذه ، سواء أكان منشأ الشكّ من ناحية المدّعي لفقد ما يحتمل اعتباره فيه وجودا أو عدما ، أو من ناحية المنكر لما ذكر ، أو من ناحية ما يدّعيه المدّعي.

ولكن مقتضى إطلاق قوله عليه السلام : « رجل قضى بالحقّ وهو يعلم » (18) ، وقوله صلى الله عليه واله : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » هو نفوذ الحكم إذا صدق عليهما عرفا المدّعي والمنكر ، وكان الحكم حقّا ومما أنزل الله ، فالعمدة في نفوذ الحكم هو صدق‌ المدّعي والمنكر على المتخاصمين عرفا ، وأن يكون الحاكم ـ أي المجتهد الجامع للشرائط ـ حكم بحكمهم : إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على اعتبار أمر آخر ، من حضور المدّعى عليه في مجلس الحكم وعدم غيابه ، أو السؤال عنه بعد إقامة المدّعي للبيّنة ، وأمثال ذلك.

وفيما نحن فيه ـ أي جواز الحكم على الغائب ـ لا دليل على اعتبار الحضور ، بل ظاهر الأخبار المتقدّمة صحّة الحكم ونفوذه على الغائب. ولا ينافي النفوذ قوله عليه السلام في ذيل مرسل جميل ، وخبر محمّد بن مسلم : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » لأنّ المراد من النفوذ هو لزوم العمل على طبقه ما لم ينهدم بحجّة أخرى ، كما لو أقام بيّنة على أداء دينه أو على انتقاله إليه بناقل شرعي مثلا.

نعم يبقى الكلام في أنّ مفاد هذه الأخبار هل هو جواز الحكم على الغائب مطلقا بصرف غيابه عن مجلس الحكم ، ولو كان في البلد وكان متمكّنا عن الحضور ، امتنع أو لم يمتنع ، أو في خصوص ما إذا امتنع عن الحضور؟ أو في خصوص الغائب الذي لم يتمكّن من الحضور؟ أو في خصوص الغائب عن البلد ، سواء أكان مسافرا بالسفر الشرعي أو لم يكن كذلك؟ أو في خصوص ما إذا كان مسافرا شرعا ، سواء أكان متمكّنا من الحضور أو لم يكن؟ أو في خصوص ما إذا لم يتمكن؟ بمعنى أنّه يكون مسافرا ولا يكون متمكّنا من الحضور ، وفي جميع هذه الشقوق هل جواز الحكم فيما قلنا بجوازه مقيّد بإعلامه وامتناعه عن الحضور أو مطلقا؟ احتمالات بل أقوال.

القدر المتيقّن من جواز الحكم عليه ونفوذه ، هو عدم حضوره بعد إعلامه وتمكّنه من الحضور مع كونه في البلد ، أو كان مسافرا وأعلم لكن كان غير متمكّن من الحضور. وظاهر خبر محمّد بن مسلم ومرسل جميل هو أن يكون الغائب الذي يقضى عليه مسافرا ، لقوله عليه السلام : « ويكون الغائب على حجّته إذا قدم » لكنّهما مطلقان من‌ جهات أخر ، أي من حيث التمكّن من الحضور وعدمه ، ومن حيث الإعلام وعدمه ، ومن حيث كونه مسافرا شرعيّا ، أو ولم يكن بالغا مسافرته إلى حدّ المسافة الشرعيّة.

وأمّا في قضيّة هند زوجة أبي سفيان ، فقوله صلى الله عليه واله : « خذي ما يكفيك وولدك » فالظاهر أنه صلى الله عليه واله كان في مقام بيان الحكم الشرعي ، وأنّه يجوز لها الأخذ بقدر كفايتها وكفاية ولدها ، لا في مقام الحكم بين المتخاصمين.

وأمّا خبر أبي موسى الأشعري ، فظاهرها الحكم على الممتنع المتخلّف عن موعده ، لا أن يكون غائبا عن البلد.

وخلاصة الكلام : أنّ مفاد هذه الأخبار جواز الحكم إمّا على المسافر الخارج عن البلد ، أو على الممتنع عن الحضور المتخلّف عن موعده.

وأمّا الاستدلال على جواز الحكم على الغائب بأنّه عدم الجواز مع قيام البيّنة ربما يوجب الضرر الكثير على المدّعي ، فهذا وأمثاله من الاستحسانيّات لا يمكن أن يكون مدركا ولا ملاكا للحكم الشرعي ، لأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، فالعمدة هي الروايات وقد عرفت حالها ومفادها وأنّه يجوز الحكم على الغائب في موردين ، الممتنع المتمكّن ولو كان في البلد ، والمسافر مطلقا.

نعم يظهر من مرسل جميل وخبر محمّد بن مسلم أنّ المال الذي يؤخذ من الغائب لا يعطى للمدعي إلاّ بكفلاء إذا لم يكن مليّا ، وذلك من جهة أنّه من الممكن أنّه بعد قدومه يثبت بالبيّنة أو بأمارة أخرى عدم اشتغال ذمّته بشي‌ء ، فإذا لم يكن مليّا فربما يضيع ماله.

ثمَّ إنّه قد يستدلّ لعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا برواية أبي البختري : « لا يقضي على غائب » (19).

وفيه : أنّ هذه الرواية بإطلاقها معرض عنها عند الجميع ، مع أنّه من المحتمل جدّا أن يكون المراد من عدم القضاء للغائب ونفيها هو أن يكون القضاء بنحو البتّ ، بحيث لا يكون الغائب على حجّته.

مضافا إلى ما في سنده من الضعف ، لأنّ راويه أبو البختري وهب ابن وهب كان كذّابا ، بل قيل في حقّه إنّه من أكذب البريّة.

والمراد من أنّ الغائب على حجته هو أنّ له إذا قدم أو حضر الاعتراض على الحاكم بعدم كونه أهلا للحكم ، أو جرح شهود الحكم ، أو إقامة بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ، وأمثال ذلك ممّا يوجب عدم تأثير الحكم الصادر حال غيابه.

ثمَّ أنّه هل جواز الحكم على الغائب مخصوص بحقوق الناس ، أو يجوز الحكم عليه في حقوق الله أيضا ، كإقامة البيّنة على أنّه شرب الخمر ، أو زنى أو لاط مثلا؟

ذهب المشهور إلى الاختصاص لقاعدة درء الحدود بالشبهات ، فمن الممكن أن يكون للغائب ما يدرأ عنه الحدّ.

نعم لو كانت الدعوى ذات جهتين ـ كالسرقة ـ فهل يجوز مطلقا ، أو لا كذلك ، أو التفصيل والتفكيك بين الجهتين؟ فالجواز بالنسبة إلى جهة حقّ الناس والعدم بالنسبة إلى حقّ الله احتمالات : والحقّ هو الأخير ، أي التفكيك بين حقّ الناس وحقّ الله في عالم الإثبات ، ففي مثل السرقة لو شهدت البيّنة على أنّه سرق المال الفلاني مع كونه غائبا ، فجواز الحكم عليه بالنسبة إلى غرمه للمال ، وأمّا بالنسبة إلى القطع فلا. أمّا الجواز بالنسبة إلى الغرم فللأدلّة الدالّة على جواز الحكم على الغائب ، وأمّا العدم بالنسبة إلى القطع فلما قلنا من أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، وإنّ حقّ الله مبنيّ على التخفيف لغنائه تعالى عن استيفائه.

ولكن تردّد في هذا التفكيك في الشرائع (20) لأجل كون المحققين معلولين لعلّة واحدة ، وهي قيام البيّنة على السرقة ، فلا يمكن التفكيك بينهما.

وفيه : أنّ كونهما معلولين لعلّة واحدة ممنوع ، فإنّه من الممكن كون الغرم معلولا لقيام البيّنة على السرقة مطلقا ، سواء أكان المشهود عليه حاضرا أو كان غائبا ، وأمّا القطع فمعلول له بشرط حضور المشهود عليه ، فلا يلزم التفكيك بين معلولي علّة واحدة كما توهّم.

هذا مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ الملازمة بينهما في مقام الثبوت وإن كانت ثابتة ولا ينكر ، ولكن في مقام الإثبات لا مانع من التفكيك بينهما ، لأنّه ربما يكون دليل الإثبات وافيا لإثبات إحدى الجهتين دون الجهة الأخرى ، وله نظائر كثيرة في الفقه ، كما أنّه في نفس هذا المورد ، أي السرقة لو أقرّ مرّة يثبت الغرم دون القطع ، لأنّ إثبات السرقة من حيث موضوعيّتها للقطع لا يكون إلاّ بالبيّنة أو الإقرار مرّتين ، ولكن إثباتها من حيث الغرم يكفي فيه الإقرار مرّة واحدة.

الجهة الثالثة

في موارد تخصيص هذه القاعدة‌ :

وحيث أنّها مركّبة من كلّيتين :

إحديهما جملة « كلّ من هو مدّع في مقام المخاصمة فعليه البيّنة لإثبات دعواه ».

ثانيهما « كلّ منكر وظيفته اليمين » فقد ذكروا لكلّ واحدة من الجملتين مخصّصات.

فللجملة الأولى ذكروا مخصّصات :

منها : أنّ الأمين مطلقا ـ سواء أكانت أمانته شرعيّة أو مالكيّة ـ إذا ادّعي التلف لما في يده ، ليس عليه البيّنة ، بل يقبل قوله‌ ، وليس عليه إلاّ اليمين إذا ادّعي عليه الإتلاف ، ويكون مخصّصا لقاعدة « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » بالنسبة إلى جملتها الأولى.

وفيه : أنّه قد تقدّم في الجزء الثاني من هذا الكتاب في شرح قاعدة عدم ضمان الأمين (21) نفي ضمان اليد عن الأمين مطلقا ، سواء أكانت الأمانة شرعيّة أو مالكيّة ، لأنّ يده يد المأذون من قبل المالك ، أو من قبل الشارع ، فالتلف في يده لا يوجب الضمان إلاّ مع التعدّي والتفريط ، أو يكون إتلافا من قبل ذي اليد من دون إذن المالك في الإتلاف ، فالموجب لضمان الأمين أحد الأمرين : إمّا إتلافه لما في يده ، أو التعدّي والتفريط منه. والأصل عدمهما ، فلا بدّ للمالك المدّعي لضمانه من إثبات أحد الأمرين ، فيكون المالك مدّعيا للضمان والأمين منكر.

وإن شئت قلت : إنّ المالك يدّعي أحد الأمرين : إمّا التعدّي والتفريط ، وإمّا الإتلاف ، فعليه البيّنة على ذلك. وإن لم يكن له بيّنة فله أن يحلف الأمين المنكر على عدم صدور كلا الأمرين منه على قول ، وعلى القول الآخر لا شي‌ء على الأمين إلاّ أن يقيم المالك البيّنة على صدور أحد الأمرين منه ، فلا تخصيص في هذا المورد لكلتا الجملتين ، بل الحكم في الأمين على طبق كلتاهما.

ومنها : دعوى الودعيّ ردّ الوديعة إلى مالكها مع إنكار المالك‌ ، فالمشهور قائلون بقبول قوله من غير أن تكون عليه البيّنة ، مع أنّهم لا يقولون بذلك في سائر الأمانات المالكيّة ، وإذا ادّعى المستعير ردّ ما استعاره لا يقبل قوله بدون البيّنة ، وكذلك المستأجر لو ادّعى ردّ ما استأجره ، أو المرتهن ادّعى ردّ العين المرهونة ، أو الوكيل لو ادّعى ردّ ما وكلّ في بيعه مثلا ، لا تقبل دعوى جميعهم إلاّ بالبيّنة ، فيكون قبول قول الودعي بدون‌ البيّنة مخصصا لهذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى.

والدليل على قبول الودعي ـ في ردّه الوديعة إلى مالكه بدون البيّنة ـ الإجماع كما ادّعاه صاحب الجواهر (22) والأخبار (23).

منها : أنّ المالك لو ادّعى الإبدال في أثناء الحول بالنسبة لما عنده من المال الزكوي فيما يعتبر فيه مضيّ الحول في تعلّق الزكاة بها ، للفرار عن تعلق الزّكاة بها أو لغرض آخر ، فيقبل قوله من دون أن تكون عليه البيّنة.

فلو ادّعى صاحب الدراهم والدنانير أو صاحب الأنعام ـ وهي الأجناس التي اعتبر في تعلق الزكاة بها مضي الحول عليها في ملكه واجدة لجميع شرائط وجوب الزكاة وتعلقها بها ـ أنّه أبدلها بغيرها في أثناء الحول ، فهذا الموجود لم يمض عليه الحول فلم يتعلّق به زكاة ، يقبل قوله إجماعا ، ولا يطالب بالبيّنة بل ولا يمين عليه ، لقاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

وقد تكلّمنا في مدرك هذه القاعدة والمراد منها في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (24) ، وللروايات الخاصّة الواردة في هذا المقام.

منها : صحيحة بريد بن معاوية : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « بعث أمير المؤمنين عليه السلام مصدقا » وفيها : أنّه عليه السلام قال : « ثمَّ قل لهم يا عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله لآخذ منكم حقّ الله تعالى في أموالكم ، فهل الله تعالى في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليه؟ فإن قال لك قائل : لا ، فلا تراجعه » (25) وفي خبر غياث بن إبراهيم : « فإنّ ولّى عنك فلا تراجعه » (26).

ويظهر من هذه الروايات قبول قول المالك في نفي تعلّق الزكاة بماله الموجود عنده ، سواء أكان من جهة عدم مضيّ الحول عليه ـ وان كان عدم المضي من جهة تبديله في أثناء الحول ـ أو من جهة أخرى ، أو كان عدم وجوب الزكاة في ذلك المال من جهة دفعه زكاته الى المستحقّ ، ففي جميع ذلك يقبل قوله بلا بيّنة عليه ولا يمين أيضا عليه ، كلّ ذلك إرفاقا بالمالك.

فإذا كان مدّعي التبديل ومدّعي الدفع إلى المستحقّ يقبل قوله من دون أن تكون بيّنة عليه ، فيكون هذا تخصيصا للجملة الأولى من القاعدة ، وكذلك يقبل قول المالك في دعوى نقصان ما خرصه المصدق عليه.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المذكورات ليس من باب تخصيص تلك القاعدة ، بل قول المالك مطابق للحجّة الفعليّة ، وقد تقدّم في تشخيص المدّعي والمنكر أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا لها.

وأمّا إنّ قول المالك هاهنا موافق لها ، فمن جهة أصالة عدم تعلّق الزكاة بهذا المال الموجود عنده ، وكذلك عدم مضيّ الحول عليه. نعم لو كان أثر شرعي مترتبا على عنوان التبديل فينفي بأصالة عدم وقوع التبديل ، ولكنّه أجنبيّ عن محلّ البحث.

وأمّا بالنسبة إلى الدفع إلى المستحقّ فربما يقال بأنّه بعد اعترافه بتعلّق الزكاة ووجوبها عليه ، مقتضى الأصل عدم الدفع وبقاء الاشتغال ، وأيضا حكم العقل بلزوم تحصيل الفراغ اليقيني بعد ثبوت الاشتغال اليقيني يقتضي لزوم أدائه والأخذ عنه.

وفيه : أنّ هذا صحيح لو كان مصبّ الدعوى هو أداء ما كان واجبا عليه ودفع الحقّ إلى مستحقّه ، وأمّا لو كان مصبّ الدعوى هو أنّه هل في هذا المال الموجود زكاة‌ أم لا؟ فلا أصل يثبت وجود الزكاة فيه ، لأنّ هذا المال الموجود لم يكن في زمان من الأزمنة كون الزكاة فيه معلوم الوجود حتّى يستصحب في ظرف الشكّ ، لأنّه من الممكن أن يكون هذا ما عدا مقدار الزكاة.

وهذا إذا كانت من قبيل الكلّي في المعيّن واضح ، وهكذا لو كانت من قبيل حقّ الرهانة ، أو من قبيل منذور الصدقة ، نعم لو كانت الزكاة من قبيل الإشاعة في المال الزكوي فللاستصحاب مجال ، ولكنّه خلاف التحقيق ، كما بيّن في محلّه.

هذا ، ولكن الإنصاف أنّه لو كانت الدعوى في الدفع وعدمه ، فلا فرق بين أن يكون مصبّ الدعوى هو الدفع ، أو يكون في أنّ هذا المال الموجود فيه الزكاة أم لا؟ وذلك من جهة أنّه بعد القطع بتعلّق الزكاة بهذا المال الشخصي ، فاحتمال أداء الزكاة أو احتمال إخراج مقدار الزكاة عنه لا يخرج القضيّة المشكوكة عن الواحدة العرفيّة مع المتيقّنة.

ولكنّ الروايات والإجماع المدّعى في المقام حاكمان على هذا الاستصحاب على تقدير شمول إطلاقهما لمورد دعوى الدفع.

ثمَّ إنّهم ذكروا موارد أخر لعدم كون البيّنة على المدّعي وتخصيص هذه القاعدة بالنسبة إلى جملتها الأولى ، كدعوى الذمّي إسلامه قبل حلول وقت الجزية للتخلّص عنها ، وكدعوى الحربي الذي نبت الشعر على عانته إنّ إنباته بعلاج حتّى لا يكون أمارة البلوغ فيقتل ، وكدعوى البلوغ لصحّة معاملاته أو لغرض آخر ، وكدعوى الإعسار في بعض صور المسألة ، فقالوا بقبول قولهم ودعواهم بدون البيّنة ، غاية الأمر في بعضها مع اليمين ، وفي بعضها الآخر بغير اليمين أيضا.

وقالوا أيضا في موارد أخر بقبول قول المدّعي من دون أن يكون عليه البيّنة ، تركنا ذكرها خوفا من الإطالة.

وعلى كلّ التحقيق في هذه الموارد ، وأنّه هل هي من موارد سماع قول المدّعي من‌ دون أن يكون عليه البيّنة ، أو ليست كذلك؟ يحتاج إلى بحث طويل.

وقد وقع الكلام والبحث والنقض والإبرام عن كلّ منها في محلّه وبابه ، والغرض هاهنا الإشارة إلى تلك الموارد لا تحقيق الحال فيها ، فإنّه خارج عن طور هذا الكتاب.

هذا كلّه كان في تخصيص الجملة الأولى من هذه القاعدة.

وأمّا التخصيصات الواردة على الجملة الثانية :

فمنها : يمين الاستظهار‌ ، وهو عبارة عن يمين المدّعي في الدعوى على الميّت ، وادّعى الشهيد الثاني عليه الإجماع (27) ، بأنّه من كان له دعوى على الميّت ، إمّا أن يكون له بيّنة على ما يدّعيه أم لا ، فإن لم تكن له بيّنة فدعواه ساقطة ، وإن كانت له البيّنة على ذلك فعليه اليمين استظهاراً.

أمّا كون هذا اليمين تخصيصا للقاعدة فوجهه واضح ، أمّا أوّلا : فلأنّهم ذكروا أنّ المبتدأ المعرّف باللام محصور في الخبر ، كقولهم : الكرام والفصاحة في العرب ، والصنعة في الصين ، فبناء على هذا يكون مفاد هذه القاعدة ـ التي هي عين مضمون الحديث الشريف ـ أنّ البيّنة محصورة في المدّعي وليست لغيره ، وهذا مضمون الجملة الأولى من هذه القاعدة ـ وقد ذكرنا موارد تخصيصها أو الموارد التي توهّم أنّها كذلك ـ وأنّ اليمين محصور في المنكر ، فكون اليمين على المدّعي وإن كان من باب الاستظهار تخصيص لهذه الكلّية ، أي الجملة الثانية.

وأمّا ثانيا : فمن جهة أنّ التفصيل قاطع للشركة ، فبحكم هذه القاعدة تكون البيّنة مختصّة بالمدّعي ، واليمين مختصّ بالمنكر ، ولا شركة بينهما في شي‌ء منهما ، فيكون الحكم على المدّعي على الميّت باليمين استظهارا مخصّصا للجملة الثانية.

وأمّا الاعتذار عن ذلك وتوجيهه ـ بأنّ كون هذا اليمين على المدّعي على الميّت باعتبار كونه منكرا لدعوى المتوهّمة من قبل الميت ، بمعنى أنّ الميّت لو كان حيّا فلربما يدّعي عليه الوفاء لدينه وحقّه ، فيكون المدّعي على الميّت بالنسبة إلى هذه الدعوى المحتملة الفرضيّة منكرا ، فمن هذه الجهة يكون عليه اليمين ـ لا يخلو من غرابة.

وأمّا مدرك هذا الحكم ـ أي يمين المدّعي على الميّت ـ مضافا إلى الإجماع الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة :

منها : موثّقة عبد الرحمن التي رواها المشايخ الثلاث‌ ، قال : قلت للشيخ (28) .

وفيها : « فإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فأقيمت عليه البيّنة ، فعلي المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد مات فلان وأنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حقّ له ، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غير بيّنة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له ، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ » (29).

ومنها : صحيح الصفار‌ ، كتب محمّد بن الحسن الصفار إلى أبي محمّد الحسن بن علىّ : هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ». وكتب : أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيرا أو كبيرا وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقّع عليه السلام : « نعم ، وينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة ». وكتب : أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع : « نعم من بعد يمين » (30).

والمراد بقوله عليه السلام : « من بعد يمين » ظاهر في يمين المدّعي. واحتمال كون المراد منه يمين الوصي بعيد لا يعتنى به ، بل لا مجال له ، لأنّ الحلف على مال الغير لا مورد له أوّلا ، وثانيا : لا حلف إلاّ عن بتّ ، ولا يمكن حصول البتّ للوصي ، ولو كان الاحتمال أنّ المدّعي برأ ذمّة الميّت بعد موته ثمَّ ندم ويدّعي.

فالإنصاف أنّ دلالة الروايتين على هذا الحكم ـ أي يمين المدّعي على الميّت على بقاء حقّه عليه ، وأنّه لم يوفه ، وهو أي المدّعي ، لم يبرئه بعد قيام البيّنة من طرف المدّعي على حقّه على الميّت ـ واضحة لا ارتياب فيه.

وأمّا ضعف السند في موثّقة عبد الرحمن البصري ـ لو كان ـ فمنجبر بعمل الأصحاب ، وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « منتهى الأصول » (31). مضافا إلى أنّ رواية الصفار صحيحة ، فلا إشكال لا من ناحية السند ، ولا من ناحية الدلالة.

نعم هاهنا فروع في هذه المسألة بحث الفقهاء عنها في كتاب القضاء :

منها : أنّه هل هذا الحكم ـ أي : الاحتياج إلى ضمّ يمين المدّعي إلى البيّنة لإثبات ما يدّعيه ـ مختصّ بالديون ، أو يجري في الأعيان أيضا؟

ومنها : أنّ أثر الحلف نفي احتمال الوفاء وأداء الميّت في حال حياته فقط ، أو أنّ أثره نفي جميع الاحتمالات حتّى احتمال الإسقاط والإبراء بعد الموت؟

ومنها : أنّه لو أقام المدّعي شاهدا واحدا ولم يحصل له شاهد آخر ، فهل هذا اليمين يكفي لانضمامه إلى ذلك الشاهد الواحد ، أو يحتاج إلى يمين آخر ، لأنّ هذا اليمين يمين استظهار؟

ومنها : أنّ هذا الحكم مختصّ بالدعوى على الميّت ، أو يتعدّى إلى المجنون‌ والغائب؟

ومنها : أنّه هل هذا الحكم مختصّ بما إذا كان نفس المدّعي صاحب الحقّ الذي يدّعيه ، أو يجري وإن كان المدّعي وليا أو وصيّا أو وكيلا عن صاحب الحقّ.

فهذه أمور بحث عنها الفقهاء في كتاب القضاء ، ونحن تركناها خوفا من التطويل ، ولخروجها عن وضع هذا الكتاب.

ومنها : اليمين المردودة من طرف المنكر إلى المدّعي ، فإذا حلف المدّعي بعد أنّ المنكر ردّ اليمين إليه يثبت حقّه ، كما كان يثبت بالبيّنة. وظاهر الحصر في هذه القاعدة ـ كما بيّناه ـ أنّ ميزان الحكم للمدّعي وإثبات حقّه هي البيّنة ، وأنّ اليمين وظيفة المنكر وميزان له.

فاليمين المردودة إن كان ميزان للمدّعي فيكون مخصّصا للجملة الثانية من هذه القاعدة ، أي كون اليمين مختصّا بالمنكر وعدم كونه ميزانا إلاّ له.

وربما يقال : بأنّ الحصر في هذه القاعدة باعتبار الوظيفة الابتدائيّة ، وأمّا اليمين المردودة فليست كذلك ، بل بعد عجز المدعي عمّا هو وظيفته ـ أي البيّنة ـ وتوجّه اليمين إلى المنكر ونكوله عن الحلف وردّه إلى المدّعي يكون ميزانا للمدّعي لا أوّلا وبالذات.

وفيه : أنّه ليس مفاد القاعدة هو أنّ البيّنة وظيفة المدّعي أوّلا وبالذات ، واليمين وظيفة المنكر كذلك ، بل ظاهرها انحصار ميزان المدّعي في البيّنة وميزان المنكر في اليمين ، ولكن الحصر ليس حصرا عقليّا كي لا يكون قابلا للتخصيص ، وإنّما هو بحكم الشارع ، فقابل لأن يخصّصه بدليل آخر ، وهو الإجماع والنصّ.

كصحيحة محمّد بن مسلم في الرجل يدّعي ولا بيّنة له ، قال : « يستحلفه ، فإن ردّ‌ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف ، فلا حقّ له » (32).

وصحيحة عبيد بن زرارة في الرجل يدّعي عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : « يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له » (33).

وصحيحة هشام قال : « تردّ اليمين على المدّعي » (34).

وروايات أخر بهذا المضمون مذكورة في كتاب القضاء (35).

هذا آخر ما كتبناه في هذه القاعدة.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

________________

(*) « القواعد والفوائد » ج 1 ، ص 405 ، « الحق المبين » ص 48 و 65 ، « عناوين الأصول » عنوان 76 ، « خزائن الأحكام » العدد 38 ، « بلغة الفقيه » ج 36 ، ص 376 و 388 ، « قواعد فقهي » ص 21 ، « القواعد الفقهية » ( مكارم الشيرازي ) ج 4 ، ص 335.

(1) « عوالي اللئالي » ج 2 ، ص 345 ، ح 11 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 4.

(2) « دعائم الإسلام » ج 2 ، ص 520 ، ح 1859 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 367 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1.

(3) « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 244 ، ح 172 ، وص 453 ، ح 188 ، وج 2 ، ص 258 ، ح 10 ، وص 345 ، ح 11 ، وج 3 ، ص 523 ، ح 22.

(4) « الاستغاثة » ص 16 ، « مستدرك الوسائل » ج 17 ، ص 368 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 5.

(5) « الكافي » ج 7 ، ص 414 ، باب أنّ القضاء بالبيّنات والأيمان ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 552 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 3 ، « معاني الأخبار » ص 279 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 169 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 2 ، ح 1.

(6) « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب أنّ البيّنة على المدّعي و. ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 553 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 170 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 3 ، ح 1.

(7) « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 497.

(8) « الكافي » ج 7 ، ص 412 ، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ح 514 ، باب من إليه الحكم وأقسام القضاة ، ح 6 ، وص 301 ، ح 845 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 52 ، « الاحتجاج » ص 355 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 98 ، أبواب صفات القاضي ، باب 11 ، ح 1.

(9) « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 153 ، « كفاية الأحكام » ص 266.

(10) « جواهر الكلام » ج 40 ، ص 154.

(11) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 221 ، ح 966 ، باب الإجارات ، ح 48 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 275 ، أبواب كتاب الإجارة ، باب 29 ، ح 16.

(12) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 221 ، ح 967 ، باب الإجارات ، ح 49 ، « الاستبصار » ج 3 ، ص 133 ، ح 481 ، باب الصانع يعطى شيئا ليصلحه. ، ح 12 ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 275 ، أبواب كتاب الإجارة ، باب 29 ، ح 17.

(13) « تهذيب الأحكام » ج 7 ، ص 218 ، ح 951 ، أبواب كتاب الإجارات ، ح 33 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 257 ، ح 3928 ، باب ضمان من حمل شيئا. ، « وسائل الشيعة » ج 13 ، ص 274 ، أبواب كتاب الإجارات ، باب 29 ، ح 11.

(14) « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 296 ، ح 827 ، باب من الزيادات في القضايا والأحكام ، ح 34 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 216 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 26 ، ح 1.

(15) « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 191 ، ح 413 ، باب الديون وأحكامها ، ح 38 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 216 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 26 ، ح 1.

(16) « صحيح مسلم » ج 3 ، ص 549 ، كتاب الأقضية ، باب 4 ، ح 7 ، « سنن ابن ماجه » ج 2 ، ص 769 ، ح 2293 ، « عوالي اللئالي » ج 1 ، ص 403 ، ح 59.

(17) « الفقيه » ج 3 ، ص 4 ، ح 3221 ، باب أصناف القضاة.

(18) « الكافي » ج 7 ، ص 407 ، باب أصناف القضاة ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 218 ، ح 53 ، باب من اليه الحكم وأقسام القضاة ، ح 5 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 11 ، أبواب صفات القاضي ، باب 4 ، ح 6.

(19) « قرب الإسناد » ص 66 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 217 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 26 ، ح 4.

(20) « شرائع الإسلام » ج 4 ، ص 73.

(21) « القواعد الفقهية » ج 2 ، ص 7.

(22) « جواهر الكلام » ج 27 ، ص 148.

(23) « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 111 ، أبواب زكاة الذهب والفضّة ، باب 12.

(24) « القواعد الفقهية » ج 1 ، ص 7.

(25) « الكافي » ج 3 ، ص 536 ، باب آداب المصدّق ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 4 ، ص 96 ، ح 274 ، باب الزيادات في الزكاة ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 88 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 1.

(26) « الكافي » ج 3 ، ص 538 ، باب آداب المصدّق ، ح 4 ، « وسائل الشيعة » ج 6 ، ص 90 ، أبواب زكاة الأنعام ، باب 14 ، ح 5 ، وص 217 ، أبواب المستحقّين للزكاة ، باب 55 ، ح 1.

(27) « الروضة البهيّة » ج 3 ، ص 104.

(28) يعني أبا الحسن الأوّل 7.

(29) « الكافي » ج 7 ، ص 415 ، باب من ادّعى على ميّت ، ح 1 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 63 ، ح 3343 ، باب الحكم باليمين على المدعى. ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 229 ، ح 555 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 6 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 172 ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب 4 ، ح 1.

(30) « الكافي » ج 7 ، ص 394 ، باب شهادة الشريك والأجير والوصي ، ح 3 ، « الفقيه » ج 3 ، ص 73 ، ح 3362 ، باب شهادة الوصي للميّت و. ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 247 ، ح 626 ، باب البيّنات ، ح 31 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 273 ، أبواب كتاب الشهادات ، باب 28 ، ح 1.

(31) « منتهى الأصول » ج 2 ، ص 91.

(32) « الكافي » ج 7 ، ص 416 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 1 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 557 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 8 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 1.

(33) « الكافي » ج 7 ، ص 416 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 2 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 556 ، باب كيفيّة الحكم والقضاء ، ح 7 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7 ، ح 2.

(34) « الكافي » ج 7 ، ص 417 ، باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين ، ح 5 ، « تهذيب الأحكام » ج 6 ، ص 230 ، ح 560 ، باب كيفية الحكم والقضاء ، ح 11 ، « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفيّة الحكم ، باب 7 ، ح 3.

(35) « وسائل الشيعة » ج 18 ، ص 176 ، أبواب كيفية الحكم ، باب 7.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.