أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-7-2020
4207
التاريخ: 29-8-2016
1388
التاريخ: 31-8-2016
1539
التاريخ: 1-9-2016
1144
|
وفيه ست مسائل:
المسألة الأولى - معنى المطلق والمقيد : عرفوا المطلق بأنه (ما دل على معنى شائع في جنسه) ويقابله المقيد , وهذا التعريف قديم بحثوا عنه كثيرا وأحصوا عليه عدة مؤاخذات يطول شرحها , ولا فائدة في ذكرها ما دام إن الغرض من مثل هذا التعريف هو تقريب المعنى الذي وضع له اللفظ، لأنه من التعاريف اللفظية.
والظاهر إنه ليس للأصوليين اصطلاح خاص في لفظي المطلق والمقيد، بل هما مستعملان بما لهما من المعنى في اللغة، فإن المطلق مأخوذ من الإطلاق وهو الإرسال والشيوع، ويقابله التقييد تقابل الملكة وعدمها، والملكة التقييد والإطلاق عدمها،... غاية الأمر إن إرسال كل شيء بحسبه وما يليق به. فإذا نسب الإطلاق والتقييد إلى اللفظ - كما هو المقصود في المقام - فإنما يراد ذلك بحسب ماله من دلالة على المعنى. فيكونان وصفين للفظ باعتبار المعنى. ومن موارد استعمال لفظ المطلق نستطيع أن نأخذ صورة تقريبية لمعناه , فمثلا عندما نعرف العلم الشخصي والمعرف بلام العهد لا يسميان مطلقين باعتبار معناهما، لأنه لا شيوع ولا إرسال في شخص معين - لا ينبغي إن نظن إنه لا يجوز إن يسمى العلم الشخصي مطلقا، فإنه إذا قال الأمر: (أكرم محمدا) وعرفنا إن لمحمد أحوالا مختلفة ولم يقيد الحكم بحال من الأحوال نستطيع إن نعرف إن لفظ محمد هنا أو هذا ال كلام بمجموعه يصح إن نصفه بالإطلاق بلحاظ الأحوال، وإن لم يكن له شيوع باعتبار معناه الموضوع له.
أذن للأعلام الشخصية والمعرف بلام العهد إطلاق فلا يختص المطلق بماله معنى شايع في جنسه كاسم الجنس ونحوه. وكذلك عندما نعرف إن العام لا يسمى مطلقا، فلا ينبغي إن نظن إنه لا يجوز إن يسمى مطلقا أبدا، لأنا نعرف إن ذلك إنما هو بالنسبة إلى أفراده أما بالنسبة إلى أحوال أفراده غير المفردة فإنه لا مضايقة في إن نسميه مطلقا. أذن ل مانع من شمول تعريف المطلق المتقدم (وهو ما دل على معنى شايع في جنسه) للعام باعتبار أحواله، لا باعتبار أفراده. وعلى هذا فمعنى المطلق هو شيوع اللفظ وسعته باعتبار ما له من المعنى وأحواله، ولكن لا على إن يكون ذلك الشيوع مستعملا فيه اللفظ كالشيوع المستفاد من وقوع النكرة في سياق النفي وإلا كان ال كلام عاما ل مطلقا.
المسألة الثانية - الإطلاق والتقييد متلازمان أشرنا إلى التقابل بين الإطلاق والتقييد من باب تقابل الملكة وعدمها، لأن الإطلاق هو عدم التقييد فيما من شأنه إن يقيد , فيتبع الإطلاق التقييد في الإمكان، أي إنه إذا أمكن التقييد في ال كلام وفي لسان الدليل أمكن الإطلاق ولو أمتنع استحال الإطلاق , بمعنى إنه لا يمكن فرض استكشاف الإطلاق وأرادته من كلام المتكلم في مورد لا يصح التقييد. بل يكون مثل هذا الكلام لا مطلقا ولا مقيدا، وإن كان في الواقع إن المتكلم لا بد إن يريد أحدهما. وقد تقدم مثاله في بحث التوصلي والتعبدي...، إذ قلنا: إن امتناع تقييد الأمر بقصد الامتثال يستلزم امتناع إطلاقه بالنسبة إلى هذا القيد, وذكرنا هناك كيف يمكن استكشاف إرادة الإطلاق بإطلاق المقام لا بإطلاق الكلام الواحد.
المسألة الثالثة - الإطلاق في الجمل الإطلاق لا يختص بالمفردات - كما يظهر من كلمات الأصوليين - إذ مثلوا للمطلق باسم الجنس وعلم الجنس والنكرة، بل يكون في الجمل أيضا كإطلاق صيغة أفعل الذي يقتضي استفادة الوجوب العيني والتعييني والنفسي، فإن الإطلاق فيها إنما هو من نوع إطلاق الجملة. ومثله إطلاق الجملة الشرطية في استفادة الانحصار في الشرط. ولكن محل البحث في المسائل الآتية خصوص الألفاظ المفردة، ولعل عدم شمول البحث عندهم للجمل باعتبار إن ليس هناك ضابط كلي لمطلقاتها وإن كان الأصح إن بحث مقدمات الحكمة يشملها. وقد بحث عن إطلاق بعض الجمل في مناسباتها كإطلاق صيغة أفعل والجملة الشرطية ونحوها.
المسألة الرابعة - هل الإطلاق بالوضع؟ لا شك في إن الإطلاق في الأعلام بالنسبة إلى الأحوال كما تقدمت الإشارة إليه - ليس بالوضع، بل إنما يستفاد من مقدمات الحكمة. وكذلك إطلاق الجمل وما شابهها - أيضا - ليس بالوضع بل بمقدمات الحكمة. وهذا لا خلاف فيه , وإنما الذي وقع فيه البحث هو إن الإطلاق في أسماء الأجناس وما شابهها هل هو بالوضع أو بمقدمات الحكمة؟ أي إن أسماء الأجناس هل هي موضوعة لمعانيها بما هي شائعة ومرسلة على وجه يكون الإرسال أي الإطلاق مأخوذا في المعنى الموضوع له اللفظ - كما نسب إلى المشهور من القدماء قبل سلطان العلماء - أو إنها موضوعة لنفس المعاني بما هي والإطلاق يستفاد من دال آخر، وهو نفس تجرد اللفظ من القيد إذا كانت مقدمات الحكمة متوفرة فيه؟ - وهذا القول الثاني أول من صرح به فيما نعلم سلطان العلماء في حاشيته على معالم الأصول، وتبعه جميع من تأخر عنه إلى يومنا هذا. وعلى القول الأول يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازا، وعلى القول الثاني يكون حقيقة.
والحق ما ذهب إليه سلطان العلماء، بل قيل إن نسبة القول الأول إلى المشهور مشكوك فيها. ولتوضيح هذا القول وتحقيقه ينبغي بيان أمور ثلاثة تنفع في هذا الباب وفي غير هذا الباب (1). الأمور التي ينبغي بيانها هي كما يلي:
1 - اعتبار الماهية: المشهور إن للماهية ثلاثة اعتبارات، إذا قيست إلى ما هو خارج عن ذاتها، ما إذا قيست الرقبة إلى الإيمان عند الحكم عليها بحكم ما كوجوب العتق. وهي:
1 - إن تعتبر الماهية مشروطة بذلك الأمر الخارج. وتسمى حينئذ (الماهية بشرط شيء) كما إذا كان يجب عتق الرقبة المؤمنة، أي بشرط كونها مؤمنة.
2 - إن تعتبر مشروطة بعدمه. وتسمى (الماهية بشرط لا) (2)، كما إذا كان القصر واجبا في الصلاة على المسافر غير العاصي في سفره، أي بشرط عدم كونه عاصيا لله في سفره. فاخذ عدم العصيان قيدا في موضوع الحكم.
3 - إلا تعتبر مشروطة بوجوده ولا بعدمه. وتسمى (الماهية لا بشرط)، كوجوب الصلاة على الإنسان باعتبار كونه حرا مثلا، فإن الحرية غير معتبرة لا بوجودها ولا بعدمها في وجوب الصلاة، لأن الإنسان بالنظر إلى الحرية في وجوب الصلاة عليه غير مشروط بالحرية ولا بعدمها فهو لا بشرط القياس إليها. ويسمى هذا الاعتبار الثالث (اللابشرط القسمي) في قبال (اللابشرط المقسمي) الآتي ذكره. وإنما سمى قسميا لأنه قسم في مقابل القسمين الأوليين أي والبشرط لا. وهذا ظاهر لا بحث فيه.
ثم إن لهم اصطلاحين آخرين معروفين:
1 - قولهم: (الماهية المهملة).
2 - قولهم: (الماهية لا بشرط مقسمي). أفهذان اصطلاحان وتعبيران لمدلول واحد، أو هما اصطلاحان مختلفان في المعنى؟.
والذي يلجئنا إلى هذ الاستفسار ما وقع من الارتباك في التعبير عند كثير من مشايخنا الأعلام، فقد يظهر من بعضهم أنهما اصطلاحان لمعنى واحد، كما هو ظاهر (كفاية الأصول) تبعا لبعض الفلاسفة الأجلاء. ولكن التحقيق لا يساعد على ذلك، بل هما اصطلاحان مختلفان. وهذا جوابنا على الاستفسار.
وتوضيح ذلك: إنه من المتسالم عليه الذي لا اختلاف فيه ولا اشتباه أمران:
(الأول) - إن المقصود من (الماهية المهملة): الماهية من حيث هي، أي نفس الماهية بما هي مع قطع النظر عن جميع ما عداها، فيقتصر النظر على ذاتها وذاتياتها.
(الثاني) - إن المقصود من الماهية (لا بشرط مقسمي): الماهية المأخوذة لا بشرط التي تكون مقسم للاعتبارات الثلاثة المتقدمة، وهي - أي الاعتبارات الثلاثة - الماهية بشرط شيء، وبشرط لا، ولا بشرط قسمي. ومن هنا سمي (مقسما). وإذا ظهر ذلك فلا يصح إن يدعي إن الماهية بما هي تكون بنفسها مقسما للاعتبارات الثلاثة. وذلك لأن الماهية لا تخلو من حالتين, وهذا إن ينظر إليها بما هي هي غير مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها، وإن ينظر إليها مقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها. ولا ثالث لهما وفي الحالة الأولى تسمى (الماهية المهملة) كما هو مسلم. وفي الثانية لا يخلو حالها من أحد الاعتبارات الثلاثة. وعلى هذا فالملاحظة الأولى مباينة لجميع الاعتبارات الثلاثة وتكون قسيمة لها، فكيف يصح إن تكون مقسما لها ولا يصح أن يكون الشيء مقسما لاعتبارات نقيضه، لأن الماهية من حيث هي كما اتضح معناها ملاحظتها غير مقيسة إلى الغير والاعتبارات الثلاثة ملاحظته مقيسة إلى الغير. على إن اعتبار الماهية غير مقيسة اعتبار ذهني له وجود مستقل في الذهن، فكيف يكون مقسما لوجودات ذهنية أخرى مستقلة، والمقسم يجب إن يكون موجود بوجود أقسامه، ولا يعقل إن يكون له وجود في مقابل وجودات الأقسام، وإلا كان قسيم لها لا مقسما. وعليه، فنحن نسلم إن الماهية المهملة معناها اعتبارها (لا بشرط)، ولكن ليس هو المصطلح عليه باللابشرط المقسمي فإن لهم في (لا بشرط) - على هذ - ثلاثة اصطلاحات:
1 - لا بشرط أي شيء خارج عن الماهية وذاتياتها، وهي الماهية بما هي هي التي يقتصر فيها النظر على ذاتها وذاتياتها، وهي الماهية المهملة.
2 - لا بشرط مقسمي، وهو الماهية التي تكون مقسما للاعتبارات الثلاثة أي الماهية المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاتها. والمقصود بلا بشرط هنا لا بشرط شيء من الاعتبارات الثلاثة، أي لا بشرط اعتبار البشرط شيء واعتبار البشرط لا واعتبار اللابشرط، لا إن المراد بلا بشرط هنا، لا بشرط مطلقا من كل قيد وحيثية. وليس هذا اعتبار ذهنيا في قبال هذه الاعتبارات، بل ليس له وجود في عالم الذهن الا بوجود واحد من هذه الاعتبارات ولا تعين له مستقبل غير تعيناتها، وإلا لما كان مقسما.
3 - لا بشرط قسمي، وهو الاعتبار الثالث من اعتبارات الماهية المقيسة إلى ما هو خارج عن ذاته.
فأتضح إن (الماهية المهملة) شيء و (اللابشرط المقسمي) شيء آخر. كما اتضح أيضا إن الثاني لا معنى لأن يجعل من اعتبارات الماهية على وجه يثبت حكم للماهية باعتباره، أو يوضع له لفظ بحسبه.
2 - اعتبار الماهية عند الحكم عليها: واعلم إن الماهية إذا حكم عليها فأما إن يحكم بذاتياتها، وأما إن يحكم عليها بأمر خارج عنها, ولا ثالث لهما.
وعلى (الأول) - فهو على صورتين - 1 - إن يكون الحكم بالحمل الأولى، وذلك في الحدود التامة خاصة - 2 - إن يكون بالحمل الشايع، وذلك عند الحكم عليها ببعض ذاتياتها كالجنس وحده أو الفصل وحده. وعلى كلا الصورتين فإن النظر إلى الماهية مقصور على ذاتياتها غير متجاوز فيه إلى ما هو خارج عنها. وهذا لا كلام فيه.
وعلى (الثاني)، فإنه لا بد من ملاحظتها مقيسة إلى ما هو خارج عنها فتخرج بذلك عن مقام ذاتها وحدها من حيث هي، أي عن تقررها الذاتي الذي لا ينظر فيه الا إلى ذاته وذاتياتها.
وهذا واضح لأن قطع النظر عن كل ما عداها لا يجتمع مع الحكم عليها بأمر خارج عن ذاتها، لأنهما متناقضان. وعليه لو حكم عليها بأمر خارج عنها وقد لوحظت مقيسة إلى هذا الغير، فلا بد إن تكون معتبرة بأحد الاعتبارات الثلاثة المتقدمة، إذ يستحيل إن يخلو الواقع من أحدها - كما تقدم -. ولا معنى لاعتبارها باللابشرط المقسمي، لما تقدم إنه ليس هو تعينا مستقلا في قبال تلك التعينات، بل هو مقسم له.
ثم إن هذا الغير - أي الأمر الخارج عن ذاتها - الذي لوحظت الماهية مقيسة إليه ل يخلو أما إن يكون نفس المحمول أو شيئا آخر، فإن كان هو المحمول فيتعين إن تؤخذ الماهية بالقياس إليه لا بشرط قسمي، لعدم صحة الاعتبارين الآخرين:
أما أخذها بشرط شيء، أي بشرط المحمول، فلا يصح ذلك دائما لأنه يلزم إن تكون القضية ضرورية دائما لاستحالة انفكاك المحمول عن الموضوع بشرط المحمول. على إن اخذ المحمول في الموضوع يلزم منه حمل الشيء على نفسه وتقدمه على نفسه، وهو مستحيل الا إذا كان هناك تغاير بحسب الاعتبار كحمل الحيوان الناطق على الإنسان فإنهما متغايران باعتبار الإجمال والتفصيل.
وأما أخذها بشرط لا، أي بشرط عدم المحمول، فلا يصح لأنه يلزم التناقض، فإن الإنسان بشرط عدم الكتابة يستحيل حمل الكتابة عليه. وإن كان هذا الغير الخارج هو غير المحمول، فيجوز إن تكون الماهية حينئذ مأخوذة بالقياس إليه بشرط شيء كجواز تقليد المجتهد بشرط العدالة، أو بشرط لا، كوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة بشرط عدم وجود الإمام، أو لا بشرط، كجواز السلام على المؤمن مطلقا بالقياس إلى العدالة مثلا، أي لا بشرط وجودها ولا بشرط عدمها. كما يجوز إن تكون مهملة غير مقيسة إلى شيء غير محمولها.
ولكن قد يستشكل في كل ذلك بأن هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارات ذهنية، لا موطن لها الا الذهن، فلو تقيدت الماهية بأحدها عندما تؤخذ موضوعا للحكم، للزم إن تكون جميع القضايا ذهنية عدا حمل الذاتيات التي قد اعتبرت فيها الماهية من حيث هي، ولبطلت القضايا الخارجية، والحقيقية، مع إنها عمدة القضايا، بل لاستحال في التكاليف الامتثال، لأن ما هو موطنه الذهن يمتنع إيجاده في الخارج.
وهذا الإشكال وجيه لو كان الحكم على الموضوع بما هو معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة على وجه يكون الاعتبار قيدا في الموضوع أو نفسه هو الموضوع. ولكن ليس الأمر كذلك، فإن الموضوع في كل تلك القضايا هو ذات الماهية المعتبرة ولكن لا بقيد الاعتبار، بمعنى إن الموضوع في بشرط شيء الماهية المقترنة بذلك الشيء، لا المقترنة بلحاظه واعتباره، وفي بشرط لا الماهية المقترنة بعدمه لا بلحاظ عدمه، وفي لا بشرط الماهية غير الملاحظ معها الشيء ولا عدمه، لا الملاحظة بعدم لحاظ الشيء وعدمه، وإلا لكانت الماهية معتبرة في الجميع بشرط شيء فقط أي بشرط اللحاظ والاعتبار, نعم هذه الاعتبارات هي المصححة لموضوعية الموضوع على الوجه اللازم الذي يقتضيه واقع الحكم، لا إنها مأخوذة قيدا فيه حتى تكون جميع القضايا ذهنية. ولو الأمر كذلك لكان الحكم بالذاتيات أيضا قضية ذهنية لأن اعتبار الماهية من حيث هي أيضا اعتبار ذهني.
ومما يقرب ما قلناه من كون الاعتبار مصطلحا لموضوعية الموضوع لا مأخوذا فيه مع إنه لا بد منه عند الحكم بشيء، إن كل موضوع ومحمول لا بد من تصوره في مقام الحمل وإلا لاستحال الحمل، ولكن هذه اللابدية لا تجعل التصور قيدا للموضوع أو المحمول، وإنما التصور هو المصحح للحمل وبدونه ل يمكن الحمل. وكذلك عند استعمال اللفظ في معناه، لا بد من تصور اللفظ والمعنى ولكن التصور ليس قيدا للفظ، ولا للمعنى، فليس اللفظ دالا بما هو متصور في الذهن وإن كانت دلالته في ظرف التصور، ولا المعنى مدلولا بما هو متصور، وإن كانت مدلوليته في ظرف تصوره. ويستحيل إن يكون التصور قيدا للفظ أو المعنى، ومع ذلك لا يصح الاستعمال بدونه، فالتصور مقوم للاستعمال لا للمستعمل فيه ولا للفظ. وكذلك هو مقوم للحمل ومصحح له، لا للمحمول، ولا للمحمول عليه.
وعلى هذا يتضح ما نحن بصدد بيانه، وهو إنه إذا أردنا إن نضع اللفظ للمعنى لا يعقل إن نفسر اللحاظ على ذات المعنى بما هو هو مع قطع النظر عن كل ما عداه، لأن الوضع من المحمولات الواردة عليه، فلا بد إن يلاحظ المعنى حينئذ مقيسا إلى ما هو خارج عن ذاته، فقد يؤخذ بشرط شيء وقد يؤخذ بشرط ل وقد يؤخذ لا بشرط. ولا يلزم إن يكون الموضوع له هو المعنى بماله من الاعتبار الذهني، بل الموضوع له نفس المعتبر وذاته لا بما هو معتبر، والاعتبار مصحح للوضع.
3 - الأقوال في المسألة: قلنا فيما سبق: إن المعروف عن قدماء الأصحاب إنهم يقولون بأن أسماء الأجناس موضوعة للمعاني المطلقة، على وجه يكون الإطلاق قيدا للموضوع له، فلذلك ذهبوا إلى إن استعماله في المقيد مجاز، وقد صور هذا القول على نحوين:
(الأول) - إن الموضوع له المعنى بشرط الإطلاق على وجه يكون اعتباره من باب اعتباره بشرط شيء.
(الثاني) - إن الموضوع له المعنى المطلق أي المعتبر لا بشرط. وقد أورد على هذ القول بتصوريه - كما تقدم - بأنه يلزم على كلا التصورين إن يكون الموضوع له موجود ذهنيا، فتكون جميع القضايا ذهنية، فلو جعل اللفظ بماله من معناه موضوعا في القضية الخارجية أو الحقيقية وجب تجريده عن هذا القيد الذهني، فيكون مجازا دائما في القضايا المتعارفة.
وهذا يكذبه الواقع, ولكن نحن قلنا: إن هذا الإيراد إنما يتوجه إذا جعل الاعتبار قيدا في الموضوع له. أما لو جعل الاعتبار مصححا للوضع فلا يلزم هذا الإيراد كما سبق. هذا قول القدماء، وأما المتأخرون ابتداءا من سلطان العلماء (رحمه الله) فإنهم جميعا اتفقوا على إن الموضوع له ذات المعنى لا المعنى المطلق حتى لا يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازا.
وهذا القول بهذا المقدار من البيان واضح , ولكن العلماء من أساتذتنا اختلفوا في تأدية هذا المعنى بالعبارات الفنية مما أوجب الارتباك على الباحث وإغلاق طريق البحث في المسألة. لذلك التجأنا إلى تقديم المقدمتين السابقتين لتوضيح هذه الاصطلاحات والتعبيرات الفنية التي وقعت في عباراتهم. واختلفوا فيها على أقوال.
1 - منهم من قال: إن الموضوع له هو الماهية المهملة المبهمة أي الماهية من حيث هي.
2 - ومنهم من قال: إن الموضوع له الماهية المعتبرة باللابشرط المقسمي.
3 - ومنهم من جعل التعبير الأول نفس التعبير الثاني.
4 - ومنهم من قال: إن الموضوع له ذات المعنى لا الماهية المهملة ولا الماهية المعتبرة باللابشرط المقسمي، ولكنه ملاحظ حين الوضع باعتبار (اللابشرط القسمي) على إن يكون هذا الاعتبار مصححا للموضوع لا قيدا للموضوع له , وعليه يكون هذا القول نفس قول القدماء على التصوير الثاني الا إنه لا يلزم منه إن يكون استعمال اللفظ في المقيد مجازا. ولكن المنسوب إلى القدماء إنهم يقولون: بأنه مجاز في المقيد فينحصر قولهم في التصوير الأول على تقدير صحة النسبة إليهم. ويتضح حال هذه التعبيرات أو الأقوال من المقدمتين السابقتين فإنه يعرف منهم:
(أولا) إن الماهية بما هي هي غير الماهية باعتبار اللابشرط المقسمي، لأن النظر فيه على الأول مقصور على ذاتها وذاتياتها، بخلافه على الثاني إذ تلاحظ مقيسة إلى الغير. وبهذا يظهر بطلان القول الثالث.
(ثانيا) إن الوضع حكم من الأحكام، وهو محمول على الماهية خارج عن ذاتها وذاتياتها، فلا يعقل إن يلاحظ الموضوع له بنحو الماهية بما هي هي، لأنه لا تجتمع ملاحظتها مقيسة إلى الغير وملاحظتها مقصورة على ذاته وذاتياتها. وبهذا يظهر بطلان القول الأول.
(ثالثا) إن اللابشرط المقسمي ليس اعتبار مستقلا في قبال الاعتبارات الثلاثة، لأن المفروض إنه مقسم لها، ولا تحقق للمقسم الا بتحقق أحد أنواعه كما تقدم، فكيف يتصور إن يحكم باعتبار اللابشرط المقسمي بل لا معنى لهذا على ما تقدم توضيحه. وبهذا يظهر بطلان القول الثاني. فتعين القول الرابع، وهو إن الموضوع له ذات المعنى ولكنه حين الوضع يلاحظ المعنى بنحو اللابشرط القسمي. وهو يطابق القول المنسوب إلى القدماء على التصوير الثاني كما اشرنا إليه، فل اختلاف، ويقع التصالح بين القدماء والمتأخرين إذا لم يثبت عن القدماء إنهم يقولون إنه مجاز في المقيد، وهو مشكوك فيه.
بيان هذا القول الرابع: إن ذات المعنى لما أراد الواضع إن يحكم عليه بوضع لفظ له، فمعناه إنه قد لاحظه مقيسا إلى الغير، فهو في هذا الحال لا يخرج عن كونه معتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة للماهية. وإذ يراد تسرية الوضع لذات المعنى بجميع أطواره وحالاته وقيوده لا بد إن يعتبر على نحو اللابشرط القسمي. ولا منافاة بين كون الموضوع له ذات المعنى، وبين كون ذات المعنى ملحوظا في مرحلة الوضع بنحو اللابشرط القسمي لأن هذا اللحاظ والاعتبار الذهني - كما تقدم - صرف طريق إلى الحكم على ذات المعنى وهو المصحح للموضوع له. وحين الاستعمال في ذات المعنى لا يجب إن يكون المعنى ملحوظا بنحو اللابشرط القسمي، بل يجوز إن يعتبر بأي اعتبار كان ما دام الموضوع له ذات المعنى فيجوز في مرحلة الاستعمال إن يقصر النظر على نفسه ويلحظه بما هو هو، ويجوز أن يلحظه مقيسا إلى الغير فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة. وملاحظة ذات المعنى بنحو اللابشرط القسمي حين الوضع تصحيحا له لا توجب إن تكون قيدا للموضوع له. وعليه فلا يكون الموضوع له موجودا ذهنيا، إذا كان له اعتبار اللابشرط القسمي حين الوضع، لأنه ليس الموضوع له هو المعتبر بما هو معتبر، بل ذات المعتبر، كما إن استعماله في المقيد لا يكون مجازا لما تقدم إنه يجوز إن يلحظ ذات المعنى حين الاستعمال مقيسا إلى الغير، فيعتبر بأحد الاعتبارات الثلاثة التي منها اعتباره بشرط شيء وهو المقيد.
المسألة الخامسة - مقدمات الحكمة لما ثبت إن الألفاظ موضوعة لذات المعاني، لا للمعاني بما هي مطلقة، فلا بد في إثبات إن المقصود من اللفظ المطلق لتسرية الحكم إلى تمام الأفراد والمصاديق من قرينة خاصة، أو قرينة عامة تجعل ال كلام في نفسه ظاهرا في أراد الإطلاق.
وهذه القرينة العامة إنما تحصل إذا توفرت جملة مقدمات تسمى (مقدمات الحكمة).
والمعروف إنها ثلاث.
(الأولى) - أمكان الإطلاق والتقييد بأن يكون متعلق الحكم أو موضوعه قبل فرض تعلق الحكم به قابلا للانقسام، فلو لم يكن قابلا للقسمة الا بعد فرض تعلق الحكم به كما في باب قصد القربة، فإنه يستحيل فيه التقييد، فيستحيل فيه الإطلاق، كما تقدم في بحث التعبدي والتوصلي.. وهذا واضح.
(الثانية) - عدم نصب قرينة على التقييد لا متصلة، ولا منفصلة، لأنه مع القرينة المتصلة لا ينعقد ظهور للكلام الا في المقيد، ومع المنفصلة ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق، ولكنه يسقط عن الحجية لقيام القرينة المقدمة عليه والحاكمة، فيكون ظهوره ظهورا بدويا، كما قلنا في تخصيص العموم بالخاص المنفصل، ولا تكون للمطلق الدلالة التصديقية الكاشفة عن مراد المتكلم، بل الدلالة التصديقية إنما هي على إرادة التقييد واقعا.
(الثالثة) - إن يكون المتكلم في مقام البيان، فإنه لو لم يكن في هذا المقام بأن كان في مقام التشريع فقط أو كان في مقام الإهمال أما رأسا أو لأنه في صدد بيان حكم آخر، فيكون في مقام الإهمال من جهة مورد الإطلاق - وسيأتي مثاله - فإنه في كل ذلك لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق: أما في مقام التشريع بأن كان في مقام بيان الحكم لا للعمل به فعلا بل لمجرد تشريعه، فيجوز ألا يبين تمام مراده، مع إن الحكم في الواقع مقيد بقيد لم يذكره في بيانه انتظارا لمجيء وقت العمل فلا يحرز إن المتكلم في صدد بيان جميع مراده.
وكذلك إذا كان المتكلم في مقام الإهمال رأسا، فإنه لا ينعقد معه ظهور في الإطلاق، كما لا ينعقد للكلام ظهور في أي مرام. ومثله ما إذا كان في صدد حكم آخر مثل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ} [المائدة: 4] الوارد في مقام بيان حل صيد الكلاب المعلمة من جهة كونه ميتة، وليس هو في مقام بيان مواضع الإمساك إنها تتنجس فيجب تطهيرها أم لا، فلم يكن هو في مقام بيان هذه الجهة، فلا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق من هذه الجهة.
ولو شك في إن المتكلم في مقام البيان أو الإهمال، فإن الأصل العقلائي يقتضي بأن يكون في مقام البيان، فإن العقلاء كما يحملون المتكلم على إنه ملتفت غير غافل وجاد غير هازل عند الشك في ذلك، كذلك يحملونه على إنه في مقام البيان والتفهيم، لا في مقام الإهمال والإيهام.
وإذا تمت هذه المقدمات الثلاث فإن ال كلام المجرد عن القيد يكون ظاهرا في الإطلاق، وكاشفا عن إن المتكلم لا يريد المقيد، وإلا لو كان قد أراده واقعا، لكان عليه البيان، والمفروض إنه حكيم ملتفت جاد غير هازل، وهو في مقام البيان، ولا مانع من التقييد حسب الفرض. وإذا لم يبين ولم يقيد كلامه فيعلم إنه أراد الإطلاق وإلا لكان مخلا بغرضه.
فاتضح من ذلك إن كل كلام صالح للتقييد ولم يقيده المتكلم مع كونه حكيما ملتفتا جادا وفي مقام البيان والتفهيم، فإنه يكون ظاهرا في الإطلاق ويكون حجة على المتكلم والسامع.
تنبيهان:
القدر المتيقن في مقام التخاطب:
(الأول) إن الشيخ المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) أضاف إلى مقدمات الحكمة مقدمة أخرى غير ما تقدم، وهي ألا يكون هناك قدر متيقن في مقام التخاطب والمحاورة، وإن كان لا يضر وجود القدر المتيقن خارجا في التمسك بالإطلاق. ومرجع ذلك إلى إن وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة يكون بمنزلة القرينة اللفظية على التقييد، فل ينعقد للفظ ظهور في الإطلاق مع فرض وجوده.
ولتوضيح البحث نقول: إن كون المتكلم في مقام البيان يتصور على نحوين:
1 - إن يكون المتكلم في صدد بيان تمام موضوع حكمه، بأن يكون غرض المتكلم يوقف على إن يبين للمخاطب ويفهمه ما هو تمام الموضوع وإن ما ذكره هو تمام موضوعه لا غيره.
2 - إن يكون المتكلم في صدد بيان تمام موضوع الحكم واقعا، ولو لم يفهم المخاطب إنه تمام الموضوع، فليس له غرض الا بيان ذات موضوع الحكم بتمامه حتى يحصل من المكلف الامتثال وإن لم يفهم المكلف تفصيل الموضوع بحدوده.
فإن كان المتكلم في مقام البيان على (النحو الأول)، فلا شك في إن وجود القدر المتيقن في مقام المحاورة لا يضر في ظهور المطلق في إطلاقه فيجوز التمسك بالإطلاق، لأنه لو كان القدر المتيقن المفروض هو تمام الموضوع لوجب بيانه، وترك البيان اتكالا على وجود القدر المتيقن إخلال بالغرض لأنه لا يكون مجرد ذلك بيانا لكونه تمام الموضوع.
وإن كان المتكلم في مقام البيان على (النحو الثاني)، فإنه يجوز إن يكتفي بوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لبيان تمام موضوعه واقعا، مادام إنه ليس له غرض الا إن يفهم المخاطب ذات الموضوع بتمامه لا بوصف التمام أي إن يفهم ما هو تمام الموضوع بالحمل الشائع. وبذلك يحصل التبليغ للمكلف ويمتثل في الموضوع الواقعي، لأنه هو المفهوم عنده في مقام المحاورة ولا يجب في مقام الامتثال إن يفهم إن الذي فعله هو تمام الموضوع أو الموضوع اعم منه ومن غيره. (مثلا): لو قال المولى (اشتر اللحم)، وكان القدر المتيقن في مقام المحاورة هو لحم الغنم، وكان هو تمام موضوعه واقعا، فإن وجود هذا القدر المتيقن كاف لانبعاث المكلف وشرائه للحم الغنم، فيحصل موضوع حكم المولى، فلو إن المولى ليس له غرض أكثر من تحقيق موضوع حكمه، فيجوز له الاعتماد على القدر المتيقن لتحقيق غرضه ولبيانه، ولا يحتاج إلى إن يبين إنه تمام الموضوع أما لو كان غرضه أكثر من ذلك بأن كان غرضه إن يفهم المكلف تحديد الموضوع بتمامه، فلا يجوز له الاعتماد على القدر المتيقن، وإلا لكان مخلا بغرضه، فإذا لم يبين وأطلق ال كلام، استكشف إن تمام موضوعه هو المطلق الشامل للقدر المتيقن وغيره.
إذا عرفت هذا التقدير فينبغي أن نبحث عما ينبغي للأمر إن يكون بصدد بيانه، هل إنه على النحو الأول أو الثاني؟ والذي يظهر من الشيخ صاحب الكفاية إنه لا ينبغي من الأمر أكثر من النحو الثاني، نظرا إلى إنه إذا كان بصدد بيان موضوع حكمه حقيقة كفاه ذلك لتحصيل مطلوبه وهو الامتثال. ولا يجب عليه مع ذلك بيان إنه تمام الموضوع. نعم إذا كان هناك قدر متيقن في مقام المحاورة وكان تمام الموضوع هو المطلق فقد يظن المكلف إن القدر المتيقن هو تمام الموضوع وإن المولى أطلق كلامه اعتمادا على وجوده - فإن المولى دفعا لهذا الوهم يجب عليه إن يبين إن المطلق هو تمام موضوعه، وإلا كان مخلا بغرضه.
ومن هذا ينتج إنه إذا كان هناك قدر متيقن في مقام المحاورة وأطلق المولى ولم يبين إنه تمام الموضوع، فإنه يعرف منه إن موضوعه هو القدر المتيقن. هذ خلاصة ما ذهب إليه في الكفاية مع تحقيقه وتوضيحه. ولكن شيخنا النائيني رحمه الله على ما يظهر من التقريرات لم يرتضه، والأقرب إلى الصحة ما في الكفاية. ولا نطيل بذكر هذه المناقشة والجواب عنها.
الانصراف:
(التنبيه الثاني) - اشتهر إن انصراف الذهن من اللفظ إلى بعض مصاديق معناه أو بعض أصنافه يمنع من التمسك بالإطلاق، وإن تمت مقدمات الحكمة، مثل انصراف المسح في آيتي التيمم والوضوء إلى المسح باليد وبباطنها خاصة. والحق إن يقال: إن انصراف الذهن إن كان ناشئا من ظهور اللفظ في المقيد بمعنى إن نفس اللفظ ينصرف منه المقيد لكثرة استعماله فيه وشيوع أرادته منه - فلا شك في إنه حينئذ لا مجال للتمسك بالإطلاق، لأن هذا الظهور يجعل اللفظ بمنزلة المقيد بالتقييد اللفظي، ومعه لا ينعقد للكلام ظهور في الإطلاق حتى يتمسك بأصالة الإطلاق التي هي مرجعها في الحقيقة إلى أصالة الظهور.
وأما إذا كان الانصراف غير ناشئ من اللفظ، بل كان من سبب خارجي، كغلبة وجود الفرد المنصرف إليه أو تعارف الممارسة الخارجية له، فيكون ما لوفا قريبا إلى الذهن من دون إن يكون للفظ تأثير في هذا الانصراف، كانصراف الذهن من لفظ الماء في العراق - مثل - إلى ماء دجلة أو الفرات فالحق إنه لا أثر لهذا الانصراف في ظهور اللفظ في إطلاقه فلا يمنع من التمسك بأصالة الإطلاق، لأن هذا الانصراف قد يجتمع مع القطع بعدم إرادة المقيد بخصوصه من اللفظ. ولذا يسمى هذا الانصراف باسم (الانصراف البدوي) لزواله عند التأمل ومراجعة الذهن.
وهذا كله واضح لا ريب فيه. وإنما الشأن في تشخيص الانصراف إنه من أي النحوين، فقد يصعب التمييز أحيانا بينهما للاختلاط على الإنسان في منش هذا الانصراف. وما أسهل دعوى الانصراف على لسان غير المتثبت، وقد لا يسهل إقامة الدليل على إنه من أي نوع. فعلى الفقيه إن يتثبت في مواضع دعوى الانصراف، وهو يحتاج إلى ذوق عال وسليقة مستقيمة. وقلما تخلو أية كريمة أو حديث شريف في مسألة فقهية عن انصرافات تدعى.
وهنا تظهر قيمة التضلع باللغة وفقهها وآدابها. وهو باب يكثر الابتلاء به وله الأثر الكبير في استنباط الأحكام من أدلتها. ألا ترى إن المسح في الآيتين ينصرف إلى المسح باليد، وكون هذا الانصراف مستندا إلى اللفظ لا شك فيه، وينصرف أيضا إلى المسح بخصوص باطن اليد. ولكن قد يشك في كون هذا الانصراف مستند إلى اللفظ، فإنه غير بعيد إنه ناشيء من تعارف المسح بباطن اليد لسهولته، ولأنه مقتضى طبع الإنسان في مسحه، وليس له علاقة باللفظ. ولذا إن جملة من الفقهاء أفتوا بجواز المسح بظهر اليد عند تعذر المسح بباطنها تمسكا بإطلاق الآية، ولا معنى للتمسك بالإطلاق لو كان للفظ ظهور في المقيد. وأما عدم تجويزهم للمسح بظاهر اليد عند الاختيار فلعله للاحتياط، إذ إن المسح بالباطن هو القدر المتيقن، والمفروض حصول الشك في كون هذا الانصراف بدويا فلا يطمأن كل الاطمئنان بالتمسك بالإطلاق عند الاختيار، وطريق النجاة هو الاحتياط بالمسح بالباطن.
المسألة السادسة - المطلق والمقيد المتنافيان:
معنى التنافي بين المطلق والمقيد: إن التكليف في المطلق لا يجتمع والتكليف في المقيد مع فرض الحافظة على ظهورهما معا، أي أنهما يتكاذبان في ظهورهما. مثل قول الطبيب مثلا: اشرب لبنا، ثم يقول: اشرب لبن حلوا، وظاهر الثاني تعيين شرب الحلو منه. وظاهر الأول جواز شرب غير الحلو حسب إطلاقه. وإنما يتحقق التنافي بين المطلق والمقيد إذا كان التكليف فيهما واحد كالمثال المتقدم، فلا يتنافيان لو كان التكليف في أحدهما معلقا على شيء وفي الآخر معلقا على شيء آخر، كما إذا قال الطبيب في المثال: إذا أكلت فاشرب لبنا، وعند الاستيقاظ من النوم اشرب لبنا حلوا. وكذلك لا يتنافيان لو كان التكليف في المطلق إلزاميا، وفي المقيد على نحو الاستحباب ففي المثال لو وجب أصل شرب اللبن، فإنه ل ينافيه رجحان الحلو منه باعتباره احد أفراد الواجب. وكذا لا يتنافيان لو فهم من التكليف في المقيد إنه تكليف في وجود ثان غير المطلوب من التكليف الأول، كما إذ فهم في المقيد في المثال طلب شرب اللبن الحلو ثانيا بعد شرب لبن ما.
إذا فهمت م سقناه لك من معنى التنافي، فنقول: لو ورد في لسان الشارع مطلق ومقيد متنافيان سواء تقدم أو تأخر، وسواء كان مجيء المتأخر بعد وقت العمل بالمتقدم أو قبله، فإنه لا بد من الجمع بينهما أما بالتصرف في ظهور المطلق فيحمل على المقيد، أو بالتصرف في المقيد على وجه لا ينافي الإطلاق، فيبقى ظهور المطلق على حاله. وينبغي البحث هنا في إنه أي التصرفين أولى بالأخذ، فنقول: هذا يختلف باختلاف الصور فيهما، فإن المطلق والمقيد أما إن يكونا مختلفين في الإثبات أو النفي، وأما إن يكونا متفقين.
(الأول) - إن يكونا مختلفين، فلا شك حينئذ في حمل المطلق على المقيد، لأن المقيد يكون قرينة على المطلق، فإذا قال: اشرب اللبن، ثم قال: لا تشرب اللبن الحامض، فإنه يفهم منه إن المطلوب هو شرب اللبن الحلو. وهذا لا يفرق فيه بين إن يكون إطلاق المطلق بدليا، نحو قوله: اعتق رقبة، وبين إن يكون شموليا مثل قوله: في الغنم زكاة، المقيد بقوله: ليس في الغنم المعلوفة زكاة.
(الثاني) - إن يكونا متفقين، وله مقامان: المقام الأول إن يكون الإطلاق بدليا، والمقام الثاني إن يكون شموليا. فإن كان الإطلاق (بدليا) فإن الأمر فيه يدور بين التصرف في ظاهر المطلق بحمله على المقيد، وبين التصرف في ظاهر المقيد، والمعروف إن التصرف الأول هو الأولى، لأنه لو كانا مثبتين مثل قوله: اعتق رقبة مؤمنة فإن المقيد ظاهر في إن الأمر فيه للوجوب التعييني، فالتصرف فيه أما بحمله على الاستحباب، أي إن الأمر بعتق الرقبة المؤمنة بخصوصها باعتبار إنها أفضل الأفراد، أو بحمله على الوجوب التخييري أي إن الأمر يعتق الرقبة المؤمنة باعتبار إنها أحد أفراد الواجب، لا لخصوصية فيها حتى خصوصية الأفضلية. وهذان التصرفان وإن كانا ممكنين، لكن ظهور المقيد في الوجوب التعييني مقدم على ظهور المطلق في إطلاقه، لأن المقيد صالح لأن يكون قرينة للمطلق، ولعل المتكلم اعتمد عليه في بيان مرامه، ولو في وقت آخر لا سيما مع احتمال إن المطلق الوارد كان محفوفا بقرينة متصلة غابت عنا، فيكون المقيد كاشفا عنها. وإن كان الإطلاق (شموليا) مثل قوله: في الغنم زكاة، وقوله: في الغنم السائمة زكاة، فلا تتحقق المنافاة بينهما حتى يجب التصرف في أحدهما لأن وجوب الزكاة في الغنم السائمة بمقتضى الجملة الثانية لا ينافي وجوب الزكاة في غير السائمة، الا على القول بدلالة التوصيف على المفهوم وقد عرفت إنه لا مفهوم للوصف.
وعليه فلا منافاة بين الجملتين لنرفع بها عن إطلاق المطلق.
_________________
(1) وقد اضطررنا إلى الخروج عن الطريقة التي رسمناها لأنفسنا في هذا الكتاب في الاختصار. ونعتقد إن الطالب المبتدئ الذي ينتهي إلى هنا يكون على استعداد كاف لفهم هذه الأبحاث. واضطررنا لهذا البحث باعتبار ماله من حاجة ماسة في فهم الطالب لكثير من الأبحاث التي قد ترد عليه فيما يأتي.
(2) وقد تقال (الماهية بشرط لا شيء) ويقصدون بذلك الماهية المجردة على وجه يكون كل ما يقارنها يعتبر زائدا عليه.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|