المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8091 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

سنن التكفين
7-11-2016
عرض شبهات الأشاعرة والرد عليها
20-11-2014
دور بسر بتدعيم ملك معاوية
6-4-2016
بعض تحديات النانو
2023-03-22
اياك نعبد لا معبود سواك
24-11-2014
مصنفات الشيخ المفيد
19/10/2022


تنبيهات الإستصحاب (الاُصول المثبتة وعدم حجّيتها وبعض تطبيقاتها)  
  
1084   10:44 صباحاً   التاريخ: 23-8-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 3 ص 375.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / الاصول العملية / الاستصحاب /

وتحقيق حالها فيها يطلب البحث في مقامات أربع:

1 ـ في المراد من الأصل المثبت.

2 ـ في أنّه لماذا ليس بحجّة.

3 ـ في ما استثنى من الأصل المثبت.

4 ـ في الفرق بين مثبتات الأمارات ومثبتات الاُصول.

المقام الأوّل: المراد من الأصل المثبت:

فالمقصود من الأصل المثبت ترتيب الآثار الشرعيّة للمستصحب مع الواسطة العقليّة أو العادية.

توضيح ذلك: إذا كان المستصحب حكماً شرعياً فلا كلام في جواز استصحابه وترتيب آثاره، وأمّا إذا كان المستصحب موضوعاً من الموضوعات كحياة زيد فلا إشكال أيضاً في جواز استصحابه وترتيب أثره الشرعي من دون الواسطة، كبقاء زوجية زوجته وملكية أمواله، الذي يترتّب على حياة زيد بلا واسطة، وأمّا آثاره الشرعيّة مع الواسطة العقليّة مثل أنّ له خمسين سنة (إذا ترتّب عليه أثر شرعي بنذر وشبهه) أو الواسطة العادية كبياض لحيته (إذا صار أيضاً متعلّقاً للنذر مثلا) فلا تترتّب عليه، ويسمّى الاستصحاب حينئذ بالأصل المثبت.

المقام الثاني: لماذا ليس الأصل المثبت بحجّة:

فلابدّ من البحث على المباني المختلفة في معنى الحجّية التي قد مرّت الإشارة إليها في باب الأمارات إجمالا.

فنقول: من المباني أنّ حجّية الأصل مثل الاستصحاب بمعنى جعل الحكم المماثل وهو المختار، ومعناه جعل حكم ظاهري مماثل لنفس المستصحب إذا كان المستصحب هو الحكم، أو جعل حكم ظاهري مماثل لحكم المستصحب إذا كان المستصحب هو الموضوع، ولا يخفى أنّ من فسّر الحجّية بالجري العملي أو التطبيق في مقام العمل أو الإلتزام بالحكم السابق يعود كلامه إلى جعل المماثل أيضاً، لأنّه لا نعرف من وجوب الجري العملي أو تطبيق العمل على مؤدّى الأصل إلاّ جعل حكم ظاهري مماثل لمؤدّاه، وهكذا الإلتزام، فإنّ الإلتزام القلبي هنا غير مراد، والإلتزام العملي ليس إلاّ ما ذكرناه، فالعبارات شتّى والمراد واحد.

والمبنى الثاني عبارة عن جعل المنجّزية والمعذّرية، فلا يجعل الحكم المماثل، بل المجعول إنّما هو قضيّة «إن أصاب خبر الواحد مثلا الواقع كان منجّزاً وإن خالف الواقع كان عذراً» وقد

مرّ عدم صحّة هذا المبنى، لأنّ المنجّزية والمعذّرية من حكم العقل، ولا تنالها يد الجعل.

والمبنى الثالث عبارة عن جعل صفة اليقين أو صفة المحرزية بالنسبة إلى الاستصحاب، وقد مرّ أيضاً أنّه غير معقول، لأنّ صفة اليقين من الاُمور التكوينية التي لا تتعلّق بها الجعل والإنشاء، ولا يمكن أن يصير الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ قاطعاً بالإنشاء.

نعم يمكن أن يخاطب الشاكّ بقوله «رتّب أثر اليقين»، ولكنّه يعود أيضاً إلى جعل الحكم الظاهري الموافق لمؤدّى الاستصحاب، وهكذا صفة المحرزية، لأنّها أيضاً من الاُمور التكوينية.

إذا عرفت هذا فلنعد إلى أصل البحث وهو عدم حجّية الأصل المثبت، وقد ذكر له وجوه عديدة:

الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم، وإليك نصّ كلامه: «إنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعادية، لعدم قابليتها للجعل، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار، لأنّها ليست آثاراً لنفس المتيقّن، ولم يقع ذوها مورداً لتنزيل الشارع حتّى تترتّب هي عليه» (انتهى).

وحاصل كلامه(رحمه الله): أنّ الآثار مع الواسطة لا يجري فيها الاستصحاب لعدم وجود أركانه فيها، لأنّ اليقين السابق كان في خصوص حياة زيد مثلا، لا ما يشمل لوازمه العقليّة والعادية في حال الشكّ.

الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني في الكفاية، وحاصله: أنّ مفاد الأخبار ليس أكثر من التعبّد بالمستصحب وحده بلحاظ ما لنفسه من الآثار الشرعيّة، ولا دلالة لها بوجه على تنزيل المستصحب بلوازمه العقليّة والعادية حتّى تترتّب عليه آثارها أيضاً، فإنّ المتيقّن إنّما هو لحاظ آثار نفسه، وأمّا آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها.

أقول: الظاهر أنّ نظره إلى إنّ إطلاقات «لا تنقض» لا تشمل المقام لأنّ من شرائط الأخذ بالإطلاق عدم وجود القدر المتيقّن (على مبناه) وهو مفقود في ما نحن فيه، لوجود القدر المتيقّن وهو الآثار الشرعيّة من دون الواسطة.

الثالث: ما أفاده المحقّق الحائري في الدرر، وحاصله: عدم شمول إطلاقات الأخبار لما نحن فيه، لوجود القدر المتيقّن، بل لانصرافها إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة لأنّ الإبقاء العملي للشيء ينصرف إلى إتيان ما يقتضيه ذلك الشيء بلا واسطة»(1).

أقول: أمّا كلام المحقّق الخراساني فيرد عليه ما قرّر في محلّه من منع ما تبنّاه في مقدّمات الحكمة وإنّ منها عدم وجود القدر المتيقّن فإنّ لازمه سقوط أغلب المطلقات عن الاطلاق لأنّ القدر المتيقّن فيها موجود، ولا أقلّ من موارد سؤال الرواة، مع أنّ سيرة الفقهاء وديدنهم على أخذ الاطلاق فيها وإنّ المورد ليس بمخصّص.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم فيرد عليه أيضاً ما أورده المحقّق الخراساني عليه من أنّ أثر الأثر أثر، فلا مانع عقلا من تنزيل المستصحب بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة(2).

والصحيح في المقام ما ذهب إليه المحقّق الحائري من أنّ الإطلاقات منصرفة إلى الآثار الشرعيّة بلا واسطة، ولتوضيحه لا بأس بإتيان أمثلة يكون الوجدان أقوى شاهد على إنصراف الأدلّة عنها:

منها: ما جاء في بعض الكلمات من أنّه إذا كان في الحوض كرّ من الماء، ثمّ وجدناه فارغاً من الماء وقد سقط فيه ثوب في البارحة وكان نجساً وكان ينغسل لو كان الماء باقياً. فإنّه لا إشكال في أنّ استصحاب بقاء الماء حين سقوط الثوب لا يثبت الإنغسال الذي يكون من الآثار العقليّة لبقاء الماء ، حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الطهارة.

ومنها: ما إذا كان زيد جالساً في حجرته وشككنا في خروجه منها وعدمه، فإذا فرض إحراق الحجرة فلا يثبت إحتراق زيد بإستصحاب بقائه إلى حين الإحتراق حتّى يترتّب عليه أثر القصاص.

ومنها: ما إذا كان الإناء مملوّاً من اللبن وشككنا في إنتقاله منه إلى إناء آخر، ثمّ كسره إنسان في ظلمة الليل مثلا بحيث لو كان اللبن باقياً فقد أتلفه، فلا يثبت إتلاف اللبن باستصحاب بقاء اللبن حين الإنكسار حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي وهو الضمان.

المقام الثالث: فيما استثنى من الأصل المثبت:

وقد استثنى من عدم حجّية الأصل المثبت وانصراف الأدلّة عنه موارد خاصّة معدودة:

أحدها: ما إذا كانت الواسطة خفيّة، كما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر فيحكم بنجاسة الملاقي الجافّ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطباً، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها، والسراية من الآثار العقليّة للملاقاة بالنجس رطباً، ولكنّها لا اعتبار بها لخفائها.

وأظهر منه ما مرّ سابقاً ممّا ورد في نفس أدلّة الاستصحاب من استصحاب الطهارة للصلاة، مع أنّ صحّة الصّلاة أثر لتقيّدها بالوضوء لا نفس الوضوء، والتقيّد بالوضوء من الآثار العقليّة لبقاء الوضوء، وهكذا في سائر الشرائط، لأنّ الجزء فيها إنّما هو التقيّد، وأمّا القيد فهو خارج، ولكن الإمام (عليه السلام) حكم بحجّية الاستصحاب، وليس ذلك إلاّ لمكان خفاء الواسطة.

ونظيره أيضاً استصحاب بقاء شهر رمضان وترتيب أثر صحّة الصيام عليه، مع أنّ الصحّة من آثار وقوع الصيام في شهر رمضان، ولكنّه لا بأس به أيضاً لخفاء الواسطة.

ثانيها: ما إذا كانت الواسطة جليّة جدّاً بحيث يرى العرف ملازمة بين تنزيل المستصحب وتنزيلها، فإذا نزّل المستصحب منزلة المتيّقّن السابق نزّلت الواسطة تبعاً كذلك، فيجب ترتيب أثرها الشرعي قهراً.

وإن شئت قلت: إنّ شدّة وضوح الواسطة وجلائها توجب عدّ أثر الواسطة أثراً لذي الواسطة، نظير أصالة عدم دخول هلال شوّال أو بقاء شهر رمضان في يوم الشكّ المثبت لكون الغد يوم العيد فيترتّب عليه أحكام العيد من الصّلاة والغسل وزكاة الفطرة وغيرها، فإنّ إتّصاف الغد بصفة العيد بعد استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ من اللوازم العقليّة قطعاً، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلاّ ترتيب أحكام آخرية ذلك اليوم لشهر، وأوّلية غده لشهر آخر، لأجل وضوح لزوم أحدهما للآخر وعدم انفكاكهما في جعل الأحكام.

ثالثها: ما إذا كانت الواسطة والمستصحب من قبيل المتضايفين كاستصحاب بقاء زيد زوجاً، الذي يلازم بقاء هند مثلا على زوجيتها، ولا يفهم العرف من جعل أحدهما إلاّ جعل الآخر، ولا يصحّ عندهم ترتيب آثار الزوجيّة على خصوص الزوج دون زوجته بل يرون هذا من قبيل التناقض في الجعل (وإن لم يكن كذلك حقيقةً).

هذا ـ ويمكن جعل هذا المورد من مصاديق جلاء الواسطة الذي مرّ بيانه آنفاً، والأمر في عدّهما أمرين مختلفين أو مصداقين لأمر واحد سهل.

هذا كلّه ما استثنى من الأصل المثبت.

ولكن قد اُورد عليها من جانب الأعلام إشكالات:

الأوّل: ما أورده المحقّق النائيني على الشيخ الأعظم(رحمهما الله) في القسم الأوّل وهو ما إذا كانت الواسطة خفية، وتبعه بعض أعاظم تلامذته، وهو: «أنّه لا مسوّغ للأخذ بهذه المسامحة، فإنّ الرجوع إلى العرف إنّما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشكّ فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة، لأنّ موضوع الحجّية هو الظهور العرفي، فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف، سواء كان الظهور من جهة الوضع أو من جهة القرينة المقاليّة والحاليّة، ولا يجوز الرجوع إلى العرف والأخذ بمسامحاتهم بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي كما هو المسلّم في مسألة الكرّ ... وكذا في مسألة الزكاة» (3).

أقول: يرد عليه:

أوّلا: أنّ المسامحات العرفيّة على قسمين: قسم منها ما يكون العرف فيه ملتفتاً إلى تسامحه كما في باب الكرّ والنصاب، فإنّه يعلم أنّ 999 مثقالا من الذهب أو الماء ليس الف مثقال، ولكن يسامح في اطلاق الألف عليه، ففي هذا القسم، الصحيح كما قال، أي عدم حجّية التسامح العرفي، وقسم منها ما لا يكون كذلك، أي يكون العرف غافلا عنه ولا يلتفت إليه ولو عند الدقّة، كما في مثل الدم فهو يحكم بأنّ لونه ليس دماً، مع أنّه يمكن أن يقال: بأنّ انتقال العرض من شيء إلى شيء آخر بدون انتقال معروضه محال عقلا، فبقاء اللون دليل على بقاء الأجزاء الصغار من الدم، وكذا في ما إذا لاقت يده الميتة وأصاب بها رائحتها، فهو يحكم بعد الاغتسال بعدم وجود أجزاء الميتة في اليد، ففي مثل هذه الموارد لا إشكال في الحجّية، وإلاّ كان على الشارع اخراج العرف عن الغفلة، ولا إشكال في أنّ خفاء الواسطة قد يكون من هذا القسم.

ثانياً: أنّ موارد خفاء الواسطة داخلة في القسم الأوّل من كلامه، أي ما إذا كان الشكّ في تعيين المفهوم أو سعته وضيقه، فيكون المرجع فيها العرف، وبعبارة اُخرى: كان الوجه في عدم حجّية المثبتات انصراف دليل «لا تنقض» عنها، وهو ليس جارياً في المقام، أي لا يكون ذلك الاطلاق منصرفاً عن موارد خفاء الواسطة عند العرف.

وإن شئت قلت: يستفاد من تعميم الشارع حجّية الاستصحاب لموارد خفاء الواسطة في مورد حديث زرارة ورواية علي بن محمّد القاساني أنّ أثر الأثر أثر عنده في هذه الموارد.

الثاني: ما أورده المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) على صاحب الكفاية في المورد الثاني والثالث (مورد جلاء الواسطة والمتلازمين) وحاصله: «أنّه لا حاجة إلى إثبات بقاء أحد المتضايفين باستصحاب الآخر، بل يجري الاستصحاب في كلّ واحد منهما.

هذا في المتلازمين، وهكذا في جلاء الواسطة (الذي مثّل له بباب العلّة والمعلول كاستصحاب حركة اليد وإثبات آثار حركة المفتاح) فيمكن إجراء استصحاب حركة المفتاح في عرض استصحاب حركة اليد، للعلم بوجود كلّ واحد منهما»(4).

ويرد عليه أيضاً: أنّ كلامه في مورد جلاء الواسطة صادق في مثل ما ذكره من مثال حركة اليد والمفتاح وما أشبهه من موارد العلّة والمعلول، لا في مثل ما ذكرناه من مثال استصحاب بقاء رمضان في يوم الشكّ، لعدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى كون الغد عيداً، فلا يمكن إثباته إلاّ من طريق استصحاب بقاء عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ.

الثالث: وجود الأصل المعارض في موارد خفاء الواسطة دائماً، لأنّ استصحاب بقاء الرطوبة في الذباب لإثبات نجاسة الثوب مثلا معارض مع استصحاب بقاء الطهارة في الثوب.

وفيه: أيضاً أنّ الاستصحاب الثاني محكوم للأوّل، لأنّه من قبيل الأصل المسبّبي في مقابل الأصل السببي، حيث إنّه بعد جريان استصحاب بقاء الرطوبة لا يبقى شكّ في نجاسة الثواب تعبّداً حتّى تصل النوبة إلى استصحاب طهارته.

فظهر أنّ الوارد من هذه الإشكالات إنّما هو إشكال المحقّق الأصفهاني(رحمه الله)في خصوص المتضايفين وأشباهه.

هذا كلّه في المقام الثالث.

المقام الرابع: الفرق بين مثبتات الاُصول والأمارات:

المشهور بين المتأخّرين من الاُصوليين حجّية مثبتات الأمارات مطلقاً، فيثبت بالأمارة مؤدّيها وملزومها ولوازمها وملازماتها ولو بألف واسطة، وهذا بخلاف مثبتات الاُصول.

والقول الثاني: ما ذهب إليه بعض أساتذتنا العظام وهو عدم الحجّية مطلقاً في كلتيهما.

والثالث: التفصيل بين الموارد المختلفة، وهو المختار وسيأتي بيانه وشرحه.

أمّا القول الأوّل فاستدل عليه ببيانات أربع:

البيان الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني(رحمه الله) وهو: «أنّ الأمارة كما تحكي عن المؤدّي ونشير إليه، كذلك تحكي عن أطرافها من ملزومها ولوازمها وملازماتها، لأنّ مقتضى اطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها في جميع ذلك».

وتوضيحه: أنّ الأمارة تنحلّ إلى حكايات متعدّدة مطابقية وإلتزامية ، فهي كما تحكي عن المؤدّي بالمطابقة فكذلك تحكي عن أطرافه بالالتزام (فتخرج في الواقع عن كونها مثبتة على تعبير بعض محشّي الكفاية).

ويمكن أن يناقش فيه:

أوّلا: بأنّ كلامه وإن كان صادقاً في مثل خبر الواحد، لأنّ له الحكاية، والحكاية عن الشيء حكاية عن لوازمه (وكذا الإقرار والبيّنة) ولكنّه لا يصدق في مثل أصالة اليد، حيث إنّها لا تحكي ولا تخبر عن شيء، وليس لها لسان حتّى تنحلّ إلى حكايات عديدة.

وثانياً: أنّه يقبل في نفس خبر الواحد أيضاً في الجملة لا بالجملة، لأنّ انحلاله إلى إخبارات عديدة مبنى على التفات المخبر باللوازم والملازمات، وأمّا اللوازم التي ليس المخبر عالماً بها ولا متوجّهاً إليها فلا يصحّ أن يكون الإخبار عن الملزوم إخباراً عن تلك اللوازم.

البيان الثاني: أنّ حجّية الأمارة هي من باب أنّها توجب حصول الظنّ نوعاً، والظنّ بشيء ظنّ بلوازمه.

وفيه: أنّه المبني مخدوش، لأنّ مناط الحجّية ليس هو حصول الظنّ النوعي، وإلاّ يلزم حجّية الظنّ مطلقاً، وهو ـ على الظاهر ـ ممّا لا يلتزم به المستدلّ نفسه.

البيان الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) من «أنّ الأمارة إنّما تكون محرزة للمؤدّي وكاشفة عنه كشفاً ناقصاً، والشارع بأدلّة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها، فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة ومحرزة كالعلم، وبعد انكشاف المؤدّى يترتّب عليه جميع ما للمؤدّى من الخواصّ والآثار على قواعد سلسلة العلل والمعلولات واللوازم والملزومات»(5).

أقول: إنّ كلامه هذا أيضاً من آثار مبناه المعروف من أنّ معنى الحجّية جعل صفة المحرزية والكاشفيّة واليقين، فكأنّ الشارع يقول: أنّ لمفهوم الحجّة قسمين من المصداق: قسم تكويني، وقسم اعتباري يحتاج إلى جعل واعتبار ممّن بيده الاعتبار، فبعد جعل الحجّية يصير مصداقاً واقعياً للعلم فيترتّب عليها لوازمها وملازماتها كالعلم التكويني.

ولكن قد مرّ كراراً أنّ صفة اليقين أمر تكويني لا يمكن جعلها في عالم الاعتبار، وينبغي أن نشير هنا إلى ما أفاد المحقّق العراقي(رحمه الله) في تعليقته على فوائد الاُصول، فإنّه قال: «الطريقيّة بمعنى تتميم الكشف وتماميّة الانكشاف المساق لإلغاء الاحتمال بحقيقته يستحيل أن تناله يد الجعل تشريعاً»(6).

البيان الرابع: ما أفاده بعض الأعاظم في رسائله حيث قال: «أمّا وجه حجّية مثبتات الأمارات فهو أنّ جميع الأمارات الشرعيّة إنّما هي أمارات عقلائيّة أمضاها الشارع، وليس فيها ما تكون حجّيتها بتأسيس من الشرع كظواهر الألفاظ وقول اللغوي على القول بحجّيته وخبر الثقة ... ومعلوم أنّ بناء العقلاء على العمل بها إنّما هو لأجل إثباتها الواقع لا للتعبّد بالعمل بها، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه وملزوماته وملازماته بعين الملاك الذي لنفسه فكما أنّ العلم بالشيء موجب للعلم بلوازمه وملزوماته وملازماته مطلقاً فكذلك الوثوق به موجب للوثوق بها ... ولو حاولنا إثبات حجّية الأمارات بالأدلّة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حجّية مثبتاتها، بل ولا لوازمها الشرعيّة إذا كانت مع الواسطة الشرعيّة»(7).

وفيه: أوّلا: أنّا نمنع الصغرى، وهى كون جميع الأمارات إمضائيّة، لأنّ بعض الأمارات كالقرعة لا إشكال في أنّها تأسيسيّة فيما إذا كان هناك واقع في البين ولم تكن القرعة لمجرّد حسم مادّة النزاع، كما هو كذلك غالباً، فإنّ المنساق من أدلّة حجّية القرعة في الشرع أنّها كاشفة عن الواقع غالباً أو دائماً إذا اجتمع فيها شرائطها، فقد ورد في الحديث النبوي: «ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج السهم الأصوب» وكذا ما ورد في الدعاء المأثور عند إجراء القرعة: «اللهمّ ربّ السموات السبع أيّهم كان الحقّ له فأدّه إليه» وفي رواية اُخرى: «اللهمّ أنت الله لا إله إلاّ أنت عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون فبيّن لنا أمر هذا المولود» وكذا ما ورد في قضيّة يونس وقضيّة عبدالمطّلب وغير ذلك من القرائن التي يغني تظافرها عن ملاحظة إسنادها، فمن جميع ذلك يعلم أنّ القرعة أمارة شرعيّة حيث لا أمارة، ويؤيّده ما ورد في أمر الاستخارة فإنّها نوع من القرعة يطلب منها الكشف عن المصالح الواقعيّة لا مجرّد رفع الحيرة(8).

إن قلت: إذا كانت القرعة من الأمارات فلابدّ من تقديمها على الاُصول العمليّة مع أنّه لا يقول به أحد.

قلنا: المستفاد من ظواهر أدلّة القرعة أو صريحها أنّ كاشفيتها منحصرة بما إذا أشكل الأمر وسدّت أبواب الحلّ وطرق الفتح، وهذا لا يصدق إلاّ فيما إذا لم توجد في البين أمارة ولا أصل، فالقرعة أمارة تكشف عن الواقع حيث لا أمارة ولا أصل.

هذا كلّه في القرعة.

وهكذا سوق المسلمين، فهو أيضاً لا أثر له عند العقلاء، بل هو أمارة إخترعها الشارع المقدّس، وجعلها كاشفة عن طهارة ما يشتريه المكلّف من سوق المسلمين أو حلّيته من الذبائح وشبهها.

ثانياً: لو سلّمنا وجود جميع الأمارات بين العقلاء لكنّا لا نقبل إمضاء جميعها من جانب الشارع بل فيه تفصيل سيأتي توضيحه عند بيان المختار.

هذا كلّه في القول الأوّل.

أمّا القول الثاني: فهو ما ذهب إليه بعض الأعلام في مصباح الاُصول من عدم الفرق بين الأمارات والاستصحاب وعدم حجّية المثبتات في المقامين، لأنّ عمدة الدليل على الفرق في نظره إنّما هو ما أفاده المحقّق النائيني(رحمه الله) (من أنّ العلم الوجداني شيء يقتضي ترتّب جميع الآثار حتّى ما كان منها بتوسّط اللوازم العقليّة أو العادية ولو بألف واسطة، فكذا العلم التعبّدي، بخلاف الاستصحاب، فإنّ المجعول فيه هو الجري العملي على طبق اليقين السابق، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقّناً فلا وجه للتعبّد به) ولكنّه أجاب عنه بأنّ «ما ذكره غير تامّ لأنّ العلم الوجداني إنّما يقتضي ذلك لأنّه من العلم بالملزوم يتولّد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة، فترتّب آثار الملزوم ليس من جهة العلم بالملزوم، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولّد من العلم بالملزوم، ولذا يقولون: أنّ العلم بالنتيجة يتولّد من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ... بخلاف العلم التعبّدي بالمجعول، فإنّه لا يتولّد منه العلم الوجداني باللازم ـ وهو واضح ـ ولا العلم التعبّدي به لأنّ العلم التعبّدي تابع لدليل التعبّد، وهو مختصّ بالملزوم دون لازمه، لما عرفت من أنّ المخبر إنّما أخبر عنه لا عن لازمه».

ثمّ استثنى باب الأخبار وقال: «نعم تكون مثبتات الأمارة حجّه في باب الأخبار فقط لأجل قيام السيرة القطعيّة من العقلاء على ترتيب اللوازم على الأخبار بالملزوم ولو مع الوسائط الكثيرة، ففي مثل الإقرار والبيّنة وخبر العادل يترتّب جميع الآثار ولو كانت بوساطة اللوازم العقليّة أو العادية»(9).

ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ كلامه مبنى على انحصار وجوه الفرق بين مثبتات الأمارات والاُصول فيما ذكره المحقّق النائيني(رحمه الله)، وهو ممنوع لما مرّ من الوجوه المختلفة، وسيأتي عند بيان المختار مزيد توضيح للمقام.

أمّا القول الثالث: (وهو المختار) فهو التفصيل بين اللوازم الذاتية للأمارة فتكون حجّية، وبين اللوازم الإتّفاقية فلا تكون حجّة، ولإثباته لابدّ من ذكر مقدّمة في بيان الفرق بين الأمارة والأصل فنقول.

المشهور بينهم أنّ الفرق بين الأمارة والأصل أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة فإنّ الشكّ إنّما هو موردها لا موضوعها.

ولكنّه ممّا لا وجه ولا أصل له، والصحيح أنّ الجهل بالواقع والشكّ فيه أخذ في كليهما، والوجه في ذلك ما جاء في بعض الكلمات من «أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير معقول فلا محالة تكون حجّية الأمارات إمّا مطلقة بالنسبة إلى العالم والجاهل، أو مقيّدة بالعالم والجاهل، أو مختصّة بالجاهل، ولا مجال للالتزام بالأوّل والثاني فإنّه لا يعقل كون العمل بالأمارة واجباً على العالم بالواقع فبقى الوجه الأخير، وهو كون الأمارة مختصّة بالجاهل وهو المطلوب (هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت).

مضافاً إلى أنّه في مقام الإثبات أيضاً مقيّد به في لسان بعض الأدلّة كقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (10) (وقد استدلّ القوم بالآية في مباحث حجّية خبر الواحد تارةً في مباحث الاجتهاد والتقليد اُخرى).

والصحيح في الفرق بينهما أنّ للأمارة كاشفية عن الواقع وإن كان كشفاً ظنّياً غير تامّ، بخلاف الأصل فليس فيه كشف عن الواقع أصلا، ولا فرق في ذلك بين أن نأخذ الأمارة والاُصول من الشارع المقدّس أو من بناء العقلاء، فإنّ لهم أيضاً أمارات واُصول، بل الأمارات الموجودة في الشرع متّخذة منهم غالباً كما عرفت آنفاً، وكذا الاُصول الأربعة فإنّ جميعها موجودة بين العقلاء من أهل العرف. ومنها الاستصحاب فإنّهم يجرون الاستصحاب في القوانين والمناصب كالوكالة ومقام القضاء والولاية وغيرها بعنوان الأصل لا الأمارة، فهم ما دام لم يصل بأيديهم حكم جديد يعملون بما سبق.

إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ في المسألة هو التفصيل بين اللوازم الذاتيّة واللوازم الاتّفاقية في باب الأمارات، وإنّ الأولى تثبت بالأمارة دون الثانية من دون فرق بين ما كانت مخترعة بيد الشارع وما كان عليه سيرة العقلاء، ومن دون فرق بين أن تكون الأمارة من الأخباريات أو لا، فإذا ثبت بالقرعة أنّ هذا المولود لزيد مثلا فلا إشكال في ترتّب لوازمه الذاتيّة عليه من كون فلان خاله وكون فلان عمّه، مع أنّ القرعة ليست من الأخباريّات، بخلاف اللوازم العرضية الإتّفاقية، كما إذا أثبتنا بالبيّنة أو بمقتضى اليد أنّ هذه الدار لزيد وعلمنا من الخارج أنّ دار زيد كانت قبال القبلة، فلا يثبت بهما جهة القبلة، مع أنّ خبر الواحد من الأمارات الموجودة فيما بين العقلاء، ويكون من الأخباريات أيضاً، وهكذا إذا قامت أمارة كأذان العارف الثقة على دخول الوقت وعلمنا من الخارج وجود ملازمة اتّفاقية بين جهة القبلة وبين وقوع الشمس بين العينين حين دخول الوقت، في مكان خاصّ، فلا يمكن إثبات جهة القبلة من ناحية إثبات دخول الوقت، وكذا العكس، فإذا قامت أمارة على ثبوت القبلة (كقبور المؤمنين) فلا يمكن إثبات دخول الوقت من مواجهة القبلة في بعض الأمكنة لملازمة اتّفاقية بينهما.

بعض تطبيقات الأصل المثبت:

وهو في الواقع تتمّة للتنبيه السابق وتكميل له، والبحث فيه يقع في ثلاثة اُمور:

1 ـ في أنّه لا فرق في اللازم العادي أو العقلي بين كونه مبايناً مع المستصحب رأساً وبين كونه متّحداً معه وجوداً بحيث لا يتغايران إلاّ مفهوماً، فالأصل مثبت في كليهما.

ولتوضيح المقام والتحقيق في البحث لابدّ من الإشارة إلى الأقسام المختلفة للكلّي، فنقول:

تارةً يكون الكلّي منتزعاً من مرتبة ذات الشيء كما في الحيوان والإنسان والناطق ونحو ذلك.

واُخرى ينتزع من الشيء بملاحظة إتّصافه بأمر ليس بحذائه شيء في الخارج، ويكون من الخارج المحمول لا بضميمة شيء كوصف الممكن للإنسان.

وثالثاً: ينتزع من الشيء بملاحظة اتّصافه بعرض من الأعراض بحيث يكون من الاُمور الحقيقيّة المتأصّلة التي بحذائها شيء في الخارج غير معروضها، وإن كان وجوده في ضمن وجود معروضه وكان من المحمول بالضميمة، كما في الأسود والأبيض والقاعد والقائم ونحو ذلك.

هذه أقسام ثلاثة للكلّي.

ثمّ نقول: قد يتوهّم أنّه لا يجوز استصحاب الفرد وإجراء أحكام الكلّي عليه في جميع الأقسام الثلاثة حتّى القسم الأوّل الذي يكون من الذاتيات، لأنّ حيثية زيد المستصحب مثلا غير حيثية كونه إنساناً، فيكون الجميع من الأصل المثبت.

وقد يقال: بأنّ الاستصحاب مثبت في الأخيرين لا في الأوّل، لاتّحاد الكلّي فيه مع المستصحب اتّحاداً ذاتياً، فأثر الكلّي أثر للمستصحب حقيقة.

ويمكن أن يقال بأنّه مثبت في خصوص الأخير، لأنّ الأثر في كلّ واحد من القسمين الأوّلين يكون لنفس المستصحب واقعاً، حيث لا يكون بحذاء ذلك العنوان الكلّي (المتّحد مع المستصحب وجوداً) شيء آخر في الخارج غير المستصحب، بخلاف القسم الثالث لأنّ الأثر فيه ليس لنفس المستصحب واقعاً بل لما هو من اعراضه وهو السواد والبياض والقيام والقعود ونحو ذلك.

أقول:

أوّلا: أنّه لا فائدة في هذا النزاع لأنّه لا حاجة في إثبات آثار الكلّي في هذه الأقسام إلى استصحاب الفرد بعد ما كان نفس الكلّي أيضاً متيقّناً سابقاً، لأنّ استصحاب نفس الكلّي حينئذ يكون جارياً ومغنياً عن استصحاب الفرد.

ثانياً: لو أغمضنا عن ذلك فإنّ الصحيح هو القول الثاني، أي عدم كون الاستصحاب مثبتاً في الأوّل دون الأخيرين، لأنّ الكلّي في القسم الأوّل ليس في الواقع من اللوازم العقليّة للمستصحب، لكونه منتزعاً من مقام ذاته ويكون متّحداً معه ذاتاً، بخلاف الأخيرين.

2 ـ أنّه لا فرق في الأثر المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون حكماً تكليفياً أو حكماً وضعيّاً، وبتعبير آخر: بين أن يكون حكماً مجعولا مستقلا أو مجعولا تبعاً كالشرطيّة والمانعيّة.

قد يقال: أنّ الأحكام الوضعيّة على ثلاثة أقسام:

قسم منها ما يقع تحت يد الجعل ذاتاً واستقلالا نظير الزوجيّة والملكيّة.

وقسم منها ما يقع تحت يد الجعل بمنشأ انتزاعه كالجزئيّة والشرطيّة للمكلّف به، فإنّ شرطيّة الطهارة أو مانعية النجاسة مجعول تبعي وأمره بيد الشارع وضعاً ورفعاً، لكن من طريق وضع منشأ انتزاعه ورفعه.

وقسم ثالث ما لا يكون مجعولا للشارع لا نفسه ولا منشأ انتزاعه، لكونه من الاُمور التكوينيّة كشرائط التكليف، مثل دلوك الشمس للصلاة وغيره ممّا يكون داعياً وباعثاً للمولى على الحكم (ولكن قد ذكرنا سابقاً أنّ شرائط التكليف أيضاً ترجع إلى قيود الموضوع فتكن مجعولةً).

أمّا القسم الأوّل فقال المحقّق الخراساني(رحمه الله) بعدم كون الاستصحاب فيه مثبتاً، وأمّا القسم الثاني فقد يتوهّم كون الاستصحاب فيه مثبتاً لكونه من الاُمور الانتزاعيّة العقليّة لا الآثار الشرعيّة، ولكن أجاب عنه المحقّق الخراساني(رحمه الله) بأنّه أيضاً مجعول للشارع تبعاً بجعل منشأ انتزاعه فأمره أيضاً بيد الشارع وضعاً ورفعاً، فلا يكون الاستصحاب فيه مثبتاً، وأمّا القسم الثالث فمن الواضح أنّ الاستصحاب فيه مثبت.

أقول: أوّلا: أنّ هذا النزاع أيضاً ممّا لا طائل تحته، لأنّه لا حاجة إلى استصحاب شرطيّة الطهارة مثلا حتّى يقال بأنّه مثبت، بل يكفي استصحاب حكم تكليفي يوجد في جنب هذا الحكم الوضعي، وهو مفاد قوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ... } [المائدة: 6] فيكفي استصحاب وجوب الوضوء عن استصحاب شرطيّة الوضوء للصلاة.

وثانياً: أنّ معنى الأصل المثبت في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) في المقام نطاقه أوسع ممّا مرّ، حيث إنّه في ما سبق كان عبارة عن ترتيب الآثار الشرعيّة بوساطة الآثار العقليّة أو العادية على المستصحب، وفي المقام يعمّ ما إذا كان نفس المستصحب أو الأثر المترتّب عليه بلا واسطة أمراً عقيّاً ولم يكن له أثر شرعي، وبهذا يندفع ما أورده المحقّق الأصفهاني(رحمه الله) عليه من هذه الناحية.

3 ـ في أنّه لا فرق أيضاً في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت حكم ووجوده، أو نفيه وعدمه.

فقد يقال: إذا كان المستصحب أو الأثر المترتّب عليه عدم الحكم كان الاستصحاب مثبتاً، لأنّ العدم ليس ممّا يقع تحت يد الجعل، إمّا بلحاظ نفسه فواضح، وإمّا بلحاظ آثاره من الثواب أو العقاب فلأنّها من الآثار العقليّة.

ولكن أجاب عنه (بحقٍّ) المحقّق الخراساني: أوّلا: بأنّ نفي الأثر وعدمه أمره بيد الشارع كأمر ثبوته ووجوده، وثانياً: بأنّ عدم اطلاق الحكم على نفي الأثر غير ضائر، إذ ليس هناك ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عنه كصدقه على رفع اليد عن ثبوته ووجوده.

وعلى هذا فيكون استصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون جارياً، ولا يرد عليه ما أورده الشيخ الأعظم(رحمه الله) من أنّ عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعيّة، لأنّ عدم استحقاق العقوبة وإن لم يكن من اللوازم المجعولة الشرعيّة لكن عدم المنع من الفعل (أو عدم التكليف) بنفسه أمر قابل للاستصحاب من دون حاجة إلى ترتّب أثر مجعول عليه، وذلك لما عرفت آنفاً من عدم التفاوت في المستصحب أو المترتّب على المستصحب بين أن يكون هو ثبوت الحكم ووجوده، أو عدمه ونفيه، فيترتّب عليه أثره القهري وهو عدم ترتّب العقاب لأنّه وإن كان لازماً عقليّاً له، ولكنّه لازم مطلق لعدم المنع ولو في الظاهر، وسيأتي في التنبيه اللاحق أنّ اللازم العقلي أو العادي إنّما لا يثبت بالاستصحاب إذا كان لازماً للوجود الواقعي، وأمّا إذا كان لازماً للوجود الأعمّ من الظاهري والواقعي فهذا ممّا يثبت به بلا كلام.

____________

1. راجع درر الفوائد: ج2 ص554، طبع جماعة المدرّسين.

2. نعم أنّه رجع عن ذلك في الهامش (هامش ص415 من الكفاية طبع مؤسسة آل البيت) بقوله: «ولكن الوجه عدم صحّة التنزيل بهذا اللحاظ، ضرورة أنّه ما يكون شرعاً لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزم عقلا أو عادة، وحديث أثر الأثر أثر وإن كان صادقاً إلاّ أنّه إذا لم يكن الترتيب بين الشيء وأثره بينه وبين مؤثّره مختلفاً، وذلك ضرورة أنّه لا يكاد يعدّ الأثر الشرعي لشيء أثراً شرعياً لما يستلزمه عقلا أو عادة أصلا، لا بالنظر الدقيق العقلي ولا النظر المسامحي العرفي، إلاّ فيما عدّ أثر الواسطة أثراً لذيها لخفائها أو شدّة وضوح الملازمة بينهما بحيث عدّا شيئاً واحداً ذا وجهين وأثر أحدهما أثر الإثنين» (انتهى).

أقول: ما ذكره صحيح بالنسبة إلى الدقّة العقليّة، ولكن بالنظر العرفي غير مقبول، فهل هناك مانع من أن يقول شارع المقدّس: رتّب الآثار الشرعيّة للمستصحب ولو بألف واسطة، إنّما الإشكال في عدم شمول الإطلاقات لمثلها، وإلاّ لا ينبغي الشكّ في إمكان جعل آثار الواسطة أثراً لذي الواسطة عرفاً فتأمّل.

3. راجع مصباح الاُصول: ج3، ص159، طبع مطبعة النجف.

4. راجع نهاية الدراية: ج5 ـ 6، ص190، طبع مؤسسة آل البيت.

5. فوائد الاُصول: ج4، ص487، طبع جماعة المدرّسين.

6. المصدر السابق: ص484، طبع جماعة المدرّسين.

7. الرسائل: ج1، ص178.

8. وإن شئت توضيح الحال في جميع ذلك فارجع إلى القواعد الفقهيّة، القاعدة السادسة (قاعدة القرعة).

9. مصباح الاُصول: ج3، ص155، طبع مطبعة النجف.

10. المصدر السابق: ص152.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.