أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2016
5426
التاريخ: 30-8-2016
1823
التاريخ: 5-8-2016
1809
التاريخ: 1-9-2016
1543
|
قسموا الوضع باعتبار عموم الوضع والموضوع له وخصوصهما على اقسام.
لابد في تنقيح الكلام في هذه الجهة من تمهيد مقامات:
الاول في بيان ما يمكن ان يقع عليه التقسيم باعتبار الحصر العقلي، الثاني في بيان ما يمكن من هذه الاقسام، الثالث في بيان ما هو الواقع منها، فنقول:
اما المقام الاول: فلا شبهة في ان للوضع حسب الحصر العقلي اقساما اربعة : عام الوضع والموضوع له، وخاصهما، وعام الوضع وخاص الموضوع له، وعكسه، من جهة ان المعنى الملحوظ حال الوضع اما ان يكون كليا واما ان يكون جزئيا، وعلى الاول فأما ان يكون وضع اللفظ لذلك المعنى الكلي الملحوظ واما ان يكون وضعه لمصاديقه المندرجة تحته، كما انه على الثاني ايضا تارة يكون وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الجزئي واخرى يكون وضعه بإزاء معنى كلي يكون متصوره من افراده ومصاديقه، فباعتبار الاول يكون من عام الوضع والموضوع له، وباعتبار الثاني يكون من عام الوضع وخاص الموضوع له، وباعتبار الثالث يكون من خاص الوضع والموضوع له، وباعتبار الرابع يكون من خاص الوضع وعام الموضوع له، فهذه اقسام اربعة للوضع حسب اقتضاء الحصر العقلي.
فنقول: اما القسم الاول وهو عام الوضع والموضوع له فيتصور على نحوين :
الاول ما هو المعروف المشهور من لحاظ معنى كلى عام ووضع اللفظ بأزائه كما في الانسان والحيوان حيث يلاحظ مفهوم الانسان في ذهنه فيضع لفظ الانسان بأزاء ما تصوره من المعنى الكلام العام.
ولا يخفى انه على هذا يكون عمومية الوضع وكليته من قبيل كلية الاحكام التكليفية، من كونه باعتبار كلية متعلقه، فكما ان كلية الارادة والحكم كانت باعتبار كليه متعلقه من حيث انحلالها حسب تعدد افراد المتعلق إلى ارادات واحكام جزئية ، كقوله : لا تشرب الخمر - والا فنفس هذا الحكم وتلك الارادة المتعلقة بهذا العنوان لا تكون الا شخصية وممتنعة الصدق على الكثيرين - كذلك ايضا عمومية الوضع وكليته انما كانت باعتبار كلية متعلقه، لا ان عموميته كانت باعتبار عمومية آلة الملاحظة كما قبل بان معنى عمومية الوضع وخصوصيته انما كانت من جهة عمومية آلة الملاحظة وخصوصيتها، كيف وانه في الفرض لا يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط آلة الملاحظة، فان المفهوم الكلي كمفهوم الانسان أو الحيوان وكذا طبيعة اللفظ بنفسها متصورة في الذهن بلا توسيط آلة ملاحظة في البين، ومعه لا يحتاج في مقام وضع اللفظ بازائه واحداث العلقة والربط بينهما إلى توسيط شيء نسميه آلة الملاحظة، كي لأجل عموميتها وكليته يتصف الوضع بالكلية والعمومية، كما هو واضح.
الثاني : من قسمي عموم الوضع والموضوع له : هو ان يكون الموضوع له الجهة المشتركة بين الافراد المتصورة في الذهن التي به تمتاز افراد كل نوع عن افراد نوع آخر بنحو لا يكاد تحققه في الذهن الا مع الخصوصية وبالوجود الضمني لا المستقل، وذلك بان يلاحظ معنى عام ويشار به إلى الجهة المشتركة والجامع المتحد مع الافراد الذهنية التي بها امتياز افراد كل نوع عن آخر فيجعل اللفظ بإزاء تلك الجهة المشتركة بما هي مشتركة وموجودة في الذهن بعين وجود الفرد والخصوصية، وبعبارة اخرى يكون الموضوع له حينئذ عبارة عما هو منشأ انتزاع هذ المفهوم العام المنتزع عن الافراد المتصورة في الذهن لا المفهوم المنتزع عن ذلك، فهذا ايضا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له.
ولا يخفى انه على هذا التصوير يحتاج في مقام الوضع إلى وجود آلة الملاحظة، لان المعنى الموضوع له بعد ان لم يكن له وجود مستقل في عالم الذهن واللحاظ بل كان وجوده في ضمن وجود الفرد ومتحدا معه نظير الجامع بين الافراد الخارجية من حيث عدم وجود له في الخارج مستقلا وكونه موجودا في ضمن الفرد والخصوصية، فلا جرم يحتاج في مقام الوضع إلى توسيط معنى عام يجعله آلة للملاحظة تلك الجهة المحفوظة بين هذه الخصوصية وتلك الخصوصية، ولكن مورد الوضع ومحله كان مختصا بتلك الجهة المحفوظة في ضمن الافراد فكانت الضمائم والخصوصيات كله خارجة عن مصب الوضع.
وليكن ذلك على ذكر منك ينفعك فيما يأتي عند التعرض لبيان وضع الحروف واسماء الاشارة.
وحينئذ فكم فرق بين هذا القسم من عام الوضع والموضوع له وبين سابقه الذي هو المعروف لدى المشهور، فانه على الاول يكون الموضوع له عبارة عن معنى عام منتزع له وجود مستقل في وعاء الذهن واللحاظ قبال الخصوصيات كمفهوم الانسان والحيوان بخلافه على الثاني فان الموضوع له على ذلك عبارة على الجامع المتحد مع الافراد الذي لا يكاد تحققه في الذهن وفى عالم اللحاظ الا في ضمن الفرد والخصوصية، ومن ذلك دائم يحتاج في مقام الاستعمال ومرحلة التفهيم إلى وجود دالين :
احدهما على نفس الجامع والآخر على الخصوصية، كما انه على ذلك يحتاج ايضا إلى توسيط آلة الملاحظة في مقام وضع اللفظ من جهة ما عرفت من عدم امكان لحاظ مثل هذا المعنى مستقلا في الذهن، كم هو واضح.
ولئن تأملت ودققت النظر ترى ايضا الاحتياج إلى توسيط آلة الملاحظة حتى على القسم الاول من عام الوضع والموضوع له، وذلك فانه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان : من وضع اسامى الاجناس للمهية المهملة، لما كان لا يمكن لحاظ المهية المهملة مستقلا في الذهن معراة عن خصوصية الاطلاق والتقييد، لان كل ما يتصوره الانسان لا يخلو من كونه اما طبيعة مقيدة واما طبيعة مطلقة وعارية عن القيد والخصوصية ولا صورة ثالثة في الذهن جامعة بين الواجد للقيد وفاقده بحيث كان له موجود مستقل في الذهن قبالا للفاقد والواجد نسميها بالمهية المهملة، فلا جرم في مقام وضع اللفظ لهذه الطبيعة التي هي الجامعة بين الطبيعة المطلقة والمقيدة لابد من توسيط آلة ملاحظة في البين مشيرا بها إلى ما هو الجامع بين الواجد للقيد والخصوصية وفاقده الذي لا يكون له وجود في الذهن الا في ضمن الواجد للقيد أو فاقده، كما هو واضح.
نعم بناء على مسلك المشهور من القدماء في وضع اسامى الاجناس: من كونه للطبيعة المطلقة الصادقة على القليل والكثير، لا يحتاج إلى توسيط آلة ملاحظة في البين في مقام الوضع، من جهة ان نفس المعنى والمفهوم حينئذ مما امكن لحاظه وتصوره مستقلا بلا توسيط عنوان وآلة ملاحظة في البين.
ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين، بل الموضوع له في اسامى الاجناس - كما سنحققه ان شاء الله تعالى - عبارة عن الطبيعة المهملة التي هي جامعة بين الطبيعة المقيدة والمطلقة التي هي مقالة المشهور من القدماء، ومن ذلك نقول بانه يحتاج في اثبات الاطلاق إلى التشبث بمقدمات الحكمة، وعليه لا محيص بعد عدم امكان تصور مثل هذا الجامع ولحاظه مستقلا في الذهن من توسيط عنوان يكون آلة للملاحظة الجامع المزبور في مقام الوضع.
ولكن على تقدير تكون جهة عمومية آلة الملاحظة غير مرتبطة بعالم عمومية الوضع بل وانما عمومية الوضع وخصوصية من قبيل عمومية الحكم والتكليف وخصوصيته من كونه باعتبار كلية المتعلق وجزئيته، فتدبر.
هذا كله في القسم الاول من الاقسام الاربعة المتصورة في الوضع.
واما القسم الثاني منه : وهو فرض عموم الوضع وخصوص الموضوع له، ففيه ايضا يتصور صور ثلاث:
الاولى : ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان العام الكلي عبارة عن الافراد المخصوصة والخصوصيات التفصيلية الجزئية، كما لو لاحظ في مقام الوضع عنوان الانسان وعنوان الابتداء الكلي مشيرا بهذا العنوان إلى المصاديق الخاصة والصور التفصيلية بخصوصيته الخاصة من زيد وعمرو وبكر، كما نظيره في باب التكاليف من قوله: اكرم من في الصحن، مشيرا به إلى الافراد الخارجية الموجودة في الصحن من زيد وعمرو وبكر.
الثانية : ان يكون المعنى الموضوع له عبارة عن الافراد والصور التفصيلية ولكن بما انها تعم الكلي والشخصي، كما في لحاظ عنوان الشيء أو الذات مشيرا به في مقام وضع لفظ الانسان مثل أو غيره إلى ما ينطبق عليه هذا العنوان العام من المصاديق والصور التفصيلية التى منها الانسان والحيوان ومنها زيد وعمرو وبكر، واضعا للفظ الانسان بإزاء الصور التفصيلية المزبورة، كما قد يتوهم ان وضع اسماء الاشارة من هذا القبيل وانها موضوعة للصور التفصيلية بما انها تعم الشخصي والكلي ولذلك يقال: هذا الانسان وهذا زيد.
والفرق بينه وبين سابقه واضح، فانه على الاول يكون الموضوع له دائما معنى جزئي بخلافه في هذا القسم، فان الموضوع له عبارة عما يعم الشخصي والكلي ، ولذلك يلزمه عدم صحة استعمال اللفظ على الاول في الكلي وما له القابلية للصدق على الكثيرين وصحة استعماله فيه على الثاني.
الثالثة: ان يكون الموضوع له الملحوظ بتوسيط العنوان الكلي عبارة عن معنى اجمالي مبهم كالشبه مثلا بنحو يكون نسبته إلى الصور التفصيلية نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو انكشف الغطاء لكان ذلك المعنى الاجمالي عين المعنى التفصيلي، لا من قبيل نسبة الكلي والفرد، فيلاحظ الواضع حينئذ بتوسيط العنوان الكلي معنى مبهما ثم في مقام الوضع يضع لفظا بإزاء ذلك المعنى المبهم لكن لا بما هو مبهم محض بل بما انه مشتمل على خصوصية زائدة كخصوصية كونه معروض الخطاب أو الغيبة أو الاشارة أو المعهودية.
ولعله من هذا القبيل باب الضمائر واسماء الاشارة والموصولات كما سيجئ، إذ يمكن ان يقال: بان الموضوع له فيها عبارة عن معنى فيه ابهام متحد مع ما يماثل مفهوم مرجعها لكنه مع اشتمالها على خصوصية زائدة من الغيبة والحضور كما في الضمائر، أو الاشارة والمعهودية كما في اسماء الاشارة والموصولات من نحو هذا والذي كما يشهد لذلك التعبير عنها بالفارسية ب (أو) و(اين) ونحو ذلك، ومن ذلك جرى التعبير عنه بالمبهمات، فان ذلك لا يكون الا من جهة ان الموضوع له فيها معنى إبهامي ، ولذلك ايض نحتاج دائما إلى عطف البيان بقولك:
هذا الرجل هذا الانسان وهذا زيد. كيف وان دعوى كون وضعها للمراجع الخاصة والصور التفصيلية بعيدة غايته، لان لازمه انسباق مفهوم الانسان في مثل هذا الانسان مرتين في الذهن: تارة من لفظ هذا واخرى من لفظ الانسان، وهو كما ترى! كما ان مثله في العبد دعوى كون هذا موضوعا لنفس الاشارة التي هي معنى حرفي وان هذا تقوم مقام الاشارة باليد إلى الانسان وغيره، إذ لازم ذلك ايضا هو عدم اجراء احكام الاسم عليها من جعلها مسندا إليه ومسندا، مع انه ايضا كما ترى! وذلك بخلافه على المعنى الاول، فانه عليه قد حفظ جهة اسمية المعنى فيها فلا يلزم من اجراء احكام الاسم عليها ارتكاب خلاف قواعد، كما هو واضح.
وسيجئ زيادة بيان لذلك ان شاء الله تعالى في محله، فانتظر.
واما القسم الثالث منها: اعني خاص الوضع والموضوع له ففرضه واضح، كما في الاعلام الشخصية.
واما القسم الرابع منها: اعني خاص الوضع وعام الموضوع له، فتصويره انما هو بلحاظ عنوان خاص كزيد مثلا جاعلا له عبرة ومرآة لعنوان كلى منطبق عليه وعلى غيره كعنوان الانسان ثم وضع اللفظ بإزاء ذاك العنوان الكلي الفوق أو بلحاظ الانسان المقيد بخصوصية الزيدية جاعلا له مرآة لطبيعة الانسان المنطبق عليه وعلى غيره من الحصص الاخرى.
هذا كله فيما يتعلق بالمقام الاول فيم يمكن ان يقع عليه التقسيم بحسب الحصر العقلي.
واما المقام الثاني: فالكلام فيه كم عرفت انما هو في بيان ما يمكن من الاقسام الاربعة المزبورة، فنقول:
اما القسم الاول : فلا اشكال في امكانه بل وقوعه ايضا، كما في اسامى الاجناس. ومثله في الامكان بل الوقوع ايضا القسم الثالث، كما في الاعلام الشخصية.
واما القسم الثاني : فالظاهر هو امكانه ايضا ضرورة امكان تصور الجزئيات والافراد بتوسيط عنوان كلى عام ينطبق عليها، إذ معرفة العنوان الكلي العام معرفة للأفراد المندرجة تحته ولو بنحو الاجمال، وبعد كفاية معرفة الموضوع له وتصوره ولو بوجوبه اجمالي لا مجال للأشكال في امكانه. نعم انما يتوجه الاشكال فيما لو احتاج الوضع إلى تصور المعنى الموضوع له بوجه تفصيلي، إذ حينئذ يتوجه الاشكال بان شيئا من العناوين التفصيلية كعنوان الانسان والحيوان ونحوهما وكذا العناوين العامة العرضية كعنوان الذات والشيء ونحوهما - لا يمكن ان يكون مرآة إلى الافراد الخاصة والعناوين التفصيلية، لان غاية ما يحكى عنه تلك العناوين انما هي الجهة المشتركة بين الافراد التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن افراد نوع آخر، واما حكايتها عن الافراد بما لها من الخصوصيات التي بها امتياز كل فرد من هذا النوع عن الفرد الآخر من ذلك النوع فلا، بل هو من المستحيل، من جهة ان الفرد والخصوصية مبائن مفهوما مع مفهوم العام والكلي ، والمبائن لا يمكن ان يكون وجها للمبائن.
ولكنه بعد كفاية لحاظ الموضوع له ولو بوجوبه اجمالي لا مجال لهذا الاشكال، ضرورة امكان تصور الافراد والجزئيات الخاصة بنحو الاجمال بتوسيط عنوان إجمالي مشيرا به إلى الافراد الخاصة في مقام الوضع المعبر عنها بها ينطبق عليه مفهوم الانسان أو مفهوم الذات أو الشيء. وحينئذ فلا ينبغى الاشكال في امكان هذا القسم ايضا.
واما القسم الرابع: اعني فرض خاص الوضع وعام الموضوع له ، فقد يقال بإمكانه ايضا وانه كما يمكن جعل عنوان عام كلى وجها للأفراد والخصوصيات المندرجة تحته كذلك يمكن العكس بجعل الفرد وجها للكلى المنطبق عليه وعلى غيره. ولكن التحقيق هو عدم امكانه واستحالته، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هو الفرد والخصوصية كعنوان زيد مثلا واضح، ضرورة ان الفرد والخصوصية يباين مفهوما مع مفهوم العام والكلي ومعه لا يمكن جعله وجها وعنوانا له.
واما لو كان آلة اللحاظ هو الكلي المقيد كالإنسان المتقيد بالخصوصية الزيدية أو العمروية ولو بنحو دخول التقييد وخروج القيد فكذلك ايضا، فانه مع حفظ جهة التقيد بالخصوصية فيه يباين لا محالة مفهوما مع الانسان المطلق الجامع بين هذه الحصة وغيرها، ومع الغاء جهة التقيد وتجريده عن الخصوصية ولحاظه بما انه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عام الوضع والموضوع له، فتدبر.
واما المقام الثالث فنقول: انه بعد ما ظهر في المقام الثاني امكان الاقسام الثلاثة اعني ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين وما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا، يبقى الكلام في بيان ما هو الواقع منها فنقول: اما ما كان الوضع والموضوع له فيه عامين أو خاصين فلا اشكال في وقوعه، كما في الاعلام الشخصية واسامي الاجناس. وانما الكلام فيما كان الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا، حيث انه قيل بوقوع هذ القسم ايضا وان وضع الحروف وما شابهها من الهيئات والافعال والاسامي المتضمنة للمعنى الحرفي من هذا القبيل، لما يرى من عدم كون الاستعمال فيها الا في معان جزئية.
وتنقيح المرام في هذا المقام يحتاج إلى شرح حقيقة المعاني الحرفية وما ضاهاها ثم بيان انها كلية أو جزئية. في شرح المعاني الحرفية فهنا جهات من الكلام : الاولى في المعاني الحرفية وفيها مقامان:
الاول في شرح حقيقة المعنى الحرفي ، الثاني في بيان انه كلي ام جزئي فنقول:
اما المقام الاول فاعلم ان المشارب في الحروف كثيرة ربما يبلغ إلى الاربعة بل الخمسة كما سنذكرها : احدها ما ينسب إلى الرضي في شرح الكافية وجماعة اخرى بان الحروف مما لا معنى لها اصلا، بل وانما هي مجرد علامات لتعرف معنى الغير كالرفع الذى هو علامة للفاعلية، وانه كما ان الرفع في زيد في مثل ( جاءني زيد) لا معنى له في نفسه بل وانما كان مجرد علامة لتعرف حال زيد وانه فاعل في تركيب الحروف، فلفظ في مثلا في مثل زيد في الدار لا يكون له معنى اصلا وانما هي علامة لتعرف معنى الدار وانها معنى ايني من حيث كونها مكان زيد قبال كونها معنى عينيا ومن الاعيان الخارجية وحينئذ فلفظة في قولك زيد في الدار، مما لا معنى له اصلا في هذا التركيب وانما المعنى كان في الدار من حيث كونها مكان زيد ومعنى ايني وقد جيء بكلمة في لتعرف حال الدار وخصوصية معناها، وهكذا لفظ من وعلى ونحوهما من الحروف، وحينئذ فلا يكون للحروف معنى اصلا وانما هي مجرد علامات لمعان تحت الفاظ غيرها.
ولكن مثل هذا المشرب مرمى بالضعف عند المحققين لذهابهم طرا إلى ان للحروف معاني في نفسها كما يكشف عنه تعريفهم للحروف بانها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية قبالا للاسم الذي دل على معنى مستقل بالمفهومية، وهكذا تعريفهم الاخر لها بان الحرف هو ما دل على معنى في غيره قبال الاسم الذي دل على معنى في نفسه، فان من المعلوم ان الغرض من هذا التعريف هو بيان ان للحرف معنى، غير ان معناه كان قائما بالغير نظير الاعراض لا ان معناه كان تحت لفظ الغير وان الحرف علامة لذلك كما هو واضح.
كيف وان مثل الدار في المثال وكذا السير والبصرة انما هي من اسامي الاجناس وهى حسب وضعها لا تدل الاعلى المهية المهملة وذات المعنى بما هي عارية عن الاطلاق والتقييد ولذا تحتاج في مقام اثبات ان مراد المتكلم هو المعنى الاطلاقى العارى عن الخصوصيات إلى مقدمات الحكمة كي يحكم بان مراد المتكلم من اللفظ هو المعنى الاطلاقي.
وحينئذ نقول بانه على فرض ان تكون تلك الخصوصية تحت لفظ الغير و مرادة منه يلزم استعمال لفظ الدار والسير والبصرة في مثل زيد في الدار وسرت من البصرة في معنى الخاص فيلزمه المصير إلى المجاز حينئذ لأنه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلى في الفرد والخصوصية، وهو كما ترى! فلا محيص حينئذ الا من الالتزام بعدم استعمال لفظ الدار الا في معناها الكلي اعني الطبيعة المهملة وكونه من باب اطلاق الكلي على الفرد وارادة الخصوصية بدال اخر كما في قوله جاء رجل من اقصى المدينة وعليه ونقول: بانه بعد خروج القيد والخصوصية عن تحت لفظ الدار والسير والبصرة فلابد وان يكون تحت دال اخر وهو في المقام لا يكون الالفظ في زيد في الدار ولفظ من في سر من البصرة هذا.
على ان ما افيد في طرف المشبه به وهو الرفع والنصب والجر من التسلم بانها مما لا معنى لها وانها ومجرد علامات لخصوصية وقوع زيد في جائنى زيد فاعلا في التركيب غير وجيه ايضا، إذ نقول فيها ايضا بان الرفع وكذا النصب والجر انما هي من مقولات الهيئة الكلامية، وحينئذ فبعد ان كان للهيئة وضع للدلالة على النسب الكلامية كما سنحققه ان شاء الله تعالى فلا جرم كان للأعراب ايض معنى، حيث كان لها الدلالة على خصوصية النسبة الكلامية من حيث الفاعلية والمفعولية والحالية ونحو ذلك من انحاء النسب وخصوصياتها، من غير ان تكون تلك الخصوصيات تحت لفظ الغير ومستفادة من لفظ الاسم وهو زيد أو المجئ، لما عرفت من ان لفظ زيد لا يدل بحسب وضعه الا على ذات زيد بما هي عارية عن خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا أو حالا في الكلام، فيحتاج حينئذ في افادة خصوصية وقوعه فاعلا أو مفعولا في الكلام إلى ان يكون بدال آخر وهذا الدال لا يكون الا الهيئة والرفع في قولك جاء زيد أو النصب في قولك: ضربت زيدا، وحينئذ فما افيد من التسلم على عدم المعنى للأعراب وانها علامة محضة لتعرف حال الاسم من حيث وقوعه فاعلا ومفعولا أو حالا في التركيب الكلامي مشبه للحروف بها ايضا في ذلك واضح البطلان في كل من المشبه والمشبه به كما هو واضح، وحينئذ فبعدان ظهر فساد هذا المشرب يبقى الكلام في غيره من المشارب الاخر وانه بعد ان كان للحروف معان في نفسها فهل هي من سنخ المعاني الآلية ؟ أو انها من سنخ الاعراض الخارجية في قيامها بمعروضاتها ؟ أو انها من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين؟ حيث ان فيه وجوها واقوالا منشأه ما هو المعروف المشهور من تعريفها:
بانه مفاهيم تكون في نفس حقيقتها غير مستقلة بالمفهومية المعبر عنها: تارة بانها ما دل على معنى في غيره، واخرى بانها ما دل على معنى غير مستقل بالمفهومية، قبالا للاسم الذي عرفوه: بانه ما دل على معنى في نفسه ومستقل بالمفهومية.
ففي الحقيقة منشأ هذ النزاع انما هو في وجه عدم استقلال المعنى الحرفي وكيفية احتياجه وقيامه بالغير، وانه من قبيل قيام المرآة بالمرئي في كونه ملحوظا باللحاظ الآلي ومنظورا بالنظر المرآتى، أو من قبيل قيام الاعراض الخارجية بمعروضاتها، أو من قبيل الارتباطات القائمة بالطرفين بحيث كان عدم استقلال المعنى الحرفي باعتبار نفس ذاته لا باعتبار اللحاظ كما هو قضية الوجه الاول، والا ففي اصل كون المعنى الحرفي معنى غير مستقل لا شبهة فيه عندهم.
وحينئذ نقول بان المشارب في هذا المقام ثلاثة :
احدها: ما سلكه الفصول وتبعه المحقق الخرساني (قدس سره) وبعض آخر من كون معاني الحروف معاني آلية، وان الفرق بينها وبين الاسم انما هو باعتبار اللحاظ الآلي والاستقلالي والا فلا فرق بين المعنى الحرفي وبين المعنى الاسمي ، فإذا لو حظ المعنى في مقام الاستعمال باللحاظ الآلي يصير معنى حرفيا وإذا لو حظ باللحاظ الاستقلالي يصير معنى اسمي فيكون المعنى والملحوظ في الحالتين معنى واحدا لا تعدد فيه ولا تكثر، وانما الفرق بينهما من جهة كيفية اللحاظ من حيث الاستقلالية والآلية لمعنى آخر. ومن هذه الجهة ايضا التزموا بعموم الوضع والموضوع له في الحروف نظرا إلى كون ذات المعنى والملحوظ حينئذ معنى كليا وعدم كون اللحاظ الآلي كاللحاظ الاستقلالي موجبا لجزئيته.
ولعل عمدة النكتة في مصيرهم إلى اختيار هذا المشرب انما هو ملاحظة انسباق الخصوصيات والارتباطات الخاصة في موارد استعمال الحروف في قوله: زيد في الدار وسرت من البصرة أو من الكوفة، مع ملاحظة بعد كونها بحسب الارتكاز من قبيل المتكثر المعنى، فان ملاحظة هذين الامرين اوجبت مصيرهم إلى ان للحروف ايضا معاني كلية هي بعينها معاني الاسماء وانها مفاهيم كلية كمفهوم الابتداء الذي هو معنى لكلمة من ولفظ الابتداء، غايته انه جعل في الحروف بنحو يلاحظ مرآة لملاحظة المصاديق الخاصة من النسب الابتدائية الذهنية الحاصلة بين السير والبصرة ونحو ذلك. نعم على هذا لقول لما كان يلزمه صيرورة لفظ من ولفظ الابتداء مثلا من المترادفين كما في الانسان والبشر فيلزمه صحة استعمال كل منهما مكان الآخر مع انه بديهى البطلان، إذ لا يصح ان يقال بدل الابتداء خير من الانتهاء (من خير من إلى) وبدل سرت من البصرة إلى الكوفة (سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة) اعتذر عنه في الكفاية بان عدم صحة ذلك انما هو من جهة ما يقتضيه قانون الوضع حيث انه وضع الاسم لان يراد معناه بما هو وفي نفسه بخلاف الحرف فانه وضع لان يراد معناه لا كذلك بل هو آلة الملاحظة خصوصية حال المتعلق، ففي الحقيقة منشأ عدم صحة الاستعمال المزبور انما هو حيث قصور الوضع وعدم اطلاقه لم إذا لم يستعمل كذلك لا من جهة تقيد المعنى والموضوع له فيهما باللحاظ الاستقلالي والآلي لان ذلك من المستحيل لما فيه من التوالي الفاسدة التي : منها لزوم عدمه صدقه على الخارجيات لان الامر المقيد باللحاظ الذهني كل عقلي لا موطن له الا الذهن فيلزمه امتناع امتثال مثل قوله: سر من البصرة إلى الكوفة الا مع التجريد والغاء الخصوصية.
ومنها لزوم اجتماع اللحاظين في مقام الاستعمال: احدهما ما هو المأخوذ في ناحية نفس المعنى والمستعمل فيه، وثانيهما ما به قوام الاستعمال، فيلزمه حينئذ تعلق اللحاظ بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ. ومنها اقتضائه لجزئية المعنى في الاسماء ايض باعتبار ان اللحاظ الاستقلالي كاللحاظ الآلي مع ان ذلك كما ترى، ولا من جهة وجود المانع عن الاستعمال المزبور مع اطلاق الوضع واقتضائه جواز استعمال كل من الاسم والحرف في معناه ولو لا على الكيفية المزبورة، كما هو واضح.
الثاني من المشارب : ما يظهر من بعض آخر من ان معاني الحروف معان قائمة بغيرها وانها من سنخ الاعراض القائمة بمعروضاتها كالسواد والبياض، وهذا المشرب هو ظاهر كل من عبر عنه بانها حالة لمعنى آخر.
والفرق بين هذا المشرب وسابقه واضح، فانه على هذا المشرب يكون المعنى الحرفي بذاته وحقيقته مبائنا مع المعنى الاسمي ، حيث كان المعنى الحرفي حينئذ من سنخ المحمولات بالضميمة ومن قبيل الاعراض الخارجية التي وجودها في نفسه عين وجودها لغيرها، فيغاير ذاتا وحقيقة مع الاسم الذي لا يكون معناه كذلك، بخلافه على مشرب الكفاية فانه عليه لا يكون اختلاف بين المعنى الاسمي والمعنى الحرفي ذات وحقيقة وانما الاختلاف بينهما كان من جهة كيفية اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية مع كون الملحوظ فيهما واحدا ذاتا وحقيقة، ومن ذلك عند هؤلاء لو انقلب النظر ولو حظ المعنى استقلالا وبما هو شيء في نفسه ينقلب المعنى عن كونه معنى حرفيا إلى المعنى الاسمي وبالعكس.
وبذلك البيان ظهر الفرق بينهما من جهة الاستقلالية والتبعية ايض حيث كان الاستقلالية والتبعية على المسلك الاول من صفات اللحاظ من حيث توجه اللحاظ إلى المعنى تارة بنحو الاستقلال واخرى بنحو الآلية والمرآتية إلى الغير كما في نظرك إلى المرآة تارة مرآة لملاحظة وجهك واخرى استقلالا لملاحظة نفسها للحكم عليها بان هذه المرآة احسن من تلك، بخلافه على المسلك الثاني فان الاستقلالية والتبعية على هذا المسلك انما كانت من صفات نفس المعنى والملحوظ من حيث تحققه تارة في الذهن محدودا بحد مستقل وغير متقوم بالغير واخرى لا كذلك بل حالة لمعنى آخر وقائما به كقيام العرض بمعروضه مع كونه في مقام اللحاظ في الصورتين ملحوظا استقلالا لا مرآة. وحينئذ فكم فرق بين المشربين في الاستقلالية والتبعية ونحوى القيام بالغير، فانه في الحقيقة على الاول لا يكون للمعنى الحرفي قيام بالغير اصلا ولو كان فإنما هو قيام زعمي تخيلي، بخلافه على الثاني، فان قيام المعنى الحرفي بالغير عليه قيام حقيقي لزعمي، كما هو واضح. الثالث من المشارب في الحروف: ما سلكه جماعة من الاساطين من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الخاصة والنسب والاضافات المتحققة بين المفهومين التي هي من سنخ الاضافات المتقومة بالطرفين، فكان لفظ في قولك: الماء في الكوز مثل موضوعا للربط الخاص الذي كان بين مفهوم الماء ومفهوم الكوز، وهكذا لفظ من في قولك: سرت من البصرة والى وعلى وحتى ونحوها من الحروف بل الهيئات ايضا كما سيأتي ان شاء الله، فيكون الجميع موضوعا للروابط الخاصة الذهنية بين المفهومين لكن لا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي بل ما هو واقع الربط الذهني ومصداقه بالحمل الشايع، فانك إذا لا حظت السير الخاص المضاف بدوه إلى البصرة وكذلك الماء والكوز تجد في نفسك امورا ثلاثة:
مفهوم السير ومفهوم البصرة والتعلق الخاص بينهما، وهكذا في مثال الماء في الكوز، فكان لفظ في ولفظ من في المثالين موضوعا لذاك الربط والتعلق الخاص الذي بين مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز لانه كما يحتاج مفهوم السير والبصرة ومفهوم الماء والكوز إلى لفظ خاص يحكى عنه في مقام تفهيم المقصود واظهار ما في الضمير كذلك ذلك الربط والتعلق الخاص بينهما حيث لا يكاد يغنى عنه الالفاظ الموضوعة للمفاهيم الاسمية التي بها تقوم تلك الروابط والاضافات الخاصة كما هو واضح. ثم ان الفرق بين هذا المشرب وسابقه ايضا واضح فان المعنى الحرفي على المشرب السابق كان من قبيل المحمولات بالضميمة المرتبط وجودها بالغير نظير الاعراض الخارجية كالسواد والبياض بخلافه على هذا المشرب الاخير فان المعنى الحرفي على ذلك كان من سنخ الروابط والاضافات المتقومة بالطرفين.
وبعبارة اخرى: المعنى الحرفي على المشرب المتقدم عبارة عن الشيء المرتبط وجوده بالغير وعلى المشرب الاخير عبارة عن نفس الربط بين الطرفين فالفرق بينهما واضح. وكيف كان فهذه مشارب اربعة في الحروف والمتعين منها هو المشرب الاخير.
وذلك: اما المشرب الاول منها فلما عرفت فساده وبطلانه بما لا مزيد عليه، واما المشرب الثاني منها الذي اختاره الفصول والكفاية (قدس سرهما) فلانه لا سبيل إلى دعواه ايضا، وذلك مضافا إلى ما فيه من مخالفته لم عليه الوجدان والارتكاز من انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالها ربما يساعد البرهان على خلافه ايضا، وذلك من جهة وضوح انه انما يمكن المصير إلى ذلك فيما لو امكن جعل المفهوم الكلي كمفهوم الابتداء مثلا مرآة إلى مصاديق النسب الابتدائية الذهنية بين المفهومين بخصوصياتها التفصيلية وهو من المستحيل جدا، بداهة ان مصاديق الروابط الخاصة التفصيلية مما يباين مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية ومعه كيف يمكن حكاية الكلي بما هو كلي عن الروابط الجزئية الخاصة المفصلة ؟ فلا محيص حينئذ اما من الغاء الخصوصيات التفصيلية طرا و المصير إلى ان الموضوع له للفظ من مثلا عبارة عن مفهوم الابتداء الكلي أو النسبة الابتدائية التي هي جهة مشتركة بين مصاديق النسب الابتدائية الذهنية، أو المصير إلى ان الموضوع له فيها عبارة عن نفس الروابط الذهنية الخاصة، فعلى الثاني يلزمه الالتزام في وضع الحروف بكونها من باب عام الوضع وخاص الموضوع له وهو مناف لم اختاره فيها من كونها من باب عام الوضع والموضوع له، وعلى الاول وان كان يلزم عليه هذا المحذور الا انه يلزمه عدم انسباق الروابط الخاصة في موارد استعمالاتها بعد عدم امكان جعل المفهوم الكلي بما هو كلي مرآة لملاحظة الروابط الذهنية الخاصة، وهو كم ترى خلاف الوجدان كما هو واضح.
نعم لو اغمض النظر عن ذلك لا يرد عليه ما ربما يتوهم وروده عليه من لزوم صحة استعمال كل من الاسم والحرف مكان الاخر فيقال بدل سرت من البصرة إلى الكوفة سرت ابتداء البصرة انتهاء الكوفة، إذ قد عرفت فيما تقدم الاعتذار عن ذلك بان عدم صحة استعمال كل من الاسم والحرف حينئذ مكان الآخر انما هو من جهة قصور الوضع وتضيق دائرته وعدم اطلاقه الناشئ ذلك الضيق من جهة تضيق الغرض الداعي على الوضع وأخصيته، باعتبار ان الغرض من وضع الحروف انما هو لان يراد معناه لا بما هو شيء في حياله بل بما هو مرآة لملاحظة خصوصية حال المتعلق وفي وضع الاسماء لان يراد معناها لا كذلك بل بما هو وفي نفسه، فان قضية أخصية دائرة الغرض توجب قهر تضيقا في دائرة وضعه ايضا بنحو يخرجه عما له من سعة الاطلاق الشامل لحال عدم لحاظ الآلية في الحروف والاستقلالية في الاسماء، كما نظيره ايضا في الواجبات العبادية الموقوف صحتها على قصد القربة واتيانها بدعوة الامر المتعلق بها، فكما ان أخصية دائرة الغرض هناك أو جبت تضيقا في دائرة الامر والارادة عن الشمول لغير ما هو المحصل لغرضه، وهو العمل الماتى عن داع قربى، فلا يكون للمتعلق اطلاق يعم حال عدم الدعوة ولا كان مأخوذا فيه قيد دعوة الامر، كذلك في المقام ايضا، فإذا كان الغرض من وضع الحروف مثلا تفهيم معناه حال كونه ملحوظا باللحاظ الآلي بنحو القضية الحينية وفى الاسماء تفهيم معناها حال كونها ملحوظة باللحاظ الاستقلالي فلا جرم يتضيق من اجله دائرة موضوع وضعه ايضا بنحو يخرج عماله من سعة الاطلاق ويختص بذات المعنى لكن في حال كونه ملازما مع اللحاظ الآلي في الحروف والاستقلالي في الاسماء بنحو القضية الحينية لا بنحو التقيد، لان ذلك كما عرفت من المستحيل، من جهة استحالة تقيد المعنى باللحاظ المتأخر عنه، ومن المعلوم ان قضية ذلك قهرا هو عدم صحة الاستعمال المزبور على النحو المزبور من جهة عدم كونه من الاستعمال فيما وضع له بعد فرض قصور الوضع وعدم اطلاقه في الحروف والاسماء لحال عدم لحاظ المعنى مرآة أو استقلالا كما هو واضح. والى مثل هذا البيان ايضا نظر الكفاية (قدس سره) في جوابه عن الاشكال المزبور بانه قضية قانون الوضع واشتراط الواضع لان يراد في الحروف معناها بما هي حالة لمعنى اخر وفى الاسماء بما هو وان كان في عبارته قصور في افادة ذلك، لا ان المقصود من ذلك بيان اشتراط الواضع بعد الوضع على المستعملين لان لا يستعملوا الحروف الا في حال لحاظ المعنى مرآة لحال المتعلق ولا الاسماء الا في حال لحاظ المعنى مستقلا ليكون من قبيل الشرط في ضمن العقد كما توهم، كي يورد عليه بان لا معنى محصل ذلك، ولا ملزم لاتباع شرط الواضع بعد اطلاق المعنى والموضوع له وعدم تقيده بصورة وجود القيد والخصوصية، كيف وان بطلان مثل هذا الاشتراط على المستعملين لو لا رجوعه إلى الارشاد إلى كيفية وضعه وعدم كونه مطلقا كما ذكرناه غنى عن البيان فلا ينبغي ان ينسب ذلك إلى من له ادنى دراية فضلا عن القائل المزبور. وحينئذ فالعمدة في بطلان هذا المشرب هو ما اوردناه عليه من مخالفته لما هو قضية الوجدان والارتكاز بل ومساعدة البرهان ايضا على امتناعه، نظرا إلى ما عرفت من امتناع كون الكلي مرآة للجزئيات والمصاديق بخصوصياتها التفصيلية خصوصا مع ما فيه ايضا من اقتضائه لزوم صرف جميع التقيدات عن مدلول الهيئة وارجاعها تماما إلى المادة والمتعلق نظرا إلى فرض كونها حينئذ على هذ المشرب غير ملتفت إليها كما لا يخفى، مع ان ذلك كما ترى خلاف الوجدان. وحينئذ بعد بطلان هذا المشرب ايضا يدور الامر بين المشرب الثالث والرابع وفي مثله لا ينبغى التأمل في ان الاخير هو المتعين، فان الوجدان في نحو قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة ونحو ذلك لا يرى من لفظ في ومن الا الروابط الخاصة الذهنية بين مفهومي الماء والكوز ومفهومي السير والبصرة، لا انه يرى من لفظ في الشيء المرتبط بالغير نظير السواد والبياض ولذلك لا يصح الاكتفاء ايضا بذكر متعلق واحد بقولك سرت من أو من البصرة بل لابد من ذكر المتعلقين فان ذلك شاهد صدق على كون مدلول الحروف من سنخ النسب والارتباطات المتقومة بالطرفين. ثم انه بعد ما ظهر من كون معاني الحروف عبارة عن الروابط الذهنية بين المفهومين، يبقى الكلام في انها ايجادية توجد باستعمال الاداة، أو انها غير ايجادية بل كانت منبئة تنبئ عنها الاداة والهيئات كما في الاسماء، حيث ان فيها وجهين : وقد ذهب بعض الاساطين إلى الاول والتزم بكونها ايجادية حيث افاد في وجه ايجادية معاني الحروف بان الاسماء انما كانت موضوعة للطبائع المجردة عن خصوصية الارتباط بالغير فكان المفهوم الماء ومفهوم الكوز مفهومين متغايرين في الذهن غير مربوط احدهما بالآخر عند لحاظهما، ولكنك بقولك: (الماء في الكوز) توجد بلفظ (في) ربطا بين مفهومي الماء والكوز فكان هذا الربط جائيا من لفظ (في) والا فبدونه كان المفهومان اجنبيين لا ربط لاحدهما بالآخر، وهكذا في نحو السير والبصرة، فتكون الحروف كلها حينئذ آلات لإيجاد معانيها، بل وهكذا الهيئات ايضا إذ كان مفهوم كلمة الماء معنى متعقلا في ذاته، استعمل فيه كلمة الماء ام لا، كان الاستعمال في ضمن الهيئة الكلامية أو على نحو الافراد فلا فرق بين ان يقال الماء بارد مثلا أو الماء بلا تركيب كلامي، حيث كان لهذا اللفظ في الصورتين معنى مستعمل فيه، الا ان الهيئة الكلامية توجد ربطا بينه وبين البارد بعد ان لم يكن بينهما هذا الربط. وهذا بخلافه في المعاني الاسمية فأنها متحققة في حد ذاتها في عالم المفهوم ويكون استعمالها لأخطارها في الذهن. وحينئذ فكم فرق بين الاسماء وبين الحروف والهيئات، فان الاسماء كلها تكون حاكية ومنبئة عن معانيها التي هي المفاهيم المستقلة في حد ذواتها بخلاف الحروف والهيئات فان هذه طرا تكون آلة لأحداث معانيه.
ثم انه استشهد لذلك ايضا بالخبر المروي في المعالم عن ابى السلام عن ابى الاسود الدئلي عن امير المؤمنين (عليه السلام) بقوله : (الاسم ما انبأ عن المسمى والفعل ما انبأ عن حركة المسمى والحرف ما اوجد معنى في غيره)، بتقريب ان في العدول في الحروف عن الانباء كما في الاسماء والافعال إلى الايجاد دلالة على انه لا معنى للحروف تكشف عنها الاداة كما في الاسماء والافعال وان معانيها معان ايجادية تحدث باستعمال الفاظها.
نعم في نسخة اخرى هكذا بدل (والحرف ما اوجد معنى في غيره) (والحرف ما انب عن معنى ليس باسم ولا فعل) ولكنه رجح الاول من جهة علو مضمونه الموجب لاستبعاد ان يناله يد المجعولية، بخلاف ما في النسخة الاخرى فان فيه شواهد الجعل، باعتبار انه لا يكون مثل هذا التفسير مختصا بالحرف فيجرى في الاسم والفعل ايضا فان الاسم ايضا لا يكون بفعل ولا حرف، فكان من نفس هذا التعبير في الحروف بانها ما توجد معنى في غيره يحصل الاطمئنان بصدوره من قائله ولكنه باعتبار دقته وغموضه خفى على الرواة فصحفوا الخبر الشريف وعبروا مكان هذا التعبير بانها ما لا تكون اسما ولا فعلا.
هذا محصل ما افيد في وجه كون معاني الحروف معاني ايجادية لا أنباءيه. وقد يظهر من بعض آخر ، التفصيل في الحروف بين مثل اداة النداء ولام الامر والحروف المشبهة بالفعل وبين غيرها من الحروف فالتزم بالإيجادية في نحو اداة النداء والاستفهام والحروف المشبهة بالفعل وقال بالأنباء في غيرها هذا.
ولكن التحقيق خلافه وانه لا يكون مداليل الحروف الا كمداليل الاسماء في كونها انبائية محضة لا ايجادية.
وما افيد في وجه كون مداليل الحروف والهيئات ايجادية من التقريب المزبور لو تم فإنما هو على مبنى المشهور من القدماء في اسامى الاجناس من كون مداليلها عبارة عن نفس الطبائع المجردة التي تقتضيها مقدمات الحكمة عند السلطان إذ حينئذ بعد عراء المعنى الاسمي دائما في الذهن عن خصوصية الارتباط بالغير امكن المجال لدعوى ايجادية خصوصية جهة ارتباط احد المفهومين بالآخر، والا فعلى ما هو التحقيق من مسلك السلطان - من وضع اسامي الاجناس للمهية المبهمة والجامع بين الفاقد للخصوصية وواجدها الذي لا يكاد تحققه في الذهن الا مقرونا مع احدى الخصوصيتين : اما التجرد والاطلاق، واما الواجد للقيد والخصوصية فلا يكاد يتم هذه المقالة، حيث انه بعد عدم امكان تحقق ذلك الجامع في الذهن الا مقرونا مع خصوصية التجرد والاطلاق الذي يقتضيه مقدمات الحكمة أو مع خصوصية التقيد، نقول : بانه إذا لو حظ المعنى الاسمي مقرونا مع خصوصية ارتباطه بالغير في مثل سر من البصرة، والماء في الكوز، والزيد على السطح ونحو ذلك، واريد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة إلى ذهن المخاطب فلا جرم يحتاج إلى وجود دال وكاشف في البين يحكى به عما تصوره من الصورة الخاصة، ومن المعلوم حينئذ انه كما ان ذات المعنى الاسمي وهو الطبيعة المهملة تحتاج إلى كاشف في مقام الكشف عنها، كذلك ايضا جهة خصوصية ارتباطه بالغير، فيحتاج تلك ايضا إلى كاشف يكشف عنها، ولا يكون الكاشف عنها الا الارادة والهيئات كما هو الشأن ايض عند لحاظ المعنى مجردا عن القيد والخصوصية، حيث ان الاحتياج إلى مقدمات الحكمة حينئذ انما هو من جهة كشفها عن خصوصية التجرد والاطلاق والا فاللفظ حسب وضعه لا يدل الا على ذات المعنى والطبيعة المهملة بما هي متحققة تارة في ضمن الفاقد للقيد والخصوصية واخرى في ضمن الواجد لها.
وحينئذ فكما ان حيث خصوصية العراء وتجرد المعنى تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو مقدمات الحكمة، كذلك بعين هذا المناط حيث خصوصية ارتباط المعنى بالغير، فهى ايضا مما تحتاج إلى كاشف يكشف عنها وكان الكاشف عنها هو الاداة والهيئات. وحينئذ فلا يكون مداليل الحروف والهيئات الا كمداليل الاسماء في كونها منبئة تنبئ عنها الاداة لا انها كانت موجدة بالأداة، كما لا يخفى.
وبالجملة نقول: بان من راجع وجدانه يرى انه كما ان في مرحلة الخارج هيئات ونسبا خارجية متحققة من مثل وضع الحجر على حجر آخر وخشب فوق خشب وكون شيء في وعاء كالماء في الكوز، كذلك ايضا في عالم الذهن فان لنا ان نلاحظ ونتصور هيئات ونسبا على النحو الذي كانت في الخارج بان نلاحظ ونتصور في الذهن احجارا موضوعة بعضها فوق بعض بهذه الهيئة والنسبة والخاصة ونلاحظ ماء في كوز كما ان لنا ان نلاحظ احجارا بنحو لا يكون بينها ارتباط وذلك بملاحظة حجر ثم ملاحظة حجر آخر غير مرتبط بالحجر الاول وملاحظة ماء وكوز غير مرتبط احدهما بالآخر.
وبعد ذلك نسئل عن هذا القائل ونقول: بانه إذا تصور شخص ولا حظ الحجر الموضوع على حجر آخر بهذا الارتباط الخاص فاراد القاء ما تصوره من الصورة المرتبطة في ذهن لتفهيمه بان ما في ذهنه هو تلك الصورة الخاصة فهل له محيص الا وان يكشف عنها بقوله الحجر على حجر بجعل (الحجر) حاكيا حسب وضعه عن الذات المعروضة للهيئة و(على) عن حيث الارتباط الخاص الذي بين المفهومين، أو انه لابد ايضا وان يوجد النسبة والارتباط بين مفهومي الحجرين بالأداة ؟ لا شبهة في انه لا سبيل إلى الثاني لان المفروض حينئذ هو تحقق تلك الاضافة والارتباط الخاص بين المفهومين قبل هذا الاستعمال فيكون ايجادها من قبيل تحصيل الحاصل الذي هو من المستحيل.
وحينئذ فتعين الاول باعتبار ان ما هو المحتاج إليه حينئذ انما هو الكشف عما في ذهنه من الصورة الخاصة، ومعه لا محيص الا من المصير إلى كون الاداة والهيئات كاشفة عن مداليلها كما في الاسماء، وان في قولك الماء في الكوز أو سرت من البصرة أو صعدت على السطح ونحو ذلك كما كان لفظ الماء والكوز ولفظ السير والبصرة ولفظ الصعود والسطح ونحو كاشفا عن مداليلها، كذلك لفظ في ومن وعلى ايضا كان كاشفا عن الارتباط الخاص بين مفهومي الماء والكوز، والارتباط بين مفهومي السير والبصرة، ومفهومي الصعود والسطح. كيف وانه لم نتعقل مفهوما محصلا لإيجادية مداليل الحروف والهيئات، فانه ان اريد بإيجاديتها حضورها في الذهن باعتبار ما يكون النفس من الخلاقية للصور في وعاء الذهن فهو مسلم لا يعتريه ريب، ولكنه نقول: بان هذا المعنى لا يكون مختصا بمداليل الحروف والهيئات فيجرى في الاسماء ايضا، ففي مثل الماء في الكوز كان كل واحد من مفهوم الماء والكوز والنسبة الظرفية بينهما من موجدات النفس حسب ما لها من الخلاقية للصور بلا خصيصة لذلك بالحروف، ولكن لا يكون الموضوع له حينئذ هو هذه المفاهيم بقيد وجودها في الذهن بل الموضوع له حينئذ هو نفس المتصور الذي تعلق به اللحاظ والتصور، وذلك ايضا لا بما هو، بل بما هو يرى خارجيا وفي هذه المرحلة كما لا يكون مداليل الاسماء ايجادية كذلك الحروف ايضا.
وان اريد بإيجاد معاني الحروف كون الحروف موجدة لها في مقام الاستعمال فهو ايضا امر لا نتعقله بعد فرض تحقق تلك النسب والارتباطات الخاصة بين المفهومين قبل استعمال اداتها إذ هو حينئذ من تحصيل الحاصل وغير محتاج إليه، على انه نقول حينئذ بان لازم كاشفية الاسماء عن مداليلها انما هو تحقق مضامينا في رتبة سابقة عن كشف الالفاظ عنها كما هو شأن كل محكي بالنسبة إلى حاكيه، وحينئذ فلو كان شأن الاداة والهيئات هو الموجدية لمداليلها التي هي الارتباطات الخاصة بين مفاهيم الاسماء يلزمه تأخر صقع الارتباط بين المفهومين عن صقع الالفاظ والاداة المتأخر عن صقع مفهومي الاسمين بمرتبتين، نظرا إلى علية الاداة لوجود الارتباط بين المفهومين ولازمه حينئذ هو تقوم مثل هذا الربط الواقع في الصقع المتأخر بما يكون صقعه متقدم عليه بمرتبتين وهو كما ترى، بل لازمه ايضا هو اخراج جميع مثل هذه التقييدات عن حيز الطلب والارادة في الطلب المنشأ بالهيئة كما في نحو سر من البصرة إلى الكوفة ونحو اضرب زيدا في الدار، من جهة ان لازم موجدية الاداة والهيئات حينئذ للتقييدات والارتباطات هو وقوع جهة تقيد السير بالبصرة وتقيد زيد بالدار في المثال في الموطن المتأخر عن موطن مفهومي الاسمين، اعني ذات السير والبصرة، الملازم ذلك لكونه في عرض الطلب المنشأ بالهيئة، من جهة انه كما ان لفظ من في المثال علة لتحقق التقيد والارتباط الخاص بين مفهومي السير والبصرة كذلك الهيئة ايضا علة لإيجاد الطلب. ومن المعلوم حينئذ ان لازم وحدة الرتبة بين العلتين أي الهيئة ولفظ من انما هو عرضية معلوليهما وهما الطلب والتقيد ايضا، ولازمه هو خروج جهة التقييد عن حيز الطلب وتجريد متعلقه عنه، من جهة استحالة اخذ ما هو في عرض الطلب في متعلقه وفي رتبة سابقة عليه، مع ان ذلك كما ترى، فان بنائهم طرا في نحو هذه القضايا على اخذ جهة التقيد ايضا في الذات في مقام معروضيتها للطلب بجعل المتعلق عبارة عن الذات مع خصوصية التقيد بأمر كذا وكذا، ومن هنا يحكمون بوجوب تحصيل القيد مقدمة لحيث التقيد، لا على تجريد المتعلق والذات عن جهة التقيد، ولذا يقولون بان الواجب في مثل قوله سر من البصرة انما هو السير الخاص بما هو متخصص بخصوصية كونه مضافا بدؤه إلى البصرة، فهذا ايضا من المحاذير التي تترتب على القول بكون معاني الحروف والهيئات ايجادية احداثية.
ولكن ذلك بخلافه على القول بالكاشفية فيها، فانه لا يكاد يترتب عليه هذ المحذور من جهة امكان حفظ التقيد بالخصوصية على هذا القول في ناحية متعلق الطلب، نظرا إلى معلومية عدم اقتضاء مجرد العرضية بين الكاشفين العرضية بين المنكشفين ايض كما هو واضح.
فتلخص مما ذكرنا انه على ما هو التحقيق من مسلك السلطان في وضع اسامى الاجناس: من كونها موضوعة للمهية المهملة والجامع بين الطبيعة المجردة والمقيدة لا محيض من الالتزام بكون الحروف ايضا كالأسماء منبئة عن مداليلها لا موجدة لها فعند ملاحظة مفهومي الاسمين مرتبطا احدهما بالآخر كالماء في الكوز والسير من البصرة لابد في مقام الحكاية القاء ما في الذهن إلى المخاطب من جعل الاسم حاكيا عن مدلوله والاداة عن الارتباط الخاص بين المفهومين ولا سبيل حينئذ إلى دعوى موجدية الاداة للربط الخاص بين المفهومين بعد فرض تحقق الربط بينهما قبل ذكر الاداة كما هو واضح.
ثم انه مما ذكرنا ايضا ظهر انه لا فرق في مداليل الحروف والهيئات بين كونها من قبيل النسب الثابتة كما في المركبات التقيدية التوصيفية أو من قبيل النسب الايقاعية المتحققة في المركبات التامة فكما انه في النسب الثابتة لا يكون الحروف والهيئات الا كاشفة عنها ككشف الاسماء عن مداليلها كذلك في النسب الايقاعية ففيها ايضا لا يكون شأن الحروف والهيئات الا الكشف والانباء عنها.
ومن هذا البيان ظهر ايضا ضعف ما افيد من التفصيل المزبور في الحروف بين مثل اداة النداء وما شابهها كأداة التنبيه والندبة والاستفهام والتمني والترجي ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن ايقاع النسبة، وبين مثل الاداة الجارة ونحوها مما يكون مداليلها عبارة عن النسبة الثابتة بجعل الطائفة الثانية حاكية ومنبئة عن مداليلها كالأسماء والطائفة الاولى موجدة لها، بخيال ان قولك: يا زيد وانت وهذا ونحوها انما هو موجد لمصاديق النداء والاشارة والاستفهام وانه كان بمنزلة تحريك اليد والعين في مقام النداء والاشارة والخطاب ، فكما انك بتحريك اليد والعين توجد مصداق النداء حقيقة ومصداق الاشارة والخطاب والبعث نحو الشيء كذلك ايضا بتلك الاداة فانك بقولك يا زيد توجد مصداق النداء، وبقولك انت توجد فردا للخطاب، وبقولك هذا توجد مصداق الاشارة، وبقولك ليضرب مصداق البعث إلى الضرب من دون ان يكون تحقق لتلك المصاديق قبل هذا الاستعمال. ولكن ذلك بخلافه في مثل الاداة الجارة من نحو قولك:
الماء في الكوز، وسرت من البصرة إلى الكوفة فانه فيها قبل الاستعمال كان لتلك النسبة واقع تطابقه تارة ولا تطابقه اخرى.
إذ نقول: بان منشأ هذا التوهم انما هو توهم وضع هذا الاداة للنداء الخارجي والاشارة والخطاب والاستفهام الخارجية كما يظهر من التطهير بتحرك اليد والرأس والعين للإشارة والنداء والخطاب، فانه على هذا الاس لا محيص من القول بكونها آلات لإيجاد معانيه وان معانيها معان احداثية. ولكنه توهم فاسد، كيف وان المعنى الحرفي ليس الا عبارة عن الربط الخاص بين المفهومين لا الربط بين الخارجين فلو انه كان مثل هذه الاداة موضوعا لا يقاع مصداق النداء الخارجي والاستفهام والبعث والتمني الخارجي يلزم كون معانيها من سنخ الارتباطات المتقومة بالخارجيات، وهو كما ترى، حيث لا يلائم مع حرفيه المعنى حرفية المعنى فيها من جهة ان المعنى الحرفي كما عرفت وعليه ايض اطباقهم انما هو عبارة عن الروابط الذهنية القائمة بالمفاهيم، كما يشهد لذلك ايضا استعمال تلك الاداة احيانا في معانيها لا بداعي النداء والاستفهام والبعث الحقيقي الخارجي بل بغيره من الدواعي الاخر من هزل أو سخرية كما هو كذلك ايضا في اداة التمني والترجي ونحوها كقولك:
يا ليتني كنت جمادا أو حمارا، مع كون الاستعمال المزبور ايضا على نحو الحقيقة دون المجاز فان ذلك ايضا شاهد عدم كونها الا موضوعة لا يقاع الربط والنسبة ذهنا بين المفهومين في موطن الاستعمال المطابق تارة للربط الخارجي واخرى لا، غايته انه لا بما هو ربط ذهني بحيث يلتفت إلى ذهنيته، بل بما انه يرى خارجيا تصورا وان كان تصديقا يقطع بخلافه.
وعليه لا محيص من الالتزام بما ذكرن من الكاشفية فيها ايضا كما في الاسماء حيث كانت الاداة المزبورة حينئذ كاشفة عن صورة ايقاع الربط بين المفهومين الموجودة في ذهنه في مرحلة تصوره قبالا للربط الثابت بين المفهومين التي هي مفاد الاداة الجارة. نعم لما لا يكون مثل هذا الربط الإيقاعي ملحوظا الا خارجيا ربما اوجب ذلك تخيل كون المعنى والموضوع له فيها عبارة عن ايقاع الربط الخارجي ولكنك بعد ما تأملت ترى كونها من قبيل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
واما الاستشهاد المزبور بالخبر المروى عن علي (عليه السلام) ففيه ما لا يخفى إذ مضافا إلى اجمال الخبر من جهة اختلاف النسخ فيه كما عرفت والى كونه مروي من طرق غيرنا كما ترى لا مجال للاستدلال بمثله في المسألة حيث انه ليس مسئلتنا تلك من المسائل التي يستدل لها بالأخبار الاحاد كما لا يخفى.
مع انه يمكن توجيه الرواية ايضا بما لا ينافي ما ذكرناه من الكشف والانباء في الحروف، بان يقال: بان النكتة في العدول فيها في الحروف إلى الايجاد انما هي ملاحظة كون النسب التي هي المعنى الحرفي علة لتحقق الهيئة في الذهن كما هو كذلك ايضا في النسب الخارجية، كالنسب بين ذوات الاخشاب بالنسبة إلى تحقق الهيئة السريرية في الخارج، وذلك ايضا بضميمة ما كان بين الالفاظ ومعانيها من العلاقة والارتباط الخاص الموجب لفنائها فيها، فانه باعتبار ان الاداة مرآة لمعانيها التي هي النسب الخاصة بين المفهومين وموجدية تلك النسب للهيئة في الذهن اضيف صفة الموجدية في الرواية إلى الاداة فعبر عنها بهذه العناية بانها أو جدت معنى في غيره فتأمل.
وعلى كل حال فهذا كله فيما يتعلق بالمقام الاول في شرح حقيقة المعنى الحرفي، ولقد عرفت ما هو الحق فيها من كونها عبارة عن الاضافات الخاصة والارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين مع كونها ايضا كالأسماء انبائية لا احداثية من دون فرق في ذلك بين كون النسب ايقاعية أو وقوعية كما هو واضح.
واما المقام الثاني : فالكلام فيه كم عرفت انما هو في عموم الموضوع له فيها وخصوصه، فان المشهور فيها على كونها من قبيل عام الوضع وخاص الموضوع له حتى انه يظهر من بعضهم كصاحب تشريح الاصول جعل ذلك من عيوب المعنى الحرفي فانه على ما حكى عنه الاستاذ قال: بان من عيوب المعنى الحرفي عدم تصور عموم الموضوع له فيها، ولعله من جهة ما يرى من كون المنسبق منها في موارد استعمالاتها هي المصاديق الخاصة من الروابط التي لاختلافها لا يجمعها جامع واحد، حيث كان شخص الربط الحاصل من اضافة السير بالبصرة في قولك سرت من البصرة غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى الكوفة في قولك:
سرت من الكوفة، وهو ايضا غير شخص الربط الحاصل من اضافته إلى مكان آخر، وهكذا، حيث انه حينئذ يقال: بانه بعد عدم جامع في البين بين تلك الروابط الخاصة الا مفهوم الربط الذي هو معنى اسمي لا حرفي لا مناص الا من القول بخصوص الموضوع له فيها هذا.
ولكن نقول: بانه انما يكون الامر كذلك بناء على ما هو المعروف المشهور من عموم الوضع والموضوع له إذ بعد ما يرى من عدم انسباق معنى عام في الذهن في موارد استعمالات الحروف بل كون المنسبق في الذهن منه هي اشخاص الروابط الخاصة المبائنة بعضها مع البعض الاخر لا مناص من القول بخصوص الموضوع له فيها، والا فبناء على القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له الذي نحن تصورناه فلا قصور في دعوى عموم الوضع والموضوع له، إذا مكن حينئذ دعوى ان الموضوع له فيها في كل صنف منها من الروابط الابتدائية والروابط الانتهائية والظرفية وهكذا عبارة عن جامع بين اشخاص تلك الروابط الذى به تمتاز الروابط الخاصة من كل صنف عن اشخاص الروابط الخاصة من صنف آخر، كما نشاهد ذلك بالوجدان ايضا في الروابط الخاصة من كل صنف وطائفة كالروابط الابتدائية بان فيها وحدة سنخية وجامعا محفوظا توجب امتياز هذه الطائفة من الروابط عن الطوائف الاخرى من الروابط الانتهائية والظرفية والاستعلائية ونحوها، فان مثل هذا الجامع المحفوظ وان لم يكن له وجود مستقل في الذهن بنحو امكن لحاظه وتصوره مستقلا حيث كان وجوده دائما في ضمن الفرد والخصوصية ولكنه في مقام الوضع امكن وضع اللفظ بازائه ليكون الخصوصيات طرا خارجة عن دائرة الموضوع له، إذ يكفى في الوضع لحاظ المعنى الموضوع له ولو بوجه اجمالي بالإشارة الا جمالية إليه بما هو المحفوظ في ضمن الروابط الخاصة، وعليه فيكون الموضوع له في الحروف كالوضع عاما لا خاصا ويكون استفادة الخصوصيات حينئذ من قبيل تعدد الدال والمدلول.
هذا كله بناء على ما سلكناه في معنى الحروف من كونها عبارة عن الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفاهيم من دون فرق في ذلك بين القول بالإيجاد فيها أو القول بالكشف والانباء، واما على بقية المسالك الاخر فعموم الوضع والموضوع له فيها اوضح كما لا يخفى.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|