المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17607 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01

Rules of Thermochemistry
1-7-2017
قطاع جايجر
20-12-2021
Not all ion-derived solids are "ionic"
10-5-2020
تقليم شجرة القشدة
12-7-2016
Inverse Function Integration
17-9-2018
الاهتمام بالتنمية المستدامة - قمة الأرض (جوهانسبورغ) 2002
2023-03-08


في صرف اللّه تعالى العرب عن المعارضة  
  
1499   03:40 مساءاً   التاريخ: 17-1-2016
المؤلف : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي
الكتاب أو المصدر : الموضح عن جهة إعجاز القرآن
الجزء والصفحة : ص 91-106 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / الإعجاز القرآني / الصرفة وموضوعاتها /

ممّا يدلّ على أنّ اللّه تعالى صرف فصحاء العرب عن معارضة القرآن ، وحال بينهم وبين تعاطي مقابلته :

أنّ الأمر لو كان بخلاف ذلك - وكان تعذّر المعارضة المبتغاة والعدول عنها لعلمهم بفضله على سائر كلامهم في الفصاحة وتجاوزه له في الجزالة- لوجب أن تقع منهم على كلّ حال؛ لأنّ العرب الّذين خوطبوا بالتّحدّي والتّقريع ، ووجهوا بالتّعنيف كانوا متى أضافوا فصاحة القرآن إلى فصاحتهم وقاسوا كلامه بكلامهم علموا أنّ المزيّة بينهما إنّما تظهر لهم دون غيرهم ممّن نقص عن طبقتهم ونزل عن درجتهم ، ودون النّاس جميعا ممّن لا يعرف الفصاحة ولا يأنس بالعربيّة .

وكان ما عليه ذوو المعرفة بفصيح الكلام من أهل زماننا- من خفاء الفرق عليهم بين مواضع من القرآن وبين فقر العرب البديعة وكلمهم العربيّة- سابقا عندهم ، متقرّرا في نفوسهم ، فأيّ شي‏ء قعد بهم عن أن يعمدوا (1) إلى بعض أشعارهم الفصيحة وألفاظهم المنثورة البليغة فيقابلوه به ، ويدّعوا أنّه مماثل لفصاحته وزائد عليها ، لا سيّما وخصمنا في هذه الطّريقة يدّعي أنّ التحدّي وقع‏ بالفصاحة دون النّظم وغيره من المعاني المدّعاة في هذا الموضع ؟! فسواء حصلت المعارضة بمنظوم الكلام أو بمنثوره ، فمن‏ (2) هذا الّذي كان يكون الحكم في هذه الدّعوى ، وجماعة الفصحاء أو جمهورهم كانوا حرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ومن أهل الخلاف لدعوته والصّدود عن محجّته؛ لا سيّما في بدو الأمر وأوّله ، وقبل أوان استقرار الحجّة وظهور الدّعوة وكثرة عدد الموافقين ، وتظافر الأنصار والمهاجرين ؟

ولا تعمل إلّا على هذه الدّعوى ، (لو حصلت لردّها) (3) بالتّكذيب من كان في حرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله من الفصحاء ، أما كان اللّبس يحصل ، والشّبهة تقع لكلّ (من لم يساوها ، ولا في المعرفة) (4) من المستجيبين للدّعوة والمنحرفين عنها من العرب ، ثمّ لطوائف النّاس جميعا ، كالفرس والرّوم والتّرك ، ومن ماثلهم ممّن لا حظّ له في العربيّة ؟

وعند تقابل الدّعاوى في وقوع المعارضة موقعها ، وتعارض الأقوال في الإصابة بها مكانها ، تتأكّد (5) الشّبهة ، وتعظم المحنة ، ويرتفع الطّريق إلى إصابة الحقّ؛ لأنّ النّاظر إذا رأى جلّ الفصحاء- وأكثرهم يدّعي وقوع المكافاة (6) والمماثلة ، وقوما منهم ينكر ذلك ويدفعه- كان أحسن أحواله أن يشكّ في القولين ، ويجوّز [على‏] كلّ واحد منهما (7) الصّدق والكذب؛ فأيّ شي‏ء يبقى من‏ المعجز بعد هذا ؟! والإعجاز لا يتمّ إلّا بالقطع على تعذّر المعارضة على القوم ، وقصورهم عن المماثلة أو المقاربة.

والتّعذّر لا يعلم إلّا بعد حصول العلم بأنّ المعارضة لم تقع مع توفّر الدّواعي وقوّة الأسباب؛ فكانت حينئذ لا تقع الاستجابة من عاقل ، ولا المؤازرة من متديّن.

وليس يحجز العرب عمّا ذكرناه ورع ولا حياء؛ لأنّا وجدناهم لم يرعووا عن السّبّ والهجاء ، ولم يستحيوا من القذف والافتراء. وليس في ذلك ما يكون حجّة ولا شبهة ، بل هو كاشف عن شدّة حنقهم ، وقوّة عداوتهم ، وأنّ الحيرة قد بلغت بهم إلى استحسان القبيح الّذي كانت نفوسهم تأباه وتعافه ، وطباعهم تشنأه وتنفر منه! وأخرجهم ضيق الخناق وقصر الباع إلى أن أحضر أحدهم‏ (8) أخبار رستم واسفنديار (9) ، وجعل يقصّ بها ، ويوهم النّاس أنّه قد عارض ، وأنّ المطلوب بالتحدّي هو القصص والأخبار!

وليس يبلغ بهم الأمر إلى هذا وهم متمكّنون ممّا يوقع الشّبهة ، ويضعف أمر الدّعوة ، فيعدلوا عنه مختارين ، وأحلامهم وإن وفرت ، وعقولهم وإن كملت ، وادّعي أنّها تمنع أمثالهم من الإقدام على المباهاة ، والتّظاهر بالمكابرة ، وادّعاء ما تشهد أنفسهم ببطلانه ، وتوقن قلوبهم بفساده؛ فإنّ الحال الّتي دفعوا إليها حال تيسّر العسير ، وتصغّر الكبير. ومن أشرف على الهوان بعد العزّة والقصور بعد القدرة خفّ حلمه ، وعزب (10)‏ علمه ، وركب ما كان لا يرتكبه ، وأقدم على ما كان لا يقدم عليه .

وليس يمكن أحدا أن يدّعي أنّ ذلك ممّا لم يهتد إليه العرب ، وأنّه لو اتّفق خطوره ببالهم لفعلوه ، غير أنّه لم يتّفق ؛ لأنّهم كانوا من الفطنة واللّبابة على ما لا يخفى عليهم معه أنفذ الكيدين ، وألطف الحيلتين ، فضلا عن أن يذهبوا عن الحيلة وهي بادية ، ويعدلوا عن المكيدة وهي غير خافية.

هذا ، مع صدق الحاجة وقوّتها ، وضيق الحال وشدّتها ، والحاجة تفتق الحيلة ، وتبدي المكنون ، وتظهر المصون.

وهب لم يفطنوا لذلك بالبديهة وقبل الفكرة ، كيف لم يقعوا عليه مع التغلغل ، ويظهروا به مع التّوصّل ؟! وكيف لم يتّفق لهم مع فرط الذّكاء وجودة الآراء ، من الكيد إلّا أضعفه ، ومن القول إلّا أسخفه ؟! وهذا من قبيح الغفلة الّتي يتنزّه القوم عنها ، ووصفهم اللّه تعالى بخلافها.

وليس يرد مثل هذا الاعتراض من موافق في إعجاز القرآن ، وإنّما يصير إليه من خالفنا في الملّة ، إذا بهرته الحجّة وأعجزته الحيلة ، فيرمي العرب بالبله والغفلة ، ويقول : لعلّهم لم يعلموا أنّ المعارضة أنجع وأنفع ، وطريق الحجّة أصوب وأقرب ؛ لأنّهم لم يكونوا أصحاب نظر وفكر! وإنّما كانت الفصاحة صنعتهم ، والبلاغة طريقتهم ، فعدلوا إلى الحرب الّتي هي أشفى للقوم ، وأحسم للطّمع.

وهذا الاعتراض إذا ورد علينا ، كانت كلمة جماعتنا واحدة في ردّه ، وقلنا في جوابه : إنّ العرب وإن لم يكونوا نظّارين ، فلم يكونوا غفلة مجانين ، وفي العقول كلّها- وافرها وناقصها- أنّ مساواة المتحدّي في فعله ومعارضته بمثله ، أبلغ في الاحتجاج عليه من كلّ فعل ، وأقوى في فلّ غربه (11) من كلّ قول.

وليس يجوز أن تذهب العرب الألبّاء ، عمّا لا يذهب عنه العامّة الأغبياء ! والحرب غير مانعة من المعارضة ، ولا صارفة عن المقابلة. وقد كانوا يستعملون في حروبهم من الارتجاز ما لو جعلوا (12) مكانه معارضة القرآن كان أنفع لهم ، وأجدى عليهم. مع أنّه قد تقدّم قبل أوان الحرب من الزّمان ما يتّسع بعضه للمعارضة ، إن كانت الحرب شغلت عنها ، واقتطعت دونها.

وهذا بعينه كاف في جواب من يعدّ كفّهم عن المعارضة بما يقارب ويقع به اللّبس على غيرهم؛ لأنّهم لم يفطنوا لذلك ولم يتنبّهوا عليه ، ولأنّ الحرب كانت عندهم أولى وأحرى.

على أنّهم لو قدّموا المعارضة أمام الحرب ، وجعلوها مكان الهجاء والسبّ ، لم يجتمع بإزائهم من يحتاجون إلى محاربته ويجتهدون في مغالبته ، ولاستغنوا بها عن جميع ما تكلّفوه من التعب ، أو أكثره .

وفي إطباق الكلّ على الإمساك عن المعارضة أكبر دليل على أنّهم عنها مصروفون ، وعن تعاطيها مقتطعون.

وإنّما لم نذكر جميع ما يمكن الاعتراض به في هذا الدّليل ، مثل قولهم :

فلعلّ العدول عن المعارضة ، إنّما كان لاستصغارهم أمره ، واستبعادهم تمام مثله ، وأنّ الأمر لمّا استفحل وانتظم وتكاثر الأعوان والأصحاب ، علموا أنّ المعارضة لا تغني ، وأنّ الحرب أنجز ، فصاروا إليها. أو لأنّهم علموا زيادة كلامهم على كلامه ، في معنى الفصاحة ، وفضله في الجزالة ، وأنّ بينهما من ذلك ما لا يكاد يخفى على أحد من الفصحاء. ورأوا من إقدامه على تحدّيهم وتقريعهم ما رأوا معه أنّ الحزم في الإمساك عنه والعدول عن مقابلته ، كما يفعل أهل التّحصيل [مع‏] من تحدّاهم وقرّعهم بما لا يشتبه على أحد فضلهم فيه وتقدّمهم له؛ لو لا أنّهم أشفقوا من أن يعارضوه فيحصل الخلاف والتّجاذب في المساواة بالمعارضة أو المقاربة ، ويتردّد في ذلك الكلام ، ويمتدّ الزّمان ، فتقوى شوكته وتكثر عدّته ، فخرجوا إلى الحرب لقطع المادّة ، أو لأنّهم علموا أنّ المعارضة إنّما تمكن‏ (13) من علم فيها المماثلة أو المقاربة ، وهم العدد اليسير ، إذا أنصفوا أيضا من نفوسهم ، ولم يتّبعوا أهواءهم.

فأمّا طوائف المتّبعين وعامّة المستجيبين الّذين بهم النّصرة وفيهم الكثرة ، ممّن لا يعلم المفاضلة بين الفصاحتين؛ فإنّ المعارضة لا تكفّهم ولا يرفعون بمثلها رأسا؛ لأنّهم لم يستجيبوا بالحجّة ، فتشكّكهم الشّبهة. وإنّما انقادوا بالتّقليد وحسن الظنّ ، أو لبعض أغراض الدّنيا. ومثل هؤلاء لا يفزع فيهم إلّا إلى السّيف؛ لأنّ هذه الاعتراضات وما ماثلها متى صحّت ، قدحت في أنّ ترك القوم للمعارضة المؤثّرة ، إنّما كان للتّعذّر.

وإنّما وجّهنا دليلنا هذا إلى من يعترف معنا بأنّ هذه المعارضة لم تقع ، وأنّها لم‏

تقع للتعذّر دون شي‏ء من هذه الأعذار المدّعاة. وكان ما قصدنا (14) به إلى التعذّر إنّما هو للصّرفة لا لفرط الفصاحة ، فليس يجوز أن تتعلّق بشي‏ء من ذلك وتجعله عذرا في ترك المعارضة الّتي ألزمنا وقوعها من يخالف في الصّرفة ، ويوافق في جملة إعجاز القرآن ، لأنّه راجع عليه وعائد إليه .

والجواب عن هذه الشّبهة مستقصى في الكتب ، وقد مضى في أثناء كلامنا في هذا الدليل ما إن حصّل أمكن أن تسقط به جميع هذه الشّبهات ونظائرها.

فإن قال قائل : إنّ العرب كانوا يعلمون ضرورة فرق ما بين فصيح كلامهم وفصاحة القرآن ، فكيف تدّعون مع ذلك- في شي‏ء من كلامهم- أنّه مساواة ، والجمع الكثير من العقلاء لا يجوز عليهم ادّعاء ما يضطرّون إلى بطلانه ، وإنكار ما يضطرّون إلى صحّته؟! ولو جاز على الجماعات مثل هذا لم ننكر أن يسأل إنسان بمدينة السّلام عن الجسر (15) ، ويسترشد إليه ، فيخبره جميع أهلها أو جمهورهم بأنّه في خلاف جهته ، أو يجحدونه وجود الجسر جملة! وإذا استحال هذا فالأوّل مثله .

قيل له : هذه الدّعوى على النّاس الّتي ذكرتها ، من المتكلّمين ، وجعلوها أسّا وعمادا ، وهي مع ذلك غير صحيحة ، ولا خافية الفساد.

وليس يمتنع أن يجتمع العقلاء الكثيرون على إنكار ما يعلمونه ضرورة ، والإخبار بما يعلمون خلافه ضرورة ، إذا اجتلبوا بذلك نفعا ، أو دفعوا به ضررا. لأنّا نعلم أنّ بعض السّلاطين الظّلمة لو بحث عن أموال رعيّته ، وأراد معرفة أحوالهم ، ليغلبهم عليها ويسلبهم ، فاستدعى أهل بلدة وفيهم الكثرة الّتي تمنع من التواطؤ ، ثمّ سأل كلّ واحد منهم على انفراد عن حاله فطالبه بماله ، لكذّبه فيه ، ولما صدقه عنه ، ولامتنع من دلالته عليه وإرشاده إليه . وهو يعلم مكانه ويقف على مبلغه ، ولكان شحّ القوم بالمال وإشفاقهم عليه يقوم مقام التواطؤ والاتّفاق.

إلّا أنّه ليس يجوز- قياسا على ذلك- أن يخبروا بخبر واحد له صيغة واحدة ، من غير مواطأة؛ لأنّ العادة تفرّق بين الأمرين لكذبه‏ (16) ، وتوجب حاجة أحدهما إلى المواطأة ، واستغناء الآخر عنها.

وفي هذا كلام كثير قد أحكمه أصحابنا الإماميّة في مواضع ، وفرّقوا بين الكتمان والإخبار ، وما يحتاج من ذلك إلى تواطؤ وما لا يحتاج ، فلذلك اقتصرنا على هذه الجملة ، وهي كافية.

وليس لأحد أن يقول : إنّما جاز ما ذكرتموه في الجماعة الّتي يسألها (17) السّلطان عن أموالها ، فتكتمها ، أو تدّعي فيها ما يعلم خلافه؛ لأنّ كلّ واحد منهم يخبر عن ماله ، فإذا كذب في الخبر عنه فإنّما كذب في غير ما كذب الآخر فيه .

ومخبرات أخبارهم مختلفة ، وإذا اختلفت جاز هذا فيها ، وفارقت الإخبار عن الشّي‏ء الواحد وكتمانه .

وذلك أنّ هذا الاستدراك لا يغني في دفع كلامنا؛ لأنّه كان يجب أيضا أن يدّعي كلّ واحد من الفصحاء في بعض الكلام أنّه معارضة للقرآن ، ويكون ما يدّعي الواحد منهم أنّه معارضة غير الّذي ادّعى الآخر ذلك فيه . ولا يمنع كثرتهم من هذه الدّعوى؛ لأنّهم لم يخبروا عن شي‏ء واحد.

على أنّه لو قدّرنا أنّ بين الجماعة الّتي وصفنا حالها وكثرتها نبيّا أو رجلا صالحا يتّفقون على ولايته وتعظيمه ، ويتديّنون بدفع المكاره عنه ، وأنّ بعض الظّالمين جمعهم وسألهم عن مكانه ، وغلب في ظنونهم أنّهم إن دلّوه على موضعه قتله ، لعلمنا أنّهم لا بدّ أن ينكروا معرفة مكانه ، ويمتنعوا من الإرشاد إليه؛ وإن قوي في نفوسهم أنّ النّبيّ أو الصّالح لا ينجو من يد هذا الظّالم ، وأنّه لا ينتهي عن البحث عنه والتنقير (18) عن مكانه إلّا بأن يخبروه بأنّه قد خرج عن بلدهم وبعد عنهم ، لم يمتنع أيضا أن يخبره الجماعة بذلك.

فقد جاز على الجماعة الكثيرة أن تدّعي في الشّي‏ء الواحد ما يعلم خلافه ، وتكتم الشّي‏ء الواحد الّذي يقف على مكانه .

فأمّا التشنيع بكتمان الجسر فإنّما يبعد كتمان مثله ؛ لأنّه لا داعي يدعو إليه ، ولشهرة مكان الجسر أيضا ، وأنّه ممّا يظهر عليه بأهون سعي وأيسر أمر ، ولكثرة عدد المخبرين عنه والعارفين به . وما يكون الكتمان نافيا لخبره وماحيا لأثره ليس كذلك.

ولكن ليس ينكر أن يكون لأهل البلد في أحد جانبيه ذخائر جمّة وودائع وتجارات كثيرة وبضائع ، ويقصدهم من الجانب الآخر بعض الجائرين؛ فيسألهم عن مكان الجسر ليعبر عليه ، فيحوز أموالهم. وهم يعلمون أنّ سؤاله لذلك لا لغيره ، وأنّه لا يجد مخبرا عن الجسر سواهم ، وليس ممّن يطول مقامه بينهم فيقف على مكانه بنفسه أو ببعض أصحابه ، فلا بدّ أن يتلقّوه‏ (19) جميعهم بالجحود والإنكار ، سواء أفرد كلّ واحد منهم بالسؤال أو ضمّه إلى غيره . بل هؤلاء وحالهم هذه ملجئون إلى الكتمان وترك الاعتراف.

وإذا جاز هذا على الجماعات الكثيرة على وجه من الوجوه ، فقد بطل ما اعترض به السّائل وزالت شناعته .

وبعد ، فقد قال القوم للنّبيّ صلّى اللّه عليه وآله : لو نشاء لقلنا مثل هذا؛ وهم يعلمون من أنفسهم ضرورة خلاف ذلك ، ويعلمون أيضا أنّ كلّ سامع لهذا الكلام من الفصحاء يعلم كذبهم فيه ، ولم يمنعهم- وهم كثير- العلم الضّروريّ من ادّعاء خلافه ، فكذلك [لم‏] يمنعهم علمهم بفضل فصاحة القرآن على فصاحتهم من أن يدّعوا في بعض كلامهم أنّه مماثل له . بل إذا جاز عليهم الأوّل- وليس ممّا يدخل به شبهة على أحد- كان الثّاني أولى بالجواز وأحرى ، وهو ممّا يوقع كلّ شبهة ويوجب كلّ شكّ. وهذا بيّن لناظر.

فإن قال : هذا القول- وهو : لو نشاء لقلنا مثل هذا- إنّما قاله‏ (20) أميّة بن خلف الجمحيّ‏ (21) ، والواحد يجوز عليه الإخبار بما يضطرّ إلى خلافه ، إذا فرط غضبه وقويت عصبيّته . وليس كذلك الجماعات الكثيرة ، وكلامنا إنّما هو على جميع الفصحاء الّذين لا يجوز هذا عليهم! قيل له : إن كان قائل هذا هو أميّة بن خلف الجمحيّ- حسب ما ذكرت- فما رأينا أحدا من الفصحاء كذّبه ولا بكّته‏ (22) ، وقد سمعوا كلامه واتّصل بهم! والإمساك في مثل هذا الموضع وإظهار الرّضا يقوم مقام المشاركة في الدّعوى والتّصديق لها ، فألّا وقعت المعارضة أيضا من أحدهم لقوّة الغضب‏ والعصبيّة ؟ فإنّ جميع الفصحاء حينئذ كانوا يمسكون عن تكذيبه والرّدّ عليه ، ويظهرون الرّضا بفعله والتّصديق لقوله ، كما أمسكوا عن أميّة بن خلف وهم مضطرّون إلى تكذيبه وبهته .

وبعد ، فلم يلزم أن تقع المعارضة من سائر الفصحاء حسب ما ظننت ، وإنّما ألزمنا وقوعها في الجملة.

وخصومنا- إن أحالوا على الجمع الكثير الّذين لا يجوز عليهم التّلاقي والتواطؤ والإخبار بما يضطرّون إلى بطلانه- فهم يجيزون ذلك على النّفر والجماعة الّتي يصحّ في مثلها التواطؤ ، فكيف لم تقع المعارضة من عدّة هذه صفتهم ؟

فإن عاد السّائل إلى أن يقول : لو عارض مثل هؤلاء بما لا يماثل في الحقيقة ، لما وافقهم الباقون من الفصحاء ، ولا أمسكوا عن تكذيبهم ! قلنا لهم : فقد أظهروا موافقة أميّة بن خلف الجمحيّ وأمسكوا عن تكذيبه ، اللّهمّ إلّا أن تريد ما كان يمسك عنهم من كان في جهة النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، فهذا ما قدّمنا فيه التّماثل.

على أنّا لو طالبناك- أيّها السّائل- بالدّلالة على أنّ عدّة الفصحاء الّذين يعلمون فضل فصاحة القرآن على فصاحتهم وخروجه عن عادتهم ، كانت في ذلك الوقت كثيرة ، يستحيل في مثلها التواطؤ؛ لأتعبناك أو أعجزناك؛ لأنّ الفصحاء وإن علمنا وفورهم في أزمان التحدّي وظهورهم ، فليس كلّ من جاد في الفصاحة طبعه ، وعلت منزلته ، وتصرّف في النّثر والنّظم ، يجب أن يعلم ما ذكرناه ؛ لأنّا نرى في زماننا وفيما تقدّمه ، من هذه صفته ، وهو لا يفرّق بين مواضع من القرآن ، وفصيح كلام العرب في الفصاحة. وما لا يزال يقال في مثل هذا من أنّ أولئك كانوا على الفصاحة مطبوعين ومن عادتهم لها مكتسبين ، لا يغني شيئا.

لأنّ القوم وإن كانوا مطبوعين على الفصاحة ، فقد كانوا يتفاضلون فيها تفاضلا شديدا؛ فليس ينكر أن ينتهي بهم التفاضل إلى أن يكون الفاضل منهم هو الّذي يعلم مزيّة فصاحة القرآن وفضيلته ، والمفضول لا يعلم ذلك وإن كان مطبوعا. وكما افترقوا في المنزلة والطبقة مع اتّفاقهم في الطّبع ، وكذلك يفترقون في هذه المعرفة وإن اتّفقوا في الطّبع.

فإن قال : فلعلّ أميّة بن خلف لم يرد بقوله : «لو نشاء لقلنا مثل هذا» المماثلة في الفصاحة ، وإنّما أراد مثله في بعض الوجوه الّتي يتمكّن فيها من مساواته ، وهذا يسقط الاحتجاج بقوله .

قيل له : كيف يريد ذلك وهو يعلم ضرورة- وكلّ من سمع التّحدّي أو اتّصل به خبره- الفرض فيه ، وأنّهم دعوا إلى الإتيان بمثل القرآن في الفصاحة ، أو في النّظم والفصاحة معا ، حسب ما نصرناه ؟

وهذا القول إنّما وقع منه عند التقريع بالقرآن والمطالبة بفعل مثله ، فليس يكون إلّا مطابقا لمعنى التحدّي.

ولئن جاز أن يورد ذلك على سبيل التّمويه والتلبيس- فيطلق هذا اللّفظ الّذي ظاهره يدلّ على ادّعاء التمكّن من الإتيان بمثله في الوجه الذي وقع التّحدّي به- ولا يريد هذا بل يضمر شيئا آخر ، ما اقتضاه التحدّي أيضا أن يدّعي هو أو غيره من العرب- في بعض الكلام الفصيح- أنّه معارضة للقرآن؛ وإن لم يكن مماثلا في الحقيقة ولا مقاربا. ويضمر أنّ ما ادّعى ذلك فيه مثل للقرآن من بعض الوجوه الّتي يساوي القرآن فيها غيره من الكلام ، ممّا لم يتوجّه التحدّي والتقريع به .

وقد فعل قريبا من هذا النّضر بن الحارث؛ فإنّه ادّعى معارضة القرآن بأخبار رستم واسفنديار ، وأوهم أنّ التحدّي وقع بالقصص والإخبار عن الأمم السّالفة والقرون الغابرة ، ولم يمنعه علمه- بأنّ الّذي أتى به ليس بمعارضة عند أحد من‏ الفصحاء- من الإقدام على دعواه .

وإذا جاز أن يعارض النضر بن الحارث بما ليس بمعارضة للقرآن عند أحد من العقلاء- فصيحا كان أو أعجميّا- من حيث لم يطابق ما أتى به من معنى التحدّي المعلوم ضرورة ، جاز أيضا أن يعارض غيره من القوم ببعض الشّعر الفصيح أو الكلام البليغ ، ويدّعي فيه المماثلة في الوجه المقصود بالتحدّي ، ويكون هذا المعارض أعذر عند النّاس من النضر بن الحارث ، وأمره أقرب إلى اللّبس والاشتباه؛ لأنّ بهته وكذبه لا يظهر إلّا لأهل الطّبقة العليا في الفصاحة أو لجماعتهم ، حسب ما يقترحه خصومنا.

والنّصر بن الحارث كذبه ظاهر لكلّ من عرف الغرض بالتحدّي بالقرآن ، وهم العرب والعجم جميعا. وهذا يؤكّد القول بالصّرفة ويوضحه .

فإن قال : كيف لم يصرف النّضر بن الحارث عمّا ادّعاه من المعارضة ، وصرف غيره من الفصحاء ؟

قيل له : هذا ممّا قد تقدّم الجواب عنه ، عند الاعتراض بمسيلمة.

وإنّما صرف عندنا عن المعارضة من يحصل بمعارضته بعض الشّبهة. ولهذا لم يمكّن أحد من الفصحاء من معارضته ، ممّا له مع طريقته في النّظم أدنى فصاحة ، من حيث جاز أن يقع عند ذلك الشّبهة لمن لا قوّة له في العلم بالفصاحة.

فأمّا من لا شبهة على أحد بمعارضته ولا شكّ لعاقل في أمره ، فليس في صرفه فائدة ، بل تمكينه من فعله برهان على أنّ غيره مصروف عن المعارضة ، إذ لو كانت حاله في التخلية كحالة لساواه في الإتيان بالمعارضة.

وقد قلنا في الردّ على من ذهب في إعجاز القرآن إلى خرق العادة بفصاحته ، ونسب تعذّر المعارضة إلى أنّ اللّه تعالى لم يجر العادة بفعل العلوم الّتي يتمكّن بها من مثله ، قولا كافيا. وأوردنا على أنفسنا من الزيادات والمسائل ما لا نشكّ في‏ أنّه لم يخطر لأحد من أهل هذا المذهب ببال.

والحقّ- بحمد اللّه- لا يزداد على البحث وشدّة الفحص إلّا قوّة ووضوحا ، والباطل لا يلبث أن ينهتك ستره ، ويظهر أمره .

ونحن الآن رادّون على المذاهب الأخر الّتي حكيناها ، ليخلص القول بالصّرفة ، وتكمل في صحّته الحجّة ، ومن اللّه تعالى نستمدّ المعونة وحسن التّوفيق.

__________________

1. في الأصل : يعتمدوا ، والمناسب ما أثبتناه.

2. في الأصل : ومن ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

3. كذا في الأصل ، ولعلّه : ولو حصلت وردّها.

4. كذا في الأصل.

5. في الأصل : ممّا تتأكّد ، والمناسب ما أثبتناه.

6. أي المساواة.

7. في الأصل : منهم ، وما أثبتناه مناسب للسياق.

8. هو النضر بن الحارث بن علقمة القرشيّ ، من شخصيّات قريش وشجعانها في الجاهليّة ، وابن خالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. كان من ألدّ خصوم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله والإسلام ، يقال إنّه كان مطّلعا على كتب الفرس وتواريخهم ، حيث كان أكثر تجارته من بلاد فارس ، فكان يسمع أخبار الفرس وتواريخهم فيقصّها ويرويها لقريش ، ويقول لهم : إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فكانوا يستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. وقد نزلت في حقّه عدّة آيات تذمّه وتردّ عليه. قتله أمير المؤمنين عليه السّلام يوم بدر صبرا.

9. أمّا رستم فهو ابن دستان ، من شجعان فارس المشهورين ومن قادة جيوش الأكاسرة ، وأمّا اسفنديار فهو من ملوك بلاد فارس. ويعدّان من شخصيات الفرس الأسطورية ، وقد خلّد الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسيّ الطوسيّ ذكر وقائعهما وحروبهما في ملحمته العالميّة الخالدة المسمّاة ب( شاهنامه).

1. أيّ بعد.

11. فلّ غربه : أي ثلم حدّ سيفه ، والتعبير مجازيّ ، ويقصد به إفحامه.

12. في الأصل : جعلوه ، والأنسب ما أثبتناه.

13. في الأصل : ينبئ ، ولعلّ المناسب ما أثبتناه.

14. في الأصل : قصدنا ، والظاهر ما أثبتناه.

15. يشقّ نهر دجلة مدينة السّلام بغداد ويجعلها نصفين : الكرخ في الجانب الغربيّ ، والرصافة في الجانب الشرقيّ ، ويربط الجانبين جسر ورد ذكره في كتب التاريخ والخطط ، هو الذي أشار إليه عليّ بن الجهم في رائيّته المشهورة :

عيون المها بين الرّصافة والجسر

 

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري‏

 

16. كذا في الأصل ، والظاهر وجود اضطراب في هذا الموضع.

17. في الأصل : يسلبها ، وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

18. نقرت عن الأمر : إذا بحثت عنه.

19. في الأصل : أن يتلقّاهم ، والمناسب ما أثبتناه.

20. في الأصل : قال.

21. هو أميّة بن خلف بن وهب الجمحيّ القرشيّ ، من سادات قريش وجبابرتها في الجاهليّة ، وأحد رءوس الشكّ والضلال الذين عارضوا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وحاربوه إيذاء وتكذيبا وسخرية وتعذيبا للمسلمين. شارك في وقعة بدر فأسر ، وتولّى قتله بلال وخبيب.

22. بكّته : عيّره وقبّح فعله.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .