رفض الانسانيون كل ما استجد من انظمة وعادات وتقاليد على المسيحية خلال القرون الوسطى. ودعوا الى الاهتمام بالتراث الكلاسيكي وتطبيق الاصول الحديثة والقواعد الانتقادية على التفسيرات الدينية والنصوص القديمة. تزعم الحركة الانسانية الاصلاحية في انكلترا جان ويكلف (Wycliffe) (1320 - 1384) الذي تعمق في الدراسات الدينية في جامعة اكسفورد حيث اتخذها فيما بعد منبراً لبث تعاليمه في انحاء انكلترا. هاجم ويكلف في كتاباته الغزيرة مفاسد رجال الدين وانهماكهم في متاع الحياة وتملقهم للأغنياء وازدرائهم للفقراء. فيبيعون بذلك دم المسيح بدنس الاموال. ووصفهم بأنهم نهامين شياطين - ثعالب وذئاب. كما انه أنكر ارسال الاموال والثروات الى روما او إلى افينيون في فرنسا عدوة انكلترا اللدودة في ذلك الوقت، مطالباً في نفس الوقت بمصادرة املاك الكنيسة الانكليزية لمصلحة الحكومة. بل انه ذهب الى الدعوة لفصل الكنيسة الانكليزية عن البابوية إذا ما اصرت البابوية على طلب الاموال فوقف الى جانبه الشعب والملك وبعض الامراء الذين قدموا له حمايتهم في جميع المحاكمات الدينية التي اقامتها الكنيسة لمحاكمته بتهمة التمرد والهرطقة. ومما جاء في منشوره الذي كتبه بهذا الصدد: «ان البابا لا يستطيع ان يطلب هذا المال الآ على سبيل الصدقة ... ولما كان اهل البلاد اولى من غيرهم بهذه الصدقات، فان توجيه صدقات الدولة الى البلاد الخارجية إذا كانت البلاد نفسها في حاجة اليها، يخرج بها عن نطاق الصدقات ويجعلها حماقة وبلاهة) (1). لم يتوقف ويكلف عند هذه الحدود. بل انه نزع عن القساوسة حق الاعتراف امامهم معتبراً ان الصلة بين الله والانسان يجب ان تكون مباشره دون اية وساطة. لا حاجة إلى الاعتراف السري امام القساوسة. فذلك اعتراف ادخله الشيطان اخيراً في الدين.. ذلك ان المسيح لم يكن يعمل به، كما لم يعمل به أحد من الحواريين من بعده و به استحال الناس الآن عبيداً لرجال الدين، وهو يستخدم الآن أسوأ استخدام للأغراض الاقتصادية والسياسية» (2). كما نزع عن البابوية صفة القداسة معتبراً تفسير نصوص الانجيل من حق كل مسيحي مؤمن لأن الانجيل بنظره المصدر الاساسي للمسيحية. فترجم الانجيل تحت اشرافه إلى اللغة الانكليزية، اللغة القومية. وكتب لأنصاره من (القساوسة العلمانيين) حوالي ثلاثمائة موعظة باللغة الانكليزية. ودعا إلى نبذ صكوك الغفران التي اقرتها البابوية كطريقة تستخدمها لتكديس الثروات وشراء الانصار والصرف على الحاشية وفعل الشرور لأن المسيح ولا القديسين من بعده قد قالوا بهذه البدعة: (ان الاحبار يخدعون الناس بصكوك الغفران الزائفة أو وثائق المغفرة، وينهبون بذلك اموالهم لعنة الله عليهم.. وما اشد حماقة من يبتاعون هذه الصكوك بهذه الاثمان الغالية. وإذا كان في مقدور البابا ان ينتزع الارواح من المطهر، فلم لم ينتزعها منه على الفور عملا بروح الاحسان المسيحية (3). لقد وجدت اراء ويكلف صداها في بوهيميا حيث تأثر بدعوته جان الذي ندد بمفاسد رجال الدين ونزع الأوامر البابوية صفة القداسة معتبراً اوامر البابا لاغية في حال تعارضها مع تعاليم السيد المسيح. فرماه البابا بالحرمان وقضى مجمع كونستانس سنة 1413 إدانته بتهمة الهرطقة. فاعدم حرقاً وهو حي سنة 1415. أما في الأراضي المنخفضة فقد تزعم الحركة الانسانية الاصلاحية فيها اراسم (Erasme) (1467 – 1536) الذي حاول التوفيق بين الدين والعلم. فدعا الى وجوب دراسة اللاهوت على اسس جديدة وسليمة بالاعتماد على الكتاب المقدس وحده دون الأخذ بحرفية الكلمات بل بما يكمن فيها من روح ومعاني. كما أنكر تقديس الأيقونات التي لا ينتج عنها سوى زيادة التعلق بالأوهام والخرافات فيقول مخاطباً المسيحي الحقيقي: «أنك تعبد عظام بولص افلا يجدر بك ان تعبد روح بولص التي تحيا في كتاباته؟ أنك تعبد تمثالاً للمسيح نقش او ربما شوه على حجر أو خشب، الأفضل لك ان تعبد صورة روحه الموجودة فقط في نص الانجيل» (4). ولما كان الكهنة في عصر اراسم ما زالوا يعتبرون الايمان محصوراً بهم دون فقد نزع عنهم اراسم هذه الصفة بل هذا الاحتكار للأيمان واعتبره حقاً لكل مسيحي لأنهم برأيه اعداء الداء للمعرفة والتقوى الحقيقية. ومع كونه لم يكن مشغفاً بالثقافة الكلاسيكية إلا انه كبقية رواد النهضة الذين أكدوا على فردية الانسان فلسفياً ومادياً. فضربوا بذلك عرض الحائط كل المؤسسات القروسطية القديمة حتى الدينية منها. ففي كتابه «رفيق المناضل المسيحي» يذكر ولكي تتجدد فيك الحياة المسيحية، حياة النعمة، لا تذهب للرهبان، اذ انهم قوم استسلموا للخرافات فهم قوم ظلام، قساة، حقودون، مأمون نفاثون همهم الشجار والنكايات لأنهم يعتقدون في أنفسهم انهم على حق، يتباهون بما تم لهم من خير، يستنكفون ان يفهموا او يتفهموا الأمور، يخيل إليهم انهم على صلاح لأنهم لا يقتلون ولا يسرقون، فهم مراؤون، ومسيحيون زائفون اذ لا يهمهم الا ان يلمعوا، او ان يبزوا سواهم في مجادلاتهم الدينية) (5). وهكذا نجد في تعبيرات اراسم التي نفذت الى كل مكان صلابة تكاد لا تقل عن صلابة لوثير وحزمه تجاه الكنيسة ورجال الدين. ورغم موقفه النقدي بقي رجل كنسي رافضاً الخروج على الكنيسة كما فعل لوثير وزونغلي وكلفن، وظل يؤمن بالإصلاح من الداخل. فاتهمه البروتستانت بالجبن وعدم الجرأة واعتبرت روما تعاليمه نوعاً من الهرطقة ادت الى نشوء البروتستانتية وانقسام العالم المسيحي. فلاحقت هيئات التفتيش اتباعه الذين شكلوا النخبة الروحية والفكرية في اوروبا في كل مكان ومع ذلك استمرت الاراسمية بعد اراسم كتيار خفي يجري في خط متعرج حتى نهاية القرن السادس عشر (6).

.....................................

1- ول دیورانت: قصة الحضارة الجزء (22) ص 69.

2- المرجع السابق ص73

3- المرجع السابق ص 71.

4- س. درسدن الحركة الانسانية والنهضة ترجمة عمر شخاشيرو. منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي دمشق 1972 ص85.

5- رولان موسينيه تاريخ الحضارات العام الجزء الرابع ص77.

6- LORTZ, J: La Reforme de Luther éd. CERF. Paris 1970 t 1. p. 190.

من المفيد ايضاً الاطلاع على مقالة تريفور، روپر اراسم في اصول النهضة الاوروبية ... مجلة الواقع العدد الثاني تموز 1981 ترجمة الياس مرقص. اما حول محاربة محاكم التفتيش لاتجاهات اراسم انظر: . .TREVOR-ROPER

de la Réforme aux Lumières. éd. Gallimard Paris 1972 P. 25.