أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-03-03
794
التاريخ: 2024-06-27
672
التاريخ: 2024-02-05
893
التاريخ: 11-1-2017
8159
|
لم يكن الانقلاب الذي أحدثه «إخناتون» قاصرًا على إحياء عقيدة التوحيد باسم «آتون»، بل قد تخطت حركته إلى انقلاب عظيم في الفن المصري — لأنه كان جزءًا من منهاجه — وخروج المفتنين على تقاليد القوم الموروثة منذ أزمان سحيقة في القدم، غير أننا نكون مغالين بعض الشيء إذا قلنا إن مذهب «آتون» هو العامل الوحيد الذي أوجد هذا الانقلاب في الفن المصري وطرائقه؛ لأننا إذا رجعنا البصر كرة إلى عهد الملكة العظيمة «حتشبسوت» وخلفها «تحتمس الثالث» وجدنا هناك روحًا جديدًا قد أخذ يتغلغل في نفس المفتن المصري، فالقوة الهائلة والوقار، والخشونة، وقوة التأثير التي كانت تمتاز بها أحسن القطع الفنية في عهد الدولة الوسطى بما تنطوي عليه من قوة غاشمة؛ قد أخذت تتسم بسمة النعومة، وتتحوَّل تدريجًا روحًا جديدًا ينم عن رشاقة وجاذبية، ويظهر هذا الروح حتى في نحت التماثيل؛ ففي الآثار الضخمة العظيمة كالتماثيل الهائلة التي كانت في الواقع تُصنع لا لتمثل صورة حقيقية بل لتمثل عناصر فنية عظيمة، نجد فيها على الرغم من ذلك قوة تعبير، كما يُلمس ذلك في تمثال «تحتمس الثالث» الموجود الآن في المتحف المصري؛ إذ تنم تقاطيعه عن القوة الغاشمة، ولا شك في أن مثل هذه القطعة الفنية يسيطر على كل شيء حوله كما كان «تحتمس الثالث» نفسه يسيطر على العالم الذي كان يعيش فيه. ومع ذلك نجد في نقش الأسرة التي عاش فيها «تحتمس» أن التغيير قد أخذ يدب دبيبه؛ فنرى بجانب تمثال «تحتمس» في نفس القاعة المعروض فيها بالمتحف البريطاني رأسًا «لأمنحتب الثالث» متقن الصنع، يشف عن عظمة وجلال، ومع ذلك أخذ عامل النعومة والليونة يدب في تقاسيمه، هذا إلى أن المفتن قد حاول أن ينفث فيه روح شخصية مميزة، ولكنا نلاحظ التغيير الذي يرمي إلى محاكاة الطبيعة في قطع الحفر الصغيرة من التماثيل، فما أعظم الفرق بين التمثال الفاخر «لسنوسرت الثالث» المصنوع من الجرانيت الأزرق الذي عُثر عليه في الدير البحري والموجود الآن بالمتحف البريطاني، وبين تمثال «تحتمس الثالث» المصنوع من الشيست الدقيق المحفوظ «بالمتحف المصري»؛ فكلا التمثالين ينم في ملامحه عن شخصية وثابة، ولكن مفتن الدولة الوسطى كان خشنًا إلى درجة ما في تمثيل ملامح «سنوسرت الأول» التي تدل على خلق مهيمن. فكل نقطة يمكن أن تظهر عبوسه وتقطيب شخصيته الصعبة المراس المرة قد مُثلت في تقاطيع وجهه تمثيلًا بارزًا، والواقع أننا نقرأ في تقاطيع وجه «سنوسرت» الجامدة الشعور بالقوة، بل نلمس كذلك متاعبها الأليمة المرة، على أن «تحتمس الثالث» لا يقل قوة عنه بما أوتي من أنف محدب، ولكن هذا الجندي العظيم يُرى مبتسمًا طلقًا مما خفف من احديداب أنفه، وأسبغ على ملامح وجهه جاذبية ناطقة، ولا يفوت القارئ أن المادة التي صُنع منها التمثال الأول، وهو الأقدم هي مادة الجرانيت، أما الثاني فقد نُحت من الشيست، وهما ينمان بوضوح عن التغير في الطراز الذي انتهجه كل من المفتنين، كما يدلان على عصريهما، ومن ذلك يتضح أن فن التصوير قد بدأ منذ باكورة الأسرة الثامنة عشرة يفقد شيئًا من خشونته، وفي آن واحد أخذ يكتسب مرونة ورقة كانتا بعيدتين عنه من قبل، ومع ذلك فإنه لم يفقد بصورة ظاهرة شيئًا من الصدق في التعبير أو القوة في التأثير، فالفن المصري لا يحتوي إلا على قطع قليلة أكثر صدقًا في التعبير عن الحقيقة، أو أعظم تأثيرًا في النفس كتمثال الجرانيت «لأمنحتب بن حابو»، ذلك الرجل الحكيم الذي عاش في عهد «أمنحتب الثالث»، وهذا التمثال موجود الآن في «متحف القاهرة»، فلم يكن «أمنحتب» هذا جميل المحيا، ولم يحاول مصوِّره أن يحسن شيئًا من تقاسيم هذا الرجل العظيم التي ظهر فيها القبح والكفاية معًا، ولكنك لن تجد بسهولة صورة تمثل الحياة بعينها لرجل ذكي الفؤاد أريب عركته الدنيا مثل «أمنحتب»، هذا على الرغم مما هو عليه من قبح بيِّن. فالمثَّال المصري إذا كان قبل حلول عهد «إخناتون» ينحت تماثيله جاعلًا نصب عينه الرقة والليونة في إخراج قطعه الفنية، وهو في الوقت نفسه لم يجعلها تكاد تفقد شيئًا في قوة تأثيرها أو ترجمتها للطبيعة، ويرجع هذا التغير في تقاسيم محيا التماثيل في هذا العهد إلى أن شكل الوجه قد بدأ يتغير وبخاصة في عِلية القوم؛ وذلك بإدخال عنصر دم جديد غريب عن البلاد، ويرجع السبب في ذلك إلى التزوج بأجنبيات في عصر الفتوحات العظيم. وهذا الاتجاه في التصوير يُلاحظ في الرسوم البارزة على الجدران، وأحسن مثال لدينا من أعمال الإمبراطورية من الطراز القديم هي الرسوم التي على معبد «حتشبسوت» بالدير البحري، ومع ذلك فإنا نجد فيها ما يشعر بسيطرة الروح الجديد، ولكن عندما نصل إلى عهد «أمنحتب الثالث» نجد في الرسوم البارزة في أمثال مقبرة «خع إمحات» و«وسرحات» في طيبة وحتى في بعض الرسوم البارزة في معبد الأقصر؛ ظرفًا ونفاسة ورقة يعجز عن إظهارها مثَّالو العهد القديم، غير أن الإنسان في ذلك لا يمكنه أن يفضل مثَّال العصر الحديث عن مثَّال العصر الذى سبقه؛ لأننا نجد في القديم قطعًا تمتاز عن مثيلاتها في الحديث، ولكنا نجد أن المثَّال الحديث قد أخذ يتعرَّف أكثر على مادته الجديدة؛ وبذلك أصبح في مقدرته أن يتصرف فيها كيف شاء، وبخاصة عندما تخلص من القيود القديمة وشعر بحرية في إبراز عمله، وقد كان من نتائج تلك الحرية في العمل أن أصبح المثال على استعداد أن يأخذ على عاتقه تنظيم صور أكثر تعقيدًا عند وضع تصميم منظر صور بارزة. على أن الاتجاه نحو الزيادة في الحرية، والحصول على جرأة واندفاع في تمثيل المناظر مضافًا إلى ذلك ميل أكثر إلى محاكاة الطبيعة يُلاحظ بصراحة في الصور الملونة في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولذلك يُعد من الخطل في الرأي أن يقول الإنسان عن مناظر رقعة قصر «إخناتون» الملون وهو الذي عُثر عليه في مدينة «إختاتون» إنها كانت أوَّل محاولات من جانب المصوِّر المصري لمحاكاة الطبيعة في حياة الهواء الطلق وما فيه من حركة، ولا أدل على ذلك مما نشاهده مصوَّرًا في سقف قصر «أمنحتب الثالث»؛ من طيور تحلق، وفراش يرفرف، وبط يسبح في رقعتها؛ مما يدل على أن المثَّال في عهد والد «إخناتون» كان في مقدوره أن يحاكي الطبيعة، ولكنه لم يكن عنده المران في تأليف الصور المركبة وتنسيقها مثل خلفه، على أن هذا الميل إلى محاكاة الطبيعة يمكن أن يرجع إلى زمن أقدم من ذلك، فالطيور التي تطير من المستنقعات في مقبرة «أمنمحات» الكاتب في عهد «تحتمس الثالث» ليست إلا خلفًا للتي وُجدت في قصر «أمنحتب الثالث»، وفي قصر «إخناتون» هذا إلى المناظر التي نشاهدها في قبري «نخت« (1) و«منا«(2)، والمناظر الموجودة الآن بالمتحف البريطاني المأخوذة من قبر «سبك حتب« (3)، كل هذه تبرهن على النمو السريع لروح الحرية في تمثيل الصور الطبعية. فمن بين المناظر الموجودة في المتحف البريطاني صورة نجد فيها امرأتين تلتفتان بوجهيهما (4) تمامًا إلى الناظر إليهما، وهذه الحركة التي لا نراها إلا نادرًا في التصوير المصري. هذا إلى أنه يصعب أن توجد صورة تفوق في براعتها صورة القطه التخطيطية الفائقة الحد في التعبير التي نشاهدها في إحدى مناظر قبر «نخن» بطيبة، فإنها تكاد لفرط هزالها وجوعها تلتهم سمكة. وهذه الصورة التي يُحتمل أن يرجع عهدها إلى عصر «تحتمس الرابع» تبين لنا أن المفتن المصري كان سريع الخطأ في سيره للوصول إلى تصوير طبعي أعظم شانًا وأكثر دقة قبل أربعين سنة من عهد «إخناتون«. ومن ذلك نرى أنه لا يوجد ما يبرر الاعتقاد بأنه لا علاقة بين فن عهد العمارنة، والفن القديم التقليدي؛ إذ الواقع أن عملية التغير لم تأتِ فجأة، بل سارت تدريجًا، وكانت قد أخذت في سيرها بوضوح منذ قرن قبل اعتلاء «إخناتون» العرش على أقل تقدير كما أوضحنا، كما أن مذهب «آتون» لم يكن وليد ليلة، بل كان يضرب بأعراقه إلى أقدم عهود العقائد المصرية، كذلك كان الفن الذي سار مع «آتون» جنبًا لجنب يضرب بأعراقه في الماضي، ولم تكن ظاهرة طبعية، بل شجرة نمت وترعرعت، وعلى أية حال فإن النمو يمكن إدخاله في تدرُّج العقل الإنساني كما يمكن إدخاله في الطبيعة، فالعقيدة الآتونية، وبخاصة رجال الفن فيها كانوا يعبرون باستمرار عن وجهة نظر الفرعون، وهي التي دفعت العنصر العامل في فن العصر إلى الأمام، فنجد أن من بين الألقاب التي كان يتمسك بها «إخناتون» نفسه لقب «عنخ إن ماعت» (يعني العائش في الصدق)، وقد أخذ المعنى الصريح لهذه العبارة وجعلها مبدأه في الحياة. فقد كان المقصود منها لديه أن يتقبل حقائق الحياة اليومية ببساطة، ومن غير كلفة، فكان يعتقد أن ما مضى كان حقًّا، وأن صلاحه كان ظاهرًا من نفس وجوده، ولا شك في أن تأثير مثل هذا القانون على الفن كان عظيمًا، ولذلك فإن التقدم الذي كان سائرًا بالفعل في الفن المصري قد شجعه هذا المبدأ، وأسرع في خطاه إلى حد بعيد، فيصف لنا «بك» نفسه وهو كبير رجال الهندسة الملكَ ومثَّاله الأول على لوحة في «أسوان» بأنه هو المساعد الذي علمه جلالته ليكون رئيس المثَّالين لآثار الملك الضخمة العظيمة، على أنه لا يتحتم أن يُفهم من هذه العبارة أن «إخناتون» كان متطفلًا على الفن وأنه كان يسلي نفسه، أو أنه كان يضايق رجال الفن برسم أشياء يفرض عليهم تنفيذها كما كان يفعل «تحتمس الثالث»، ولكن الواقع أنه كان يبين لمثَّاليه أن «الحياة في الصدق» كانت جزءًا من تعاليمه الدينية، وأن من واجبهم أن يأخذوها مرشدًا لهم، ثم يتركهم يعملون بمقتضاها. وقد كانت نتائج هذا التوجيه إخراج قطع فنية من الطراز الفائق الحد في طبيعته، فقد وجد كل من المثال «بك«(5) وصاحبه «أوتو«(6) وهما مثَّالا الملكة «تي»، وكذلك غيرهما من مثَّالي عصر «العمارنة»؛ أنهم أصبحوا لأول مرة في تاريخ الفن المصري طليقي الأيدي تمامًا، يرسمون الشيء كما يرونه، فلم يتقيدوا بالتقاليد القديمة التي كانت حجر عثرة أمام تقدم الفن المصري في الماضي؛ ولذلك اختفى الوضع الكهنوتي المرسوم للمثَّالين إلى حد بعيد، ومن ثم مُثل الملك والملكة والأميرات ورجال البلاط لا كما يجب أن يكونوا في الاحتفالات العظيمة مزملين في ملابس العظمة التقليدية، بل مُثلوا كما يعيشون بطبيعتهم؛ مما جعلنا نراهم في مواقف ليس فيها من جلال الملك شيء؛ فيُشاهد ذلك مثلًا في منظر «إخناتون» وهو يلتهم (7) الأكل على مائدة الطعام، أو وهو يطوِّق بساعده أخاه «سمنخكارع» ويداعبه — وإن كان في هذه الصورة شك — أو ظهور الأسرة الملكية في الشرفة وهم عرايا الأجسام، على أن أكبر مظهر للتحويل في التصوير هو ما نشاهده في تمثيل الأجسام البشرية، فيرى الإنسان في تصويرها على حسب ما يتراءى له تقدمًا أو انحطاطًا (8). أما في المجالات الأخرى غير الصور الإنسانية فإن التحول أو التغير على الرغم من أنه معلم ظاهر تمامًا فإنه لم يبلغ أقصى مداه كما يظن البعض أحيانًا، فالحياة في الحقل مثلًا لم تكن في حياة الفن المصري خاضعة يومًا لقيود التقاليد التي غلت يده في تصوير الجسم الإنساني؛ إذ الواقع أن الرسَّامين والمثَّالين المصريين كانوا منذ أقدم العهود ينقلون ما في الطبيعة عندما يصورون المستنقعات والنهر والصحراء بما فيها من حياة وحشية، ونباتات. ولقد خطا فنانو عصر «إخناتون» بهذه الرسوم خطوة أخرى إلى الأمام يمكن أن يُقال عنها إنها ناتجة عن تعاليم «إخناتون»، وقد وصف الأستاذ «برستد» هذا الفن بأنه فن بسيط جميل ينم عن الحقيقة، ويرى ببصيرة ثاقبة ما لم يَرَه أي فن آخر من قبل، غير أن في هذا بعض المبالغة؛ لأن المفتنين القدامى في مصر لم يكونوا محجوبي النظر عن حقائق الطبيعة وأسرارها، أكثر من المفتنين «بك» و«أوتو»، ولو لم يخلف عهد «إخناتون» لنا من نماذج أعماله الفنية إلا صور الحياة البرية بما فيها من نبات وحيوان، فإنه يصبح من الصعب علينا جدًّا أن ندرك منها حدوث أي فاصل أو تحول في تقاليد القوم الفنية، بل على النقيض كنا نرى في هذا الازدهار الفني الجديد تقدمًا مشروعًا لخطط مألوفة ليس فيها تحول عن الطرق القديمة التي انتهجها المفتنون القدامى. وعلى أية حال فإن الأمر يختلف اختلافًا تامًّا في تصوير الجسم الإنساني في عصر العمارنة، وهذا في الحقيقة أهم الأشياء التي خلفها لنا عصر «إخناتون» من الوجهة الفنية. وفي هذه الحالة يمكن الإنسان أن يتحدث عن فن عصر «تل العمارنة» وهو يشعر أنه يناقش وحدة مميزة لها حياتها وشخصيتها الخاصة بها، فالرجل والمرأة يصورهما المفتن على طبيعتهما أي كما يراهما أمامه بالعين المجردة، وهو يخرج صورته بمعناها الحقيقي حرة من كل قيد، متوخيًا في ذلك إبراز التفاصيل بصدق مما كان غريبًا عن الفن القديم الذي كان معتادًا في البلاد. فمنذ عهد «إخناتون» لا يرى الإنسان الصور الآدمية مرسومة في وضع خاص في مجموعة قليلة في تنوعها وتتناول موضوعًا واحدًا وهو ما سمحت به العادة؛ إذ كان يصور الإنسان بساقه اليسرى إلى الأمام وذراعه مدلاة بجانبه وراحتاه مقبوضتان … إلخ. أما في صور «تل العمارنة» فنرى أناسًا جالسين وواقفين ومتحركين ومضطجعين بكل وضع طبعي يمكن للإنسان تصوُّره، وأحيانًا يُصور في أوضاع لا يمكن قبولها أو تصورها، كما أنها غير طبعية في الوقت نفسه. وأجمل نموذج كُشف حتى الآن لهذه الحرية الجديدة في الرسوم البارزة الصورة الملونة الصغيرة الرائعة الموجودة الآن بمتحف «برلين« (9) وهي التي رُسم فيها «إخناتون» و«نفرتيتي» معًا كما هي العادة، فنشاهد فيها الملك واقفًا أو بعبارة أدق متراخيًا في وقفته في وضع رشيق لا تكلف فيه، ومتكئًا على عصًا تحت إبطه الأيمن، ويُرى طرفا حزامه الطويلان وأهداب شعره المستعار يداعبها الهواء، وتقف أمامه الملكة «نفرتيتي» في هيئة لا تُوصف إلا بالقحة وفي يدها اليسرى طاقة من أزهار البشنين المفتحة الأكمام، وفي يدها اليمنى طاقة أخرى من أزرار الأزهار مقدمة إياها لزوجها ليشم رائحتها، وترتدي ثوبًا من الكتان شفيفًا يداعبه النسيم، ولولا أن «إخناتون» كان يحلي جبينه بالصل الملكي، والملكة ترتدي الصل المزدوج الذي كان يميز الملكة في هذا العصر، ما كان أحد يظن قط أنه في حضرة فرعون مصر أعظم ملوك العالم وقتئذٍ، والذي يتقمصه الإله العالمي، فالصورة في مجموعها تُعَدُّ من حيث بساطتها وسحرها من أندر ما أخرجه الفن القديم عامة، ولكنها في الوقت نفسه تناقض الصور العادية للفرعون؛ إذ إنها قد فقدت كل مهابة الملك وجلاله. وأعجب الثمرات التي أنتجها لنا فن «إخناتون» الرؤوس التي تمثل الصور الآدمية، والتماثيل الصغيرة لهذا العصر، وقد كشفت البعثة الألمانية عددًا عظيمًا منها، والواقع أن المثَّال المصري كان قد أخذ في اعتلاء مكانته الحقيقية شيئًا فشيئًا حتى أصبح يحتل مكانة وضعته بين قادة الفن في العالم، وهي مكانة كان ينكرها عليه منذ سنوات قليلة مفتنو عصرنا بنوع من السخرية. ولقد جاء الكشف الألماني لهذه الرؤوس المنحوتة نحتًا دقيقًا مكذبًا لتلك الادعاءات. وهذه الرؤوس معظمها للأسرة المالكة، منها عدد عظيم «لإخناتون» نفسه، ومعظمها مصنوع من الحجر الجيري الأبيض، ثم تماثيل صغيرة للملكة «نفرتيتي» تصور الحقيقة بدرجة فائقة الحد، وكذلك رءوس صغيرة للأميرات لها سحر عجيب، وصور لبعض رجال البلاط، من بينها رأسان ربما كانا للكاهن «آي» الذي ولي الحكم فيما بعد ولزوجه «تي». على أن أعجب درتين في كل هذه المجموعة هما الرأسان اللذان يمثلان الملكة «نفرتيتي»، إحداهما من الحجر الجيري الملون، ولها شهرة واسعة، ويعترف الجميع بأنها من أروع الأمثلة في النحت في العالم، وإنها لجديرة حقًّا بتلك الشهرة التي نالتها، ولا بد أن «نفرتيتي» نفسها كانت تفوق نساء عصرها في جمالها ورشاقتها، وسواء أكان المثال «بك» أو غيره قد نحتها فإنه قد ارتفع إلى القمة في الفرصة التي سنحت له؛ إذ الواقع أن هذا التمثال النصفي للملكة «نفرتيتي» لا تضارعه قطعة أخرى في دقة تصويره، ورشاقة ملامحه التي تدل على التفكير؛ ولذلك يحق للمثال المصري أن يسابق بشهرته وهو مطمئن البال في هذا المضمار على هذه القطعة الفنية الخلابة، وأما القطعة الثانية فإنها أقل شهرة؛ ويرجع السبب في ذلك إلى المادة المصنوعة منها، وكذلك إلى الحالة التي وُجدت عليها، فالناظر إليها لأول وهلة لا تستهوي مشاعره. وهي للملكة «نفرتيتي» أيضًا، وقد صُنعت من الحجر الرملي الأسمر، ولكنها في الواقع لا تقل جمالًا عن سالفتها في عين المفتن الناقد، فالقطعتان معًا لا نظير لهما، ويدرك الإنسان عند تأملهما سر ما لهما من شهرة تاريخية للجمال واسعة النطاق (10).
شكل 1: الملكة نفرتيتي.
ومن القطع التي تتميز بها مدرسة الفن في «تل العمارنة» وإن كان لم يُعثر عليها في «إختاتون» رأس الملكة «تي» المصنوع من الأبنوس والذهب، وهي في دقة صنعها آية من آيات الفن، وقد عُثر عليها في «الفيوم»، وهي الآن في متحف «برلين»، والواقع أنه لم يُعثر على قطعة مدهشة مثلها في الفن القديم أو الحديث يقرأ الإنسان في تقاسيمها أخلاق صاحبتها، وليست لفظة الجمال بالتعبير الصادق الذي يستعمله الإنسان عند وصفها، ولكن هو التأثير المدهش الذي تتركه بما توحيه من شخصية مسيطرة، وربما كان ما صوره المثال في تقاسيمها من معاناتها الألم هو سر جمالها، وهذا الرأس الفذ الصغير الحجم لا يزيد ارتفاعه عن بعض سنتيمترات، ولكنه قطعة فنية أعظم تعبيرًا، وأقوى تأثيرًا من معظم التماثيل الضخم انظر [فصل: الفرعون أمنحتب الثالث – امبراطورية أمنحتب الثالث وملاهيه] (11). وترتكز عبقرية الفن المصري وقوته في عصر «إخناتون» إذن على الموضوعات التي تتعلق بالإنسان. ولا نزاع في ذلك لأن هذه الشهرة تستند على حقائق يؤيدها الواقع تأييدًا واسع النطاق، ولكن مما يؤسف له أن صفات هذا الفن السامية بحق قد طُمست معالمها إلى حد ما، وأن ما أخرجته هذه المدرسة قد أُوذي بخاصية مستهجنة، وليس في استطاعتنا أن نحكم فيما إذا كانت هذه الهجنة ترجع إلى مبالغة «إخناتون» في تمسكه بفضيلة الصدق التي نجدها في تفكيره، وفي فنه، وفي تشبثه بأن ينتهج فنه هذه السبيل المعوجة، فنعلم أن الملك كان شاذ الخَلق كما يتضح ذلك من تماثيله وصوره الملونة، بل إن أهم من كل ذلك غطاء الوجه الذي كان عليه بعد وفاته؛ فقد كان شذوذه يتمثل بوضوح في ضخامة جمجمته بشكل خارج عن المعتاد، وكذلك نمو الجزء الأسفل من جسمه وفخذيه نموًّا غير مألوف، وقد دلت البحوث الطبية على أن الأسرة كان فيها هذا الشذوذ أو على الأقل في إخناتون نفسه. ولما كان «إخناتون» يحب الحقيقة والصدق إلى أقصى حد، فإنه صمم أن يُرسم بما فيه من شذوذ جسمي مطابق للحقيقة بدون ملق أو محاباة في تمثيل كل ما فيه من قبح وشذوذ، وكما يحدث عادة في مثل هذه الحالة مُثلت الأجزاء المراد إبرازها بشيء من المبالغة ازدادت بمر الأيام، ولذلك نجد أن هذه الطريقة المنكودة قد ظهر أثرها المبالغ فيه في كل صور أفراد الأسرة المالكة في هذا العهد، وليس من المعقول بتاتًا أن الملكة «نفرتيتي» والأميرات كن مصابات بهذا الشذوذ الجسمي كالفرعون، ولا أدل على ذلك من جذع تمثال الأميرة الصغير المصنوع من الحجر الجيري والموجود الآن بجامعة «لندن« (12) فإنه خالٍ من كل هذا الشذوذ، ولكن العادة القبيحة في التشبث بإظهار خاصيات الملك الجسمية قد أدى إلى خلق خاصيات من هذا الطراز لا وجود لها، ولذلك فإنا نجد الملكة والأميرات يمثلن في كثير من الأحوال بدون مبرر بشذوذ جسمي قبيح لا ينطبق على الواقع قط، وهن منه بريئات قطعًا. ولقد انتقلت هذه البدعة القبيحة إلى رجال البلاط كما كان المنتظر، والناس على دين ملوكهم، حتى إن الأمر قد وصل إلى درجة من المجون؛ فمُثل الرجل قبيحًا بقدر المستطاع تقليدًا لصورة جلالته، وهذا أمر كان لا يمكن تلافيه. ولقد كانت نتيجة هذا العبث أن أصبح جزء عظيم من فن «تل العمارنة» بكل ما فيه من محاسن يقرب من الصور الممسوخة الهزلية. ولقد كانت الكارثة في كل هذا مزدوجة، فإن هذا الفن الذي كان رفيعًا في ذاته حقًّا، بل لا نغالي إذا قلنا إنه أحسن زهرة تفتحت عن العبقرية المصرية قد مُسخت محاسنه بهذه المبالغات التي انتابته، على أنه لما غُلب مذهب «آتون» على أمره بدا في نفوس القوم اشمئزاز من ذلك الشذوذ الذي طمس محاسن فن «تل العمارنة» الرائعة، حتى قضى على عبقرية الفن المصري بدرجة عظيمة. ولقد انزعج المصريون من نتائج انزلاقهم في صدق التعبير في رسومهم ومحاكاة الطبيعة؛ ولذلك فإنهم أخذوا يتشبثون حتى آخر أيام تاريخهم القومي في حياتهم الفنية بأهداب طراز فنهم الثابت الذي كان متبعًا في غابر الزمن، وكأن خلاصهم الوحيد كان متوقفًا عليه. حقًّا إنه كان لا يزال في عهد الأسرة التاسعة عشرة أعمال فنية جميلة تحمل في طياتها بوضوح أثر فن العمارنة غير أنها كانت ضئيلة. أما في العهد الساوي فقد قامت نهضة عجيبة ظهر فيها بعض الأعمال الفنية الرفيعة على غرار الأساليب القديمة يصحبها صدق التعبير؛ مما جعلها جديرة بأن تُضاهى بأعمال مفتني عصر «إخناتون»، غير أنه لم يعد يوجد قط ذلك التعبير الأول الجميل الذي ينطوي على فرط الفرح المستهتر الذي كنا نراه أيام «إخناتون»، حينما كان يلقن أتباعه بأن ينظروا إلى الحياة والأشياء بأعينهم هم فحسب، لا بوساطة التقاليد القديمة التي طُبع على بصرها غشاوة.
.....................................
1- راجع: Davies, “The Tomb of Nakht at Thebes”.
2- راجع: " Colin Campbell, “Two Theban Princes.
3- راجع: Budge, “Wall Decorations of Egyptian Tombs, Illustrated from Examples in the British Museum” , p. 15. Fig. 9, p. 14, fig. 7.
4- راجع: Budge, Ibid, Pl. IV.
5- راجع: De Morgan, “Cat. Mon.”, I, p. 40, No. 174.
6- راجع: Davies, “El Amarna”, Vol. III, Pl. XVIII.
7- راجع: Davies, Ibid. Vol. III, Pl. IV.
8- راجع: Davies, Ibid. Vol. VI, p. 22, Pl. XXIX.
9- راجع: Schafer, “Von Aegyptischer Kunst besonders der Zeichenkunst. Ein Einfuhrung in die Betrachtung Agyptischer Kunstwerke”, p. 23.
10- راجع: “Chronique d’Egypte”, No. 31 (Jan. 1941) , p. 46; Davies, Ibid, Vol. VI, Pl. XXXVIII.
11- راجع: راجع: Fechheimer, “Die Plastik der Agypter”, p. 88, 89.
12- راجع: Fechheimer, “Die Plastik der Agypter” , p. 94. & Ghalioungui, “A Medical Study of Akhenton”, A. S., Vol. XLVII, PP. 29ff.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
مكتب المرجع الديني الأعلى يعزّي باستشهاد عددٍ من المؤمنين في باكستان
|
|
|