أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-10-13
877
التاريخ: 2024-09-21
249
التاريخ: 2023-10-15
1031
التاريخ: 2024-07-12
463
|
وبعث أنوشنتش الثالث برُسُله إلى الممالك الأوروبية؛ يروج فكرته، ويحض الملوك والأمراء والشعب على التطوُّع في حملةٍ جديدة، ولكن أحدًا من كبار الملوك لم يلبِّ النداء؛ ففيليب الثاني ملك فرنسة كان لا يزال تحت الحرم الباباوي لهجره زوجته الثانية وتزوُّجه من ثالثة، وكان يوحنا الثاني ملك إنكلترة لا يزال في خصام شديد مع أشراف بلاده وأعيانها، وكان هنريكوس السادس قد تُوُفي في خريف السنة 1197 في صقلية، فنشبت مشادةٌ عنيفةٌ لتسنُّم العرش الإمبراطوري بين أخيه فيليب وأوتون الرابع ابن هنريكوس الأسد. بَيْدَ أن هذا كله لم يمنع الفرسان الغربيين مِنْ تَقَبُّل الدعوة، فاشترك في هذه الحملة الرابعة نخبةٌ من أفضل فرسان فرنسة وإنكلترة وألمانية والبلدان الواطئة وصقلية. وألمعُ مَنْ حمل الصليب بهذه المناسبة شيخ البندقية هنريكوس دندولو Dandolo الأعمى، وكان قد عرف القسطنطينية حق المعرفة وفقد بصره فيها عندما حوَّل بعض الروم نور الشمس إلى عينيه بمرآة مقعرة، فغضب وحقد وأضمر السوء، وكان سياسيًّا محنكًا ومفاوضًا حاذقًا، فلَبَّى نداء البابا ليقضيَ على دولة الروم وينشئ على أنقاضها إمبراطورية بندقية غربية (1). وحين فَكَّرَ القائمون بهذه الحملة في كيفية الزحف على الأراضي المقدسة، أرسلوا وفدًا إلى البندقية يفاوض في نقل الجنود إلى مصر أولًا؛ لأن مصر كانت مركزَ السلطة المستولية على فلسطين، فتَمَّ الاتفاق على أن تنقل البندقية 4500 فارس 20000 جندي وعلى أن تطعمهم شرط أن يدفع الصليبيون لها مبلغًا معينًا من المال، وأن تقسم الغنائم في المستقبل مناصفةً بينها وبينهم (2). وتجمعت الحملةُ في البندقية في شهرَي تموز وآب من السنة 1202، وعجز الصليبيون عن دفع المبلغ المتفق عليه، ولم يتمكنوا إلا من دفع نصفه، فانتهز دندولو هذه الفرصة واقترح أن يدوخ الصليبيون مدينة زاره Zara عبر الأدرياتيك لحساب البندقية؛ لأنها كانت تنافس هذه منافسةً شديدة، فقام الصليبيون إلى زارة وحاصروها، وعبثًا حاول أهلُها إظهارَ شعائر النصرانية على الأسوار؛ لردع الصليبيين عن مُحاربة أبناء دينهم، وعبثًا أيضًا حاول البابا رَدْعَ البنادقة عن هذه الإساءة لمبادئ الحروبِ الصليبية، واستولى الصليبيون على زارة وقَدَّمُوها للبندقية لقمةً سائغةً (3). وقد مرَّ بنا — في تضاعيف الفصول السابقة — كيف تزايد البغضُ وتفاقم بين الشرق والغرب، ولا سيما في أثناء القرن الثاني عشر؛ فقد رأينا مُلُوك النورمنديين الصقليين يجتازون الأدرياتيك لاحتلال شواطئه الشرقية منذ أيام روبر غيسكار حتى أيام روجه الثاني وخلفه ووريثه في صقلية الإمبراطور هنريكوس السادس، ورأينا أيضًا أباطرة الشرق يخشون الصليبيين في أثناء مُرُورهم في أراضيهم فينشأ عن هذا الخوف شيءٌ من التوتر، فيزدادُ أحيانًا ويؤدي إلى التفكير الجِدِّيِّ في احتلال القسطنطينية. وقد رأينا — في الوقت نفسه — هذا البغضَ يتفاقمُ، فينفجر في شوارع عاصمة الروم فيلحق بالجاليات اللاتينية فيها شيئًا كثيرًا من الضرر والخسارة، ويجر البندقية إلى الحرب للمُحافظة على مصالحها التجارية في الشرق. وفي أثناء السنة 1202 أفلت أليكسيوس أنجيلوس بن إسحاق الثاني من السجن الذي كان قد أُودع فيه سنة 1195، وجاء صقلية، فرومة؛ يستعطف البابا على قضيته، ثم اتجه شمالًا شطر ألمانية؛ يستعين بشقيقته إيرينة زوجة فيليب سوابيه في هذا الأمر نفسه، فرَجَتْ إيرينة زوجها وألحت عليه، وكان فيليب آنئذٍ منهمكًا في نزاع مستميت ضد آتون — كما سبق أن أشرنا — فأوفد وفدًا إلى زارة يرجو البنادقة والصليبيين مساعدةَ إسحاق الفسيلفس وابنه أليكسيوس؛ للوصول إلى العرش، فتفتحت أمام دندولو آفاقٌ جديدةٌ، وهَبَّ يُقنع الصليبيين بالقبول، وقام أليكسيوس بنفسه إلى زارة، وفاوض دندولو والصليبيين في ذلك مباشرةً، ووعد بِدَفْع مبلغٍ كبيرٍ من المال مقابل هذه المعونة، كما أظهر استعدادَه لإدخال كنيسة الروم في طاعة البابا واشتراكه فعليًّا في الحرب المقدسة (4). وقد اختلف رجال، الاختصاص في أسباب تحوُّل الصليبيين عن مصر وفلسطين إلى القسطنطينية، فقام في السنة 1861 ماسلاتري الإفرنسي يتهم البندقية وشيخها بالوصول إلى تفاهُمٍ سريٍّ سابقٍ مع سلطان مصر لتحويل هذه الحملة عن أراضيه، (5) وأيد قوله كارل هوبف الألماني، فحَدَّدَ تاريخ هذه المعاهدة السرية وجعله في الثالث عشر من أيار سنة (6)1202،وفي السنة 1875 قام الكونت دي ريان الإفرنسي يلقي المسئولية في هذا التحول في مجرى الحملة الرابعة على عاتق فيليب سوابيه، فيجعل التحول عن مصر مظهرًا آخر من مظاهر النزاع بين الإمبراطور الغربي والبابا؛ لأن أنوشنتش الثالث كان يميل إلى مناظر فيليب آتون البرنزويكي (7)، وفي هذا كله تسرعٌ للوصول إلى استنتاجات جديدة تلفت النظر، وخروجٌ في الوقت نفسه عن أَبْسَطِ قواعد المصطلح. والواقعُ أنه لا يجوز أَنْ يُقال في هذا الموضوع أكثر مما جاء في الفقرة السابقة. وفي آخر حُزيران من السنة 1203 ظهر أُسطول الصليبيين أمام أسوار القسطنطينية، ونزلوا بالقُرب من غلَطَة، فقطعوا السلاسلَ الحديديةَ التي حَمَتْ مدخل القرن الذهبيِّ، فدخلت مراكبُ البنادقة وأحرقتْ مراكب الروم، ثم اقتحم الفرسان الصليبيون أسوار العاصمة واستولوا على المدينة في تموز من السنة نفسها، وفَرَّ أليكسيوس الثالث بخزينة الدولة وجواهرها، وأُطلق سراحُ إسحاق الثاني وأُعلن ابنُهُ أليكسيوس شريكًا له في الحُكم، واتخذ هذا لقب أليكسيوس الرابع. وطالب الصليبيون ودندولو بتنفيذ نص المعاهدة؛ أي بدفع المال المتفق عليه، وبإعداد قوةٍ تقوم معهم إلى الأراضي المقدسة، فاستمهلهم أليكسيوس الرابع ورَجَاهُم أَنْ يُقيموا خارجَ أسوار العاصمة، وامتعض الرومُ من اللاتين الفاتحين، واتهموا الفسيلفسين إسحاق وابنه أليكسيوس بالخيانة، وهَبَّ صهر أليكسيوس الثالث أليكسيوس دوقاس إلى السلاح، وكانت ثورة في أوائل السنة 1204 أدت إلى وفاة إسحاق وخَنْق ابنه أليكسيوس الرابع، ونُودي بأليكسيوس دوقاس فسيلفسًا، فعُرف باسم: أليكسيوس الخامس. وفي آذار السنة 1204 وقَّع الصليبيون والبنادقة اتفاقًا فيما بينهم لاقتسام الإمبراطورية الشرقية بعد احتلال العاصمة، وقضت شروطُ هذا الاتفاق بأن تُقام في العاصمة حكومةٌ لاتينيةٌ، وأن تُقسم الغنائم فيما بين الطرفين، وأن تتولى لجنةٌ مؤلفةٌ من ستة بنادقة وستة إفرنسيين أَمْرَ انتخاب إمبراطور يحكم «لمجد الله ومجد الكنيسة الرومانية المقدسة ومجد الإمبراطورية». واتفق الطرفان أيضًا على أن يحكم هذا الإمبراطور رُبع العاصمة وربع الدولة التابعة لها، وعلى أن يوضع تحت تصرُّفه قصران من قصور العاصمة. ونص الاتفاقُ أيضًا على تقسيم ما بقي من العاصمة وأراضي الدولة مناصفةً بين البندقية وبين سائر الصليبيين، وفرض على جميع الصليبيين الباقين في أراضي الدولة الجديدة أن يُقْسِموا يمين الطاعة والولاء للإمبراطور، ولم يشمل هذا البندُ دندولو وبندقيته (8). ثم حاصر الصليبيون القسطنطينية بضعة أيام ففرَّ أليكسيوس الخامس، فتدفقوا إليها في الثالث عشر من نيسان سنة 1204 ناهبين، واشترك في أعمال النهب الفظيعِ الجنودُ الصليبيون وفرسانُهُم والرهبانُ اللاتينيون ورؤساؤُهُم (9)، وشمل هذا النهبُ كنيسةَ الحكمة الإلهية وغيرها من كنائس العاصمة وأديارها، كما قضى على عدد كبير من أَثْمَن المخطوطات (10). ولم يرشح دندولو نفسه لعرش القسطنطينية، ولم يرضَ مركيز مونتفرات Boniface de Montferrat أَنْ يَتَسَنَّمَه؛ لأنه كان أميرًا إقطاعيًّا إيطاليًّا قويًّا، لا تبعد أملاكُهُ عن ممتلكات البندقية، فالتأمتْ لجنةُ الانتخاب وأقامت بلدوين قومس فلاندر إمبراطورًا على القسطنطينية، ثم قسمت الممتلكات فتولى الإمبراطور على خمسةِ أثمانِ العاصمة وعلى الأراضي التي تاخمتْ المضيقين وبحر مرمرة وعلى بعض جُزُر الأرخبيل الكُبرى، واستولى مركيز مونتفرات على ثيسالونيكية وما جاورها من أرض مقدونية وعلى ثيسالية. ونال دندولو حصة الأسد، فاستولى باسم البندقية على ديراتزو وغيرها من النقاط الهامة في ساحل الأدرياتيك الشرقي، كما احتل كورفو وغيرها من جُزُر مداخل هذا البحر، وبعض أماكن في شبه جزيرة المورة وجزيرة أقريطش، وبعض المرافئ على شاطئ تراقية وغاليبولي وثلاثة أثمان القسطنطينية، واتخذ دندولو لنفسه بهذه المناسة لقب ذسبوتس despotes ولقب «سيد الربع ونصف جميع إمبراطورية رومانية (11)«، وظَلَّ خلفاؤُهُ في البندقية يَستعملون هذا اللقبَ حتى منتصف القرن الرابع عشر، وتسلَّم إكليروس البندقية كنيسة الحكمة الإلهية وأقاموا بموافقة البابا توما موروسيني بطريركًا على الكنيسة الكاثوليكية في الإمبراطورية الجديدة، فاستخف به الروم «لجهله وحقارته «.(12) واتخذ مركيز مونتفرات لنفسه لقب ملك وقام إلى آثينة، فاحتلها، وجعل منها ومن ثيبة دوقية، وحوَّل كنيستها الكاتدرائية في قلب البارثينون إلى كنيسة لاتينية، وانتظمتْ الإمبراطورية اللاتينية على أساسٍ إقطاعيٍّ فقسمت إلى عدد من الإقطاعات، وأَقْسَمَ أُمراءُ هذه الإقطاعات يمينَ الولاء والطاعة للإمبراطور (13) . وكتب الإمبراطور بلدوين إلى البابا أنوشنتش الثالث يعلمه بفتح القسطنطينية وبارتقائه عرشها بنعمة الله، ويؤكد خضوعه للسدة الباباوية Miles Suus، فأجابه أنوشنتش «متهللًا بالرب لتمجيد اسمه بالأعجوبة التي تمت فشرَّفت العرش الرسولي وشعب المسيح.» وطلب إلى جميع الإكليروس وجميع الملوك والشعوب أن يُؤيدوا بلدوين؛ ليتمكن بعد فتح القسطنطينية من الاستيلاء على الأراضي المقدسة (14)، ثم علم هذا الحبر الكبير بما اقترفه الصليبيون من آثام في القسطنطينية، فحزن وقلق واضطرب، وكتب إلى مركيزة مونتفرات يقول: «لقد حِدْتُم عن طهارة نذركم عندما زَحَفْتُم على المسيحيين بدلًا من المسلمين فاستوليتم على القسطنطينية بدلًا من القدس، وآثرتم كنوز الدنيا على كنوز الآخرة، وما هو أهم من هذا وذاك أن بعضكم لم يوقر الدين ولم يحترم العمر أو الجنس «(15). وهكذا فإنه لم يكتب لهذه الإمبراطورية الجديدة عمرٌ طويلٌ، فإنها كانت منذ نشأتها إقطاعية ضعيفة في السياسة والحرب، وكانت مقسمة الولاء في الدين ينقصها الشيء الكثير من توحيد الكلمة، فرعايا الإمبراطور الجديد ظلوا أرثوذكسيين بعيدين عن دين الدولة الجديدة، ورجال الدين فيها ظلوا طوال عهدها يتبعون بطريركًا أرثوذكسيًّا جالسًا في نيقية ...
.......................................
1- Diehl, C., Venise, 47-48.
2- Villehardouin, Geoffroi, Conquête de Constantinople, I, 21–28, 30
3- Innocent III, Epistolae, V, 161; Luchaire, A., Innocent III, Quest. d’Orient, 103–105
4- Villehardouin, G., Op. Cit., I, 90–101; Luchaire, A., Op. Cit., 111; Nicetas Chon., Hist., 712
5- Mas-Latrie, Hist. de l’lle de Chypre, I, 162-163
6- Hopf, K., Gesch. Griechenlands, I, 188
7- Rev. des Questions Hist., 1875, 321–374
8- Tafel, G. L. F., und Thomas, G. M., Urdkunden zur Altern Handels und Staatsgeschichte, I, 446–452
9- Nicetas Chon., Hist., 753–763
10- Chronicle of Novgorod, 186-187
11- Quartae Partis et Dimidiae Totius Imperii Romanie Dominator
12- Nicetas Chon., Hist., 854-855
13- Vasiliev, A. A., Byzantine Empire, 465–467
14- Tafel und Thomas, Op. Cit., I, 502, 516-517
15- Epistolae, VIII, 133
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|