أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-09-21
210
التاريخ: 2023-11-04
1060
التاريخ: 2023-10-13
1040
التاريخ: 2023-10-19
1076
|
وقضت هذه الفلسفة الدينية السياسية بأن يُعترف بقدسية الإنجيل الطاهر ووجوب تطبيق أحكامه، فأصبحت دولة الروم ديموقراطية في تساوي أبنائها، مطلقة مستبدة في تنفيذ مبادئ الإنجيل وأحكامه، فلم يبقَ فيها أي تفوُّق نظري لطبقةٍ على سواها، وأصبح بإمكان أَوْضَعِ الرجال أن يتسنم أعلى المراتب، أولم يكن لاوون الأول لحَّامًا، ويوستينوس الأول راعيًا للخنازير، وفوقاس قائد مائة، ولاوون الثالث شحاذًا متسولًا، وباسيليوس الأول فلاحًا، ورومانوس ليكابينوس أفَّاقًا؟ أولم يُنعت قسطنطين الخامس بالزبلي، وميخائيل الثالث بالسكير، وميخائيل الخامس بالقلفاط؛ أي نقَّال البضائع؟ والفسيلسات ألم تكن إحداهن خزرية، وأخرى مغنية، وغيرها مروِّضة للدببة، أو عمومية؟ أولم يكن عددٌ كبيرٌ منهن بنات موظفين عاديين؟ وترفع الفسيلفس، عملًا بتعاليم الإنجيل، عن الشموخ والتكبر، فدعا إلى مائدته البؤساء والمتشردين، وفتح بابه لجميع الرعايا من عباد الله يلجونه أنى شاءوا. ومما يروى عن ثيوفيلوس الفسيلفس أنه خرج في يوم أحدٍ من الآحاد في موكبٍ رسميٍّ ممتطيًا جوادًا، فاعترضت سبيلَه بائعةُ سمك وأمسكت بمِقْود الجواد وقالت: «هو لي وقد صادره أحد عمالك فأعده إلي.» فنزل ثيوفيلوس عن ظهر الجواد وقَدَّمَه لها، وتابع سيره مشيًا على الأقدام! وشخص أمامه في الملعب مهرِّجان وهزَّ كلٌّ منهما قاربًا صغيرًا بيده، وقال أحدهما للآخر: أبلعني هذا القارب، فقال الآخر: أبدًا لا يمكنني ذلك، فقال الأول: وكيف؟ أولم يبلع مدبِّر القصر مركبًا بكامله محملًا بضائع؟ فأدرك الفسيلفس معنى التلميح واستدعى المدعى عليه وقابله بالمدعيين، وظهر له الحق، فأمر بحرق الجاني ببزته الرسمية في الهيبوذروم. واشتدتْ عناية الفسيلفس والبطريرك وغيرهما بالمرضى والمصابين والعجز، فكثرت المآوي والمياتم ولا سيما المستشفيات، فأنشأ ألكسيوس كومنينوس (1081–1118) مؤسسة خيرية اشتملت على ميتم ومأوًى للعميان، ومستشفيات متنقلة للجيش، وآوتْ في وقت من أوقاتها سبعةَ آلاف شخص، وأشهر هذه المؤسسات دير الإله القوي Pantocrator الذي أنشأه يوحنا كومنينوس (1118–1143) في عاصمة مُلكه، وفيه مستشفًى للرجال، وآخرُ للنساء، وثالثٌ للأمراض المعدية، وقد خص كل مريض بغرفة مؤثثة بسرير نظيف وفراش ووسادة ولحاف ومشط وإسفنجة ومغطس وسطل ومناشف أربع وقميص، وبمبلغ من المال يوم عيد الفصح يتمكن به المريضُ من شراء ما يَلزمه من الصابون، وكان يمرُّ المفتشون في كل صباح على المرضى يُصغون لتَذَمُّراتهم ويسألونهم عن الطعام، وكان بين وسائل الراحة طريقةٌ خاصةٌ للتدفئة، وكان يؤم المستشفى لمعالجة المرضة طبيب أستاذ ورهط من طلبة الطب وعقاقيري، وكان يفاخر الأستاذ الطبيب بطريقته الخاصة في تنظيف أدوات الجراحة وتطهيرها.(1) وساوتْ نصرانيةُ الدولة بين الرجل والمرأة، فكان للنساء شأنٌ كبيرٌ في الحياة الاجتماعية ولا سيما بعد الزواج، وشاطرن أزواجهن السلطة في كثير من الأحيان، ولم يتناول الطعام ذيجانس أكريتاس قبل حضور والدته، وقاسى تورمارخوس بزية نقدًا شديدًا واعتُبر مسيحيًّا مقصرًا؛ لأنه حبس زوجته في خِدْر الحريم يوم الاستقبال، وتَكَنَّى الأولاد — في بعض الأحيان — بأمهاتهم، فعائلة دلسانة تحدرت من أبٍ اسمه شارون، ولكن والدتهم حنة دلسانة فاقت زوجها شهرةً واحترامًا. ومن هنا هذه الصعوبة التي يعانيها العلماء عندما يعنون بالأنساب البيزنطية، وقضى العُرْفُ بِأَنْ يتظاهر الوالدُ بمشاركة الأم بأوجاع الولادة، إن هو رغب في أن يسيطر على المولود فيما بعد! (2) وأهم من هذا وذاك في التدليل على تحرر المرأة عند الروم، حقوق الفسيلسة زوجة الفسيلفس؛ فإنها شاركتْ زَوْجَها حق السيادة والسلطة ونيابة المسيح على الأرض، وسبقتْه إلى تَقَبُّل طاعة الشعب وولائه، فالسجود وتعفير الرؤوس بالتراب وتقديم الأعلام كانت لها وحدها قبل أن تكون للفسيلفس، وكان الشعبُ لدى خروجها من الكنيسة يهتف لها وحدها: «أهلًا بالأوغسطة المنتقاة من الله، أهلًا بالأوغسطة المحمية من الله، أهلًا بلابسة الأرجوان، أهلًا بمحبوبة الكل.» وقضى العُرف بأن تشترك في جميع المآدب وجميع الحفلات في القصر، وأن تطل على الشعب في الحفلات العمومية. وكانت لها موازنةٌ خاصةٌ تتصرف بها كيف تشاء ودون استئذانِ الفسيلفس، ومما يُروى من هذا القبيل أَنَّ ثيوفيلوس الفسيلفس رأى يومًا مِن نافذة القصر مركبًا تجاريًّا فخمًا يدخل الميناء، فهَبَّ لساعته إلى المرفأ ليتفرج على السفينة، ولدى وُصُوله إليه سأل عن صاحبها فقيل له هي الفسيلسة! وكانت هذه السفينة محملةً بضائعَ ثمينة استقدمتها الفسيلسة للاتجار بها. وأبهج وأغرب وأدل على مكانة الفسيلسة وحريتها واستقلالها أن ثيودورة زوجة يوستنيانوس الكبير كانت تميل إلى القول بالطبيعة الواحدة فأجلست على كرسي القسطنطينية أنثيميوس الشهير، ثم قضت الظروفُ السياسيةُ بعَزْلِهِ ونفيه فاختفى، وبعد التفتيشِ الدقيقِ عنه ظُنَّ أنه توفي، وبعد اثنتي عشرة سنةً تُوُفيت ثيودورة، ودخل يوستنيانوس إلى خِدْرِها فالتقى البطريرك المعزول في خِدْر زوجته حيًّا صحيحًا (3)، وتُوُفي زينون الفسيلفس، فلم تَبْكِهِ أرملتُهُ في خدرها بل انتقلت فورًا إلى القصر، ثم إلى الهيبوذروم وقامت تخطب في الشعب، فقالت: إن مجلس الشيوخ والمجلس الملكي الأعلى سيجتمعان برئاستها للنظر في الولاية، وسيتعاونان مع الجيش لانتقاء خلف صالح، ثم عادت إلى الخطابة فقالت إنها ستعنى هي بذلك! فهتف الشعب موافقًا مؤكدًا أنها هي صاحبة السيادة والإمبراطورية (4). والواقعُ هو أن هذه الديموقراطية البيزنطية لم تكن في أي وقت من الأوقات وليدة نضحٍ سياسيٍّ أو فلسفيٍّ، ولكنها تَأَتَّتْ بطبيعة الحال عن تَقَبُّل الإنجيل واتخاذه دستورًا للدولة، فالدافع نفسُهُ الذي جعل من الفسيلفس نائبًا للمسيح على الأرض أَدَّى إلى السعي لجعل المجتمع الأرضي مماثلًا بقدر المستطاع للمجتمع الرباني، ومن هنا أيضًا هذه القسوةُ في العقوبات: في قطع يدي التاجر المزوِّر، وزَجِّ الخباز الذي تقاضى أكثر مما سمح به القانونُ في الفرن نفسه الذي كان يخبز فيه عجينه، وحرق المدبِّر المرتشي حيًّا في الهيبوذروم، فالقانون إلهيٌّ في مصدره والخروجُ عليه خطيئةٌ تستوجبُ نار جهنم!
............................................
1- Oeconomus, L., Les Oeuvres d’Assistance et les Hopitaux Byzantins; Codellas, S., The
Pantocrator, Bull. Of Hist. Of Medicine, 1942, 392–410.
2- Guerdan, R., Op. Cit., 23 2.
3- Guerdan, R., Op. Cit., 27-28.
4- Bury, J. B., Later Rom. Emp., I, 429–432.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|