أقرأ أيضاً
التاريخ: 29-09-2015
2117
التاريخ: 27-7-2017
5188
التاريخ: 14-08-2015
4313
التاريخ: 23-7-2016
20081
|
امتزجت
الفلسفة الوجودية بالأدب؛ ولاسيّما في مجالَيْ الرواية والمسرحيّة، لأنها وجدت
فيهما خير وسيلة لتحليل الواقع الإنساني والكشف عما يحدق به من الضغوط والتحديات،
وتحصينه بحريته الكاملة وإرادته لاتخاذ قراراته ومواقفه والنضال لإثبات وجوده
واختيار مصيره. ولقد كان معظم فلاسفة الوجودية أدباء عرضوا أفكارهم ونظرياتهم من
خلال إبداعاتهم الأدبية عرضاً هو أفضل مما تتيحه النظريات والبحوث الجافة. كما أن
كثيراً من الأدباء انتهجوا النهج الوجوديّ في رسم رؤاهم وشخصياتهم وتحليلاتهم، حتى
تبلور في النصف الثاني من القرن العشرين ما يدعى بالأدب الوجودي، وكان من أبرز
أدبائه جان بول سارتر الذي خلّف عدداً كبيراً من القصص والروايات والمسرحيات مثل:
الأيدي القذرة، والبغيّ الفاضلة، وموتى بلا قبور، والدوامة، والذباب وروايتي الحزن
العميق ودروب الحرية، وعددٍ من القصص. وكان منهم البيروكامو الذي كان يدعى فيلسوف
العبث ومن أهم مسرحياته سوء تفاهم، والعادلون، والحصار. ومن رواياته الطاعون
والموت السعيد. ومن قصصه المنفى والملكوت ومجموعة أخرى من القصص. ومنهم غابرييل
مارسيل الذي برزت وجوديته الأدبية في مسرحية (رجل اللّه). ومنهم سيمون دي بوفوار
زوجة سارتر، ويعدّ من أصحاب النزعة الوجودية أمثال الشاعر ت.س إيليوت (في النصف
الأول من القرن العشرين) وصموئيل بيكيث وجيمس جويس على اختلاف بين هؤلاء واحتفاظ
كلٍ منهم بطابعه الخاص.
وإذا
رحنا نلتمس رسم الخطوط العامة للأدب الوجودي لم نجد أفضل من المقالة التي كتبها
جان بول سارتر عام 1945 بُعَيْد تحرّر فرنسا وجعلها مقدمة لمجلّته (الأزمنة
الحديثة) ومن ثمَّ أصبحت دستوراً للأدب الوجودي(1) وتتلخص فيما يلي:
1-لكلّ كاتب موقف في عصره ومسؤولية تجاه مجتمعه والإنسانية بصورة
عامة، ولكلّ كلمةٍ صداها، حتى إنَّ الصمت موقف له دلالته. والأديب قادرٌ على
التأثير في زمانه من خلال وجوده ومواقفه. وإن مستقبل العصر هو الذي يجب أن يكون
محور عناية الأدباء.
والمستقبل
إنما يتكون من أعمال الإنسان الجارية ومشاريعه وهمومه وآماله ومواقفه وثوراته
ومعاركه... والأديب
يكتب عن عصره ومعاصريه، ويتحدث عن نفسه وعنهم في آن واحد وعلى حدٍ سواء فكلهم
متساوون وأحرار، ولا يقتصر على طبقة معينة أو ينساق في تيار الدكتاتورية، ولكن
موقفه سيقوده حتماً للوقوف في صف طبقته التي يشاركها المعاناة.
2-الوجودية فلسفة الفرد والذات ضمن موقع خارجي، والكاتب يطمح إلى تغيير
المستقبل عن طريق خلق مواقف مشابهة لموقفه، وتتراكم هذه المواقف وتتآزر لتحدث
التغيير المنشود. وهكذا يتجلى التضافر بين الذات والمجتمع، وتصبح الآداب تعبيراً
عن ذاتية ومجتمع في حالة ثورة دائمة.
3-لا مهادنة ولا إخاء مع القوى المحافظة التي تتمسَّك بالتوازن
ولأجل ذلك تضغط على الحريّة وتمارس القمع والظلم. ولابد لكل كاتب، ولكلّ إنسان، من
النضال. والكاتب موقف وقضية في صميم المعركة. ويظل موقف الأديب الوجودي إلى جانب
المضطهدين والمسلوبي الحركة، فيعمل لتحريرهم أولاً ثم يضعهم أمام ذواتهم
وإراداتهم، ليحددوا مواقفهم ويتخذوا قراراتهم. والفرد الحرّ عليه أن يختار، بل هو
ملتزم أن يختار موقفه الذي يقرر مصيره ومصير البشر..
4-كما لا يوجد
انفصال بين الفرد والمجتمع، لا يوجد انفصال بين الروح والجسد، ولا يعرف الوجوديُّ
سوى واقعٍ واحد لا يتجزّأ هو الواقع الإنسانيّ والجماعة لاتلغي
الفردية بل عليها أن تحترم تفتحها الذاتي مادامت لا تُصادر حرية الآخرين، وكلُّ
لجمٍ لحرية الفرد أو إلزامٍ له بآراء شمولية جاهزة أو تعامٍ عن الفروق الفردية
يعتبر ضرباً من الاستبداد والدكتاتورية.
5-تختلف منازع
الأدباء الوجوديين، فبينما نجد كير كيغارد متحمّساً للمسيحية، نرى كامو غارقاً في
مأساة الوجود الإنساني وعبثية الأقدار والحياة وأجواء الكآبة والقرف واليأس. أما
سارتر فقد نشر فلسفة الحرية والالتزام والمسؤولية والكفاح لأجل الجماعة والإنسانية
متأثراً بمعاناة فرنسا من الاحتلال النازيّ، وإداركه أن المصير متعلقٌ بالحرية،
ولا مناص من المقاومة بكل الوسائل. وقد سادَ هذا الاتجاه ولقي قبولاً في كل أنحاء
العالم الباحث عن الحرية المناصر لقضايا الشعوب المستضعفة؛ فلا غرابة أن يعدّ
سارتر المعلم الأول للنزعة الوجودية المناضلة. وقد استمر هذا التيار إلى أواخر
القرن العشرين واعتنقه كثير من الشبان المثقفين والثوريين.
6-النثر عند
الوجوديين أداة كشف وتغيير، ويؤثر في الجماهير عن طريق الإقناع، والناشر كاتب حرّ
يخاطب أحراراً ولكن لابد في النثر من الجمالية، وإلاّ فلا يكون أدباً. وجماليته
ليست مقصودة لذاتها بل هي إضافية ومكمّلة ولا تنفصل عن الموضوع. والشخصيات بشر
واقعيّون من لحمٍ ودم وروح، يعون قضايا الإنسان المعاصر بكثافة وعمق، ويُعانون
الصراع في المجتمع لإثبات حريتهم والتمتع باختيار موقفهم ومصيرهم في هذا الكون
المعقد، وإثبات إرادتهم الحرة، ومن ثم الالتزام الخاصّ وتحمّلُ مسؤولية القرار..
وبعد ذلك هل ينتصر الإنسان أم ينهزم ويُسحَق؟ هنالك اختلاف يطابق التفاؤل أو
التشاؤم عند الكاتب. ومن المتفائلين سارتر وفوكنر ومن السلبيين المتشائمين كامو
وإليوت.
7-أما من حيث الشكل الفنّي للأجناس الأدبيّة، فالوجوديون -شأنهم في
ذلك شأنُ أدباء القرن العشرين-لا يُقدّسون الأطر القديمة والأشكال الشائعة بل
يعيدون النظر في كلّ الطرائق والأساليب ويحطمون المألوفات السابقة ويحاولون خلق
تقنيات جديدة؛ لكنهم جميعاً متفقون على أن الجمالية عنصر ضروريٌ في الأدب شعراً
ونثراً وتستمد من طبيعة الموضوع والمتطلبات الخارجية. ولذلك كثر التجريب، وولدت
أنماط جديدة من المسرحية والرواية والشعر.
ويرى
سارتر أن الشعر مثل بقية الفنون دائم التجدد والتحديث وهو يتبادل التأثير
والمعطيات مع سائر الفنون، بل هو جانب من الرسم والنحت والموسيقا، والكلمات فيه
أشياء وليست إشاراتٍ لغوية كما هو الأمر في النثر. إنها أشياء طبيعية تنمو كالعشب
والأشجار؟ وللكلمة شكلها الصوتي ومظهرها البصري، وبهما تصبح أداة تشكيل. والكلمات
تتجمع وتتعانق وتتداعى، وتشكل فيما بينها أشكالاً من التطابقات والتنافرات. ويصبح
التعبير عن طريق الإيحاء والرمز، وتتغير العلاقات اللغوية.
وفي
الشعر تمتزج عناصر من الرمزية والسرياليّة والفلسفة والتصوف والغناء، والغاية منه
الكشف عن أزمة الإنسان في وجوده روحاً وجسداً ضمن واقع شامل يعاني منه القلق
والعذاب والخوف، لأنه واقع معادٍ. ولذا يغلب على شعراء الوجودية طابع التشاؤم
والسوداوية والحيرة والإحباط، ومثالنا على ذلك أشعار ت.س إليوت المعبّرة عن الضياع
والخواء والكآبة.
____________________
(1) راجع هذه المقالة في كتاب ما هو الأدب
لسارتر، ترجمة: جورج طرابيشي.