أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2017
11992
التاريخ: 29-09-2015
1480
التاريخ: 14-08-2015
4030
التاريخ: 29-09-2015
2523
|
في حدود المنهج
الفني نملك أن نواجه (العمل الأدبي) فنحكم عليه حكما تقريرياً قائما على دعامتين:
(الأولى) تأثرنا الذاتي بهذا النص؛ ذلك التأثر المنبعث من ذوقنا الخاص وتجاربنا
الشعورية والفنية السابقة. (الثانية) نظرتنا الموضوعية على قدر الامكان الى القيم
الشعورية والقيم التعبيرية الكامنة في هذا العمل ..، ونملك كذلك في حدود هذا
المنهج ان نواجه الاديب ذاته، فنحكم على خصائصه الشعورية وخصائصه التعبيرية – اي
مجموعة خصائصه الفنية – كما تبدو من خلال أعماله الأدبية.
وإلى هنا يقف بنا
ذلك المنهج، وقد ادى كل ما يملكه لنا من عالم النقد. فاذا نحن تجاوزنا ذلك الحد،
فرغبنا مثلا في ان ندرس مدى تأثر العمل الأدبي او صاحبه بالوسط ومدى تأثيره فيه،
او في دراسة الاطوار التي مر بها فن من فنون الأدب او لون من ألوانه، او في معرفة
مجموعة الآراء التي أبديت في عمل أدبي أو في صاحبه، لتوازن بين هذه الآراء، أو
لنستدل منها على لون التفكير السائد في عصر من العصور؛ او اذا حاولنا ان نجمع
خصائص جيل او امة في آدابها، او نصل بين هذه الخصائص او مجموعة الظروف التي احاطت
بها؛ او اذا اردنا ان نحرر نصا او عدة نصوص فنتأكد من صحتها وصحة نسبتها الى
قائلها .. إلى أمثال هذه المباحث التي تخرج عن عملية التقويم الفنية الفردية للعمل
الأدبي ولصاحبه، فان المنهج الفني وحده لا ينهض بشيء من هذا. ولابد ان نلجأ حينئذ
الى منهج اخر هو: (المنهج التاريخي).
هذا المنهج لا
يستقل بنفسه، فلابد فيه من قسط من المنهج الفني. فالتذوق والحكم ودراسة الخصائص
الفنية ضرورية في كل مرحلة من مراحله.
هبنا نريد دراسة
الأطوار التاريخية لشعر الغزل في الأدب العربي او شعر الطبيعة او اي فصل من فصول
الأدب الاخرى .. اننا سنتتبع هذا الفصل منذ نشأته المعروفة سنجمع اولا نصوصه في
أقصى ما نستطيع من مصادره ونرتبها ترتيبا تاريخياً بعد تحريرها ونسبتها الى
قائلها. وسنجمع ثانيا آراء المتذوقين والنقاد على اختلاف عصورهم لهذا اللون من
الأدب. وسندرس ثالثا جميع الظروف التي احاطت بتلك الاطوار واثرت بها .. الخ.
وفي كل مرحلة من
هذه المراحل لابد لنا ان نتذوق النصوص التي جمعناها، وان نتملى خصائصها الشعورية
والتعبيرية – وهذا هو المنهج الفني في صميمه – ولابد لنا ان نتذوق آراء المتذوقين
والنقاد على مدى العصور، لنكون قادرين على الموازنة وتطبيقها على ما بين أيدينا من
النصوص. وهكذا لا نزال في صميم المنهج الفني. ثم ان رأينا الفردي في هذه النصوص هو
احدى الوثائق التاريخية في سجل النقد لهذا الفصل الذي ندرسه. والموازنة بين الظروف
المحيطة بنا والتي تؤثر في حكمنا وتكيفه، وبين الظروف التي احتاطت بسوانا واثرت في
حكمه وكيفته .. في حاجة كذلك الى قسط من الحكم الفني بجانب الحكم التاريخي. ولست
في حاجة ان امضي طويلا في ضرب الأمثلة على ضرورة المنهج الفني للمنهج التاريخي.
ولكنني أعرض نموذجا مما يعد من صميم المنهج التاريخي، وهو تحرير النصوص، لنرى كم
يحتاج في صميمه الى المنهج الفني.
نريد مثلا ان
نتثبت من صحة نسبة ابيات من الشعر الى امرئ القيس، او نص من نصوص النقد الى
النابغة في العصر الجاهلي.
هذه مسألة تاريخية
بحتة فيما يبدو. ولكن الادلة التاريخية قد لا تكون متوافرة لدينا عن هذا العهد
الموغل في القدم. هنا نعتمد على قاعدة من المنهج الفني .. نتذوق الشعر الجاهلي
بصفة عامة. ونقرر خصائصه الشعورية والتعبيرية حسبما يهدينا التذوق والاستعراض
وتتبع الخصائص المشتركة – مع دراسة البيئة والظروف العامة ذات التأثير في تلوين
هذا الشعر – ثم نتذوق مجموعة شعر امرئ القيس خاصة ونتعرف خصائصها بدقة – وإن لم
يؤد بنا هذا ولا ذلك الى شيء من يجزم غالبا – ثم نتذوق النص المراد تحريره. ونتملى
خصائصه الشعورية والتعبيرية. ثم نرجع بعد هذا صحة نسبته او خطئها بعد الاستعانة
بالروايات وتمحيصها.
وهكذا نصنع في نص
النقد، بعد دراسة مجموعة النصوص المنسوبة الى هذا العصر، الدالة على خصائصه كما
تبدو من خلال مجموعة الدراسة التاريخية والفكرية لهذه الفترة. ثم نرجع بعد ذلك
صدور هذا النص في ذلك الحين بعد ذلك الناقد، او عدم صدوره.
وهكذا نجد ان
المنهج التاريخي لا بد ان يعتمد على (المنهج الفني) وان يكون محيطه – فيما عدا ذات
العمل الأدبي – اوسع وأشمل، ذلك انه يدرس الإطار، والإطار اوسع بطبيعة الحال.
ولكن ينبغي – مع
هذا – ان نقتصد من تدخل أحكامنا الفنية في المنهج التاريخي على قدر الامكان، وان
نحتفظ لها بمكانها الطبيعي الذي لا تتجاوزه. فحكمنا الفني على نص او على أديب انما
هو حكم واحد من احكام كثيرة سجلها التاريخ. حكم له ظروفه الحاضرة، وله مؤثراته
واسبابه الكامنة في ذوقنا وذوق العصر الذي نعيش فيه. فيجب عند النقد التاريخي ان
نضع حكمنا هذا بجانب تلك الاحكام، وألا نعطيه قيمة أكثر مما لأمثاله من أحكام
اخرى!
وفي الوقت ذاته
علينا ان نبحث علة الاحكام السابقة وظروفها بروح محايدة، فكثير من هذه الأحكام
السابقة شابته ظروف، وأثرت فيه ملابسات، وعلينا قبل ان نعطيها قيمتها ان نستكشف
ظروفها وملابساتها، بعد مراجعة التاريخ العام للفترة التي صدرت فيها، ودراسة
الظروف الخاصة والملابسات التي احاطت بقائليها، ونوع الصلات الفكرية والمزاجية
والشخصية التي كانت بين اصحابها واصحاب النصوص الادبية التي اصدروا احكامهم عليها
.. إلخ.
ومن أخطر مخاطر
(المنهج التاريخي) الاستقراء الناقص، والاحكام الجازمة، والتعميم العلمي.
فالاستقراء الناقص
يؤدي بنا دائما الى خطأ في الحكم. ومن الاستقراء الناقص الاعتماد على الحوادث
البارزة، والظواهر الفذة التي لا تمثل سير الحياة الطبيعي. فألمع الحوادث وأبرز
الظواهر ليست أكثر دلالة من الحوادث العامة والظواهر الصغيرة. وما نراه نحن أكثر دلالة
قد لا يكون كذلك في ذاته، بل ربما كان انجذابنا الخاص للإعجاب به او الزراية عليه
هو علة ما نرى فيه من دلالة بارزة! والأسلم ان نجمع أقصى ما نستطيع الحصول عليه من
الظواهر والدلائل: حادثة او نصا او مستندا ... والا نصدر احكامنا الا بعد الانتهاء
من جميع هذه الاسانيد، فذلك أضمن وأكفل بالصواب.
وأضرب بعض الامثلة
المختصرة على خطر الاستقراء الناقص من أعمال أدبائنا المعاصرين:
1- درس الدكتور طه حسين شعر المجون في العصر العباسي في
كتاب (حديث الاربعاء) ثم اتخذ منه دليلا على روح هذا العصر. وحكم مثل هذا كان
يقتضي دراسة سائر فنون القول في هذا العصر، في سائر فنون التفكير، في سائر مظاهر
الحياة. ومع دراسة مستندات تاريخية شاملة عن كل ملابسات تلك الفترة، قبل اصدار حكم
على روح العصر كالحكم الذي اصدره الدكتور.
2- استند الاستاذ العقاد من كتب (العبقريات) على بضع حوادث
بارزة فذة في تاريخ بعض الشخصيات – بعضها غير مقطوع بصحته – لتصوير (شخصية) بطلها،
ولهذه الحوادث دلالتها من غير شك، ولكن استعراض سلسلة حياة هذه الشخصية أضمن وأكفل
بصحة تصوير الشخصية.
3- اعتمدت انا شخصيا في اصدار حكم على شعر الشاعر العربي
بالطبيعة في كتابي (كتب وشخصيات) (مثال رقم 2 في المنهج الفني) على استقراء
المشهور من الشعر العربي، فهو حكم قابل للتخطئة، وأنا الآن أحاول ان اعيد الدراسة لاستيعاب
المشهور وغير المشهور من هذا الشعر، لوزن ذلك الحكم الذي أصدرته متعجلا!
والأحكام الجازمة
في المنهج التاريخي خطرة كذلك مثل الاستقراء الناقص، ولا سيما ونحن نواجه في
الغالب مسائل تاريخية قديمة ليست لدينا جميع مستنداتها، فالظن والترجيح وترك الباب
مفتوحا لما يجد كشفه من المستندات، أسلم من الجزم والقطع.
(الترجمة من
الهندية في عصر النهضة الاسلامية هي التي اوجدت شعر الزهد في الدولة العباسية .. )
(اتساع نفوذ الفرس هو الذي اوجد شعر المجون والخمريات). (كثرة الجواري هي السبب في
انتشار الغناء..). (عزلة الحجاز عن السياسة هي التي خلقت العزل هناك) ... الخ. هذه
الاحكام عرضة للخطأ لما فيها من الجزم. ولاقتصارها على سبب واحد لوجود ظاهرة أدبية
او اجتماعية. وقلما يكون للظاهرة الواحدة سبب واحد. ولابد من دراسة مجموعة الظروف
التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية والشخصية التي لابست هذه
الظواهر وسبقتها.
والتعميم العلمي
هو كذلك من أخطار المنهج التاريخي. لقد وجدت نزعات لهذا التعميم على إثر انتصار
طرق البحث العلمي في كشف الحقائق الطبيعية، كما انثر انتصار بعض المذاهب العلمية
خاصة في طرق البحث الادبية، فحينما نشأ مذهب دارون في النشوء والارتقاء اتجه البحث
الأدبي الى استخدام نظرياته، ومعاملة الأدب معاملة الاحياء المتطورة من حال لحال
فهو يتطور تطور الاحياء.
وكان خطره في
البحوث الادبية عظيما. لان الأدب بطبيعته غير العلم، وقد لا تتمشى اطواره مع سنة
التطور المنتظم، فالأدب هو قصة المشاعر والاحاسيس، ورواسب الشعور قد لا تتابع تطور
الاحياء. وقد يكون فيه من الانحناءات والانعكاسات أكثر مما فيه من الخط المستقيم.
وقانون التطور لا يطبق هنا بحذافيره والا تعرضنا للأخطار. على انه اتضح ان المذهب
بجملته قائم على معرفة ناقصة بحقيقة الخلية الحية وخصائصها. وهو خطأ قد يحطم
المذهب من أساسه!
والأدب لا ينفر من
التعميم العلمي على طريقة العلوم الطبيعية والبيولوجية فحسب، بل انه لينفر من هذا
التعميم العلمي على طريقة العلوم النظرية ايضا، وقد رأينا مدى ما وقع فيه (قدامة
بن جعفر) من الخطأ وهو يحاول ان يطبق الأقيسة المنطقية على فن الشعر، في أضربه
وحدوده ومحاسنه وعيوبه، فالشعر فن، والمقاييس الفنية السمحة الطليقة اولى به
وأجدر.
وأخيراً فان أخطر
مخاطر (المنهج التاريخي) الغاء قيمة الخصائص والبواعث الشخصية. فطول معاناة
الملابسات التاريخية والطبيعية والاجتماعية عند اصحاب هذا المنهج يجرفهم الى اغفال
قيمة العبقرية الشخصية، وحسبانها من اثار البيئة والظروف.
كلا! ان العبقرية
تأخذ من الوسط بلا شك ولكنها (فلتة) أكثر منها حادثا طبيعيا، وجميع الظروف لا تفسر
لنا بروز عبقرية واحدة من العبقريات الكثيرة الا اذا حسبنا حسابا لظاهرة الكمون
والاختزال، فالبركان مثلا لا يولد اليوم ولكنه ثمرة كمون وتجمع طويلين، ثم ينفجر
في ظروف معينة. فاذا شئنا ان نعد العبقرية كذلك ثمرة كمون في كيان البشرية
واختزان، فربما كان ذلك معقولاً، ولكن تفسيرها علميا متعذر. والحديث عن العبقرية
على هذا النحو نوع من المجاز الذي يقرب الحقيقة، ولكنه لا يصفها ولا يعللها.
وكل ما تمدنا به
دراسة الوسط في الأدب هو معرفة لون العبقرية واتجاهها لا طبيعتها ولا أسبابها، ومن
الواجب ان ندرس كل عبقرية دراسة مستقلة، وألا نجعل للظروف المحيطة أكثر من قيمتها.
وليس هذا ضرورياً في العبقريات الضخمة فحسب، فربما كان لازما في دراسة أي شخصية
أدبية.
ومسألة ان الأدب
تصوير للبيئة قد تكون صحيحة، إذا نحن راعينا لون الأدب وشكله اما طبيعته وحقيقته
الفنية فهي خاضعة أكثر للعنصر الشخصي والمزاج الفردي. ودراسة هذا المزاج الخاص
تجدي علينا في فهم الأدب أكثر مما تجدي دراسة الوسط. ان دراسة الوسط تجدينا في
تفهم الاتجاه الأدبي العام، والمنهج النفسي قد يجدي في تفهم الاتجاه الشخصي الخاص
ولكن هذا وذلك لا يبلغ درجة الجزم الحاسم كما سيجيء.
على ان دراسة
الوسط مع ذلك واجبة، لنعرف مدى ما أخذت الطبيعة الفنية منه ومدى ما وهبته، ثم
لندرك مدى استجابة الوسط لكل لون ولكل نتاج. فهذه الاستجابة عنصر اساسي في الحكم.
لا نحكم مثلا بأن العصر العباسي كان ماجنا، ولو كان كل شعرائه مجانا، الا حين ندرس
مدى استجابة الوسط لهذا الشعر، وطريقة حكم الجيل على الشعراء. ولا نقول مثلا: ان
المعري كان يصور عصره وأهله بما يقوله عنهم في شعره، الا إذا درسنا مزاج المعري
الخاص وطريقة نظرته الى الحياة والوقائع والناس. ولا نقول: ان المتنبي كان يصور
حقيقة كافور ومصر والمصريين، الا اذا عرفنا الظروف التي احاطت بالمتنبي حينئذ
ودرسنا طريقة تصوره للأشياء والاحداث في هذه الفترة .. وهكذا.
على ان تصوير
البيئة قد لا يجيء صراحة في صلب الموضوع الذي يعالجه الشاعر ولكن في دلالته
البعيدة. نستطيع ان ندرك مثلا من دراسة القصص الروسي قبل الثورة ان هناك ضجرا
عاما، وسخرية بالأوضاع والأشياء، وتهيؤا لانقلاب. ولو لم يذكر شيء صراحة عن الدعوة
الى الانقلاب.
ونستطيع من دراسة
الأدب في مصر في العصر الحديث ان نلمح انها تجتاز فترة اضطراب وبحث عن اتجاه لم
تستقر عليه الافكار، حينما نرى فيه عدة اتجاهات الى اقصى اليمين والى اقصى اليسار.
بعضهم يفتش عن المثل في أطواره تاريخنا القديم في عصر النهضة الاسلامية، وبعضهم
يتجمد بالفرعونية، وبعضهم يتجه الى اوروبا وأمريكا، وبعضهم يتجه الى روسيا؛ كما ان
بعضهم ينطوي على نفسه عازفا عن المجتمع وما فيه.. هي حالة تموج واضطراب. قد تتمخض
عن انقلاب وقد تتمخض عن استقرار. إلخ (1).
على أنه ينبغي قبل
ان نقرر شيئا من دلالة الأدب على البيئة ان ندرس الافراد وظروفهم وأمزجتهم
وعواملهم الشخصية. يجب ان نفرز الفرد من المجموع وان نعرف ما هو فردي وما هو
جماعي، ليكون حكمنا أقرب الى الصواب.
وأهم شيء هنا هو
دراسة مدى التجارب بين الأديب والوسط. فاستقبال الوسط للأدب هو الذي يحدد مدى
تصويره له.
على ان هناك شيئا
آخر يقال. ان الأدب ليس تقريرا للظواهر الحاضرة بقدر ما هو تعبير عن الاشواق
البعيدة والرغبات المكنونة. سواء للفرد او للجماعة. وكثيرا ما يكون الأدب نبوءات
بعيدة. حقيقة ان الواقع الحاضر هو الذي يستدعي تلك النبوءات، ولكن الفرد الممتاز
كثيرا ما يسبق عصره، ويتنبأ وحده نبوءات لا يدركها الآخرون، ولا يفتحون لها
قلوبهم. فحين يجيء ناقد يدرس مثل هذا الأديب، ويتخذ من أدبه صورة للبيئة وتعبيراً
عن العصر يخطئ الحكم والتفسير.
وعلى الجملة فإن
الواجب يقتضي في (المنهج التاريخي، ان ندرس الموقف من جميع زواياه، وألا نخطئ
فنجعل الفردي عاما، كما لا نخطئ فنطبق العام على الأفراد، فللفرد أصالته وللمجموعة
أصالتها. وعلينا ان نفرز هاتين الاصالتين من ناحية، وان نبحث عن المشترك بينهما من
ناحية اخرى، وان ندرك ان الأدب خصوصية فردية تتأثر بالتيار العام، ولكنها لا تندغم
في التيار العام، إلا اذا كانت خصوصية ضئيلة صغيرة.
وبهذا نجمع للمنهج
التاريخي دائرته المأمونة، ولا نتجاوز به حدوده، ولا نطغي به على صميم (العمل
الأدبي) ولا على شخصية الاديب.
***
والآن وقد انتهينا
من تصوير خصائص (المنهج التاريخي) وحدوده، وموضع زلاته، نرى ان نستعرض خطواته في
النقد العربي.
لقد شهدنا مولد
(المنهج الفني) في هذا النقد، وتتبعنا خطاه شيئا ما، وضربنا عليه الامثلة. ومولد
(المنهج التاريخي) في النقد العربي قد عاصر مولد (المنهج الفني) تقريبا، وتلبس
كلاهما بالآخر في أغلب الاحوال.
ففي مرحلة التذوق
في العصر الجاهلي وصدر الاسلام، حينما كان المعول عليه في النقد هو الذوق الفردي
والجماعي، كان بعضهم يلاحظ التشابه بين شاعر وشاعر في المستوى الشعري، او في
الاتجاه العام، او في بعض المعاني الخاصة. من ذلك نظرهم الى الاربعة الكبار:
النابغة والاعشى وزهير وامرئ القيس على أنهم طبقة. ثم نظرهم كذلك في الاسلام الى
جرير والفرزدق والأخطل. فهذا لون ساذج من (المنهج التاريخي) القائم على (المنهج
الفني).
وفي مرحلة التدوين
التي بدأها الجاحظ بكتابه (البيان والتبيين) سار التذوق الى جوار التاريخ. فتدوين
النصوص في ذاته، ونسبتها الى اصحابها، وذكر ملابساتها، وتجميع ما قيل في مسألة
خاصة كالعصا والبخل والبيان وغيرها من الموضوعات التي جمع الجاحظ ما قيل فيها ..
كل ذلك من أوليات المنهج التاريخي. وحديثه عن اللفظ والمعنى، وعن بلاغة بعض
الأقوال وجودتها .. إلخ ذلك من أوليات المنهج الفني. وكلاهما مجتمعان في كتاب.
و(ابن سلام) في
(طبقات الشعراء) كان يمزج بين المنهجين في طفولتهما. كذلك صنع فيما بعد كل من ابن
قتيبة والآمدي وأبي الحسن الجرجاني وأبي هلال وابن رشيق وغيرهم، وهم يثبتون النصوص
لأصحابها، ثم يبحثون عن السرقات بين السابق واللاحق، ومن منهم أحسن واجاد في
الاخذ، ومن منهم قصر وافسد المعنى، ويتحدثون عن اثر البداوة والحضارة في الأدب
الخ.. وهذا من أوليات (المنهج التاريخي).
وإذا كان المنهج
الفني هو الذي كان غالبا على هؤلاء المؤلفين، فإن هناك آخرين غلب عليهم المنهج
التاريخي، وان لم تخل مؤلفاتهم من آثار المنهج الفني. فطريقة التأليف العربية في
الأدب لم تكن تتبع مناهج معينة. ومنذ ان بدأ الجاحظ بكتاب البيان والتبيين نسج
مؤلفو الأدب على منواله، كما فعل تلميذه المبرد في كتابه (الكامل) وابن قتيبة في
كتابه (عيون الاخبار) والحصري في (زهر الآداب).
وحتى الذين أرادوا
التخصص في النقد كابن قتيبة والآمدي والجرجاني وابي هلال وابن رشيق، والتخصص في
الرواية كأبي على القالي في الأمالي، وابن عبد ربه في العقد الفريد، وابي الفرج
الاصفهاني في الاغاني، والثعالبي في اليتيمة .. لم ينجوا من الاستطراد والمزج بين
هذا وذاك. ولكن المنهج التاريخي كان في المجموعة الاخيرة أوضح، ولا سيما في كتاب
(الأغاني) الذي يثبت النصوص ويرويها مسلسلة عن الرواة، ويصحح بعض الروايات، ويضعف
البعض، ويذكر مناسبات النصوص وما يدور حولها من حوادث وروايات، ويعرف بالشاعر
وطبقته ومزاجه. وكذلك صنع صاحب (الأمالي) في بعض النصوص دون البعض. اما صاحب
(اليتيمة) فهو يذكر النصوص لأصحابها، ويعرف بهم. ويكر منزلتهم في الأدب، وقد يتطرق
الى تعليل جودة شعر على شعر بالبيئة والوسط كما صنع في تفضيل شعراء الشام على
شعراء العراق، وأخذ شاعر عن شاعر.. الخ. وكل هذا من صميم (المنهج التاريخي) (2)
وفي الامثلة الآتية تتبين طريقة كل من هؤلاء.
من كتاب البيان
والتبيين للجاحظ (عاش بين سنتي 159-255) هـ (مما يكتب في باب العصا):
قالت أمامة يوم
برقة واسط يا بن العذير لقد جعلت
تغير
أصبحت بعد زمانك
الماضي الذي ذهبت شبيته وغصنك أخضر
شيخا دعامتك العصا
ومشيعا لا تبتغي خيرا ولا تستخبر
ويضم البيت الاخير
الى قوله:
وهلك الفتى ان لا
يراح الى الندى وان لا يرى شيئا عجيبا
فيعجبا
ومن يبتغي مني
الظلامة يلقني إذا ما رآني أصلع
الرأس اشيبا
وقال بعض الحكماء:
أعجب من العجب ترك التعجب من العجب.
وقيل لشيخ هرم: اي
شيء تشتهي؟ قال: اسمع بالأعاجيب وأنشد:
عريض البطان جديب
الخوان قريب المراث من المرتع
فنصف النهار
لكرسائه ونصف لمأكله أجمع
ومما يضم الى
العصا قوله:
لعمري لئن جليت عن
منهل الصبا لقد كنت ورادا لمشربه
العذب
ليالي اغدو بين
بردين لاهيا أميل كغصن البانة
الناعم الرطب
سلام على سير
القلاص مع الركب ووصل الغواني
والمدامة والشرب
سلام امرئ لم تبق
منه بقية سوى نظرة العينين او شهوة
القلب
(وقال الحاجب بن
ذبيان لأخيه زرارة:
عجلت مجيء الموت
حين هجرتني وفي القبر هجر يا زرار
طويل
وقال الآخر:
ألم تعلمي يا عمرك
الله أنني كريم على حين الكرام قليل
وإني لا أخزي إذا
قيل مقتر جواد، وأخزي أن يقال بخيل
وإِلاَّ يَكُنْ
عَظْمي طويلاً فَإِنَّني لَهُ
بِالخِصالِ الصَّالِحاتِ وَصولُ
إِذَا كُنْتُ في
القَوْمِ الطِّوالِ فَضَلْتُهُمْ
بِطَوْلي لَهُمْ حَتَّى يُقالَ طَويلُ
ولا خَيْرَ في
حُسْنِ الجُسُومِ وَطولِها إِذا
لَمْ يَزِنْ طُولَ الجُسُومِ عُقولُ
وَكائن رأَيْنا من
جُسُومٍ طَويلةٍ تَموتُ إِذَا لَمْ
تُحْيِهِنَّ أُصُولُ
ولم أَرَ
كَالْمَعْروفِ أَمَّا مَذَاقُهُ
فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُهُ فَجَمِيلُ
وقال زياد بن زياد:
إذا ما انتهى علمي
تناهيت عنده أطال فألمي ام تناهي
فأقصرا
ويخبرني عن غائب
المرء فعله كفى الفعل عما غيب المرء
مخبراً
وقال ابن الرقاع:
وقصيدة قد بت أجمع
بينها حتى أقوم ميلها وسنادها
نظر المثقف في
كعوب قناته حتى يقيم ثقافه منآدها
وعلمت حتى لست
أسأل عالما عن حرف واحدة لكي ازدادها
وهكذا يمضي في سرد
ما قيل عن العصار من قريب او بعيد، دون نقد او تعليق الى نهاية الباب.
***
من كتاب العقد
الفريد لابن عبد ربه (عاش بين سنتي 246-327) في باب التعازي:
(قال عبد الرحمن
بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يعزيه في ابنه أيوب – وكان ولي عهده وأكبر ولده -
: يا أمير المؤمنين، إنه من طال عمره فقد احبته، ومن قصر عمره كانت مصيبته في
نفسه، ولو لم يكن في ميزانك لكنت على ميزانه.
(وكتب الحسن بن
أبي الحسن الى عمر بن عبد العزيز يعزيه في ابنه عبد الملك.
وعوضت أجراً من
فقيد، فلا يكن فقيدك لا يأتي وأجرك
يذهب
(العتبي قال: قال عبد الله بن الأهتم: مات لي
ابن وأنا بمكة، فجزعت عليه جزعا شديدا، فدخل علي ابن جريج يعزيني فقال لي: يا ابا
محمد. اسل صبراً واحتسابا، قبل ان تسلو غفلة ونسيانا مكا تسلو البهائم، وهذا
الكلام لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه يعزي به الأشعث بن قيس في ابن له. ومنه
اخذه ابن جريج، وقد ذكره حبيب في شعره فقال:
وقال علي في
التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك
المآثم
أتصبر للبلوى عزاء
وحسبة فتؤجر ام تسلو سلو البهائم؟
(أتى علي بن ابي
طالب كرم الله وجهه لأشعث يعزيه عن ابنه فقال: ان تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم،
وان تصبر فان في الله خلفا من كل هالك، مع أنك ان صبرت جرى عليك القدر وانت مأجور،
وان جزعت جرى عليك القدر وانت آثم .. إلخ).
وجاء في باب
(قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه):
قالت الحكماء: لا
ينفع الملك الا بوزرائه وأعوانه، ولا ينفع الوزراء والأعوان الا بالمودة والنصيحة،
ولا تنفع المودة والنصيحة الا مع الرأي والعفاف. ثم على الملوك بعد، ألا يتركوا
محسنا ولا مسيئا ما دون جزاء، فإنهم إذا تركوا ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء،
وفسد الأمر وبطل العمل.
وقال الأحنف بن قيس:
من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثقاته فقد أتى من مأمنه.
وقال العباس بن الاحنف:
قلبي الى ما ضرني
داعي بكثر احزاني واوجاعي
كيف احتراسي من
عدوي إذا كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفر إليهم فهم ربتي فأين الفرار؟
وأول من سبق الى
هذا المعنى عدي بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر:
لو بغير الماء
حلقي شرق كنت كالغصان بالماء
اعتصاري
وقال آخر:
الى الماء يسعى من
يغص بريقه فقل أين يسعى من يغص بماء؟
وقال عمرو بن العاص:
لا سلطان الا
بالرجال، ولا رجال الا بمال، ولا مال الا بعمارة، ولا عمار الا بعدل. (وقالوا:
إنما السلطان بأصحابه كالبحر بأمواجه).
***
من الأغاني لأبي
الفرج الاصفهاني (عاش بين 284 – 356) في حديثه عن عمر بن أبي ربيعة.
أيها المنكح
الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما
استقلت وسهيل إذا استقل يماني
وذكر الرياشي عن
ابن زكريا الغلابي عن محمد بن عبد الرحمن التميمي عن أبيه عن هشام بن سليمان بن
عكرمة بن خالد المخزومي قال:
كان عمر بن ابي
ربيعة قد ألح على الثريا بالهوى، فشق ذلك على أهلها، ثم ان مسعدة بن عمرو اخرج عمر
الى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت الثريا وهو غائب فبلغه تزويجها وخروجها الى مصر فقال:
أيها المنكح
الثريا سهيلا عمرك الله كيف
يلتقيان؟
وذكر الأبيات وقال
في خبره: ثم حمله الشوق على ان سار الى المدينة فكتب إليها:
كتبت اليك من
بلدي كتاب مولّه كمد
كئيب واكف
العينـ ـين بالحسرات منفرد
يؤرقه لهيب
الشو ق بين السحر والكيد
فيمسك قلبه
بيد ويمسح عينه بيد
وكتبه في قوهية
وشنفه وحسنه وبعث به إليها. فلما قرأته بكت بكاء شديداً ثم تمثلت:
بنفسي من لا يستقل
بنفسه ومن هو إن يحفظ الله ضائع
وكتبت إليه تقول:
أتاني كتاب لم ير
الناس مثله أمد بكافور ومسك وعنبر
وقرطاسه قوهية
ورباطه بعقد من الياقوت صاف وجوهر
وفي صدره مني اليك
تحية لقد طال تهيامي بكم وتذكري
وعنوانه من مستهام
فؤاده الى هائم صب من الحزن مسعر
(وقال مؤلف هذا الكتاب:
وهذا الخبر عندي مصنوع، وشعره مضعف يدل على ذلك، ولكني ذكرته كما وقع الي).
وفي حديثه عن
الحطيئة يقول:
أخبرني ابو خليفة
عن محمد بن سلام، قال أخبرني ابو عبيدة عن يونس قال:
قدم حمادة الراوية
البصرة على بلال بن ابي بردة وهو عليها فقال له: ما أطرفتني شيئا يا حماد؟ قال:
بلى ثم عاد إليه فأنشده للحطيئة في ابي موسى الاشعري يمدحه:
جمعت من عامر فيه
ومن جشم ومن تميم ومن جاء ومن حام
مستحقبات رواياها
جحافلها يسمو بها أشعري طرفه سامي
(فقال له بلال: ويحك! أيمدح الحطيئة ابا موسى
الاشعري، وأنا اروي شعر الحطيئة كله فلا أعرفها! ولكن أشعها تذهب في الناس!).
وفي حديثه عن
العرجي يقول:
أخبرني الحرمي عن
أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن العوام بكار قال: حدثني عمي: انه انما لقب العرجي
لأنه كان يسكن عرج الطائف، وقيل بل سمي بذلك لماء كان له ومال عليه بالعرج. وكان
من شعراء قريش ومن شهر بالغزل منها، ونحا نحو عمر بن ابي ربيعة في ذلك وتشبه به
فأجاد. وكان مشغوفا باللهو والصيد، حريصا عليهما، قليل المحاشاة لأحد فيهما، ولم
يكن له نباهة في أهله، وكان أشقر أزرق جميل الوجه. وجيداء التي شبب بها هي ام محمد
بن هشام بن اسماعيل المخزومي، وكان ينسب بها ليفضح ابنها لا لمحبة كانت بينهما،
فكان ذلك سبب حبس محمد إياه وضربه له حتى مات في السجن.
وأخبرني محمد بن
مزيد عن حماد عن أبيه عن مصعب قال:
(كانت حبشية من
مولدات مكة ظريفة صارت الى المدينة، فلما أتاهم موت عمر بن ابي ربيعة اشتد جزعها،
وجعلت تبكي وتقول: من لمكة وشعابها وأباطحها ونزهها، ووصف نسائها وحسنهن وجمالهن.
ووصف ما فيها؟! فقيل لها: خفضي عليك، فقد نشأ فتى من ولد عثمان، يأخذ مأخذه ويسلك
مسلكه، فقال أنشدوني من شعره، فأنشدوها، فمسحت عينيها وضحكت وقالت: الحمد لله! لم
يضيع حرمه)!
وهنا نرى نهجا
جديدا فيه نقد وتعقيب وموازنة وترجيح.
***
من كتاب الأمالي
لأبي علي القالي (عاش بين 288-356هـ).
وحدثنا ابو بكر
قال حدثنا ابو حاتم وعبد الرحمن عن الاصمعي قال: قدم متمم بن نويرة العراق، فأقبل
لا يرى قبرا إلا بكى عليه فقيل له: يموت أخوك بالملا وتبكي انت على قبره بالعراق؟!
فقال:
لقد لامني عند
القبور على البكا رفيقي لتذراف
الدموع السوافك
أمن أجل قبر
بالملا انت نائح على كل قبر او على كل
هالك؟
ويروي هذا البيت:
فقال أتبكي كل قبر
رأيته لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الشجي
يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبر مالك
ألم تره فينا يقسم
ماله وتأوي إليه مزملات الضرائك
وقرأت على أبي بكر
– رحمه الله-لبعض طيء يرثي الربيع وعمارة ابني زياد العبسيين وكانت بينهم مودة:
فإن تكن الحوادث
جربتني فلم أر هالكا كابني زياد
هما رمحان خطيان
كانا من السمر المثقفة الصعاد
تهال الارض ان يطأ
عليها بمثلهما تسالم او تعادي
ومما قرأت عليه
لفاطمة بنت الأحجم بن دندنة الخزاعية:
قد كنت لي جبلا
ألوذ بظله فتركتني أضحى بأجرد ضاحي
قد كنت ذات حمية
ما عشت لي أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع
للذليل وأتقي منه وأدفع ظالمي بالراح
وإذا دعت قمرية
شجنا لها يوما على فتن دعوت صباح
وأغض من بصري
وأعلم أنه قد بان حد فوارسي ورماحي
(فقال لي ابو بكر
–رحمه الله-: هذه الابيات تمثلت بها عائشة – رضي عنها – بعد وفاة النبي صلى الله
عليه[وآله] وسلم) -
***
من كتاب اليتيمة
للثعالبي (عاش بين 320-429).
في حديثه عن (فضل
شعراء الشام على شعراء سائر البلدان وذكر سبب ذلك):
(الم يزل شعراء
عرب الشام وما يقاربها اشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية
والاسلام، والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، واما المحدثين فخذ اليك منهم:
العتابي ومنصور النمري، والاشجع السلمي، ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة ارقي، على
ان في الطائيين الذين انتهت اليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية وهما هما. ومن
مولدي اهل الشام المعوج الرقي والمريمي والعباسي والمصيصي وأبو الفتح كشاجم
والصنوبري وأبو المعتصم الأنطاكي. وهؤلاء رياض الشعر وحدائق الظرف، فأما العصريون
ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم. والسبب في تبريز
القوم قديما وحديثا على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب. ولا سيما اهل
الحجاز. وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة اهل
العراق، بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم. ولما جمع شعراء العصر من اهل الشام
بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكا وأمراء آل حمدان وبني ورقاء، وهم
بقية العرب، والمشغوفون بالأدب المشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف
والقلم، وما منهم الا أديب جواد يحب الشعر وينتقده ويثيب على الجيد منه فيجزل
ويفضل. انبعثت قرائحهم على الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام وأحسنوا
وأبدعوا ما شاءوا).
وفي حديثه عن المتنبي:
أنموذج لسرقات الشعراء منه يقول:
وقد أخذ التمام
البدر فيهم وأعطاني من السقم
المحاقا
أخذه أبو الفرج
الببغاء فلطفه وقال:
أو ليس من إحدى
العجائب انني فارقته وحييت بعد فراقه
يا من يحاكي البدر
عنه تمامه ارحم فتى يحكيه عند محاقه
وقال ابو الطيب:
قد علم البين منا
البين اجفانا تدمي وألف في ذا القلب
احزانا
وأخذه المهلبي
الوزير وقال:
تصارمت الاجفان
منذ صرمتني فما تلتقي إلا عبرة تجري
وقال أبو الطيب
وهو من قلائده:
وكنت إذا يممت
ارضا بعيدة سريت فكنت السر والليل كاتمه
أخذه الصاحب وقال:
تجشمتها والليل
وحف جناحه كأني سر والظلام ضمير
وقال ابو الطيب
وهذا ايضا من قلائده:
لبسن الوشى لا
متجملات ولكن كن يصن به الجمالا
غار عليه الصاحب
لفظا ومعنى فقال:
لبسن برود الوشى
لا لتجمل ولكن لصون الحسن بين برود
وإنما فعل ببيته
ما فعل ابو الطيب ببيت العباس بن الاحنف:
والنجم في كبد
السماء كأنه أعمى تحير ما لديه قائد
فقال: ما بال هذي
النجوم حائرة كأنها العمى ما لها
قائد
وهذه مصالطة لا
سرقة فيها، وهي مذمومة جدا عند النقدة.
وقال أبو الطيب
وهو من فرائده:
سقاك وحيانا بك
الله إنما على العيس نور والخدور
كمائمه
أخذه السري بن
أحمد بن جني: أنشدني لنفسه من قصيدة يمدح بها ابا الفوارس سلامة ابن فهد وهي قوله:
حيا به الله
عاشقيه فقد أصبح ريحانة لمن عشقا
ولم أجد انا هذه
القصيدة في ديوان شعره: والبيت نهاية في العذوبة وخفة الروح، والسري كثير الاخذ من
ابي الطيب في مثل قوله:
وخرق طال فيه
السير حتى حسبناه يسير مع الركاب
وهو مأخوذ من قول
ابي الطيب:
يخددن بنا في جوزه
وكأننا على كرة او ارضه معنا سفر
وقال السري:
وأحلها من قلب
عاشقها الهوى بيتا بلا عمد ولا أطناب
وهو من قول ابي الطيب:
هام الفؤاد
بأعرابية سكنت بيتا من القلم لم تضرب
به طنبا
***
من زهر الآداب
للحصري (توفي سنة 453).
في حديثه عن الليل:
قال العتبي: تشاجر
الوليد بن عبد الملك ومسلمة أخوه في شعر امرئ القيس والنابغة في طول الليل: أيهما
أشعر. فقال الوليد: النابغة أشعر، وقال مسلمة: بل امرئ القيس، فرضيا بالشعبي
فأحضراه فأنشده الوليد:
كليني لهم يا
أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء
الكواكب
تطاول حتى قلت ليس
بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل
عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
وأنشده مسلمة قول
امرئ القيس.
وليل كموج البحر
أرخى سدوله علي بأنواع الهموم
ليبتلي
فقلت له لما تمطى
بردفه (3) وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل
الطويل ألا انجل بصبح وما الأصباح منك
بأمثل
فيالك من ليل كأن
نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فطرب الوليد طربا.
فقال الشعبي: بانت القضية. معنى قول النابغة: وصدر أراح الليل عازب همه، وانه جعل
صدره مراحا للهموم، وجعل الهموم كالنعم السارحة الغادية، تسرح نهارا ثم تأتي الى
مكانها ليلا، وهو أولا من اشتار هذا المعنى، ووصف ان الهموم مترادفة بالليل لتقيد
الألحاظ عما هي مطلقة فيه بالنهار، واشتغالها بتصريف اللحظ عن استعمال الفكر،
وامرؤ القيس كره ان يقول: إن الهم يخف عليه في وقت من الاوقات، فقال: وما الإصباح
منك بأمثل.
وقال الطرماح بن
حكيم الطائي:
ألا أيها الليل
الطويل ألا أصبح بيوم وما الاصباح
منك بأروح
ولكن للعينين في
الصبح راحة لطرحتها طرفيهما كل مطرح
فنقل لفظ امرئ
القيس ومعناه وزاد فيه زيادة اغتفر له معها فحش السرقة، وإنما تنبه عليه من قول
النابغة، الا أن النابغة لوح وهذا صرح).
وقال ابن بسام:
لا أظلم الليل ولا
أدعي ان نجوم الليل ليست تغور
ليلى كما شاءت فان
لم تزد طال وإن زارت فليلى قصير
وإما أغار ابن
بسام على قول علي بن الخليل فلم يغير الا القافية:
لا أظلم الليل ولا
أدعي ان نجوم الليل ليست تزول
ليلي إذا شاءت
قصير إذا جادت وان ضنت فليلي يطول
وهذه السرقة كمال
قال البديع في التنبيه على ابو بكر الخوارزمي في بيت اخذ رويه وبعض لفظه:
وإن كان قضية
القطع، تجب في الربع، فما اشد شفقتي على جوارحه، ولعمري ان هذه ليست سرقة، وإنما
هي مكابرة محضة، وأحسب ان قائله لو سمع هذا لقال: هذه بضاعتنا ردت الينا. فحسبت ان
ربيعة بن مكدم وعيينة بن الحرب بن شهاب كانا لا يستحلان من البيت ما استحله،
فإنهما كانا يأخذان جله، وهذا الفاضل قد أخذه كله.
وقد أخذه علي بن
خليل من قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان.
لا اسأل الله
تغييرا لما صنعت نامت وان اسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء
حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها
وابن بسام في هذا
كما قال الشاعر:
وفتى يقول الشعر
إلا أنه في كل حال يسرق المسروقا
***
وهكذا نرى الجاحظ
يبدأ بمجرد الجمع والاستطراد حول المعنى الواحد ولا يعني بنسبة جميع النصوص لأصحابها،
فيتابعه بنفس الطريقة ابن عبد ربه في العقد الفريد مع شيء من التبويب والتنظيم،
وفي أحيان قليلة يذكر قول من قول. ولا يبعد صاحب الأمالي عن هذا المنهج كثيرا مع عناية
ظاهرة بشرح الغريب، بينما تجد صاحب الاغاني ينتقل نقلة بعيدة فيدخل في صميم المنهج
التاريخي. يذكر النص، وينسبه لصاحبه بسلسلة من الرواية ويذكر أخباره ويقبل الرواية
او يرفضها ويعلل الرفض، ويستشهد ببعض الحوادث والرواة على كذب رواية او صدقها، ويذكر
طبقة الشاعر في بعض الأحيان وطريقته ومن يشترك معه فيها .. إلخ. وهذا من صميم
المنهج وأصوله الصحيحة. وشيء من هذا يصنعه صاحب اليتيمة بعده. وأقل منه ما يصنعه
صاحب زهر الآداب، إذ كثيرا ما يكتفي بخطوة الجاحظ وابن عبد ربه ويقف عندها في جميع
ما قيل عن المعنى الواحد.
وبذلك يعد صاحب
الاغاني خير من كتب في هذا الباب.
***
ونترك الزمن ينقضي
من القرن الخامس الى العصر الحديث، فلا نجد بين العصرين جديدا ذا شأن في المنهج
التاريخي على وجه العموم. فاذا جئنا للعصر الحديث وجدنا المنهج التاريخي قد نما
نموا عظيما. فهذه دراسات جورجي زيدان وأحمد السكندري والشيخ المهدي تبدأ الطريق.
ومع أنها كانت الى الجميع أميل منها الى التحليل، فإنها تعد خطوة كبيرة وراء ما
وقفت عنده هذه الدراسات من قبل، فقد اخذت تدرس عصور الأدب، والظروف السياسية
والاجتماعية والعلمية والاقتصادية وتتحدث عن آثارها في الأدب، في موضوعاته وأسلوبه
وتعبيره، وتدرس شيئا عن الشخصيات الأدبية في كل عصر، نعم إنها حددت العصور بالأحداث
السياسية وهذا مجاف لطبيعة التاريخ الأدبي، ولكنها على كل حال كانت بداية طيبة في
عصر النهضة.
أما أول مؤلف سلك
هذا المنهج سلوكا حقيقيا فهو الدكتور طه حسين في كتابه الأول (ذكرى ابي العلاء)
وفي كتبه الاخرى بعد ذلك، ثم الدكتور احمد امين في كتبه (فجر الاسلام، وضحى
الاسلام، وظهر الاسلام)، ثم في كتابه مع الدكتور زكي نجيب محمود (قصة الأدب في
العالم) والاستاذ طه احمد ابراهيم في كتابه (تاريخ النقد عند العرب) والدكتور محمد
خلف الله في بحثين صغيرين له عن (التيارات الفكرية التي أثرت في دراسة الأدب)
و(نظرية عبد القاهر في أسرار البلاغة) والدكتور عبد الوهاب عزام في (المتنبي)
وكتاب الأستاذ العقاد (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) يضم مزيجا من المناهج
الثلاثة، ولكن للدراسة التاريخية أثرها البارز في تحليل البيئة وعواملها، وكذلك
كتابه (ابن الرومي. حياته من شعره) وان يكون هذا الكتاب ادخل في (المنهج النفسي)
كما سيجيء، ثم في كتابه (شاعر الغزل) وكتابه عن (جميل بثينة).
وممن نهجوا هذا
المنهج كذلك الدكتور زكي مبارك في كتاب (النثر الفني في القرن الرابع) والاستاذ
احمد حسن الزيات في كتابه (اصول الأدب) والاستاذ احمد الشايب في كتابه (النقائض في
الشعر العربي) وكتابه عن (الشعر السياسي) والمتخرجون في كلية الآداب في رسائلهم
الجامعية أمثال الدكتورة سهير القلماوي في (ألف ليلة وليلة) والدكتور شوقي ضيف في
(الفن ومذاهبه في الشعر العربي)، والاستاذ نجيب البهيتي في (أبو تمام) والاستاذ
محمد كامل حسين في (الأدب المصري الاسلامي) ... إلخ.
على أية حال لقد
نما المنهج التاريخي نموا ذا قيمة على أيدي المعاصرين، وفيما يلي سنستعرض باختصار
نماذج تصور هذا النمو، وتوضح طرفا من ذلك المنهج.
ونبدأ بكتاب
الدكتور طه حسين الأول عن ابي العلاء، وهذه الفقرات من مقدمته تغنينا عن تلخيص
طريقته. فهو يقول:
ليس الغرض من هذا
الكتاب ان نصف حياة أبي العلاء وحده، وإنما نريد ان ندرس حياة النفس الاسلامية في
عصره، فلم يكن لحكيم المعرة ان ينفرد بإظهار آثاره المادية او المعنوية، وإنما
الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة لازمة، وثمرة ناضجة، لطائفة من العلل التي
اشتركت في تأليف مزاجه، وتصور نفسه، من غير ان يكون له عليها سيطرة او سلطان.
من هذه العلل
المادي والمعنوي، ومنها ما ليس للإنسان به صلة، وما بينه وبين الإنسان اتصال،
فاعتدال الجو وصفاؤه، ورقة الماء وعذوبته، وخصب الارض وجمال الربى، ونقاء الشمس
وبهاؤها .. كل هذه علل مادية تشترك مع غيرها في تكوين الرجل وتنشئ نفسه، بل وفى
إلهامه ما يعن له من الخواطر والآراء. وكذلك ظلم الحكومة وجورها، وجهل الامة وجمودها،
وجدب الآداب الموروثة وخشونتها. كل هذه او نقائضها تعمل في تكوين الإنسان عمل تلك
العلل السابقة؛ والخطأ كل الخطأ ان ننظر الى الإنسان نظرتنا الى الشيء المستقل عما
قبله وما بعده. ذلك الذي لا يتصل بشيء مما حوله، ولا يتأثر بشيء مما سبقه او احاط
به. ذلك خطأ لأن الكائن المستقل هذا الاستقلال لا عهد له بهذا العالم، إنما يأتلف
هذا العالم من أشياء يتصل بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض، ومن هنا لم يكن بين
أحكام العقل أصدق من القضية القائلة بأن المصادفة محال، وان ليس في هذا العالم شيء
الا وهو نتيجة من جهة وعلة من جهة اخرى. نتيجة لعلة سبقته، ومقدمة لأثر يتلوه،
ولولا ذلك لما اتصلت أجزاء العالم، ولما كان بين قديمها وحديثها سبب، ولما شملتها
احكام عامة، ولما كان بينها من التشابه والتقارب قليل ولا كثير.
إذا صح هذا كله،
فأبو العلاء ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل في انضاجها الزمان والماكن والحال
السياسية والاجتماعية بل والحال الاقتصادية، ولسنا نحتاج الى ان نذكر الدين فإنه
اظهر اثرا من ان نشير إليه. ولو ان الدليل المنطقي لم ينته بنا الى هذه النتيجة
لكانت حال ابي العلاء نفسه منتهية بنا إليها، فان الرجل لم يترك طائفة من الطوائف
في عصره الا أعطاها وأخذ منها، كما سنرى في هذا الكتاب. فقد حاج اليهود والنصارى،
وناظر البوذيين والمجوس، واعترض على المسلمين، وجادل الفلاسفة والمتكلمين، وذم
الصوفية، ونعى على الباطنية، وقدح في الامراء والملوك، وشنع على الفقهاء واصحاب
السنك، ولم يعف التجار والصناع من العذل واللوم، ولم يخل الاعراب وأهل البادية من
التفنيد والتثريب وهو في كل ذلك يرضى قليلا ويسخط كثيراً، ويظهر من الملل والضيق
ومن السأم وحرج الصدر ما يمثل الحياة في أيامه بشعة شديدة الظلام (4).
فالمؤرخ الذي لا
يؤمن بالمذاهب الحديثة، ولا يصطنع في البحث طرائقه الطريفة، ولا يرضى ان يعترف بما
بين أجزاء العالم من الاتصال المحتوم، ولا أن يسلم بأن الشيء الواحد على صغره
وضآلته إنما هو الصورة لما أوجده من العلل ولا يطمئن الى ان الحركة التاريخية
جبرية ليس للاختيار فيها مكان – المؤرخ القديم الذي يرفض هذا كله، ولا يميل إليه،
ملزم مع ذلك ان يبحث عن حياة ابي العلاء، فان لم يفعل ذلك استحال عليه ان يفهم
الرجل، وان يهتدى من أمره الى شيء.
(... يدل ما
قدمناه على أننا نرى الجبر في التاريخ. أي ان الحياة الاجتماعية إنما تأخذ أشكالها
المختلفة، وتنزل منازلها المتباينة، بتأثير العلل والاسباب التي لا يملكها
الإنسان، ولا يستطيع لها دفعا ولا اكتسابا. ذلك رأي نراه، وسنثبته في موضعه من
الكتاب).
وإنما نقول هنا ان
هذا الراي سيلزمنا ان نسلك في البحث عن حياة ابو العلاء طريقا خاصة. ربما لم
يألفها المؤرخون، ذلك انا لا نعتقد انفراد الاشخاص بالحوادث، وإنما نعتقد ان
الحوادث أثر لطائفة من المؤثرات، وعلى هذا لا نستبيح لأنفسنا ان نضيف اثرا من
الاثار لشخص من الاشخاص، مهما ارتفعت منزلته وعلت مكانته، ومهما عظم أثره وجل
خطره. وإنما كل أثر مادي او معنوي ظاهرة اجتماعية او كونية، ينبغي ان ترد الى
اصولها، وتعاد الى مصادرها، وان تستقي من ينابيعها، وتستخرج من مناجمها، وهي جماعة
العلل التي أشرنا إليها آنفا. فليس المأمون وحده هو الذي ابتدع فتنة القول بخلق
القران وإنما تلك فتنة احدثها عصره، واندفع المأمون بحكم المؤثرات المختلفة اي ان
يكون مظهرها، كما اندفع خلفاؤه من بعده الى ذلك بحكم هذه المؤثرات.
انما الحادثة
التاريخية، والقصيدة الشعرية، والخطبة يجيدها الخطيب، والرسالة ينمقها الكاتب
الاديب، كل ذلك نسيج من العلل الاجتماعية والكونية يخضع للبحث والتحليل خضوع
المادة لعمل الكيمياء (5).
وإذا قد بينا ان
الرجل خاضع في ادبه وعلمه لزمانه ومكانه، فليس لنا بد من أن نقدم بين يدي هذا
الكتاب، فصلا في عصر ابي العلاء وآخر في بلده. ولما كانت الاسرة اشد ما يحيط
بالرجل أثراً فيه، خصصنا فصلا آخر لأسرة ابي العلاء. فاذا فرغنا من هذا كله عمدنا
الى الحياة التاريخية للرجل، ففصلناها تفصيلا ثم انتقلنا منها الى منزلته الادبية
فبينا قسمته من الشعر والنثر، وخصائصه فيهما، ثم الى منزلته العلمية فشرحناها شرحا
مستوفي، ومن بعد هذا تناولنا فلسفته فاجتهدنا في أن نكشف عنها ونجليها، ونبين
تأثرها بما قبلها وتأثيرها فما بعدها. معنيين عناية خاصة فلسفته الإلهية والخلقية،
لكثرة ما كان فيهما من اختلاف الآراء وافتراق الاهواء ..)
وهكذا نرى الدكتور
طه شديد الايمان بالدراسة العلمية لتاريخ الأدب، شديد الثقة بما تدل عليه دراسة
البيئة والظروف الى حد تشبيها بدراسة الكيمياء.
ولكننا نلتقي به
في كتابه التالي (في الأدب الجاهلي) فاذا هو اقل ايمانا وأضعف ثقة. نراه يعرض
لدراسة البيئة والظروف فيرى انها ليست ذات غناء في التعرف الى صميم الشخصية
الادبية، ويختار عليها (المقياس الأدبي) ولعله هو ما أسميناه (المنهج الفني).
فهو يلخص آراء
(سانت بوف، وتين، وبرونتبير) ثم يعقب عليها وبخاصة على مذهبي الثاني والثالث بما
يفيد عدم ثقته، بل ربما استنكاره. يقول عن تين:
وأما ثانيهم (تين)
فيمضي الى أبعد مما مضى (سانت بوف) فهو لا يعتمد مثله اعتمادا قويا على هذه
الشخصيات الفريدة، ولا يكاد يعتمد بها الا في احتياط وتردد، ذلك لان القوانين
العلمية عامة، فيجب ان تعتمد على أشياء عامة. وما شخصية الكاتب او الشاعر في
نفسها؟ ومن أين جاءت؟ أتظن ان الكاتب قد أحدث نفسه؟ ام تظنه قد ابتكر آثاره الفنية
ابتكاراً؟ وأي شيء في العالم يمكن ان يبتكر ابتكاراً؟ ام تظنه قد ابتكر اثاره
الفنية ابتكارا؟ وأي شيء في العالم يمكن ان يبتكر ابتكارا؟ أليس كل شيء في حقيقة
الامر اثرا لعله قد أحدثته، وعلة لأثر سيحدث عنه؟ واي فرق في ذلك بين العالم
المعنوي والعالم المادي؟ واذن فلا ينبغي ان نلتمس الكاتب او الشاعر عند الكاتب او
الشاعر نفسه وإنما ينبغي ان نلتمسها في هذه المؤثرات التي أحدثتهما، والتي يخضع
لها كل شيء انساني.
الفرد؟ ما هو؟ هو
أثر من آثار الأمة التي نشأ فيها، أو قل من آثار الجنس الذي نشأ منه، فيه أخلاقه
وعاداته وملكاته ومميزاته المختلفة. وهذه الاخلاق والعادات والملكات والمميزات ما
هي؟ أثر لهذين المؤثرين العظيمين الذين يخضع لهما كل شيء في هذه الدنيا: المكان وما
يتصل به من حالة الاقليمية والجغرافية وما الى ذلك. والزمان وما يستتبع من هذه
الاحداث التي تخضع كل شيء للتطور والانتقال. الكاتب او الشاعر اذن أثر من آثار
الجنس والبيئة والزمان، فينبغي ان يلتمس من هذه المؤثرات، وينبغي ان يكون الغرض
الصحيح من درس الأدب والبحث عن تاريخه، إنما هو تحقيق هذه المؤثرات التي أحدثت
الكاتب او الشاعر، وأرغمته على أن يصدر ما كتب او نظم من الآثار).
ثم يعرض رأي
(برونتيير) الذي يطبق نظرية (التطور) تطبيقا علميا على الأدب. ثم يقول معقبا:
(لن يظفر (أي
تاريخ الأدب) من هذا بشيء ذي غناء. لأنه مهما يقل في البيئة والزمان والجنس، ومهما
يقل في تطور الفنون الادبية، فستظل امامه عقدة لم تحل بعد، ولن يوفق هو الى حلها،
وهي نفسية المنتج والصلة بينها وبين اثارها الادبية. ما هي هذه النفسية؟ ولم
استطاع فكتور هوجو ان يكون فكتور هوجو وان يحدث ما يحدث من الآيات؟
العصر؟ فلم اختار
هذا العصر شخصية فكتور هوجو دون غيره من ابناء فرنسا جميعا ومن فرنسا خاصة؟
البيئة؟ فلم
اختارت البيئة فكتور هوجو دون غيره من الفرنسيين؟
(الجنس؟ فلم ظهرت
مزايا الجنس كاملة او كالكاملة في شخص فكتور هوجو دون غيره من الاشخاص الذين
يمثلون هذا الجنس تمثيلا قويا صحيحا؟
(وبعبارة موجزة:
سيظل التاريخ الأدبي عاجزا عن تفسير النبوغ، ولن يوفق هو الى تفسير النبوغ، وإنما
هي علوم اخرى تبحث وتجد، وقد تظفر وقد لا تظفر، ولن يستطيع التاريخ الأدبي ان يكون
علما منتجا حتى تظفر هذه العلوم وتحل لنا عقدة النبوغ (6)).
وقد قال الدكتور:
إنه سيختار المقياس الأدبي في كتاب (في الأدب الجاهلي) ولكننا نرى فيه ميلا قويا
للسير على (المنهج التاريخي) كما رسمنا حدوده من قبل. شك في جود الشعر الجاهلي
الذي يروونه لكثيرين من الشعراء قبل الاسلام وقال: إنه يتبع في هذا الشك طريقة
(ديكارت) ولكنه لم يأخذ من فلسفة ديكارت الا هذا المبدأ، لم يأخذ طريقة تفكيره
ذاتها، لان موضوعه غير موضوع ديكارت، موضوعه ادبي تاريخي فاستخدم أدوات المنهج
التاريخي وطريقته.
واستند في هذا
الشك الى أمور منها: ان الصورة التي يعرضها الرواة للحياة الجاهلية غير الصورة
التي يعرضها القران – والقران اصدق وأثبت – وان اللغة التي يروي بها الشعر هي لغة
قريش بينما شعراء كامرئ القيس وغيره يقال إنهم من حمير، ولحمير لغة اخرى. ومنها ما
ثبت من انتحال بعض الرواة للشعر كحماد عجرد وخلف الاحمر، ومنها الاسباب الكثيرة:
السياسية والاجتماعية والدينية التي دعت لانتحال الشعر ونسبته الى الجاهلية ..
إلخ.
ولا ندخل هنا في
مناقشة الاسباب والبراهين التي ساقها. ولكنا نلاحظ كما لاحظ الكثيرون ان معظمها
أسباب ظنية قابلة للمناقشة. فهي بطبيعة الحال لا تؤدي الى أكثر من نتائج ظنية،
ولكن الدكتور مال ميلا قويا الى اعتراها نتائج حاسمة. وهذه احدى مخاطر المنهج
التاريخي التي أسلفنا.
ولعل هذه المظاهر
تبدو كذلك في كتاب الدكتور (مع المتنبي) وهو يسير فيه كذلك على (المنهج التاريخي)
إذ نرى فيه مثل هذه العبارات.
وعندي ان المتنبي
حين ارتحل الى البادية إنما اتصل فيها لا بالبيئة القرمطية العادية بل بداع من
دعاة القرامطة الذين كانوا يجولون في البادية، ومن يدوي؟ لعل هذا الداعي كان أبا
الفضل نفسه هذا الذي يمدحه المتنبي، ومن يدري؟ لعل المتنبي لم يعد الى البادية
مصطحبا أباه وجده، وإنما عاد مصطحبا رجلا آخر او قوما آخرين، يريدون ان يستقروا في
الكوفة، وان يدعوا فيها لمذهب القرامطة.
(ومهما يكن من
شيء، وسواء واتتنا النصوص التي بقيت لنا ام لم تواتنا، فإني أجد في نفسي شعورا
قويا جدا بأن المتنبي قد نشأ نشأة شيعية غالية لم تلبث ان استحالت الى قرمطة
خالصة).
ثم يقول:
(لست أدري أتسعدنا
النصوص التي بقيت لنا من شعر المتنبي ام لا تسعدنا؟ ولكن قوي الشعور بان المتنبي
لم يرحل الى الشام طالبا للرزق فحسب، وإنما ذهب الى الشام داعية من دعاة القرامطة
في هذا القسم الشمالي من سوريا، الذي لم يكن قد أدركه الاضطراب القرمطي كما أدرك
غيره من أقسام الشام).
ثم يقول:
(فلنستخلص من كل
ما قدمنا ان المتنبي قد قطع المرحلة الأولى من طريقه، مرحلة الصبا، ولم يكد يبلغ
آخرها حتى كان قد تم له حظه من الشعر، وتم له حظه من القرمطة، وتم له حظه من القوة
البدنية ايضا).
فالنتيجة الاخيرة
نتيجة قطعية، ومقدماتها كلها ظنية باعتراف الدكتور الي يقول إنه (قوي الشعور)
بقرمطة المتنبي، وان كان لا يدري أتواتيه النصوص ام لا تواتيه. وهذا طريق خطر في
المنهج. فالشعور الخاص يجب ألا يطغى في (المنهج التاريخي).
فإذا كان في كابه
(من حديث الشعر والنثر) فهو سائر على المنهج التاريخي ولكنه يمزجه مزجا قويا
(بالمنهج الفني) .. يتحدث عن هذه
الموضوعات حديثا يجمع بين المنهجين غالبا: (الأدب العربي بين الآداب الكبرى –
النثر في القرنين الثاني والثالث – الحياة الادبية في القرن الثالث للهجرة – أبو
تمام وشعره – البحتري وشعره – ابن الرومي وشعره – ابن المعتز وشعره).
ولعل هذين
النموذجين يكشفان عن امتزاج المنهجين في هذا الكتاب:
1- يختلف الناس في ان عبد الحميد فارسي الاصل، او من جنسية
اخرى ويقول أبو هلال: إنه كان يحسن الفارسية.
وعندما اقرأ عبد
الحميد وابن المقفع الذي لا خلاف في انه كان فارسيا، وأقارن بينهما أرجح ان عبد
الحميد شديد الاتصال بالثقافة اليونانية، وربما كان عالما بلغتها.
ولم يبق لنا من عبد
الحميد الا كتاب كتبه عن مروان بن محمد الى عماله بالأمصار، يأمرهم بمحاربة لعب
الشطرنج، لأنه كان قد انتشر، فخاف منه على الدين. وكتاب آخر كتبه عبد الحميد الى
الكتاب يوصيهم بطائفة من الوصايا، يوصيهم بأخلاق الكتاب وما يجب عليهم، وكان هذا
الكتاب قد صدر من عبد الحميد كمنشور لرجال الديوان.
ولعبد الحميد خاصة
لغوية او فنية هي التي تحملني على ان أرجح انه كان شديد الاتصال باليونانية، فهو إذا
كتب أسرف في استعمال الحال، والحال معروفة في العربية. وهو لا يقتصد في استعمال
الحال، وإنما هو يعتمد عليها في تحديد فكرته وتوضيحها، وتجميل الكلام واظهار
الموسيقى .. وهذه قطعة من رسالة الصحابة تمثل استعمال الحال في كتابة عبدالحميد:
واياك واياك ان تقبل من دوابهم الا اناث الخيول مهلوبة، فإنها اسرع طلبا وأنجى
مهربا، وابعد في اللحوق غاية، واصبر في معترك الابطال إقداما ونجدهم من السلاح
بأبدان الدروع، ماذية الحديد، شاكة السنخ، متقاربة الحلق، متلاحقة المسامير،
وأسواق الحديد، مموهة الركب، محكمة الطبع، خفيفة الصوغ، وسواعد طبعها هندي وصوغها
فارسي، رقاق المعطف، بأكف وافية، وعمل محكم. ويلق البيض مذهبه ومجردة، فارسية
الصوغ خالصة الجوهر، سابغة الملبس، وافية اللين، مستديرة الطبع، مبهمة السرد،
وافية الوزن، كتريك النعام في الصنعة، معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ ... الخ
... الخ.
استعمال الحال على
هذا النحو من خصائص اللغة اليونانية، ومن الاساليب التي يعتمد عليها اليونان في
تحديد معانيهم. وكنت أود لو استطعت ان اعرض عليكم نماذج من النثر اليوناني، ولكن
الامر أيسر من هذا، فيكفي ان تقرءوا كاتبا فنرسيا متأثرا باليونانية حتى كانت
كتابته اشبه بترجمة يونانية. وهو أناتول فرانس. ذلك مع انه أكبر الكتاب الفرنسيين
وأناتول فرانس يستعمل الحال استعمالا كثيرا جدا ليدقق في معانيه، ويوضحها ويعطيها
الصفات التي يحتاج إليها، ولتجميل كلامه ايضا. وكل ما بين أناتول فرانس واليونان،
ان أناتول فرانس لم يتأثر باليونانية وحدها بل تأثر باللاتينية ايضا، فهو يستعمل
الحال مثلهم غير انه كان يقدمها احيانا ويؤخرها احيانا على نحو ما كان اللاتينيون
يفعلون.
وهذه الظاهرة عند
عبد الحميد تقوي عندي انه كان شديد الاتصال باليونانية، ذلك لأن مدارس الأدب
اليوناني كانت منبثة في الشرق كله، في الاسكندرية وغزة وأنطاكية والشام والجزيرة،
وظلت كذلك حتى العصر العباسي – ولكنها انحصرت في الاديرة، حتى ذهب أمرها في القرن
الثالث والرابع للهجرة.
(فليس غريبا ان
يكون عبد الحميد قد اتصل باليونان في مدارسهم بالجزيرة والشام وتعلم اليونانية
وأحسنها).
2- (قلت: ان ابن الرومي يخالف غيره من الشعراء الذين عاصروه
او جاءوا قبله إلا واحدا هو ابو تمام، وذلك لان طبيعة ابي تمام الشعرية مشبهة
لطبيعة ابن الرومي من وجوه. فهما متفقان من حيث انهما يعتمدان اعتمادا شديدا على
العقل في شعرهما، وهما لا يستسلمان للخيال وحده وإنما يتخذان الخيال وسيلة الى
تحقيق ما يريده العقل، وهما يتفقان في أنهما حريصان كل الحرص على تعميق المعاني،
وعلى استيفائها واستقصائها، والمبالغة في هذا الاستقصاء، حتى يأتيا بالأشياء
الغريبة التي يضيف بها الناس الذين تعودوا ان يقرءوا المألوف من الشعر، وهما لا
يرضيان ان يكون احدهما عبدا للغة، وانما يبيحان لنفسيهما تصريفها كما يريدان وكما
تريد المعاني، دون ان يخضعا للتشدد في أصولها ومراعاة قواعدها يتفقان في هذا كله،
ويختلفان بعد ذلك بعض الاختلاف. فأبو تمام احرص جدا من ابن الرومي على متانة اللفظ
وروعته في أغلب شعره، لا يعدل عن هذه المتانة ولا ينصرف عن هذه الروعة الا حين
يضطره المعنى الى ذلك اضطرارا لا مخرج له منه؛ اما ابن الرومي فهو سهل في شعره، لا
يريد ان يشق على نفسه ولا على سامعيه، وهو يرسل لسانه على سجيته كما يرسل نفسه على
سجيتها، فهو من اقل الشعراء كلفا بالغريب وايرادا له، وعنايته بالجمال اللفظي قد
تحس أحيانا، ولكنها تلتمس فلا توجد في كثير من الاحيان. وقد تروعك سهولة اللفظ في
البيت او البيتين ولكنك لا تستطيع ان تقرأ قصيدة كاملة دون ان تجد في هذه القصيدة
من الألفاظ ما يغيظك احيانا، ويضيق به صدرك احيانا اخرى.
ثم هما يختلفان من
ناحية اخرى في ان ابا تمام كان شديد الحرص على البديع والمحسنات البديعية، او
بعبارة اصح كان شديد الحرص على جمال الصنعة الفنية في الشعر، فهو كان يتتبع
الاستعارة ويسرف في تتبعها. ويجد ما استطاع في طلب الجناس والمطابقة وما الى هذه
الأنواع من المحسنات البديعة. وهو كان يجد في الاشياء جمالا لابد منه، وكان يحرص
على ان يلائم بين جمال الألفاظ وجمال المعنى.
اما ابن الرومي
فهو لا يتحرج من البديع ولكنه لا يتهالك عليه. وكما انه لا يكلف بالغريب ولا يتكلف
متانة اللفظ ولا جزالته ولا رصانته، فهو كذلك لا يكلف بهذا الطباق او الجناس. ان
وفق الى هذه الاشياء فذاك وان لم يوفق فلا يعينه.
وهما يختلفان من
ناحية ثالثة، فأبو تمام شاعر من الشعراء قصائده لا تسرف في الطول وله مقطوعات.
اما ابن الرومي
فشاعر مطيل، ومطيل جدا، يبلغ بقصيدته المئات من الابيات. وهذا الاختلاف بين
الشاعرين في اطالة القصيدة مصدره واضح جدا، هو ان الشاعرين وان اتفقا في الغوص على
المعاني، فهما يختلفان في مقدار هذا الغوص، او بعبارة ادق في مقدار البسط والتفصيل
في المعاني التي يظفران بها. أما ابو تمام فهو يبحث عن المعنى ويجد في التماسك
ويظفر به ويعرضه عليك عرضا متوسطا، لا يطيل فيه ولا يسرف، بل في نفسه شيء من
الاحترام لك والاعتراف بأن لك عقلا يستطيع ان يتم ما لم يتمه هو، والاطمئنان الى إنك
ستتم هذا المعنى إتماما حسنا دون ان تقصر او دون ان تغلو. فهو اذن يفصل المعنى
ولكنه لا يسرف في التفصيل ويهمل الزوائد ويتجافى عن الأطراف.
أما ابن الرومي
فالأمر في شعره ليس كذلك، فهو يمضي مع ابي تمام في الغوص على المعنى والتفتيش
والجد في طلبه حتى يبلغ المعنى الجيد، فاذا ظفر بهذا المعنى ساء ظنه بالناس في
الأدب، كما يسوء ظنه بهم في الحياة العملية. فكما يعتقد ان الناس ليسوا اخيارا في
معاملتهم فهو كذلك كان يعتقد ان حظ الناس من الذكاء ليس بحيث يمكنه من ان يطمئن إليهم
في فهم المعاني، فهو حريص على أن يتم معانيه بنفسه، ويستقصي البحث والعرض حتى لا
يتعرض لاي عبث من الذين يسمعونه او يقرؤونه. ومن هنا كان المعنى الذي يستطيع ابو
تمام ان يعرضه في بيتين او ثلاثة او اربعة او خمسة -على أكثر تقدير – يطيل فيه ابن
الرومي في الابيات التي تبلغ العشرة او تتجاوزها. ومصدر هذا كما قلت هو اخذ ابي
تمام بما لابد منه، وثقته بعقل الناس، وحرص ابن الرومي على ان يصل الى كل شيء،
وعدم اطمئنانه الى الذين يسمعونه أو يقرؤونه (7).
وللدكتور بعد هذا
كتاب (حديث الأربعاء) وهو يمزج فيه بين المنهج الفني
(6) نحسب
نحن ان الاختلاف بين ابن الرومي وأبي تمام أعمق من هذه السمات والظواهر، فهو
اختلاف في جوهر الطبيعة الفنية، واختلاف في المزاج والطبيعة، وكون كليهما يتفقان
في الغوص على المعاني هو سمة خارجية تختلف بواعثها فيهما. فهي في ابي تمام ذكاء
وتعمد. وعند ابن الرومي حساسية وانطلاق مع الانفعالات.
والمنهج التاريخي،
ولكن الأول فيه اوضح وأظهر. كتاب (مع ابي العلاء في سجنه) وهو أقرب الى الأدب
الخالص من الدراسة، هو أقرب ان يكون حديثا نفسيا يسجل فيه تأثراته الخاص في مصاحبة
ابي العلاء، ويعتمد على هذه المصاحبة في تصور احاسيس ابي العلاء ومشاعره الباطنية،
وسماته الشعورية والتعبيرية، وهو في اعتقادي أدنى الى تصوير ابي العلاء من كتابه
الأول.
***
وإذا كان الدكتور
طه حسين يسبق النصوص احيانا، ويتأثر بشعوره الخاص في تكوين الرأي، فاننا نجد
الدكتور أحمد أمين، أقرب الى اصول (المنهج) فهو ابدا بجوار النصوص يجمعها ويرتبها
وينطقها برفق، ويسجل النتائج في هدوء. يصنع ذلك في مجموعته (فجر الاسلام، وضحى
الاسلام، وظهر الاسلام) حيث يدرس فيها تطور الفكر العربي الاسلامي ومظاهر هذا
التطور في جميع الاتجاهات الفكرية. وذلك من خلال الاحداث والنصوص والروايات،
وتأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والجغرافية في الفكر والأدب بصفة
عامة، فاذا تعرض للأشخاص تعرض لهم بوصفهم نماذج تظهر فيها هذه التأثيرات العامة
فالجاحظ مثلا نموذج لامتزاج الثقافات في القرن الثالث، والمبرد نموذج للثقافة
العربية الخالصة .. وهكذا.
ولعل النموذج من
فجر الاسلام ان يكشف لنا عن طريقة الدكتور احمد أمين.
ومنهجه في كتبه:
(دلالة الشعر على
الحياة العقلية): قديما قالوا: (ان الشعر ديوان العرب) يعنون بذلك انه سجل سجلت
فيه اخلاقهم وعاداتهم وديانتهم وعقليتهم، وان شئت فقل: انهم سجلوا فيه أنفسهم،
وقديما انتفع الادباء بشعر العرب في الجاهلية، فاستنتجوا منه بعض ايامهم وحروبهم،
وعرفوا منه اخلاقهم التي يمدحونها، واستدلوا به على جزيرة العرب وما فيها من بلاد
وجبال وسهول ووديان ونبات وحيوان، وما كانوا يعتقدون في الجن وما كانوا يعتقدون في
الاصنام والخرافات، وألفوا في ذلك جمعية الكتب المختلفة.
وكانت الطريقة
المثلى للانتفاع بهذا (الديوان) أن يعني العلماء بجميع ما صح عندهم من الشعر
الجاهلي مع نقد السند والمتن وابعاد ما لم يصح، كما فعل المحدثون في الحديث، فليس
لدينا مجموعة من الشعر العربي الجاهلي ذكر سندها، وعني ببيان رجالها عناية تامة
كالذي عندنا من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما، وكان يجب ان يعني بالشعر الجاهلي هذه
العناية متى عددناه (ديوانا) تسجل فيه الحوادث والعادات، ونظرنا إليه كأنه وثائق
تاريخية. ولكن يظهر ان هذا النظر الى الشعر الجاهلي لم يكن سائدا عند الرواة
والأدباء، إنما كان السائد عندهم او عند أكثرهم النظر إليه كمادة لتعليم اللغة، او
كأنه طرفة وملهى، ومادة الحسن المحاضرة. فلم يكن يعني به هذه العناية التي بذلت في
الحديث، ولم ير من يتعمد الكذب فيه ان يتبوأ معقده من النار.
نعم ان بعض الادباء
سار في الأدب سيره في الحديث، فكان يروي الخبر معنعنا، ووضع بعضهم مصطلحات لرواية
الأدب على نمط مصطلح الحديث ولكن يظهر لنا انها كلها محاولات أولية، لم تنضج، ولم
يسيروا فيها الى النهاية.
كذلك أكثر ما روى
لنا قد عني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون نظرة الأديب لا نظرة
المؤرخ، فالقصيدة التي لم يحكم نسجها، ولم تهذب ألفاظها ولم يصح وزنها، وقد يعجب
بها المؤرخ أكثر من إعجابه بالقصيدة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على
الحياة العقلية أكثر من قصيدة راقية. ولعل هذا هو السبب في أننا مع اعتقادنا ان
الشعر كان خاضعا للنشوء والارتقاء، قبل ان نرى فيما يروى لنا منه المحاولات
الاولية التي بدأ بها الشعراء شعرهم، ثم تدرجوا منها الى ما وصل الينا من الرقي،
ذلك ان الاديب لم يكن يروقه ذلك فيهمله، او يستضعف وزنه فيصلحه، وبذلك يضيع كثير من
معالم التاريخ.
لو كان عندنا هذه
المجموعة التي لا يقصد فيها الى الاختيار، ولكن يقصد فيها الى الصحة، لكان لنا
مادة صادقة للدلالة على أشياء كثيرة، منها الحياة العقلية.
ومع هذا فما لدينا
يمثل بعض الشيء – وان لم يكن وافيا كما ذكرنا من قبل – وأشهر المجموعات التي لدينا
مما نسب الى الجاهليين – عدا دواوين الشعراء هي:
1- المعلقات السبع، ويغلب على الظن أن جامعها حماد الراوية.
2- المفضليات: وجامعها المفضل الضبي وتشتمل على نحو 128
قصيدة.
3- ديوان الحماسة لابي تمام. وفيه مقطوعات كثيرة صغيرة من
الشعر الجاهلي.
4- ومثله: حماسة البحتري.
5- وفي كتاب الأغاني والشعر والشعراء لابن قتيبة اشعار
ومقطعات كثيرة للجاهليين.
6- مختارات ابن الشجري.
7- جمهرة أشعار العرب لمن يسمى ابا زيد القرشي.
والشعر الذي وصل
الينا عن الجاهلية لم يعد تاريخ أقدمه مائة سنة قبل البعثة ونظرة عامة إليه تدلنا
على أنه ليس متنوع الموضوعات كثيراً ولا غزير المعاني، فما روى لنا من القصائد
موسيقاه واحدة، يوقع على نغمة واحدة والتشابيه والاستعارات تكرر غالبا في أكثر
القصائد. قلة في الابتكار وقلة في التنوع ولنستعرض كثيرا منها، فماذا نرى؟
يتخيل الشاعر انه
راحل على جمل، ومعه صاحب او اكثر، وقد يعرض له في طريقه اثر احبه رحلوا فيستوقف
صحبه، ويبكي معهم على رسم دارهم، ويذكر أياما هنيئة قضاها معهم، وان العيش بعدهم
لا يحتمل، ثم يصف محبوبته إجمالا او تفصيلا، ويخرج من هذا الى وصف ناقته او فرسه،
ويقارنها بالوعل او النعامة او الغزالة، وقد نظفر من ذلك الى وصف الصيد ومنظره
ومنازله وبعد هذا كله يتعرض للموضوع الذي من أجله انشأ القصيدة، فيتمدح بشجاعته،
او يتغنى بفعال قبيلته، او يعدد محاسن ممدوحه، ويصف كرمه، او يفتخر بموقعه انتصر
فيها قومه، أ, يهجو قبيلة عدت على قبيلته، او يحمل قومه على الاخذ بالثأر، او يرثي
راحلا. وهذه –تقريبا-كل الموضوعات التي قيل فيها الشعر الجاهلي. وهي موضوعات كما
ترى محدودة ضيقة، هي ظل حياة الصحراء وصورة صادقة لعيشة البداوة. والحق انهم في
البيان واللعب بالألفاظ كانوا أقدم منهم على الابتكار وغزارة المعنى، فترى المعنى
الواحد قد توارد عليه الشعراء فصاغوه في قوالب متعددة تستدعي الإعجاب. ولكن لا
يستدعي إعجابنا خلقهم للمعاني، وابتكارهم للموضوعات، وقد عبر عنترة عن ذلك بقوله:
هل غادر الشعراء
من متردم؟ أم هل عرفت الدار بعد
توهم؟
وزهير اذ يقول:
ما نرانا نقول إلا
معارا او عادا من لفظنا مكرورا
ولكن ما أنصفوا،
فقد غادر الشعراء كثيرا، والناس من قديم يشعرون ولا يزال مجال القول ذا سعة، ولا
يال الخيال الخصيب ينتج ويجدد، ويخلق موضوعات لم تكن، ومعاني لم يسبق إليها، ولكن
ضيقوا على أنفسهم او قل ضيقت عليهم بيئتهم، فلم يجدوا الا ان يقولوا معارا او
معادا.
اللهم الا أبياتا
قليلة مبعثرة تشعر فيها بمعنى جديد، وترى فيها أثر الابتكار واضحا، والا شعراء
نادرين كانت لهم مناح خاصة، وشخصية واضحة، وتسمع لقولهم نغمة جديدة، كالذي تراه في
زهير، وقد عنى بأخلاقية قومه وعبر عنها تعبيرا صادقا.
كذلك تشعر حين
تقرأ الشعر الجاهلي – غالبا – ان شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر
لنفسه بوجود خاص. وإنك لتتبين هذا بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم، وقل ان تعثر على
شعر ظهرت فيه شخصية الشاعر ووصف ما يشعر بوجدانه، وأظهر فيه انه يحس لنفسه بوجود
مستقل عن قبيلته.
(ولما انتشرت
اليهودية والنصرانية بين العرب ظهرت نغمة دينية جديدة، تراها في مثل شعر عدي بن
زياد في الحيرة، ثم في أمية بن ابي الصلت في الطائف.
(وخلاصة القول ان
الشعر الجاهلي لا يدلنا على خيال واسع متنوع، ولا على غزارة في وصف المشاعر
والوجدان، بقدر ما يدلنا على مهارة في التعبير وحسن بيان في القول).
هذا نموذج من نسق
فجر الاسلام .. فأما كتابه المشترك الآخر عن (قصة الأدب في العالم) فينحو نحوا
استعراضيا للآداب العالمية في أول الامر عند الكلام عن (الأدب المصري) و(الأدب
الصيني) و(الأدب الهندي) و(الأدب الفارسي القديم) و(الأدب العبري). فلا يتعرض
للصلات بين هذه الآداب بالسلب او بالإيجاب.
ولكنه حين يبدأ في
استعراض الأدب اليوناني يأخذ في استعراض التسلسل والتأثر والتأثير بينه وبين الأدب
الروماني، وبين الآداب في العصور الوسطى في إنجلترا وفرنسا واسبانيا والمانيا
وايطاليا، وبذلك يدخل في صميم المنهج التاريخي.
نعم إنه استعراض
سريع، لا يفي بكل شروط المنهج في التسلسل والتطور والتدقيق، ولكنه بحسب طبيعة
الكتاب يحسب في مضمار المنهج التاريخي.
وسنعرض هنا نموذجا
من كتاب (قصة الأدب في العالم) لا لذاته فقط ولكن لأنه يتضمن كذلك رأيا يفيدنا في
بيان خطأ التعليل والحكم عند الربط الكامل بين ظهور العبقريات الفنية وحالة الوسط،
لندرك غرضين بمثال واحد!
(تدلنا عظمة
سرفاتتيز (مؤلف دون كيشوت) على خطأ الرأي القائل: ان العبقري ينبت في عصر الازدهار:
فقد كان سرفاتتيز معاصرا لشكسبير، ومات هذان النابغان في عصر واحد. اما سرفاتتيز
فكان قد بلغ نضجه بعد ان تجاوزت اسبانيا ايام مجدها، واما شكسبير فقد ازدهر وأينع
عندما خرجت بلاده ظافرة على (الارمادا) الاسبانية. وكم قال النقاد وأفاضوا في
القول بان العظمة الادبية في عصر اليصابات نتيجة لعظمة انجلترا في السياسة
والتجارة عندئذ. فمن قائل: ان روايات شكسبير ومارلو، وترجمة شابمان لقصيدتي هومر،
وغير هذه وتلك من آيات الأدب الرائعات في عصر اليصابات نتيجة مباشرة لانتصار
الاسطول الانجليزي على الاسطول الاسباني، اذ وسع هذا النصر الافق العقلي عند
الإنجليز وأيقظهم ليبصروا ما هم فيه من عظمة ومجد. ولكنا نقول: هل كتب (العهد
القديم) حين كان اليهود سادة العالم؟ وهل انشد هومر ملحمتيه لما بلغ اليونان أقصى
مجدهم؟ وهل تفجر من (رابليه) كتابه (جارجانتوا وبانتاجريل) إذا كانت فرنسا ظافرة
في حروبها؟ وأخيرا انتجت هزيمة الأرمادا شكسبير في إنجلترا وسرفتتيز في اسبانيا في
وقت واحد؟ ان كان شكسبير نتيجة النصر العظيم فهل جاء سرفاتتيز نتيجة الهزيمة
المنكرة؟ كما يبهرنا التعليل بعمق الفكرة فيه، مع ان عمق الفكرة قد لا يخفي وراءه من
الحق شيئا. ولعل سرفاتتيز كان يرمي بكتابه فيما يرمي إليه، الى مهاجمة (الافكار
العميقة!).
***
ويبدي الاستاذ
العقاد في مقدمة كتابه (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي) اهتمامه بدراسة
البيئة عند دراسة الشعراء فيقول:
أثر البيئة في
شعرائنا الذين ظهروا منذ عهد اسماعيل وقبل الجيل الحاضر هو موضوع هذه المقالات:
(ومعرفة البيئة
ضرورية في نقد كل شعر، في كل أمة في كل جيل. ولكنها ألزم في مصر على التخصيص،
وألزم من ذلك في جيلها الماضي على الاخص. لان مصر قد اشتملت منذ بداية الجيل الى
نهايته على بيئات مختلفات. لا تجمع بينها صلة من صلات الثقافة غير العربية، التي
اكنت لغة الكاتبين والناظمين جميعاً، وهي حتى في هذه الجامعة لم تكن على نسق واحد،
ولا مرتبة واحدة، لاختلاف درجة التعليم في أنحائها وطوائفها، بل لاختلاف نوع
التعليم بين من نشئوا على الدروس الدينية ومن نشئوا على الدروس العصرية، واختلافه
بين هؤلاء جميعا وبين من أخذوا بنصيب من هذا ومن ذاك..).
ولكن حين يأخذ في
دراسة هؤلاء الشعراء ينساق الى تصوير خصائصهم الشعورية والتعبيرية، والى مقوماتهم
الشخصية، ويمزج بين جميع مناهج النقد ليخرج بصورة كاملة سريعة لكل شاعر ممن درسهم.
وهذا النموذج يصور
لنا جانب المنهج التاريخي في الكاتب:
ظهرت طلائع النهضة
الشعورية في مصر حين ظهرت فيها طلائع الثورة التي عرفت بعد باسم الثورة العرابية،
ولم تسبقها نهضة مذكورة بعد الركود الذي أصاب الشعر العربي كله في أعقاب الدولة
العباسية.
ومن الأدباء من يعتبر
الساعاتي طليعة هذه النهضة الحديثة، وفاتحة الادباء الناشئين على الطريقة
التقليدية.
والساعاتي في
الحقيقة لم يهبط في رديء شعره هبوط بعض النظامين الذين نقرأ قصائدهم في الجبرتي او
في دواوينهم المتروكة بين ايدينا. ولكنه كذلك لم يرتفع بأحسن شعره وأجوده الى أعلى
من الطبقة التي بلغها الشعراء في عهده بل في عهد محمد علي والحملة الفرنسية.
فكيرا ما يعثر
القارئ بين أقوال هؤلاء الشعراء بقصائد ومقطوعات تضارع محاسن الساعاتي، وقد نفضلها
في جميع مزاياها، الا ان الساعاتي جدير بحق ان يعتبر حلقة الاتصال بين الشعراء
العروضيين والشعراء المحدثين. ونعني بالعروضيين اولئك الذين كانوا ينظمون القصائد،
ويخوضون في الشعر، لأنهم كانوا يعتبرون النظم حقاً او واجبا على كل من تعلم
العروض، ودرس البيان والبديع وما إليها من أصول الصناعة، وهم كانوا يتعلمون هذه
الاصول ويطبقون ما تعلموه فيما نظموه، فكانت دواوينهم أشبه شيء بكراسات التطبيق في
معاهد التعليم.
والساعاتي نفسه قد
نظم قصيدة مطولة في مدح النبي عليه الصلاة والسلام، أتى فيها على مائة وخمسين نوعا
من أنواع البديع، واستهلها بقوله فيما أسماه براعة استهلال:
سفح الدموع لذكر
السفح والعلم أبدى البراعة في
استهلاله بدم
وكان يكثر من
التجنيس والتورية والمطابقة، والمواربة وما إليها من محاسن النظم على ايامه، ولكنه
ظهر في العهد الذي بدأ فيه الخلاف بين الشعر الصنعة وشعر السليقة، او بين النحاة
كما سماهم وبين الشعراء المطبوعين. فقال ينحى على اولئك النحاة:
فدعني من قول
النحاة فإنهم تعدو (لصرف) النطق من
غير لازم
إذا انا احكمت
المعاني (خفضتهم) و(أرفعها) قهراً بقوة (جازم)
وما أنا إلا شاعر
ذو طبيعة ولست بسراق كبعض الأعاجم
فكان كما يراه
القراء من هذه التوريات الكثيرة واحدة من جماعة النحاة، يلبس أزياءهم يم يخرج على
صفوفهم، ويقف في عدوة الطريق بينهم وبين الطبقة التي جاءت بعدهم.
والتفريق الزماني
بين المتقدمين على الثورة العرابية واللاحقين بها ميسورة ولكنه تفريق لا معنى له
ان لم يكن مصحوبا بسمات فنية تميز بين الطائفتين.
(فإذا عمدنا الى
هذه السمات الفنية فنحن لا نعرف سمة هي أدنى الى الفصل بين هاتين الطائفتين من
تسمية الأولين بالعروضيين، وتسمية الاخرين بالمطبوعين او غير العروضيين .. إلخ).
أما في كتابه (ابن
الرومي. حياته من شعره) فقد جمع بين مناهج النقد جميعا كذلك، وان غلب المنهج
النفسي، وقد كان المنهج التاريخي نصيبه في الحديث على (عصر ابن الرومي او القرن
الثالث للهجرة) و (حالة الحكومة والسياسة) و(نظام الإقطاع) و(الحالة الاجتماعية)
و(الحالة الفكرية) و(الشعر) و(الدين والاخلاق) و(أخبار ابن الرومي) و(العصر
والرجل) و(حياة ابن الرومي مكا تؤخذ من معارضة اخبار على شعره) ... الخ.
وتبدو النزعة
التاريخية واضحة في مقدمات حديثه عن شاعر الغزل (عمر بن ابي ربيعة) فقد اثبت اولا
ان الغزل كان حاجة من حاجات العصر حينذاك، وان عمر كان هو الشاعر الممثل لا للعصر
كله، ولكن للبيئة المترفة فيه. وعلل هذه الحالة على طريقته في الاكتفاء بالأمثلة
الدالة السريعة.
لابن ابي ربيعة
ديوان كبير يشتمل على بضعة آلاف بيت من الشعر كلها في الغزل الا القليل، وكان
غزلها في نظم الحوار والرسائل التي تدور بينه وبين حسان عصره وظريفاته.
ويستغرب قارئ
الديوان ان ينصرف شاعر في جميع شعره الى هذا الغرض دون غيره وهو استغراب معقول يرد
الخاطر للوهلة الأولى، اذ اقتصرنا على النظر الى الديوان وحده، وقابلنا بين
موضوعاته وموضوعات الشعراء المشهورين في الدواوين الكبيرة.
ولكنه استغراب لا
يلبث ان يزول او ينقلب الى نقيضه إذا تجاوزنا الديوان الى العصر الذي نظم فيه الديوان،
والبيئة التي عاش فيها الشاعر، فربما أصبح العجب عندئذ يتمخض ذلك العصر عن ديوان
واحد ولا يتمخض عن دواوين شتى من هذا القبيل، وان يكون ابن ابي ربيعة شاعرا فردا
في مجاله بغير نظير يحكيه في اكثاره وانقطاعه، وقد كان ينبغي ان يقترن به نظراء
متعددين.
لأن العصر الذي
عاش فيه ابن ابي ربيعة في تلك البيئة التي نشأ بينها (كان عصرا غزليا في جميع
أطرافه، يشغله الغزل ولا يزال شاغله الأول فوق كل شاغل سواه، وربما يعب على الرجل
ان يتجافى عنه ويتوفر منه، كأنه مطالب به مدفوع إليه وليس قصارى الامر فيه ان
يسيغه ويأنس إليه.
فما من عالم ولا
فقيه ولا أمير ولا سرى بلغت الينا اخباره وأحاديثه الا كان له من رواية الغزل
والاستماع إليه نصيب موفور، وما من شدة كانت لا تلين له حتى شدة المحارم
والمحرمات.
(فالعصر الذي يكون
هذا شأن الغزل عند علمائه وأمرائه وأصحاب المروءة فيه لا جرم ان يكون الغزل حاجة
من حاجاته التي لا يشبع منها، ويكون شعر الشاعر الواحد قليلا في التعبير عن هذه
الحاجة التي تعم كل بنيه وبناته، وتشغل كل متحدثيه ومتحدثاته.
وقد كانوا يحسون
حاجتهم الى مثل ذلك الشاعر ويقولون: انهم يحسونها ويفتقدونها. فلما مات عمر بن
ربيعة حزنت عليه نساء مكة وكانت إحداهن بالشام فبكت وجعلت تقول: من لأباطح مكة؟
ومن يمدح نساءها ويصف محاسنهن؟ وعزاها بعضهم فقال: ان فتى من ولد عثمان بن عفان قد
نشأ على طريقته وأنشدها بعض كلامه فتسلت وقالت: هذا أجل عوض، وأفضل خلف، فالحمد
لله الذي خلف على حرمه وامته مثل هذا!
تلك حال العصر
وحال ساداته وسيداته من الغزل وأحاديثه، فليس العجيب ان تستغرق هذه الأحاديث ديوان
شاعر واحد ضخم او صغر، وإنما العجب ان ينفد ابن ابي ربيعة بطريقته وديوانه في ذلك
العصر، ولا يكثر معه الانداء والنظراء، ولكن منهم مثل ذلك الديوان.
والواقع ان مثل
هذا الانفراد عجب لولا ان نرجع الى الحقيقة برمتها ولا نقف عند النظرة الأولى الى
العصر كله على الاجمال.
فابن ابي ربيعة لم
يكن شاعر الغزل في العصر كله، ولكنه كان في الحقيقة شاعر الطبقة المترفة من أبناء
ذلك العصر وبناته دون غيرها، وهي طبقة يعد أفرادها بالعشرات ولا يتجاوزونها الى
المئات. ومن كان من شعرائها يساويه في الحسب والجاه كالحارث بن خالد او العرجي
سلسل عثمان بن عفان، فقد كان له شاغل آخر عن الغزل ومصاحبة الحسان، فكان الحارث
واليا بمكة، وكان العرجي يشهد الوقائع بأرض الروم، وكانا مع ذلك دون عمر في الملكة
الشعرية والطبيعة الغزلية. فاذا اجتمع التعبير عن الطبقة كلها في الديوان الكبير
الذي نظمه ابن ابي ربيعة فذلك حسب تلك الطبقة من حديث منظوم.
***
وبعد ففي هذه
الامثلة الكفاية للدلالة على خطوات (المنهج التاريخي) في العصر الحديث اذ كان ذلك
ما نقصد إليه منها، دون الاستقراء الذي لا يكون إلا في كتاب خاص بهذه المناهج.
ومن هذه النماذج
نرى ان المنهج قد نما نمواً محسوسا عما خلفناه في القرن الرابع، ولكنه ما يزال الى
اليوم في دور النشوء، فخطواته التمهيدية الأولى من جمع النصوص وتحريرها، وجمع
الوثائق التاريخية وتبويبها، والبحوث اللغوية والأدبية والاجتماعية الكاملة عن
الفترات والشخصيات التي ندرسها .. كل أولئك يتعب فيه كل مؤلف على حدة، ولا يتخصص
له من يجيدونه ليوفروا على النقاد جهودهم، بتوفير الخامات الأولى للبحث.
هناك مثل واحد سار
على المنهج الصحيح هو (مكتبة المعري) التي أخذت تصدرها وزارة التربية والتعليم فقد
بدأت بتدوين جميع آراء القدماء في أبي العلاء ثم ثنت بشروح (سقط الزند) على ان
تمضي في إعداد سائر ما يتعلق بالمعري (8).
ولو كان لدينا عن
كل شاعر وكل كاتب مكتبة من هذا النوع، وعن كل عصر مثل هذا السجل. لتوافرت المادة
الخامة للمنهج التاريخي على خير ما تكون.
أما قبل ذلك فهي
محاولات فردية مشكورة في هذا المضمار، ولا يكلف الله نفسا الا وسعها.
_____________________
(1) كتب هذا الكلام في
سنة 1947.
(2) قلت إنني لم احمل
الأدب العربي على اصطلاحات اجنبية، ولهذا انا اعد كتاب الرواية من أصحاب المنهج التاريخي
بالقياس الى النقد العربي.
(3)الرواية المشهورة:
فقلت له لما تمطى بصلبه.
(4)ولكن كما يا ترى
في هذه الصورة من الواقع وكم فيها من مزاج المعري الخاص؟ وكم ممن عاشوا – مع
المعري-في هذه الفترة يشاركه تصوره هذا للحياة؟ (المؤلف).
(5)هنا نختلف مع
الدكتور فالحوادث الحية يستحيل ان تخضع خضوع المادة. وسنرى الدكتور فيما بعد يغير
وجهة نظره في كتابه (الأدب الجاهلي).
(6)لعل الدكتور يعني
علم النفس ولكن ها هو ذا علم النفس الى اليوم لم يحل عقدة النبوغ، هو يصفه ويحلله.
ولكنه لا يعلله.
(7)مما يؤسف له ان
اعمال هذه اللجنة قد توقفت من الناحية العملية.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|