المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

علي بن يوسف النّيلي
8-8-2016
تمييز اكمال نطاق العقد من تصحيحه .
17-5-2016
معنى كلمة وبق
11-2-2016
Cis–Trans Isomerism in Cycloalkanes
12-5-2016
Thâbit ibn Kurrah Number
15-12-2020
المكونات الأساسية لثمار الفاكهة المستديمة الخضرة
2023-03-12


قواعد النقد الأدبي بين الفلسفة والعلم  
  
4076   12:28 صباحاً   التاريخ: 14-08-2015
المؤلف : سيّد قُطب
الكتاب أو المصدر : النقد الأدبي أصوله ومناهجه
الجزء والصفحة : ص119-128
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد الحديث /

  

الأدب واحد من الفنون الجميلة: الموسيقى والتصوير والنحت والأدب (1). وكل هذه الفنون ينطبق عليها انها (تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية). فغايتها الأولى هي التصوير والتأثير: تصوير المشاعر والاحاسيس والوجدانات التي تخالج نفس الفنان. والتأثير فيمن يطالعون عمله الفني ليشاركوه احاسيسه، وتعيد نفوسهم تمثيل التجربة الشعورية التي عاناها.

إلا أن اداة التعبير الفنية تختلف في كل فن عنها في الاخر. فهي في الموسيقى اصوات ومسافات، وفي التصوير ألوان وخطوط، وفي النحت احجام واوضاع، وفي الأدب الفاظ وعبارات.

 ونظرا لان هذه الفنون جميعا ترجع الى أصل واحد من الشعور، ولجميعها غرض واحد هو التأثير، فقد قامت بعض الابحاث فيها على أساس وضع قواعد عامة لها بوصفها إحدى مباحث الجمال.

وحينما كانت الفلسفة هي المسيطرة على التفكير البشري مال بعضهم الى اقامة هذه القواعد على اساس من الفلسفة، كما صنع أفلاطون ومن بعده أرسطو – على ما بينهما من اختلاف في النظرة والحكم، ولكن اتجاههما معا كان اتجاها فلسفيا – وقد ظل هذا الاتجاه مسيطرا حتى عصر النهضة حينما بدأ (العلم) يشارك الفلسفة النظرية مكانتها ومركزها. ثم تتفرع اتجاهاته فيتجه اتجاها طبيعيا، واتجاها بيولوجية، واتجاها نفسيا.

وفي كل مرحلة من هذه المراحل، سواء مرحلة سيطرة الفلسفة على الفكر البشري او مراحل سيطرة العلوم الطبيعية والبيولوجية والنفسية، كانت قواعد النقد الفني تتأثر بهذه التيارات، وتبرز فيها بعض المذاهب معتمدة على هذا التأثر الفكري العام.

أما في النقد العربي فقد حاول (قدامة بن جعفر) (وأخفق) ان يقيم قواعد النقد على اسس فلسفية ومنطقية. ثم حاول عبد القاهر ان يدخل الدراسة النفسية في النقد بشكل منظم. ولكن لم يتابعه أحد فوقفت المحاولة في خطواتها الأولى، التي كانت بالقياس الى زمنه خطوات كبيرة. فلما بدأت النهضة الحديثة عندنا تأثرت قواعد النقد بالتيارات الغالبة في أوروبا، فظهر كتاب (الأدب الجاهلي) لطه حسين متأثرا في ا تجاه البحث لا في طريقته بفلسفة ديكارت. كما ظهر للعقاد كتاب (ابن الرومي. حياته من شعره) متأثرا بالمباحث التاريخية والبيولوجية والسيكولوجية. وظهر كتاب (فجر الاسلام) لأحمد أمين متأثرا بالطريقة التاريخية، وبدت مثل هذه التأثرات في كثير من الكتابات النقدية العربية.

ولنعد الى اول الحديث، فنذكر ان بعض النقد رأى وضع قواعد عامة للنقد الفني، وبناء هذه القواعد على اسس فلسفية (وبخاصة نظريات الجمال) ثم طغى العلم فرأى بعضهم ان تقام تلك القواعد على اسس العلم، وبخاصة علم النفس في الأيام الاخيرة.

ولكل اتجاه من هذه الاتجاهات قيمته لولا الغلو في تطبيقه. وسنناقش هنا باختصار كلا من هذه الاتجاهات فالتفصيل متروك لمكانه في القسم الثاني من هذا الكتاب) قبل ان نتحدث عن: مناهج النقد الأدبي.

ان اقامة قواعد النقد الفني على اساس من الفلسفة قد يجدي في توسيع آفاق النظر الى الفن بوصفه تعبيرا عن الحياة، متصلا بغاياتها العليا، واهدافها العامة، وله شأنه الخاص في تفسير دخائل الحياة الانسانية والكونية – وهي مادة الفلسفة الاصيلة – ولكنها فيما عدا هذا غير مأمونة ولا مضمونة. وحسبنا ان نضرب المثل بما أدت إليه نظرة أفلاطون الفلسفية الى الفن ونظرة أرسطو. فبناء على نظرية أفلاطون في (المثل) القائلة بأن الاشياء الخارجية لا حقيقة لها وإنما تكتسب حقيقتها من (الأفكار) التي تمثلها وهي (المثل).. رأى ان (الشيء) تقليد للمثال، وان الصورة التي يرسمها المصور او الشاعر للشيء هي تقليد للتقليد فلا حاجة إليه، وان كل شيء لا يمثل فكرة لا يستحق الوجود. والشعر يمثل الشيء الذي يمثل الفكرة فهو عمل حقير، لا ضرورة لوجوده في (المدينة الفاضلة)!

نعم ان تلميذه ارسطو قام ينافح عن الشعر على أساس من الفلسفة ايضا. ولكنه بسبب ذلك قد أخطأ، فأغفل الشعر الغنائي ولم يعده شعرا – وهو آصل ألوان الشعر في الشاعرية – ولذلك قال ان الشعر حكاية لأعمال الرجال، وان الشاعر لا يجوز ان يحدثنا عن نفسه !! وهذا خطأ جسيم منشؤه ان فلسفة ارسطو كانت متأثرة بنزعته العلمية البيولوجية، فقسم الفنون اقساما حاسمة، كما يقسم عالم الحياة انواع النبات والحيوان. وحين رأى الشعر الغنائي يعتمد اعتمادا ظاهرا على الموسيقى، عده ضربا من الموسيقى لا من الشعر. لشدة احكام الفواصل في ذهنه بين الأنواع !!! كذلك يمن ان نشير هنا الى محاولة (قدامة) في تقسيم الشعر الى ثمانية أضرب تقسيما (منطقيا) وإقامة قواعد الجمال فيه على أسس عقلية تفسد الشعر إفسادا.

وهذه الأمثلة كافية لإظهار الخطأ في إقامة قواعد النقد الفني على اساس (الفلسفة) او (المنطق). اما ربط هذه القواعد الى فلسفة الجمال بخاصة، فالواقع انه لا يثمر شيئا غير توسيع آفاق النظر الى الفن والجمال. اما إذا اريد ان تكتسب هذه القواعد دقة ووضوحا فالنتيجة عكسية، فنظريات الجمال لا تزال غامضة، يصعب فيها التحديد والإيضاح، وربط النقد الفني إليها لا يقربنا اطلاقا من ضبط قواعده وتوضيح حدوده!

أما الاستعانة بطريقة البحث العلمي، وبالنظريات العلمية، فلها فائدتها بلا شك. ولكن لابد ان يلاحظ ان طبيعة العلم غير طبيعة الفن، وان هناك اختلافا اصيلا بين الطبيعتين يحسب حسابه عند التطبيق.

ولعل علم النفس أقرب العلوم بطبيعته للأعمال الفنية، لان مادته التي يعالجها تتصل بالمادة التي يعالجها الفن، وهي الشعور، والتعبير عن هذا الشعور. ولكن يجب ألا نغفل غلطة بعض النفسيين التي دعاهم إليها اغترارهم بالفتوح العظيمة في عالم النفس. هذه الغلطة هي محاولة التعميم، على طريقة العلوم الطبيعية وعلم الحياة.

ان المادة التي يشتغل فيها العالم الطبيعي هي الاجسام الجامدة. فمن المستطاع ان يصل فيها الى قواعد حاسمة، لأنه يملك ان يخضع المادة اخضاعا تاما لتجارب المعمل. وحتى المادة الجامدة ظهر انها لا تتصرف في جميع الأحوال تصرفا واحدا داخل المعمل !!

والمادة التي يشتغل بها العالم البيولوجي هي الاجسام الحية، وهذه من المستطاع ان يصل فيها الى قواعد شبه حاسمة، لان تصرفاتها في أثناء التجارب المعملية محدودة، فالحكم الحاسم عليها معقول.

أما المادة التي يشتغل فيها العالم النفسي فهي المشاعر والاحاسيس والمدركات. هي الانفعالات والاستجابات. ويكاد يكون من المستحيل ان يلم المجرب بجميع الظروف والملابسات، وان يسيطر على مادة التجربة كما يسيطر العالم الطبيعي او العالم البيولوجي. فالحكم الحاسم والتعميم الشامل عرضه للأخطاء الكثيرة. فمن الواجب الا يندفع النفسيون في هذه الأحكام.

وإنه ليكون من الخطأ الفادح الاعتماد الكلي في قواعد النقد الفني على أساس علم لا يستطاع الجزم فيه بشيء ألا وهناك احتمال ان تظهر وراء هذا الجزم حالات لا يشملها، وقد تغيره من الأساس.

وللطريقة التاريخية في النقد الفني قيمتها كذلك، ولكن في حدود خاصة، لأنها لا تملك وحدها، ولا بإضافة الدراسة النفسية إليها، ان تفسر لنا العمل الفني تفسيرا كاملا، وان اوضحت بعض الملابسات التي احاطت به ودفعت إليه ولونته. ولعل المثال هنا يكون أكثر ايضاحا.

تميل الدراسة التاريخية للفن الى ان تعد ظهور الفنان وعمله حادثا تاريخيا تدفع إليه الظروف التاريخية العامة، وتبرزه البيئة كأنه ظاهرة من ظواهرها التي لا بد من وجودها في اللحظة الواجب ظهوره فيها.

وتميل الدراسة النفسية الى ان تعد الأثر الفني ظاهرة من ظواهر الحالة النفسية للفنان، واستجابة معينة لانفعالات معينة؛ وتوغل الدراسة التحليلية فيما تسميه (العقد النفسية) للكشف عن ظروف العمل الفني ودوافعه التي توجده وتلونه.

وقد سلك العقاد في كتابه عن (شاعر الغزل عمر بن ابي ربيعة) الطريقتين معا، فأثبت اولا ان الغزل كان حاجة طبيعية في البيئة الحجازية في هذا الأوان. وان عمر بن ابي ربيعة لبى هذه الحاجة تلبية طبيعية. وبهذا يكون الشاعر ظاهرة تاريخية. ثم تحدث عن (نفس) عمر بن ابي ربيعة وظروفها. فأثبت له (الطبيعة الانثوية) وأنه متغزل لا عاشق، وانه ابن بيئته المترفة متأثر بها في ميوله واتجاهاته. وبهذا يكون قد حلل نفسه وعلل سلوكه.

والأحكام الى هنا صحيحة ومأمونة لأنها لم تتجاوز دائرتها – وهي عرض البيئة التي نشأ فيها العمل الفني – ولكن لو اريد بالدراسة التاريخية والدراسة النفسية تعليل (الطبيعة الفنية) للشاعر ومقوماتها لفشلت في ذلك لتجاوزها حدودها المأمونة (2).

فكل الظروف لا تبين لنا لماذا كانت طبيعته الفنية على النحو الذي كانت عليه، وهو ليس مفردا بين الذين تنطبق عليهم هذه الظروف وتتوافر فيهم الطبيعة الانثوية.

ذلك سر الموهبة الفنية الذي لا تصل إليه الدراسة التاريخية ولا الدراسة النفسية.

وقد نقول مثلا: ان المتنبي كان يعاني حب الاستعلاء. وقد يكون هذا هو منشأ فخره في كل شعره، وقد نعلل به ميله الى كثرة التصغير في الهجاء مثلا كما صنع العقاد. ولكن هذا لا يعلل لنا عبقرية المتنبي ولا يفسرها، فلماذا كانت طبيعته الفنية من هذا الطراز وفي هذا المستوى؟ بل لا يعلل لنا كثرة التصغير في شعره، فلماذا اختار هذا الاسلوب للتعبير عن تعاليه واستصغار من دونه. وكثيرون لهم مثل طبيعته ولكنهم لا يستخدمون اسلوبه. ان اتجاه الطبيعة الفنية العام هو الذي قد تعلله الدراسة النفسية، ولكن نوعها ودرجتها وأسلوبها الخاص .. كل ذلك يبقى خارج الدائرة ابداً.

وقد حاول أمين الخولي مثلا ان يرد اتجاه المعري الى عوامل بيولوجية في جسده وعوامل نفسية في شعوره ومنشؤها العوامل البيولوجية. ولكن ماذا اجدانا هذا في دراسة طبيعة المعري الفنية؟ لا شيء. فقد يفسر لنا بعض سلوكه في الحياة وبعض اتجاهه الفني. (على ما في هذا التفسير من تعسف في كثير من المواضع). اما طبيعته الفنية ومستواها وأسلوبه الفني ايضا فهي خارج الدائرة كذلك.

ولعلنا ننتهي من هذه الأمثلة الى شيء من القصد في الاعتماد على الدراسات العلمية في صدد النقد الفني. فهي مأمونة ومجدية طالما هي تبحث في المحيط البعيد الواسع للعمل الفني، ولكنها تفقد قيمتها حين تصل الى الطبيعة الفنية والاسلوب الفني او الى العمل الفني ذاته، ولا بد حينئذ من استخدام الوسائل الفنية البحتة المعتمدة على الشعور والذوق، وعلى القواعد الفنية المباشرة المتصلة بأدوات الفن وطرائقه في التعبير والاداء.

ثم نعود الى اصطلاح (قواعد النقد الفني). فما هي هذه القواعد؟ الواقع ان هناك شيئا من التعميم، فلكل فن من هذه الفنون قواعده الخاصة به، طالما ان ادوات التعبير في كل فن مختلفة. واختلاف الأداة يقتضي حتما اختلافاً في طريقة تناول الموضوع، بل في اختيار الموضوع ذاته، ولهذا كله أثره في اختلاف قواعد النقد الفني.

يعبر الأدب بالألفاظ والعبارات، ويعبر التصوير بالألوان والخطوط، وتعبر الموسيقى بالأصوات والمسافات، ويعبر النحت بالأحجام والأوضاع.

وتتحكم الأداة في اختيار الموضوع. فالأدب بوجه عام يعبر عن الحركة المتتابعة سواء كانت حركة مادية تتم في الخارج، او حركة شعورية تتم في الخيال. وهذا يتسق مع طبيعة التعبير اللفظي بالألفاظ المتتابعة في اللسان، التي تملك وصف كل جزء من جزئيات الحركة المتتابعة في الزمان، ومن هنا كانت موضوعات الأدب: الشعر والقصة والاقصوصة والتمثيلية والترجمة والخاطرة والمقالة والبحث .. كلها حركات في الطبيعة او في الشعور.

وهذه الخاصية تظهر واضحة عند الموازنة بين الأدب والتصوير أو النحت. فالمصور لان ألوانه وخطوطه ثابتة ومحدودة المكان، يختار الموضوعات الثابتة في المكان. يختار المناظر والمشاهد. فاذا اراد التعبير عن الخواطر الشعورية والمعاني المجردة احالها مناظر ومشاهد ثابتة، لان الادوات الميسرة له تحتم عليه هذا دون سواء والمثال كذلك، بل في حدود اضيق من حدود المصور، لان ادواته ومواده اقل مرونة من ادوات المصور ومواده. وتخيل مثلا ان مصورا او مثالا حاول ان ينشئ قصة او ترجمة حياة او تمثيلية انه تصور مستحيل، لان هذه الموضوعات حركات متتابعة وليست مناظر ثابتة.

اما الموسيقى فقد تكون أكثر حرية في اختيار الموضوع من التصوير والنحت، ولكنها مقيدة بقواعد الصوت، وطبيعة الآلات. فموضوعات غالبا هي الموضوعات التأثرية العامة الغامضة التي لا تتحدد فيها المعاني، ولا تتوقف على الجزئيات المتابعة كالموضوعات الادبية. ولئن شاركت الشعر بعض موضوعاته، فموضوعات الأدب الاخرى لا تحاولها الموسيقى.

وقد يلاحظ ان الايقاع عنصر مشترك في جميع الفنون الجميلة فالإيقاع الصوتي والايقاع المعنوي متساويان في الأدب. وهما جزء اساسي في التعبير، لان الدلالة اللغوية وحدها لا تكفي في العمل الأدبي. والايقاع في التصور كذلك كائن ولكنه ايقاع تتولى العين تمييزه بدل الاذن، وتلحظه في تناسق الألوان والخطوط. وكذلك في النحت فهو ملحوظ في الانحناءات والأوضاع والأبعاد. ولكن الإيقاع في هذه المواضع وتلك مجازي. وقد استخدم لفظه بدل لفظ (التناسق) وما تزال لكل فن خصائصه. والايقاع بمعناه الحقيقي لا يتحقق كاملا الا في الموسيقى. ويتحقق جزئيا في أوزان الشعر وتنغيم النثر.

ومع ان اختلاف الاداة في الفنون ينشأ عن اختلاف الموضوعات المتاحة لكل فن، فإننا نفترض انها قد تجد موضوعات تتحد فيها، وتملك جميعها التعبير عنها، ولكن ذلك لا يمحو الفوارق بينها، ولا يسمح بات حاد قواعد النقد فيها. فالأداة كما أنها تحدد الموضوع تحدد كذلك طريقة تناول الموضوع والسير فيه.

ولنفرض ان العاصفة كانت هي الموضوع المشترك الذي تريد الفنون الاربعة ان تتناوله بالتعبير. ففي الأدب يتاح للأديب ان يبدأ موضوعه من أول منظر فيه. فقد يصف السكون الذي يسبق العاصفة، ويتناول مظاهره في الريح والشجر، وانفاس الهواء والاحياء. ثم يصف الهبوب والغبار الثائر والريح الغاضبة والشجر المجنون الحركة، والاحياء المذعورة الهاربة .. الى اخر مظاهر العاصفة المتناثرة. وقد يستمر فيصف استدارة الريح وعودة الهدوء واشتمال السكون، وقد يربط بين مظاهر الطبيعة ومشاعر النفوس .. الى نهاية الجزئيات والتفصيليات التي يتناولها العنوان.

ولا بد له بحسب الأداة المهيأة له ان يراعي دلالة الألفاظ اللغوية ودلالة الجمل البيانية، مع ايقاعها الموسيقي في الاذن، والاشعاعات الخيالية التي ترسم الصور والظلال من وراء الألفاظ والعبارات، ليستطيع ان يعبر تعبيرا كاملا عن المشهد في الطبيعة، وعن التأثرات الشعورية المصاحبة له في النفس، وينقل الى الاخرين هذا كله، ويثير في نفوسهم انفعالا معينا ناشئا من ايحاء التعبير المؤثر.

فإذا شاء المصور ان يعبر عن (العاصفة، لم تكن الفرصة متاحة له ليتناول موضوعه بهذا الترتيب التسلسلي، ولو سلك هذا الطريق لاحتاج الى عشرات اللوحات المتتابعة، ولفشل بعد ذلك فشلا ذريعا، لأنه اراد التعبير عن الحركة المتتابعة، ومجاله هو المشاهد الثابتة. وطبيعة الاداة الميسورة له لا تسمح له الا باختيار منظر ثابت واحد يوحي بالعاصفة في لمحة. فقد يختار مثلا منظر الهبوب، فيرسم انسانا قد التفت ملابسه في حركة عصبية في اتجاه الريح ودلت ملامحه النفسية على العاصفة. وفي طرف الصورة أشجار مجنونة الحركة او طائر مهيض الجناح ينحني للعاصفة. ثم يجد في الألوان ما يعبر به عن المنظر الحسي والاثر النفسي معا. ثم يستعين بانحناءات الخطوط على تكملة التعبير والتأثير.

وليس هذا الا مثلا بطبيعة الحال، فللتصوير في هذا الموقف اتجاهات شتى، ولكنها جميعا مقيدة بهذه القيود! قيد اختيار منظر ثابت واحد من مناظر العاصفة المتتابعة لا كل مناظرها، وقيد التعبير الكلي في لحظة عن شتى التأثرات المصاحبة للعاصفة، وقيد الاستعاضة بالألوان والخطوط عن المعاني والإيقاعات.

وقد تكون الفرصة المتاحة للنحات أضيق، ووسائل التعبير في يده أقل. فليس في يده الا مادة جامدة أبعادها محدودة، كما انه محروم من تعدد المناظر الجزئية الدالة في اللوحة الواحدة، فهو مقيد بقيود المصور نفسها، مضافا إليها حرمانه من اللون وتعدد المناظر.

واما الموسيقى فقد تكون أكثر طلاقة من التصوير والنحت، ولكن الاداة الميسرة للموسيقى، وهي الاصوات والمسافات تعين طريقه. وهو لا يملك الا تأليف لحن متناسق من أصوات مختلفة، تحدث الأثر النفسي الاجمالي الغامض، لأنه لا وجود للدلالات المعنوية الجزئية في الأنغام بصفة كاملة. حتى في الموسيقى الغربية التي تقوم الآلات الموسيقية فيها بأدوار شبيهة بأدوار الممثلين على المسرح في تنسيق فكري معلوم ومحدود.

ولقد يستطيع اللحن كما تستطيع اللوحة كما يستطيع التمثيل ان يحدث في النفس اثرا مساويا للأثر الذي يحدثه العمل الأدبي، أو فائقا عنه ... ولكن طريقة كل فن من هذه الفنون في احداث هذا الأثر مختلفة عن الأخرى، لان طريقة الاداء، اي طريقة تناول الموضوع والسير فيه، مختلفة.

ولما كان النقد لابد ان يتناول طريقة استخدام الأداة الخاصة بكل فن، وطريقة تناول الموضوع والسير فيه – وكلتاهما ذات قيمة اساسية في الحكم-فلا بد ان تختلف قواعد النقد في كل فن عنها في الفن الاخر، بحيث لا تصلح القواعد الفنية العامة للتطبيق الجزئي على ذات العمل الفني، وان صلحت بعض الشيء في الدراسة التاريخية والدراسة النفسية والدراسة الجمالية للفنون. اي لدراسة الإطار وحده لا ذات الموضوع.

لابد اذن من افراد الأدب بقواعد نقد خاصة به تتمشى مع أدواته وطبيعته وموضوعاته وطريقة استخدام الأدوات، وطريقة تناول الموضوعات والسير فيه.

على أننا نعود مرة اخرى فنجدنا في حاجة الى تفصيل خاص في قواعد النقد الأدبي. فليس الأدب فنا واحدا انما هو فنون كثيرة: شعر – متنوع الألوان – وأقصوصة وقصة ورواية وتمثيلية وترجمة وخاطرة ومقالة وبحيث ... ولك فن من هذه الفنون طريقته وموضوعاته. وعلى هذين الاساسين تقوم قواعد نقده الفنية، إذا أردنا الدقة في التطبيق.

ومن هنا تتضح قيمة الطريقة التي اتبعناها في الفصول السابقة. فهي الطريقة التي تواجه كل فن من فنون الأدب بنظرة خاصة تناسب طبيعته وأداته، ولا تقف على هامشه ومحيطه. وهذه الطريقة هي التي نختارها ونؤثرها في النقد الأدبي لذات الموضوع الأدبي.

اما البحوث التاريخية والنفسية والجمالية فنكتفي منها بأن تكون إطارا للعمل الأدبي، تعين على فهمه وفق ظروفه، ولكنها لا تغني عن مواجهة النص والحكم عليه بالنظر الى قيمه الشعورية وقيمه التعبيرية مباشرة.

وليس في هذا إغفال لقيمة تلك البحوث وأهميتها .. متى استخدمت داخل حدودها المأمونة وفي مواضعها المناسبة. فمن مجموعها يتألف نقد متكامل كامل يواجه العمل الأدبي من جميع نواحيه.

___________________

(1) المتعارف ان (الشعر) خاصة هو الذي يوصف هذا الوصف. ولكن يتبين مما تقدم ان بقية فنون الأدب تشترك مع الشعر في حدود واحدة، تجعلها فنا من الفنون الجميلة، فكلها (تعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية).

(2) فرويد يقرر (ان التحليل النفسي لا يمكن ان يطلعنا على طبيعة الانتاج الفني، وهو نفسه في دراسته لليوناردو لم يدرس فيه الإنسان بما هو فنان بل درس الفنان بما هو انسان)

     مجلة علم النفس عدد أكتوبر سنة 1946

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.