أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-08-2015
7584
التاريخ: 4-6-2017
86317
التاريخ: 23-7-2016
16529
التاريخ: 23-3-2018
2704
|
يبدو انه ينبغي ان نميز بين "نظام القصيد" عند ابن قتيبة، و "عمود الشعر" عند المرزوقي وان كان كلاهما في النهاية يمثل نموذجاً يجب ان يحتذى، فلعل نظام القصيد يتعلق بالشكل، بينما يتعلق عمود الشعر بالمضمون، اذ يوضح الاول كيف ينتقل الشاعر من الطلل، إلى الغزل ، إلى المديح، ويوضح الآخر كيف يعبر الشاعر عن معانيه ، من خلال قواعد اللفظ، والوصف، والتشبيه، وكأن النقاد يحاولون بذلك رسم الشكل النهائي لفن الشعر على نحو يحبط قوى الخيال، ويجعلها أسيرة الاعراف النقدية الصارمة، وإلا فكيف يتصور ان يوضع للشعر نظام معين يبدأ فيه الشاعر ببكاء الديار، ثم بكاء الاحبة، لينتقل بعد ذلك إلى الشكوى، فالمديح؟ وإذا كانت طبيعة الصحراء اقتضت مثل هذا النظام، فكيف نجعل من هذه الطبيعة مذهباً ليس لشاعر ان يتنكبه؟ (وسمعت بعض اهل الادب يذكر ان مقصد القصيد انما ابتدأ فيها بذكر الديار، والدمن، والآثار ، فبكى، وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر اهلها الظاعنين عنها . . . ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب . . . فإذا علم انه قد استوثق من الاصغاء إليه والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره وشكا النصب والسهر ، وسرى الليل، وحر الهجير ، وانضاء الراحلة والبعير، فإذا علم انه قد اوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح وفضله على الاشباه، وصغر في قدره الجزيل، فالشاعر المجيد من سلك هذه الاساليب . . . وليس لمتأخر الشعراء ان يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الاقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر، والرسم العافي . . . أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الاواجن الطوامي، او يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح، والحنوة والعرارة)(1) وظاهر ان ابن قتيبة انما يضع هنا حدود القصيد الجاهلي عرفاً فنياً لا ينبغي لاحد ان يجاوزه، واذا نظرنا كيف جعل التلطف في الاجتداء والتكسب غاية هذا العرف، ادركنا علة ذلك الازدراء الذي عبر عنه طائفة من النقاد ازاء الشعر، فنرى ابن بسام رغب بعز نفسه عن ذله، ويعده ضرباً من الزيف المموه(2)، ونرى "الكلاعي" يقذفه بالسوء والفساد والكذب(3)، اما المرزوقي" الذي اورد عمود الشعر، فقد ذكر ان تخلف الشعر عن النثر سببه أنفة ملوك العرب، وعده دناءة من جهة، وتكسبها يدفع إلى الكذب، والوقع في اعراض الناس من جهة اخرى(4) وإذا كان هذا شأن النقاد، فما هو شأن غيرهم ممن لا يعرفون الشعر، ولا يلتمسون له عذراً؟ الحق ان مثل هذا العرف الذي جمد عليه النقد كان بالغ الزراية بالشعر حين عده محاكاة سطحية من جهة وكاذبة من جهة اخرى، فلم يبال ان يكون محاكاة خيالية لفكرة او تجربة صادقة.
وإذا كان
"المرزوقي" قد اورد خلاصة ما استقر عليه العرف في امر "عمود
الشعر" فالحق انه كان لكل ناقد قدر معلوم منه لا بد ان يبدئ ويعيد في عرضه،
والحض عليه، ويلوح ان الناقد العربي لم يتصور قط ان يأتي إلى الشعر كما أبدعه
الشاعر، فيقومه ليظهر ما فيه من جمال، وانما كان يفترض ان عليه ان يحمل الشاعر على
جادة العرف النقدي الصارم، ثم لا يعنيه بعد ذلك إلا ان ينظر إلى ما قاله الشاعر،
لكي يرى: أستقام على العرف، ام خرج عليه؟ وعلى ذلك يكون معيار النقد، وبديهي ان
هذا يجعل الشاعر على حذر يكبل هاجس الخيال، والغريب ان النقاد استلهموا مبادئهم في
البداية من الشعراء ولكنهم فيما بعد عادوا يضعون لهم المبادئ، وربما كانت علة ذلك
ان مبادئهم الاولى استلهمت من الشعر الجاهلي بما له من سلطان، فكأن النقاد استردوا
عاريتهم، ولم يغتفروا لأنفسهم انهم كانوا تبعاً للشعراء ذات يوم، فما عادوا
يتركونهم يتصرفون في لفظ، أو معنى ، دون ان يؤدوا فروض الولاء لهم او يقال: انهم
اذا كانوا قد ابدوا من الاجلال للشعر القديم ما يسوغ النهل منه فأنهم لم يشعروا
بشيء من هذا الاجلال للشعر المحدث على نحو يخفف من وصايتهم عليه، وها هوذا
"قدامة" مثلاً يضع للمدح عرفاً، وللرثاء عرفاً، وللوصف عرفاً، وللغزل
اعرافاً، فلا يجوز للشاعر ــ على ما اتفق اهل الالباب ــ ان يمدح بغير العقل،
والشجاعة، والعدل والعفة، او ما تعلق بها : (انه لما كانت فضائل الناس، من حيث
انهم لا من طريق ما هم مشتركون فيه من سائر الحيوان ــ على ما عليه اهل الالباب من
الاتفاق في ذلك ــ انما هي العقل، والشجاعة والعدل ، والعفة كان القاصد لمدح
الرجال بهذه الاربع الخصال مصيباً، والمادح بغيرها مخطئاً . . .فقد وجد ان يكون
على هذا القياس المصيب من الشعراء من مدح الرجال بهذه الخلال، لا بغيرها وبالغ في
التجويد إلى اقصى حدوده، من استوعبها، ولم يقتصر على بعضها)(5) ويلاحظ
ان الطابع المنطقي الصارم، هو الذي يغلب على كلام قدامة حيث تتردد الفاظ "اهل
الالباب" و "الاصابة" و "الخطأ" و "القياس" و
"الاستيعاب" ، وذلك في موضوع شعري يفترض ان يعبر عن كنون الشعور، ويلوح
ان قدامة ينظر إلى الشعر نظرة علمية محضة تظهر منذ تعريفه الشهير للشعر بأنه (كلام
موزون مقفى يدل على معنى)، واذا كان الشعر كلاماً ذا معنى فحسب، افلا ينبغي على
مثل قدامة ان يضع لهذا المعنى قواعد تندرج فيما يراه ذوو الحجى، ليكون اقرب إلى
علم المنطق منه إلى محاكاة الشعور؟ ويتساءل المرء عن معنى الشعر إذا سلك كل شاعر
سبيل قدامة فيما أثنى عليه من جمع زهير لفضائل المدح في قوله:
أخى ثقة لا تهلك
الخمر ماله ولكنه قد يهلك
المال نائله
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك معطيه الذي أتت سائله
فمن مثل حصن في
الحروب ومثله لإنكار ضيم أو لخصم
يجادله(6)
ألا يصبح الشعر
قولاً معاداً مكروراً، بما تنفر عنه النفوس، وترض عنه الاسماع، فيخلق على كثرة
الرد؟ ثم كيف يحتمل لقدامة ان يمضي في وضع الاعراض، فيمسخ ما يمكن ان ينطوي عليه
الرثاء من حرقة النفس، وجوي القلب، ليجعله مدحاً في صيغة الماضي فحسب، فلا يقول
الشاعر، هو عاقل وهو شجاع، وانما كان عاقلاً، وكان شجاعاً؟ : (ليس بين المرثية
والمدحة فصل، إلا ان يذكر في اللفظ ما يدل على انه لهالك، مثل كان، وتولى، وقضى
نحبه، وما شبه ذلك)(7) على ان قدامة لا يغلو في قيوده التي يحجر بها
على المعاني والاساليب فيسمح للشاعر ان يعبر بما (ينفصل به لفظه عن لفظ المدح بغير
كان وما جرى مجراها، وهو ان يكون الحي مثلاً يوصف بالجود، فلا يقال: كان جواداً،
ولكن يقال: ذهب الجود، او فمن للجود بعده)(8)، ويتضح خطل هذا المنهج
عندما نجد قدامة ينظر إلى "اصابة المعنى" نظرة عقلية محضة، فيمنع الشاعر
من ان يجعل الخيل تبكي فارسها الراحل: (فمن ذلك مثلاً ان قال قائل في ميت: بكتك
الخيل، اذ لم تجد لها فارساً مثلك، كان مخطئاً لأن من شأن ما كان يوصف في حياته
بكده اياه، ان يذكر اغتباطه بموته، وما كان في حياته مرثيتها صخراً، واصابتها
المعنى، حيث قالت تذكر اغتباط "حذفة" فرس صخر بموته:
فقد فقدتك حذفة
فاستراحت فليت الخيل فارسها يراها
ولو قالت: فقدتك
حذفة فبكت، لأخطأت ، وبكاء من يجب ان يبكي على الميت، انما هو من كان يوصف اذا وصف
في حياته بإغاثته، والاحسان إليه)(9)، وحجة قدامة ان الفارس يكد خيله
بما يجعلها تدرك الراحة بوفاته، فتغتبط وهو لا يتصور قط ان هذه الخيل قد تبكي
فارسها لما كان بينهما من صلة على سبيل الوفاء، والحب، والشعور بفضل صاحبها، وذلك
ادعى إلى ادراك عظم المصاب، مما لو قبل انها استراحت بموته، وأية صورة تلائم جو
الحزن اكثر: صورة الخيل التي شعرت بالفجيعة، فشاركت الناس ذلك الشعور، ام صورة
الخيل التي اغتبطت، فنافرت جو الحزن السائد؟ ولعل منشأ الغلط هو هذه المحاكمة
العقلية للشاعر من خلال الخطأ والصواب تبعاً لقياس قد يكون هو نفسه خطاً، وحتى
الخنساء ينبغي ان تكون حرة في تصوير اغتباط "حذفة" إذا ان ذلك هو
احساسها الصادق، فملاك الامر هو ان يبين الناقد عن موضع الجمال في الشعر، لا ان
يضع هو الاعراف التي تحدد هذا الموضع.
ولم يخل الغزل
ايضاً من الصوى التي وضعها قدامة في طريقه ليهتدي بها السارون من الشعراء، وهي في
جملتها مما يفرض على الشاعر ان يتغزل على نحو معين لا يعدوه، فيتشاجى كما شاء له
قدامة لا كما شاء له قلبه: "فيجب ان يكون النسيب الذي يتم به الغرض، هو ما
كثرت فيه الادلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على افراط الوجد
واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة، اكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن
الخشوع والذلة، اكثر مما يكون فيه من الآباء والعز وان يكون جماع الامر فيه ما ضاد
التحافظ والعزيمة، ووافق الانحلال والرخاوة، فإذا كان النسيب كذلك فهو المصاب به الشعر"(10)
وواضح ان ثمة مثلاً معينة على الشاعر محاكاتها دائماً وفق ما رسمه النقاد، وها هنا
فان مثل النسيب تنحصر في التصابي، والرقة، والانحلال، والذل، فلا يتاح للشاعر
مثلاً ان يعبر في الحب عن كبرياء ربما أحسن بها، ولقد حدث ان أنكر النقاد ما ذهب
إليه ابن أبي ربيعة من اطراء جماله، فلم يغتروا له الخروج على معيار الغزل القائم
على التهالك في التشبيب بالنساء، دون احساس بكبرياء ما مهما كانت صادقة.
ويطول بنا الامر إذا
حاولنا استقصاء "عمود المعاني" ند قدامة، والحق ان كتابه انما وضع
جميعاً لتبيان قواعد النقد، وجلائها بما يسهل اهتداء الشعراء إلى سبيل الشعر(11)،
ولئن وفق إلى جعل النقد علماً منطقياً، فإنه لم يوفق تماماً في مبادئ هذا العلم
التي ارادها معياراً يفرض على الشاعر بما يحد من خياله.
على ان قدامة ليس
بدعاً في وضع معايير الأغراض الشعرية، فقد ذهب ابن سنان ايضاً إلى ان الغرض من
الشعر يشبه الغرض من الصناعة، وكما يقصد بالكرسي مثلاً الجلوس فوقه، كذلك يقصد
بالمدح تبيان عظمة الممدوح، فالمبدأ النقدي اذن نمط معين ان يحتذى، وتتقلب على
موضوعه الصور، ذلك ان كل صناعة ــ كما يقول ابن سنان ــ انما تكمل بخمسة اشياء،
ففي صناعة الكرسي مثلاً لا بد من الموضوع وهو الخشب، والصانع وهو النجار، والصورة
وهي التربيع المخصوص، والآلة وهي الميشار، والغرض: "وهو ان يقصد
على هذا المثال
الجلوس فوق ما يصنعه"(12). أما كيف يكون الغرض في الكلام مثلما
يكون الغرض في التجارة: "وأما الغرض فبحب الكلام المؤلف، فإن كان مدحاً كان
الغرض به قولاً ينبئ عن عظم حال الممدوح، وان كان هجواً فبالضد، وعلى هذا القياس
كل ما يؤلف واذا تأملته وجدته كذلك"(13)، فالأمر اذن قياس ايضاً
يلتزم فيه الشاعر ــ اذا شاء ان يمدح ــ ببيان عظمة الممدوح، وإذا شاء ان يهجو ــ
ببيان صغاره، وكأن مهمة النقد قد غدت وضع اقيسة المعاني ليحتذيها الشعراء في تكرار
مملول، ولنتأمل في معيار المديح عند ابن سنان كيف يتوزع بحسب طبيعة الممدوح على
نحو دقيق لا يدع للشاعر شيئاً: "ومن الصحة: صحة الاوصاف في الاغراض، وهو ان
يمدح الانسان بما يليق به، ولا ينفر عنه فيمدح الخليفة بتأييد الدين، وتقوية امره،
ومحبة الناس، وطاعتهم، والتقى والورع، والرحمة، والرأفة، وإقامة العدل، وشرف
الحسب، وحسن السياسة، والتدبير، والاضطلاع بالأمور، والحلم، والعفو، والعلم، وحفظ
الشرع، والجمال والبهاء، والهيبة والشجاعة وكرم الاخلاق ولينها، وما يجري هذا
المجرى وبمدح الوزير والكاتب بالعقل، والحلم وسداد الرأي، وحسن التدبير، والبلاغة
وتثمير الاموال، والعدل ، والكرم، وما يلحق بهذا، ويمدح الأمير، وقائد الجيش
بالشجاعة، والمعرفة بالحرب، وحسن النقيبة، والظفر، والصبر وسداد التدبير، وما اشبه
ذلك، وعلى هذا السبيل يجري الأمر في النسيب فيذكر فيه صدق الهوى، والمحبة، وشدة
الوجد، والصبابة، وكتمان الأسرار، ومخالفة العذال، وما يتفرع عن ذلك ويلحق به،
وكذلك في كل غرض من الأغراض الشعرية، منة هجاء، وفخر، وعتاب ووصف، وغير ذلك، حتى
يكون كل شيء موضوعاً في المكان الذي يليق به"(14).
إذن، فلكل غرض
عمود على الشعراء ان يتعلقوا به، وهذا العمود نفسه ذو شعب دقيقة ترسم سبيل الشعر،
فما يمدح به الوزير لا يصح ان يمدح به الأمير النسيب لا بد ان ينطوي على لوم
العذال، حتى لو لم يكن ثمة حب اصلاً.
ويكاد يكون ذلك
شأن النقاد جميعاً، فهذا ابن رشيق لا يقتصر على وضع حدود المعاني، وانما يتجاوز
ذلك إلى وضع حدود الألفاظ، فلا يجيز للشاعر ان يعدو مألوف الألفاظ: "وللشعراء
ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة لا ينبغي للشاعر ان يعدوها، ولا ان يستعمل غيرها، كما
ان الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابية، لا يتجاوزونها إلى سواها،
إلا ان يريد شاعر ان يتظرف باستعمال لفظ أعجمي فيستعمله في الندرة وعلى سبيل
الخطرة"(15) وواضح ان هذا قيد آخر يدح من حرية الشاعر في اختيار
اللفظ كما حد من حريته في اختيار المعنى، وكيف يتاح له سبيل الخيال، وشعره مكبل
بقيود اللفظ، والمعنى، والعرف، والحس، والوضوح، والقرب والمطابقة؟ ويبدو أن
الشعراء ايضاً الفوا ذلك حتى درجوا على وضع المبادئ النقدية، فيلاحظ مثلاً في وصية
ابي تمام للبحتري قوله: "فإن أدرت النسيب، فاجعل اللفظ رقيقاً، والمعنى
رشيقاً، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق،
وإذا اخذت في مدح سيد ذي أياد، فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وابن معالمه، وشرف
مقامه، وتقاض المعاني واحذر المجهول منها"(16).
وينبئ كلام
المرزوقي في عمود الشعر عن نظرة نقدية ترى في هذا العمود معيار التمييز بين القديم
والحديث، والأصيل والمزيف، والمصنوع والمطبوع، وحقاً، ان هذه المسائل النقدية
الشائكة، ينبغي ان يوضع لها ما تتضح به حدودها، بيد ان المشكلة هي في القيم التي
يدعو إليها هذا المعيار: كيف استنبطت وكيف فرضت؟ ويبدو انها خلاصة الأعراف الأدبية
كما استقرت في الشعور الجمعي العربي، وآية ذلك ان المرزوقي يلاحظ مذاهب
"النقاد" فيما يتعلق بالألفاظ، والمعاني والبديع، ولكنه حين يتكلم على
عمود الشعر، فإنه لا يذكر مذاهب النقاد فيه وانما يذكر مذاهب "العرب"
"فالواجب ان يتبين ما هو عمود الشعر عند العرب"(17) ويبدأ
فيقول: "انهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته"(18)، وهو يشير
إلى العرب عامة بما ينم على ان هذا العمود هو خلاصة الذوق العربي في فن الشعر،
ويبدو انه انما يفرض إذن باسم هذا الذوق واذا سلمنا بأن الامم ذات أذواق تتعلق
بطبيعتها، وحضارتها، وتختلف تبعاً لذلك، فإن هذا الذوق لا بد ان يتطور تبعاً لتطور
الامة، فتختلف مشاربه وتتعدد منازعه، ولا ريب ان محاولة تقييده بوضع معيار له تفضي
ــ لا محالة ــ إلى ضرب من الجمود الناجم عن التناقض بين المعيار الجامد، والذوق
المتطور، وهذا ما يبدو انه حدث في كل مرة كان يحاول فيها احد الشعراء الخروج عن
طوق الذوق القديم إلى ما يتراءى له طبقاً لذوقه أو لخياله الخصا، وقد يقال مثلاً:
ان المقاربة في التشبيه ــ وهي جزء من عمود الشعر ــ قد تكون ملائمة للذوق العربي
في طوره الحضاري الأول، يوم كانت الاشياء تتجلى له في الصحراء واضحة قريبة، ولكنها
لا تبدو ملائمة للطور الحضاري المعقد في العصر العباسي مثلاً، حيث كثرت الاشياء
ذاتها وفرضت علاقات متعددة بينها، ليست قريبة ، أو واضحة دائماً ، فكان لا بد من
شيء من البعد في العلاقة بين عنصري التشبيه، على قدر البعد بين شمس الصحراء وظل
القصر، أو بين الطريق الرحب الواضح، والطريق المتعرج ذي الثنايا، واذا كان قد وجد
بين النقاد من آثر البعد في التشبيه ــ نحو الفارابي من الفلاسفة، وعبد القاهر من
النقاد ــ فقد ظل اغلب النقاد ـ خضوعاً للذوق العربي ــ يفضلون "المقاربة في
التشبيه" بما تنطوي عليه من قصر الشعر على محاكاة المظاهر محاكاة سطحية يتخلف
فيها الشاعر عن الصانع، ومهما يكن فإن أعمدة الشعر عند العرب التي كانوا ينشدونها
هي ــ كما يقول المرزوقي ــ "شرف المعنى ، وصحته، وجزالة اللفظ، واستقامته،
والاصابة في الوصف ــ ومن اجتماع هذه الاسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، وشوارد
الأبيات ــ والمقاربة في التشبيه ، والتحام اجزاء النظم والتئامها على تخير من
لذيذ الوزن ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة
اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، بهذه سبغة أبواب هي عمد الشعر، ولكل باب
منها معيار . . . "(19) ويلاحظ ان جوهر الشعر ــ كما يبدو في
العمود ــ يتعلق بالشكل، او المظهر في اللفظ، والوصف، والتشبيه والاستعارة،
والمشاكلة واقتضاء القافية، فضلاً عما في معيار كل باب من قيود فرعية اخرى، وربما
كان لنا ان نستنبط اذن قيام الذوق العربي على العناية بالشكل، لا من حيث تعبيره عن
معنى مجرد، وإنما من حيث تعبيره عن معنى محسوس يأنس إليه العقل، فاذا ما قبل العقل
لم يبق للشاعر إلا ان يتجرد لوضعه في قمقم الشكل من خلال اللفظ، والاصابة،
والمقارنة، والمناسبة والمشاكلة فيبعد بذلك عن عالم الفكر الانساني، وعن محاكاة
المشاعر الباطنية الغامضة التي قد تتأبى على "العقل الصحيح" وحقاً فإن
الخطأ العقلي امر منكر اذا وقع كما وقع في شعر زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم
كلهم كأحمر عاد ثم تنتج فتتئم
لأن المشؤوم كان
من قوم ثمود، لا من قوم عاد، ولكن لا يمكن ان يوضع تبعاً لذلك معيار يحد المعنى
بأنه "يعرض على العقل الصحيح، والفهم الثاقب فإذا انعطف عليه جنبتا القبول
والاصطفاء، مستأنساً بقراثنه، خرج وافياً، وإلا انتقص بمقدار شوبه ووحشته"(20)،
لأن هذا الحد يخرج من الشعر ما شرد عن المنطق الصارم، فلم يكن له قرين، وبذلك يضعف
من تطور الشعر بعيداً عن التقليد المحض، او المحاكاة المملة، كما يتضح من مثل
انتقاد الآمدي لأبي تمام في قوله:
نصرت لها الشوق
اللجوج بأدمعٍ تلاحقن في اعقاب
وصل تصرما
فقد وقر في ذهن
الآمدي ان الشوق انما يعصم من الدمع، فلا يجوز اذن لأبي تمام ان يجد في الدمع ما
يعين على الشوق، اذا كان امرؤ القيس قد وجد فيه ما يشفي من الشوق، وكأن ذوق امرئ
القيس، او شعراء الجاهلية عامة الذين رأوا في الدمع ما يشفي، ضربة لازب في الشعر
على مر العصور، واختلاف الأذواق، وطبعاً فهذا الحكم انما استمد من العرف، ولكن هذا
العرف قد اكتسب صلابة العقل فغدا معياراً يحكم به على اذواق الشعراء، ولا ندري: هل
كان الآمدي يريد ان يكذب ابو تماما شعوره بأثر الدمع في الهاب الشوق، ليقفو أثر
القدماء، فيكرر هو، ويكرر من يأتي بعده ايضاً، ما ذهب إليه الشاعر القديم في أمر
نفسي محض لا جرم ان المشاعر تتباين إزاءه؟ أغلب الظن ان مسألة عرض المعنى على
العقل، من خلال المنطق حيناً، والعرف حيناً آخر، كان لها أثر بالغ في الحد من جنوح
الخيال إلى أفق غير أفق الظاهر، والعرف التقليدي فكان الشعر تقليداً محضاً لظاهر
الطبيعة من جهة، وطريقة القدماء من جهة اخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشعر
والشعراء: ص74-77
(2) انظر: الذخيرة
ص7.
(3) انظر: احكام
صنعة الكلام، ص36.
(4) المرزوقي:
مقدمة شرح ديوان الحماسة، تحقيق احمد امين، عبد السلام هارون، لجنة التأليف
والترجمة والنشر، القاهرة 951 القسم الاول ص16-17.
(5) نقد الشعر:
ص89.
(6) المصدر نفسه:
ص60
(7) المصدر نفسه:
ص98.
(8) المصدر نفسه:
ص98.
(9) المصدر نفسه:
ص99-100.
(10) المصدر نفسه:
123.
(11) انظر في حدود
التشبيه: ص108-116، وفي حدود الهجاء ص90 وفي الوصف: ص118، وفي عيوب المعاني: ص184.
(12) سر الفصاحة:
ص85.
(13) المصدر نفسه:
ص86.
(14) المصدر نفسه:
ص242-2543
(15) العمدة:
1/128.
(16) المصدر نفسه:
2/114، وانظر ما ذكره ابن رشيق من ان العادة هي ذكر قطع المفاوز: 1/226، وانظر
الوصية ايضاً في منهاج البلغاء، ص203.
(17) مقدمة
الحماسة: ص8.
(18) المصدر نفسه:
ص9.
(19) مقدمة
الحماسة: ص9.
(20) المصدر نفسه:
99
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|