أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-05-2015
2703
التاريخ: 26-05-2015
1795
التاريخ: 26-05-2015
1387
التاريخ: 26-05-2015
2474
|
...الشيخ الأشعري قد امتاز عن أهل الحديث باستحسان الخوض في المسائل الكلاميّة، والاستدلال بالدليل والبرهان والآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، وقد ألفّ في ذلك رسالة مفصّلة، وقف في وجوه أهل الحديث الّذين كانوا يحرمون الخوض في هذه المسائل، وعلى ذلك الغرار ألفّ كتابه الثالث (اللُّمع)، وقد طُبعت الرسالة السابقة في ذيل كتاب اللُّمع.
ثم إنّ مذهبه وإن لم يكن رائجاً بين الناس، ولكن تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه قد أحكموا أُصوله حتّى انتشر انتشاراً واسع النطاق، إلى أن صارت عقيدة الشيخ الأشعري عقيدة أهل السنّة اليوم، حتّى أنّهم يقدّمون رسائله العقائدية على عقيدة الطحاوي (المتوفّى عام 321هـ)، علماً أنّ الثانية أقرب إلى عقائد أهل الحديث.
قد طرح الشيخ في كتاب (اللُّمَع) العناوين التالية:
1 ـ استدلاله على وجوده سبحانه.
2 ـ البارئ لا يشبه المخلوقات.
3 ـ استدلاله على وحدانية الصانع.
4 ـ إعادة الخلق المعدوم جائز.
5 ـ الله سبحانه ليس بجسم.
6 ـ صفاته الذاتيّة.
7 ـ صفاته قديمة لا حادثة.
8 ـ صفاته زائدة على ذاته.
9 ـ رأيه في الصفات الخبريّة.
10 ـ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.
11 ـ الاستطاعة مع الفعل لا قبله.
12 ـ رؤية الله بالأبصار في الآخرة.
13 ـ كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي.
14 ـ كلامه سبحانه غير مخلوق أو قديم.
15 ـ عموميّة إرادته لكلّ شيء.
16 ـ آثار التحسين والتقبيح العقليين (التعديل والتجوير).
***
هذه هي الأُصول الستة عشر.
لا يمكن لنا في هذا المختصر نقل كلمات الأشعري فيها، بل نقتصر على بعض الأُصول الخاضعة للنقاش.
1. أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه:
قال في (الإبانة): إنّه لا خالق إلاّ الله، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وهم يخلقون، كما قال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3].(1)
وقال في (مقالات الإسلاميّين)، في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: (وأقرّوا انّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً).(2)
لا شك أنّ القول بالتوحيد في الخالقيّة، وأنّه لا خالق في صّفحة الكون إلاّ الله سبحانه، من روائع الأُصول الّتي طرحها في عقائده، خلافاً للمعتزلة؛ حيث نفوا خالقيّته سبحانه لفعل العبد؛ وبذلك اعترفوا بالثنويّة، فالله خالق كلِّ شيء إلاّ فعل الإنسان، والإنسان خالق لأفعاله، إلاّ أنّ تفسير التوحيد بالخالقيّة بشكل يسفر عن الجبر وسلب الاختيار ونفي العلل الطبيعية أمرٌ غير صحيح، فالتوحيد في الخالقية يجب أن يفسَّر على نحو ينسجم مع اختيار الإنسان أوّلاً، ومسؤوليّته ثانياً، كما ينسجم مع ما كشف عنه العلم وما زال يكشف عن الأسباب والمؤثِّرات الطبيعية.
والّذي يمكن أن يقال، هو: أنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير، والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكل شيء مباشرة، وخلع التأثير عن الأسباب والعلل، بل يعني أنّ الله سبحانه يُظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو المسبَّبات والمعاليل، والكلّ مخلوق له، ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
فالأشعري خلع الأسباب والعلل ـ وهي جنود الله سبحانه ـ عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه، وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني: فعل العبد في سلطانه.
والحق الّذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب، هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين، ولا بمعنى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] ، وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً، إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطويلة علّة واحدة تامّة كافية لإيجاد الفعل، والتفصيل يُطلب من محلّه، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق (عليه السّلام): ((أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً)).(3)
ثم إنّ الشيخ الأشعري فراراً من مضاعفات القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال البشر وأنّه ليس له دور في أفعاله، أضاف نظرية الكسب، وقال: (الله خالق، والإنسان كاسب)، وقد اختلفت كلمة الأشاعرة من تلاميذ منهجه في تفسير الكسب، وأوضح تفسير له ما ذكره الفاضل القوشجي الأشعري في المقام؛ حيث قال:
والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من دون أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، ومعنى ذلك: إنّ الفعل صادر من الله، غاية الأمر كون الإصدار منه تقارن مع وصف من صفات العبد، وهو: إنّه إذا صار ذات قدرة غير مؤثرة وإرادة، كذلك يصدر الفعل من الله سبحانه مباشرة، فلا يكون للعبد دور سوى كونه محلاًّ له.(4)
يُلاحظ عليه: إنّه إذا لم يكن للعبد دور إلاّ مقارنة الصدور من الله بوجود الاستطاعة في العبد والإرادة، فهل يكون ذلك مسوّغاً لتعذيبه وتثويبه، والمفروض أنّ القدرة غير مؤثّرة، وإرادته أيضاً فعل الله سبحانه، وليس له دور سوى كونه محلاًّ لوجود شيئين: إيجاد الإرادة من الله في ضميره، والفعل في الخارج؟!
وبما أنّهم اختلفوا في تفسير الكسب، قال الشاعر:
ممّا يقال ولا حقيقة عنده = معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري، والحال = عند البهشمي، وطفرة النظام (5).
2. كلام الله سبحانه هو الكلام النفسي:
أجمع المسلمون، تبعاً للكتاب والسنّة، على كونه سبحانه متكلّماً، وقد شغلت المسألة بال المفكّرين في عصر الخلفاء، وحدثت بسببها مشاجرات، بل مصادمات دامية سجلّها التاريخ.
ثم إنّ الاختلاف في كلامه سبحانه واقع في موضوعين:
الأوّل: ما هو حقيقة الكلام؟، وهل هو من صفات ذاته كالعلم والقدرة والحياة، أو من صفات فعله كالإحياء والإماتة والخلق والرزق؟
الثاني: هل هو قديم أو حادث؟، هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟. فنحن ندرس في المقام نظريّة الحنابلة، ثُمّ الأشاعرة، وقد عرفتَ أنّ الأشعري أجرى الإصلاح في عقائد أهل الحديث في موارد، منها: تكلّمه سبحانه.
ذهبت الحنابلة إلى أنّ كلامه حرف وصوت يقومان بذاته، وأنّه قديم، وقد بالغوا فيه حتّى قال بعضهم جهلاً: إنّ الجلد والغلاف قديمان.(6)
ولمّا كانت تلك النظريّة تشوّه سمعة القائل بها، قام الشيخ الأشعري إلى تصحيحها، فأخرج كلامه سبحانه عن المعنى السخيف الّذي تتبنّاه الحنابلة إلى معنى آخر، وهو القول بالكلام النفسي القائم بذات المتكلّم، وهذه النظريّة مع اشتهارها من الشيخ أبي الحسن الأشعري لم نجدها في (الإبانة) ولا في (اللُّمَع)، وإنّما ركّز فيهما على المسألة الثانية، وهي أنّ كلامه سبحانه غير مخلوق، ولم يبحث عن حقيقة كلامه، ومع ذلك فقد نقلها عنه الشهرستاني، وقال:
وصار أبو الحسن الأشعري إلى أنّ الكلام معنى قائم بالنفس الإنسانيّة، وبذات المتكلّم، وليس بحروف ولا أصوات، وإنّما هو القول الّذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده، وفي تسمية الحروف الّتي في اللسان كلاماً حقيقياً تردد، أهو على سبيل الحقيقة أم على طريق المجاز؟ وإن كان على طريق الحقيقة، فإطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك (7).
ثم إنّ الأشاعرة اختلفت في تفسير الكلام النفسي، وأحسن ما قيل في تفسيره ما ذكره الفاضل القوشجي في شرح التجريد، قال:
إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك، يجد في نفسه معاني يعبر عنها، نسمّيها بالكلام الحسّي، والمعنى الّذي يجده ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلّم حصوله في نفس السامع على موجبه، هو الّذي نسمّيه الكلام(8).
يلاحظ عليه: أنّ القائل بالكلام النفسي يعدّ التكلّم صفة ذاتية وراء العلم والإرادة، ولذلك اعتقدوا أنّ في الإخبار ـ حتّى في الأذهان البشرية ـ وراء العلم صفة باسم الكلام النفسي، وفي الإنشائيات، كالأمر والنهي وراء الإرادة والكراهيّة، شيء آخر باسم الكلام النفسي، فلابدَّ أن يُفسَّر الكلام النفسي بوجه يختلف عن العلم في الإخبار والإرادة والكراهية في الإنشاء، مع أنّ ما ذكره يرجع إلى العلم، لأنّ المعاني الّتي تدور في خلد المتكلّم، ليست إلاّ تصوّر المعاني المفردة أو المركبة أو الإذعان بالنسبة، فيرجع الكلام النفسي في الجمل الخبرية إلى التصوّرات والتصديقات، فأيّ شيء هنا وراء العلم حتّى نسمّيه بالكلام النفسي؟. كما أنّه عندما يرتّب المتكلّم المعاني الإنشائية، فلا يرتب إلاّ إرادته وكراهته أو ما يكون مقدّمة لهما، كتصوّر الشيء والتصديق بالفائدة، فيرجع الكلام النفسي في الإنشاء إلى الإرادة والكراهة، فأيّ شيء هنا غيرهما حتّى نسمّيه بالكلام النفسي؟، وعند ذلك لا يكون التكلّم وصفاً وراء العلم في الإخبار، أو وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء، مع أنّ الأشاعرة يُصرّون على إثبات وصف ذاتي باسم التكلّم وراء العلم والإرادة، ولأجل ذلك يقولون: كونه متكلّماً بالذات، غير كونه علْماً ومريداً بالذات.
3. آثار التحسين والتقبيح العقليّين:
قد عَنْوَن الشيخ الأشعري هذه المسألة باسم التعديل والتجوير، وهذه المسألة تُعدُّ الحجر الأساس لكلام الأشعري، والشيخ تبعاً لأهل الحديث والحنابلة، صوّر العقل أقلّ من أن يُدرك ما هو الحسن وما هو القبيح، قائلاً: بأنّ تحكيم العقل في باب التّحسين والتقبيح يستلزم نفي حريّة المشيئة الإلهية، وتقيّدها بقيد وشرط؛ إذ على القول بهما يجب أن يفعل سبحانه ما هو الحسن عند العقل، كما عليه الاجتناب عمّا هو القبيح عندَه؛ فلأجل التحفّظ على إطلاق المشيئة الإلهية، قالوا: لا حسَن إلاّ ما حسّنه الشارع، ولا قبيح إلاّ ما قبّحه، فله سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة، ويعدّ ذلك منه حسناً.
فإن كنت في ريب من هذا، فلنذكر من كلامه في إنكار الحسن والقبح العقليين: يقول في كتاب (اللُّمَع):
فإن قال قائل: هل لله تعالى أن يؤلم الأطفال في الآخرة؟
قيل له: لله تعالى ذلك، وهو عادل إن فعله ـ إلى أن قال: ـ ولا يقبح منه أن يعذّب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك، لأنّه أخبرنا أنّه يعاقب الكافرين، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره.(9)
يُلاحظ عليه:
أوّلاً: نحن نسأل الشيخ الأشعري، إذا أُولِمَ طفله في الآخرة وعُذِّبَ بألوان التعذيب ورأى هو ذلك بأُمّ عينيه، فهل يرى ذلك عين العدل، ونفس الحسن، أو أنّه يجد ذلك الفعل في صميم ذاته أمراً منكراً؟!
ومثله ما لو فُعل بالأشعري نفس ما فعل بطفله، مع كونه مؤمناً بالله، فهل يرضى بذلك في باطنه ويراه نفس العدل، بذريعة أنّ الله سبحانه مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء؟!
وثانياً: إنّه لا شك في أنّه سبحانه مالك الملك والملكوت، يقدر على كلِّ أمر ممكن، من غير فرق بين الحسن والقبيح، فعموم قدرته لكلّ ممكن ممّا لا شبهة فيه، لكن حكم العقل، بأنّ العمل الفلاني قبيح لا يصدر عن الحكيم، ليس تحديداً لملكه وقدرته، وهذا هو المهم في حل عقدة الأشاعرة الّذين يزعمون أنّ قضاء العقل وحكمه في أفعاله سبحانه نوع تدخل في شؤون رب العالمين، ولكنّ الحق غير ذلك، وذلك للفرق بين كون العقل كاشفاً عن مشيئته وعلمه سبحانه، وبين كونه حاكماً وفارضاً عليه سبحانه، بل العقل في مجال الحسن والقبح يكشف عن أنّ الموصوف بما له من الحكمة والغنى لا يصدر منه القبيح ولا يُخلُّ بما هو حسن.
وبتعبير آخر: إنّ العقل يكشف عن أنّ الموصوف بكلِّ كمال، والغنيّ عن كل شيء يمتنع أن يصدر منه الفعل القبيح، لتحقّق الصارف عنه وعدم الداعي إليه، وهذا الامتناع ليس امتناعاً ذاتياً حتّى لا يقدر على الخلاف، ولا ينافي كونه تعالى قادراً عليه بالذات، ولا ينافي اختياره في فعل الحسن وترك القبيح، فإنّ الفعل بالاختيار كما أنّ الترك به أيضاً، وهذا معنى ما ذهبت إليه العدليّة من أنّه يمتنع عليه القبائح، ولا تهدف به إلى تحديد فعله من جانب العقل، بل الله، بحكم انّه حكيم، التزم وكتب على نفسه أن لا يخلَّ بالحسن ولا يفعل القبيح، وليس دور العقل هنا إلاّ دور الكشف والتبيين بالنظر إلى صفاته وحكمته.
ولعلّ هذا المقدار بالبحث حول التحسين والتقبيح العقليّين كافٍ لمن أراد الحق.
4. رؤية الله بالأبصار في الآخرة:
إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتمّ الأشعري بإثباتها اهتماماً بالغاً في كتابيه: (الإبانة) و(اللُّمع)، وركَّز عليها في الأوّل من ناحية السمع، وفي الثاني من ناحية العقل.
قال في (الإبانة): وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله.(10)
وقال في (اللُّمع): إن قال قائل: لِمَ قلتم إنَّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟، قيل له: قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه، لا يلزم في القول بجواز الرؤية.(11)
إنّ رؤية الله تبارك وتعالى فكرة مستوردة وبدعة يهوديّة؛ نقلها الأحبار إلى الأوساط الإسلاميّة، وحيكت الأخبار على منوالها، ويشهد على ذلك ما في العهد القديم، وإليك بعض المقتطفات منه:
1 ـ رأيت السيّد جالساً على كرسي عال، فقلت: ويل لي؛ لأنّ عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود.(12) والمقصود من السيّد هو: الله جلّ ذكره.
2 ـ كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار(13).
ولمّا كان القول بالرؤية في الآخرة يستلزم المقابلة مع المرئي وكونه في جهة ومكان، عمَد كثير من الأشاعرة، منهم التفتازاني، إلى تجريد الرؤية عن هذه السلبيات.
يقول التفتازاني: ذهب أهل السنّة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يُرى، وأنّ المؤمنين في الجنة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.(14)
وهذه القيود الّتي ذكرها التفتازاني، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار، ولكن مجردة عن المقابلة والجهة والمكان، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان، فتحقُّق الرؤية ـ سواء أقلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء ـ في غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل.
أدلّة القائلين بالرؤية:
إنّ أفضل ما استدلّ به القائلون بالرؤية هي الآية التالية:
قوله سبحانه: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 20 - 25].
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: الدليل على أنّ الله يُرى بالأبصار، قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الّذي يكون بالعين الّتي في الوجه، فصح أنّ معنى قوله تعالى: {إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} رائية.(15)
وقد شغلت الآية بال الأشاعرة والمعتزلة، فالفرقة الأُولى تُصرّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية، والثانية تُصرّ على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية، ولكنّ الحق أنّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة، حتّى ولو قلنا إنّ النظر فيها بمعنى الرؤية؛ إذ يُعْرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها مع بعض، وإليك البيان:
إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يُرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة:
أ ـ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] يقابلها { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24].
ب ـ {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 23] يقابلها { تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25].
وبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى، فيكون قرينة على المراد منها؛ فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظنُّ وتتوقّع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها، يكون المراد من عِدْله وقرينه عكسه وضده، وليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته، ومتوقِّعة لفضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويَّته، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل، وهو خلف.
وبعبارة أُخرى: يجب أن يكون المتقابلان ـ بحكم التقابل ـ مُتَّحدي المعنى والمفهوم، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأوّل ـ أعني: {إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} ـ هو رؤية جماله سبحانه وذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه ـ أعني: {تَظُنّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} ـ هو حرمان هؤلاء عن الرؤية، أخذاً بحكم التقابل، وبما أنّ تلك الجملة ـ أعني: القرين الثاني ـ لا تحتمل ذلك المعنى ـ أعني: الحرمان من الرؤية ـ بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل؛ وهو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.
إلى هنا تمّت دراسة عقائد الأشاعرة على وجه الإجمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإبانة: 20.
(2) مقالات الإسلاميين: 1/321.
(3) الكافي: 1/183، باب معرفة الإمام، الحديث 7.
(4) شرح التجريد، القوشجي، 445.
(5) القضاء والقدر: 185.
(6) المواقف: 293.
(7) نهاية الإقدام: 320.
(8) شرح التجريد، القوشجي: 420.
(9) اللُّمع: 116 ـ 117.
(10) الإبانة: 21.
(11) اللُّمع: 61 بتلخيص.
(12) اشعيا: 6/1 ـ 6.
(13) دانيال: 7/9.
(14) شرح المقاصد: 2/111.
(15) اللُّمع: 64.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|