أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-09
1098
التاريخ: 2023-02-14
1574
التاريخ: 8-1-2023
996
التاريخ: 26-1-2023
1202
|
لاحظنا في دراساتناً لجملة قصص أن السورة القرآنية الكريمة تطرح منذ الاستهلال مفهوماً معيناً ، ثم تـتقدم بقصة تحوم حيال المفهوم المذكور ... لاحظنا ذلك في سورة الكهف ، وسورة ياسين وسواهما ، وها نحن في سورة القلم نواجه في مقدمة السورة طرحا لبعض المفهومات ، ومنها الحلف مثلا . وسنجد أن القصة التي نحن بصددها ستتناول في أحد جوانبها موضوع الحلف وسواه ، على نحو ما نبدأ به الحديث الآن :
تـتضمن سورة القلم اقصوصة واحدة ، سبقتها بعض مواقف المناهضين لرسالة الإسلام ، فيما سردتها السورة على هذا النحو :
قالت السورة ، مخاطبة النبي (صلَّ الله عليه وآله) :
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ...}
وبغض النظر عن هوية الشخوص المهينة التي تعاملت مع النبي (صلَّ الله عليه وآله) عبر دعوته إلى رسالة السماء ، فإن السورة شددت على إبراز بعض سماتهم ، متمثلة في كونهم حلافين بالباطل ، غيرمبالين بالكذب ، يجرحون الناس بألسنتهم ، يسعون بالنميمة والفساد بينهم ، يبخلون بالأموال على فقرائهم .
هذه السمات المرضية التي طبعت المستكبرين الذين عاصروا رسالة محمد (صلَّ الله عليه وآله) قد استثمرتها السورة في صياغة قصة خلعت منها السمات المذكورة على شخوص القصة مستهدفة من ذلك إحداث التأثير الفني لدى القارئ أو السامع ، بغية الإفادة منها في تعديل السلوك وضبطه .
والآن ، لنقرأ القصة :
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ}
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}
القارئ أو السامع قبل أن يرجع إلى نصوص التفسير ، يستطيع أن يستخلص بنحو مجمل ، أن هناك اختبارا أجرته السماء على معاصري الرسالة الإسلامية ... وهذا الاختبار أو الامتحان يشبه اختبارا جرى لقوم مجهولين ، يمتلكون ـ فيما يبدو ـ مزرعة ذات أثمار وقد حلف هؤلاء القوم ذات يوم على أن يقطعوا ثمار المزرعة في صباح اليوم الآتي ، دون أن يربطوا حلفهم بمشيئة السماء ، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان .
إذ أرسلت السماء على المزرعة إحدى الآفات ، فأبادتها تماما حتى أصبحت كالليل المظلم في وحشتها ، وذلك قبل أن يقبل الصباح الذي عزموا فيه على اقتلاع الثمر ، وقد حدث ذلك كله وهم نائمون .
هذا ما يمكن استخلاصه من أحداث القصة ، دون أن نملك تفصيلات غيرها .
بيد أن الرجوع إلى النصوص المفسرة ، ... مضافا إلى مقدمتها التي أشارت إلى كل حلاف مهين ومناع للخير ، ثم متابعة أجزاء القصة بعد ذلك . ذلك جميعا يلقي إنارات متنوعة فنيا وفكريا على القصة ، فيما يحسن بنا أن نقف عندها مفصلا .
تقول النصوص المفسرة : إن هناك مزرعة تقع في اليمن على بعد عدة أميال من صنعاء . وكانت المزرعة لشيخ صالح لا يحمل إلى داره من ثمار المزرعة ، إلا بعد أن يتصدق بها إلى الفقراء .
ثم توفي الشيخ وخلفه بنوه .
وبعض النصوص المفسرة تذهب إلى أن أولاد الشيخ حدثوا أنفسهم بحرمان الفقراء من ثمار المزرعة ، معللين ذلك بأنهم أحق بها لكثرة عيالهم .
وبعض النصوص المفسرة الاخرى تذهب إلى أن الأولاد طغوا وبغوا حينما شاهدوا أن مزرعتهم في السنة التي توفي فيها أبوهم ، قد حملت حملا كبيرا لم يعهدوه في حياة أبيهم .
وتبعا لذلك قرر الأولاد الاستئثار بثمار المزرعة وحرمان الفقراء منها ، بعد أن نسبوا إلى أبيهم سمة الخرف في تصرفاته نحوالفقراء .
وبعد اتخاذ مثل هذا القرار ، تم الاتفاق على الذهاب إلى المزرعة صباح اليوم الآتي وقطع كل ثمارها ، حيث حلفوا على تنفيذ خطتهم دون أن يستثنوا ذلك بمشيئة الله سبحانه وتعالى ، وعندها ابيدت المزرعة على نحو ما سردته نصوص القصة ذاتها .
والآن ، في ضوء هذه النصوص المفسرة يحسن بنا أن نتجه إلى تبيين السمات الفنية في صياغة الاقصوصة من حيث بناؤها بداية ووسطا وخاتمة ، ومن حيث سائر العناصر المتصلة بها من شخوص وأحداث ومواقف ، ثم من حيث لغتها حوارا وسردا .
وأول ما يواجهنا من سمات الفن فيها ، أن القصة لم تحدثنا بكل شيء منها في البداية ، بل احتفظت ببعض أسرارها في الجزء الثاني من القصة ، وبخاصة في عنصر الحوار الذي كشف بعض تلك الأسرار ، وذلك بعد أن ابيدت المزرعة ، حيث ترك ذهاب المزرعة عنهم ردود فعل متنوعة ، ألقت الضوء الكامل على شخصياتهم كما سنرى .
والمهم أن الدلالة الفكرية للقصة وما تنطوي عليه من أغراض يستهدفها النص القرآني الكريم ، هو الذي يفسر لنا أهمية مثل هذا البناء الفني الذي يستخدم عنصر التشويق والمماطلة والمفاجأة في تثبيت المفاهيم المستهدفة .
وهو أمر ينبغي الوقوف عنده أولا .
لابد أن نضع في الاعتبار أن السورة الكريمة عندما خاطبت النبي (صلَّ الله عليه وآله) :
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ ...}
إنما استهدفت إبراز مثل هذه المفاهيم في قصة واقعية أوضحت لنا من خلالها كيف إن الذي يحلف بالسماء مثلا دون أن يستثني ذلك بمشيئتها ، أو كيف إن الذي يمنع الخير ويحجبه عن الفقراء ، ... كيف إن مثل هؤلاء تنتظرهم نهايات قاتمة كسيحة لم تخطر ببالهم أبداً ؟
وفعلا جاءت أحداث القصة لتوضح لنا بجلاء ، كيف إن مزرعة مثمرة لم يصبها الجدب ، ولم تنزل بها أية آفة زراعية طوال الحياة التي عمرها الشيخ أبوهم ؟
وكيف إن هذه المزرعة قد زاد ثمرها في حياة الأولاد ، في العام الذي توفي أبوهم فيه ، مما يعزز لديهم قناعة جديدة واطمئنانا كافيا بإمكان استمرارية المزرعة ، وبقاء ثمرها وزيادته ... كيف إن مثل هذه المزرعة تباد فجأة ، ...
تصيبها آفة غير متوقعة على الاطلاق ... ؟ وكيف تباد المزرعة خلال ليلة واحدة فحسب ، وليس تدريجيا مع الزمن ... تباد في نفس الليلة التي ينتظر القوم صباحها حتى يقطعوا ثمارها ، ويستأثروا بها ، ويحجبوها عن الفقراء ... تباد في نفس الليلة التي سبقها الحلف بالسماء بأنهم سيقطعون ثمارها في الصباح :
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}
هكذا جاءت أحداث القصة ... لتوضح لنا نهاية كل حلاف مهين ، كل مناع للخير ... وهم نماذج من شخصيات عاصرت النبي (صلَّ الله عليه وآله) ، وشابهتها شخصيات القصة التي أوردها النص القرآني الكريم .
كان القسم الأول من قصة أصحاب المزرعة يحوم على حادثة الإبادة التي أحاطت بالمزرعة :
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}
هذا القسم من القصة لم يبين لنا من تفصيلاتها سوى حادثة المزرعة التي أصبحت كالليل في وحشتها بعد أن كانت حافلة بعطاء الثمر ، ولم يبين لنا من مواقف وسلوك أصحابها سوى أنهم أقسموا ليقطعن ثمارها في الصباح دون أن يستثنوا ذلك بمشيئة السماء :
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ}
من حيث البناء الفني للقصة ـ في قسمها الأول الذي نتحدث عنه ـ لم تكن حادثة إبادة المزرعة قد أخذت تسلسلها الزمني في أحداث القصة ، بل جاءت تستبق الزمن وتعبر مرحلته الطبيعية ، لترتد من جديد إلى التسلسل الموضوعي للزمن .
إن أول مواقف القصة هو : أن أصحاب المزرعة أقسموا على الذهاب صباحا إلى مزرعتهم وقطف كل ثمارها والاستئثار بها ، ومنع خيراتها عن الفقراء وهذه مرحلة اتخاذ القرار .
أما المرحلة الثانية فهي : تنفيذ القرار ، أي الذهاب صباحا إلى المزرعة .
ولكن القصة قبل أن تسرد لنا مرحلة التنفيذ هذه ، سردت لنا المرحلة الثالثة من خلال ما يطلق عليه في المصطلح القصصي بـ : الاستباق ، وهي حصول آفة سماوية أتت على المزرعة وأبادتها تماما .
وبعد حادثة إبادة المزرعة عادت القصة إلى المرحلة الثانية ، والسؤال هو : لماذا قطعت القصة تسلسل الزمن ، فسردت الخاتمة قبل أن تسرد الأحداث التي تسبق الخاتمة ؟
إن الإجابة ـ فنيا ـ على هذا السؤال تـتضح تماما حين نأخذ في الاعتبار أن القصة كانت ساكتة عن توضيح السبب الذي جعل القوم مقسمين بأنهم سيذهبون صباحا إلى المزرعة ويقطعون ثمارها .
فالقارئ أو السامع سيظل مشدودا إلى معرفة السبب الذي يكمن وراء مثل هذا القرار ، إنه يتساءل : لماذا يتخذ القوم مثل هذا القرار ؟ ما هي خلفيات هذا القرار ؟
ما الحكمة وما الوجه فيه ؟
وهذا واحد من عناصر التشويق القصصي الذي يجعل القارئ متطلعاً لمعرفة السبب ، حتى يتابع أحداث القصة بنهم وشوق .
لم تكتف القصة بهذا القدر من عنصر التشويق القصصي ، بل ضاعفت من عملية التشويق حينما أوحت للقارئ بأن اتخاذ القرار المذكور ، أي الذهاب صباحا إلى المزرعة وقطع ثمارها ، إنما يشكل قراراً ظالماً ، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أرسل في تلك الليلة آفة معينة بحيث أبادت المزرعة من أساسها ، فأصبحت كالليل في وحشتها .
إن مفاجأة القارئ بهذه الآفة قبل أن يتعرف على مرحلة التنفيذ العملي لدى القوم ، ... قبل ذهابهم فعلا إلى المزرعة وقطع ثمارها ، ... إن مفاجأة القارئ بهذه الآفة قبل تعرفه على مرحلة التنفيذ ، إنما يكشف له عن سمتين فنيتين مزدوجتين في هذا الصدد ، أولهما : أن القصة ستحيطه علما بأن قرار الذهاب إلى المزرعة وقطع ثمارها ، إنما هو سلوك جائر .
ثانيهما : أن القصة ستزيد من تشوقه لمعرفة تفصيلات هذا القرار ، ولماذا اتسم بكونه قراراً ظالماً ؟
يضاف إلى ذلك أن حدوث الآفة النازلة على المزرعة وهم نائمون ، وحدوثها وهم لم ينفذوا العملية بعد ، إنما يكشف عن حقيقة فنية ، هي تحسيس الآخرين بأن السماء تقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه القيام بسلوك ظالم ، حيث سـتتدخل السماء قبل أن يحقق الظالم أهدافه الشريرة .
إذن هناك أكثر من سبب فني يكمن وراء قطع التسلسل الموضوعي للزمن في هذا الجزء من القصة التي نحن في صددها الآن .
ولنتجه إلى المرحلة الثانية التي عبرتها القصة ، لنستكشف المزيد من أسرار الفن .
كانت المرحلة الاولى هي : اتخاذ القرار .
المرحلة الثانية : تنفيذ القرار ، وهذا ما تكشف القصة عنه على النحو الآتي :
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ}
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}
{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}
هذه هي مرحلة التنفيذ .
فعندما أسفر الصبح تنادى القوم بعضهم ينادي الآخر ، يستحثه إلى تنفيذ العملية مطالبا إياه بأن يسرع إلى المزرعة وقطعها .
وفعلا اتجهوا إلى المزرعة .
وفي الطريق كان الإخوة يتحاورون فيما بينهم ، ... يتحدثون هامسين ، ... متخافتين ، متسارين :
بم كانوا يهمسون ؟ هذا ما أوضحته القصة على لسانهم :
{لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ}
هذه الفقرة هي المفتاح الذي يكشف للقارئ كل الأسرار ، فالقارئ أو السامع الذي يتطلع لمعرفة السبب الكامن وراء اتخاذ القرار بالذهاب إلى المزرعة صباحاً ، والسبب الذي جعل السماء ترسل آفة مبيدة للمزرعة ، ... إنما هو هذا القرار الجائر الذي يكشف عن مناع للخير ... لا نغفل أن صفة مناع للخير وردت في مقدمة السورة مما يكشف ذلك عن صلة القصة بمقدمة السورة الكريمة .
المهم أن القرار المتقدم يكشف عن قوم دفعهم حرصهم وجشعهم وحبهم لذواتهم إلى أن يستأثروا بالخيرات لأنفسهم فحسب ويمنعوها عن الفقراء ، عن المساكين ... إنهم لا يريدون أن يشبعوا جائعا عوده أبوهم الشيخ على الإطعام ، يريدون أن يستأثروا بالخيرات لأنفسهم ...
إنه لجشع ، وحرص ، وجدب في الأعماق ما بعده من جدب .
من الزاوية الفنية الخالصة ، يهمنا أن نلفت الانتباه إلى أهمية هذا الحوار الجمعي القائم بين الفتية الجشعين فترتـئذ .
فالقصة لم تحدثنا في البدء بأن هناك مجموعة من الأفراد صمموا على أن يمنعوا الفقراء من أرزاقهم ، وإنما قالت لنا : هناك أفراد صمموا أن يذهبوا إلى مزرعة لهم صباح ذات يوم ، وإلى أن السماء أرسلت على المزرعة نارا أحرقتها بكل ما فيها . ثم احتفظت القصة بالسر الكامن وراء الذهاب إلى المزرعة وتدخل السماء في ذلك ، ... احتفظت بهذا السر الفني ... ثم كشفته بهذا النحو الممتع .
وبذلك حققت للقارئ إثارة فنية بالغة المدى ، حينما جعلته يتشوق ويتطلع ويتلهف لمعرفة السبب ، حتى يتابع سائر أجزاء القصة ، مجسدة بهذا ما يسمى في لغة الأدب القصصي بعنصر التشويق الفني . ثم بما صاحبه من عنصر المفاجأة والمماطلة الفنـيتين .
ولكن هل أن عنصر التشويق قد انتهى عند هذا النطاق من القصة ؟ كلا .
سنلحظ عند متابعتنا أجزاء القصة مزيدا من عنصر التشويق الفني ، وما ينطوي عليه من دلالات فكرية تـتصل بالخيرات التي يمنحها الله لعباده ، وبوقوفه بالمرصاد لكل مناع للخير ، وبالندم الذي قد يلحق بعض الأفراد ، وبإمكان التوبة من الأعمال الخاطئة ... إلى غير ذلك من الدلالات التي سنتحدث عنها مفصـلا .
إتجه أصحاب المزرعة صباحا إلى مزرعتهم ، وهم واثقون بأنهم سينفذون قرارهم الظالم ، ... القرار القاضي بمنع الفقراء من حقوقهم .
لكنهم فوجئوا بما لم يكن في الحسبان .
لقد شاهدوا بأن المزرعة أصبحت كالصريم ، ... كالليل المظلم في وحشته ...
هذا كله يتم في ثلاث مراحل قصصية هي :
المرحلة الاولى : وكانت تـتمثل في اتخاذ القرار .
المرحلة الثانية : وهي إبادة المزرعة .
المرحلة الثالثة : وهي فشل القرار القاضي بمنع الفقراء من حقوقهم .
ثم تجيء المرحلة الرابعة ، وهي القسم الأخير من القصة ، متمثلا في ردود الفعل التي أحدثتها إبادة المزرعة ، بعد أن علق القوم عليها آمالا عراضا قد انطفأت في لحظة زمنية قصيرة لم تـتجاوز نطاق المشاهدة التي تعرضوا لها وهم حيال المزرعة المحترقة .
لقد احترقت المزرعة ، وانتهى كل شيء .
والآن ماذا نتوقع من أصحاب المزرعة ، فيما يتصل بردود الفعل التي أحدثتها حادثة الإحراق ؟
يبدو أن القوم ـ وفاقا لمنطق القصة ذاتها ـ قد أقروا بخطأ تصرفاتهم في هذا الصدد .
ويبدو ـ وهذا واحد من أسرار الفن العظيم الذي كشفت القصة عنه في قسمها الأخير ـ أن شخصاً على الأقل ، أو أخا من الإخوة الذين ورثوا المزرعة من أبيهم ، وهو أوسطهم في السن ، أوأفضلهم في النضج العقلي لم يكن راضيا ولم يشاركهم الرأي في القرار القاضي بمنع الفقراء من حقوقهم ، أو على الأقل طالبهم باستثناء مشيئة الله في القسم الذي ارتكنوا إليه فيما يتصل بقطع ثمار المزرعة ...
كل هذا تسرده القصة مفصلا عبر الحوار الجمعي الذي أبرزته القصة في هذا النطاق .
والسؤال هو : ما هي ردود الأفعال مفصلة أولا ؟ ثم أهمية الطريقة الفنية التي سلكتها القصة في الكشف عن الشخصية التي حذرت أصحاب المزرعة من سوء فعالهم ، ثانيا ؟
لنقرأ ردود الأفعال عند القوم ، وهم يشاهدون المزرعة المحترقة .
{فَلَمَّا رَأَوْهَا}
{قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
هذا هو أول رد فعل يقر بأنهم كانوا ضالين في اتخاذهم قرارا بمنع المساكين من أرزاقهم ، وعدم استثنائهم ذلك بمشيئة الله .
وبعض المفسرين يرى أن قولهم : إنا ضالون ، إنما يعني ضلالهم عن الطريق ، والتشكيك في أن هذه المزرعة المحترقة هي مزرعتهم أم لا ؟
ومع هذا التشكيك استدرك بعضهم وكأنه لم يقتنع بأن المزرعة المحترقة هي غير مزرعتهم ، فقفزت إلى ذهنه حقيقة الانتقام الإلهي ، فهتف قائلا :
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}
من ثمار هذه المزرعة ما دمنا تركنا الاستثناء في المشيئة ، وما دمنا فكرنا في منع الفقراء من أرزاقهم .
لقد تركنا النص القصصي نواجه بأنفسنا ـ نحن القراء ـ مشاعر المعترفين بالذنب ، سافرة واضحة على ألسنتهم ، من خلال الحوار الجمعي في هذا الجزء من القصة .
وهذا الإقرار من الزاوية الفنية له أهميته الكبيرة في التعرف على حقيقة أعماقهم .
غير أن الحوار الجمعي أفرز لنا جوانب اخرى من الأهمية حينما كشف المزيد من المواقف الغائبة عنا في تصرفات القوم .
فالقارئ أو السامع يملك تصورا خاصا عن القوم ، بأنهم جميعا كانوا على اتفاق فيما بينهم بالنسبة لقرار المنع ، و بالنسبة لقسمهم :
{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ}
وهذا التصور بأن الأولاد كانوا بأجمعهم دون استثناء متفقين في الرأي ، لم يكن اعتباطا ، بل إن الأقسام الثلاثة من القصة هي التي أوحت بمثل هذا التصور مادامت منذ البداية تـتحدث عن أصحاب المزرعة جملة لم تستثن منهم أحداً .
لكن القسم الرابع من القصة يكشف لنا عن سر جديد احتفظ به النص طوال القصة ، ... وبدأ الآن بكشفه على النحو الآتي :
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ}
إذن هناك واحد من الأولاد أو القوم ، كان منذ البداية غير راض بتصرفات إخوته ، ... بل إنه قدم النصيحة لهم ، قائلا : ألا تسبحون ؟! ألا تستثنون ؟! ألا تتقون ؟! ألا تخرجون حق الفقراء من أموالكم ؟!
طبيعيا لم تجر هذه النصائح بحرفيتها التي نقلناها بقدر ما يمكن أن يستوحيها القارئ من كلامه : (لولا تسبحون) .
غير أن الأهم من ذلك كله هو عنصر المفاجأة الذي سلكته القصة في هذا الصدد ، حينما احتفظت بأحد الأسرار طوال فصول القصة وكشفته فجأة للقارئ في القسم الأخير من القصة ، محققة بذلك مزيدا من الإمتاع القصصي وهو إمتاع له خطورته الكبيرة في ميدان الأدب القصصي ، يعرفه جيدا كل من أدمن على قراءة القصص البشرية و خبر أساليب الصياغة في هذا الصدد .
على أية حال ، ... لا يزال الحوار بين القوم يكشف المزيد من ردود الفعل لديهم . فبعد أن ذكرهم أوسطهم بنصيحته منذ البداية ، أقروا بظلمهم من جديد ، قائلين :
{سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}
وهذا يعني أن القوم تحتفظ أعماقهم بشيء من النقاء ، ماداموا قد اعترفوا بذنوبهم .
فقد أدركوا أولا بأنهم قد حرموا من ثمار المزرعة عندما غلبتهم أهواؤهم في الاستئثار بها .
ثم أقروا من جديد بأنهم كانوا ظالمين .
وها هم للمرة الثالثة يلوم بعضهم بعضا على تصرفاته :
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ}
ثم أنهم للمرة الرابعة :
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ}
إن هذه المستويات من ردود الفعل تكشف لنا أن القوم لم يكونوا من النمط الذي طبع على قلبه بحيث لم يتعظ بالأحداث و التجارب ، و إنما كانوا من النمط الذي تنفعه الذكرى والعظة .
وفعلا كانت النهاية التي توجت سلوكهم ، هي التوبة مصحوبة بأمل أن الله سبحانه وتعالى يبدلهم خيرا من مزرعتهم التي ابيدت . لقد هتفوا قائلين :
{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}
وهكذا تنتهي القصة بخاتمة تـتحدث عن التوبة ، وتـتحدث عن إمكانياتها الهائلة التي طالما تدعونا السماء إليها ، ملحة علينا بأن نسرع إلى التوبة قبل فوات الأوان . وإنه لعطاء الله الذي لا حدود لاقداره ، عطاء الله الذي دفع القوم ليس بأن يندموا على فعلتهم والاعتذار عنها فحسب ، بل دفعهم إلى أن يطالبوا بأن يبدلهم الله خيرا من مزرعتهم ... مما يعني أن نعم الله لا يمكن أن تحصى ألبتة . إنه سبحانه وتعالى يقبل القليل ويعفو عن الكثير . إنه يحسسنا من خلال هذه القصة التي أجرى فيها على لسان الخاطئين الرغبة في أن يبدلهم الله خيرا من مزرعتهم ، يحسسنا بمعطيات التوبة ... يحسسنا بأن العبيد مدلون في رغبتهم المزيد من العطاءات بالرغم من ذنوبهم التي حذروا منها ، لكن شريطة أن تكون التوبة خالصة نصوحا ، لا يحدث المرء بعدها ذاته بمعاودة الذنب .
إذن كم يجدر بنا الإفادة من الدلالة الفكرية لقصة أصحاب المزرعة ، بغية تصحيح سلوكنا وتعديله في غمرة هذه الحياة العابرة التي نحياها ونجتازها إلى الدار الأبدية ؟!
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|