أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2018
1395
التاريخ: 25-9-2018
1437
التاريخ: 9-4-2021
1969
التاريخ: 27-8-2019
1549
|
عدد الجيش
كان في الكوفة من الجيش العامل في أواسط القرن الاول أربعون الفاً، يغزو كلَّ عام منهم عشرة آلاف ( وهو ما تنص على ذكره المصادر الموثوقة ).
وعلمنا ان أمير المؤمنين علياً عليه السلام كان قد أعدّ للكرّة على جنود الشام أربعين الفاً أو خمسين الفاً - على اختلاف الروايتين - ثم توفي قبل الزحف بها. والمظنون أن الحصة المدورة من الجيش العامل، كانت بعض هذه العدة التي كان أمير المؤمنين قد أعدّها لحرب معاوية.
ثم انقطع بنا العلم عن موقف هذا الجيش أو ذاك من الحسن بن علي عليه السلام ، ابان دعوته الى الجهاد. وعلمنا من أكثر من مصدر أن المقدمة التي بعث بها الحسن الى لقاء معاوية في « مسكن » كانت تعدّ اثني عشر الفاً، والمرجّح أنها فلول الجيش الذي مات عنه أمير المؤمنين (ع)، فأجاب الحسن منهم من أجاب وتخلّف الباقي.
ثم علمنا من مصدر آخر أن الكوفة جاشت في صميم تثاقلها يوم الحسن فجنّدت أربعة آلاف(١) اخرى.
فهذه ستة عشر الفاً، قام على اثباتها النص الذي لا يقبل النقاش.
وهناك أرقام اخرى لعدد الجيش، مرّ عليها المؤرخون وتضمنّتها بعض التصريحات ذات الشأن. ولكنها خاضعة في ثبوتها للتمحيص والمناقشة.
وفيما يلي نصوص المصادر التي تشير الى تلك الارقام على اختلافها نعرضها اولاً بحرفها، ثم نعود أخيراً الى تدقيقها كما يجب.
١ - قال في البحار ( ج ١٠ ص ١١٠ ):
« ثم وجه ( يعني الحسن ) اليه ( يعني الى معاوية ) قائداً في اربعة آلاف، وكان من كندة، وأمره أن يعسكر بالأنبار(2) ، ولا يحدث شيئاً حتى يأتيه أمره. فلما توجه الى الانبار، ونزل بها، وعلم معاوية بذلك، بعث اليه رسلاً، وكتب اليه معهم: انك ان أقبلت اليَّ، اُولّيك بعض كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك. وأرسل اليه بخمسمائة الف درهم. فقبض الكندي المال، وقلب على الحسن، وصار الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الحسن فقام خطيباً وقال: هذا الكندي توجه الى معاوية، وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة، انه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجّه رجلاً آخر مكانه، واني أعلم انه سيفعل بي وبكم، ما فعل صاحبكم، ولا يراقب اللّه فيّ ولا فيكم. فبعث اليه رجلاً من مراد في أربعة آلاف. وتقدم اليه بمشهد من الناس وتوكد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي. فحلف له بالايمان التي لا تقوم لها الجبال انه لا يفعل. فقال الحسن: انه سيغدر. فلما توجه الى الأنبار، ارسل اليه معاوية رسلاً وكتب اليه بمثل ما كتب الى صاحبه وبعث اليه بخمسة آلاف ( ولعله يريد خمسمائة الف ) درهم، ومنّاه أيّ ولاية أحب من كور الشام والجزيرة، فقلب على الحسن، وأخذ طريقه الى معاوية، ولم يحفظ ما اخذ عليه من عهود ».
ثم ذكر بعد هذا العرض، اتخاذ الحسن النخيلة معسكراً له، ثم خروجه اليها.
٢ - قال ابن أبي الحديد ( ج ٤ ص ١٤ ):
« وخرج الناس، فعسكروا ونشطوا للخروج، وخرج الحسن الى المعسكر، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس واشخاصهم اليه. فجعل يستحثهم ويخرجهم حتى يلتئم المعسكر. وسار الحسن في عسكر عظيم وعدة حسنة، حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس. ثم دعا عبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب، فقال له: يا ابن عم اني باعث معك اثني عشر الفاً من فرسان العرب وقراء المصر ».
٣ - روى الزهري فيما ينقله عنه ابن جرير الطبري ( ج ٦ ص ٩٤ ) قال:
« فخلص معاوية حين فرغ من عبيد اللّه بن عباس والحسن عليه السلام الى مكايدة رجل هو أهم الناس عنده مكايدة، ومعه أربعون الفاً. وقد نزل معاوية بهم وعمرو وأهل الشام ».
٤ - وجاء في كلام المسيب بن نجية فيما عاتب به الامام الحسن على صلحه مع معاوية ( على رواية غير واحد من المؤرخين ) - والنص للمدائني(3) كما يحدثنا عنه في شرح النهج ( ج ٤ ص ٦ ) - قال: « فقال المسيب بن نجية للحسن عليه السلام : ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون الفاً!. أو قال: « بايعت » على اختلاف النقول.
٥ - قال ابن الاثير في كامله ( ج ٣ ص ٦١ ):
« كان أمير المؤمنين عليّ قد بايعه اربعون الفاً من عسكره على الموت، لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل السام. فبينما هو يتجهز للمسير قتل عليه السلام واذا أراد اللّه أمراً فلا مردّ له. فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام اليه، فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا علياً، وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية - وكان قد نزل مسكن - فوصل الحسن الى المدائن، وجعل قيس بن عبادة الانصاري على مقدمته في اثني عشر الفاً، وقيل بل كان الحسن قد جعل على مقدمته عبد اللّه (4) بن عباس، فجعل عبد اللّه بن عباس على مقدمته في الطلائع قيس بن سعد بن عبادة ».
اقول: وجرى على مثل هذا الحديث « ابن كثير » والظاهر انه اخذه من الكامل حرفياً.
٦ - كلمة الحسن عليه السلام فيما يرويه عنه المدائني (5) في جواب الرجل الذي قال له: « لقد كنت على النصف فما فعلت؟ »، فقال: « أجل ولكني خشيت أن تأتي يوم القيامة سبعون الفاً أو ثمانون الفاً تشخب أوداجهم، كلهم يستعدي اللّه، فيم هريق دمه ».
٧ - ما رواه ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة ( ص ١٥١ ) قال:
وذكروا انه لما تمت البيعة لمعاوية، وانصرف راجعاً الى الشام أتاه - يعني أتى الحسن - سليمان بن صرد، وكان غائباً عن الكوفة، وكان سيد اهل العراق ورأسهم، فدخل على الحسن فقال: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين! فقال الحسن: وعليك السلام، اجلس للّه ابوك. قال: فجلس سليمان وقال: أما بعد فان تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية، ومعك مائة الف مقاتل من أهل العراق، وكلهم يأخذ العطاء، مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم، سوى شيعتك من اهل البصرة واهل الحجاز!! ».
أقول: وروى كل من المرتضى في « تنزيه الانبياء »، وابن شهراشوب في « مناقبه » والمجلسي في « البحار » النص الكامل لما دار بين سليمان بن صرد ورفاقه، وبين الحسن عليه السلام . ولم يروِ أحد منهم عن سليمان أو اصحابه فيما عرضوا له من عدد الجيش، أكثر من اربعين الفاً.
فابن قتيبة ينفرد برواية المائة الف عن سليمان، كما ينفرد بالتعبير عن الصلح بلفظ « البيعة »!.
٨ - التصريح الذي فاه به زياد ابن أبيه، يوم كان لا يزال عاملاً للحسن بن علي على فارس، وذلك فيما أجاب به على تهديد معاوية اياه، قال:
« ان ابن آكلة الاكباد، وكهف النفاق، وبقية الاحزاب، كتب يتوعدني ويتهددني، وبيني وبينه، ابنا رسول اللّه في تسعين الفاً ( وعلى رواية في سبعين الفاً ) واضعي قبائع سيوفهم تحت أذقانهم، لا يلتفت أحدهم حتى يموت. أما واللّه لئن وصل اليَّ ليجدني أحمز ضراباً بالسيف(6) ».
المناقشة:
وهكذا توفرت هذه النصوص بمختلف صيغها، على أرقام فرضتها في موضوع عدد الجيش، وتدرّج العدد الكبير فيها من أربعين الفاً الى ثمانين الفاً فمائة الف.
والواقع أن المراتب الثلاث بجملتها، معرضة للشك وخاضعة للتمحيص، وحتى أدناها. واليك البيان:
اما اولاً:
فالعدد الاعلى ( وهو مائة الف أو اكثر، أو تسعون الفاً ) فيما يشير اليه زياد ابن أبيه ( على رواية اليعقوبي )، أو فيما ينسب الى سليمان بن صرد ( برواية ينفرد بها الدينوري خلافاً لمؤرخين كثيرين ) مشكوك فيه من جهات:
أهمها أن كلاً من هذين الزعيمين - سليمان وزياد - كانا غائبين عن بيعة الحسن وجهاد الحسن وكوفة الحسن، طيلة خلافته في الكوفة وكانا قد غادرا مواطنهما في العراق منذ سنتين(7) . وأيّ قيمة لتصريح غائبٍ لم يشهد الوضع السائد في الكوفة، بما كان يجتاح هذه الحاضرة من تحزّب قويّ وتثاقل لئيم فيما واجهت به امامها وصاحب بيعتها.
وان زياداً وسليمان اذ يفرضان هذه الاعداد من الجيش فانما يقيسان حاضر الكوفة على ماضيها، ويظنان أنها جنّدت مع الحسن ما كانت تجنده مع أبيه امير المؤمنين سنة ٣٧ و٣٨ يوم كان كل منهما لا يزال في الكوفة يساهم بنصيبه من تلك الصفوف. هذا اولاً. واما ثانياً، فقد كان من موقف الرجلين كليهما في اللحظة العاطفية التي اندفعا بها الى هذا التصريح، ما يبرر لهما الجنوح الى اسلوب المبالغات، وكانت المبالغة في عدد الجيش تهويلاً قريب التناول من جموح العاطفة الناقمة في سليمان، وهو ينكر على الامام الحسن عليه السلام الرضا بالصلح، وقريب التناول - كذلك - من سياق التهديد والوعيد في زياد وهو يرد في خطابه على تهديد معاوية.
وبعد هذا كله، فليس في هذين التصريحين ما يصح الركون اليه من احصاء أو تعيين أعداد.
وعلمنا ان سليمان هذا، كان صديق المسيب بن نجية وصاحبه الذي تربطه به وشائج أخرى هي أبعد اثراً من الصداقات الشخصية. وقد مرَّ عليك في النص [ رقم ٤ ] قول المسيّب للحسن في معرض العتاب على الصلح: « ومعك اربعون الفاً ». ومن المقطوع عليه أن مثل هذين الصديقين لا يختلفان في قضايا أهل البيت (ع) اختلافهما في هذا التقدير.
اذاً، فما من سبب لشذوذ كلمة ابن صرد، الا كون راويها الدينوري الذي انفرد في قضية الحسن بعدة روايات لم يهضمها التمحيص الصحيح!.
وشاءت المقادير أن لا يفارق الزعيمان الصديقان الدنيا، حتى يأخذا جوابهما - عمليَّاً - عن عتابهما الطائش الذي قابلا به امامهما أبا محمد عليه السلام ، فيما أنكرا عليه من الصلح.
فبايعهما على الاخذ بثأر الحسين عليه السلام سنة ٦٥ هجري ثمانية عشر الفاً من أهل الكوفة، ثم لم يكن معهما حين جدّ الجد في ساحة « عين الوردة » غير ثلاثة آلاف ومائة. ومنيا من خذلان الناس بما ذكّرهما بالصميم من قضايا أهل البيت عليهم السلام .
ثم استشهد سليمان والمسيب وهما زعيما حركة التوّابين في عين الوردة، واستشهد معهما - يوم ذاك - أكثر من كان قد انضوى اليها.
واما ثانياً:
فالعدد ثمانون الفاً أو سبعون الفاً، وهو ما تضمنه كلام الحسن في جواب الرجل الذي قال له: « لقد كنت على النصف فما فعلت؟ ».
وكلام الحسن - في حقيقته - لا يدل على أكثر من عشرين الفاً على أكبر تقدير، وذلك لان الحسن حين يذكر الذين « تشخب أوداجهم يوم القيامة » ثم يتردد في تعيين عددهم بين السبعين والثمانين الفاً، لا يعني جنوده خاصة، وانما يشير بذلك الى الجيشين المتحاربين جميعاً. وعلمنا ان عدد أهل الشام في زحفهم على الحسن، كان ستين الفاً، فيكون الباقي عدد جيشه الخاص.
وكان تردده في تعيين العدد صريحاً بما أفدناه، لانه لو عنى جيشه دون غيره، لذكره برقمه الذي لا تردّد فيه، وهو أعلم الناس بعدده.
واما ثالثاً:
فالعدد أربعون الفاً، وهو الذي سبق الى ذكره غير واحد من المؤرخين، وذكره المسيب بن نجية، فيما رويناه عنه في النص الرابع من النصوص الثمانية. ولا كلام لنا على هذا العدد الا من وجهين.
( أحدهما ) أنه لا يتفق وكلمة الحسن نفسه التي أشار بها الى عدد الجيش، وقد عرفت أن كلمته لم تعن أكثر من عشرين الفاً على أكبر تقدير، ولا يتفق وكلمته الاخرى التي وصف بها موقف الناس منه [ بالنكول عن القتال(8) ]. ومن كان معه أربعون الفاً لم ينكل الناس معه عن القتال، فالعدد اذاً لا يزال معرضاً للشك.
( وثانيهما ) أنه عدد أملاه الظن على القائلين به، فرأوا ان امير المؤمنين (ع) كان قد جهَّز لحملته الاخيرة على الشام أربعين الفاً، ثم اخترمت حياته الكريمة ولمّا يزحف بهذا الجيش، فظنوا - اجتهاداً - أن جنود الاب انضافت الى الابن، وفاتهم أن يقدّروا حيال هذا الظن قيمة التخاذل الذي جوبه به الخليفة الجديد في الكوفة.
وبعد، فأي قيمة للاحصاء مبتنياً على هذه الاخطاء.
وكانت أغرب روايات الموضوع، رواية الزهري التي تشير الى وجود اربعين الفاً من جيش الحسن، مع قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، بعد أن رجعت اليه قيادة المقدمة في « مسكن » بفرار عبيد اللّه ومن معه. ومعنى ذلك ان مقدمة الحسن وحدها كانت قبل حوادث الفرار ثمانية واربعين الف مقاتل!!
وهذا ما لا يصح في التاريخ.
فلم تكن المقدمة الا اثني عشر الفاً، منذ كان عليها عبيد اللّه بن عباس كما هو صريح الفقرة التي تخص العدد فيما عهد به الحسن الى قائده، حين سرّحه على رأس هذه المقدمة، وصريح نصوص كثيرة للمؤرخين لا يتخللها شك.
وروايات الزهري في قضايا أهل البيت أضعف الروايات، وأشدها ارباكاً لموضوعاتها. وسمه صاحب « دراسات في الاسلام » ( ص ١٦ ) بانه كان « عاملاً مأجوراً للامويين » وكفى.
على اننا اذا حاولنا التصرف في رواية الزهري هذه وأردنا علاج ارباكها المقصود، فأرجعنا الضمير في قوله « وقد نزل معاوية بهم وعمرو واهل الشام » الى جيش معاوية دون جيش قيس، يكون المعدود حينئذ جنود معاوية التي نزل بها على قيس، وليكن المقصود منهم « اهل العطاء خاصة » وليكن المقصود من « اهل الشام » المتطوعين غير أهل العطاء، ليتم بذلك التوفيق بين روايته هذه، والروايات الاخرى التي تعدّ مقدمة الحسن، والتي تعدّ جنود معاوية.
واما رابعاً:
فالعسكر العظيم، وهو تصريح ابن ابي الحديد فيما وصف به مسير الحسن من النخيلة صوب دير عبد الرحمن في طريقه الى معسكراته. والكلمة كما ترى، مجملة لا تأبى الانطباق على العدد الذي ذكرناه آنفاً، فان ستة عشر الفاً « عسكر عظيم »، وان أبيت فعشرين الفاً.
واما خامساً:
فرواية البحار، وهي أولى النصوص التي أوردناها في سبيل استيعاب ما روي في الموضوع، وان لهذه الرواية من التناسق في حوادثها المتكرّرة ما يفرض الشك بها فرضاً.
وهي تغفل عند عرضها الحوادث المتشابهة تسمية كل من القائدين - الكندي والمرادي - اللذين تفرض أنهما سبقا عبيد اللّه بن عباس الى لقاء معاوية وسبقاه الى الخيانة ايضاً. ولا يعهد في تاريخ قضية من هذا الوزن، اغفال تسمية قائدين في حادثتين من أبشع حوادث الانسان في التاريخ.
ولعل الاغرب من ذلك، ان رواية البحار هذه تشير الى اصرار الامام على اتهام القائدين قبل بعثهما، ثم تصرّ على ان الامام بعثهما - مع ذلك - الى لقاء معاوية عالماً بما سيصيران اليه من غدر!!.
وبعض هذا يكفينا عن الاستمرار في نقاش هذه الرواية التي يجب أن نتركها لتعلن هي عن نفسها.
اقول:
ولم نحصل - بعد هذا كله - على محصل في الموضوع الذي أردناه تحت عنوان « عدد الجيش » ولتكن هذه النصوص - على كثرتها - أحد أمثلتنا التي نقدّمها للقارئ عما نكبت به قضية الحسن في التاريخ، من اختلاف كثير واختلاق صريح، ولا بدع في تقرير هذه الحقيقة وتكرارها وتعظيم خطرها وانكارها والتنبيه الى تبعاتها. فهذه ثمانية نصوص، ليس فيها ما يصبر على النقاش، ولا ما يصح الاعتماد عليه كسند تاريخي.
ولم يبق لدينا الا عدد جيش المقدمة، وهو اثنا عشر الفاً، وعدد المتطوعين بعد ذلك في الكوفة، وهو اربعة آلاف، ثم الفصائل التي تواردت على الحسن في دير عبد الرحمن حين اقام بأزائه ثلاثاً - كما اشير اليه آنفاً - فهذه قرابة عشرين الفاً، هي جيش الحسن عند زحفه الى معسكريه في مسكن والمدائن. اما مقاتلة المدائن نفسها، فقد عرفنا انها لم تتخلف - فيما سبق – عن ميادين علي عليه السلام ، ومن البعيد جداً ان يعسكر ابنه الحسن بين ظهرانيهم ثم لا يلتحق به القادرون منهم على حمل السلاح.
وهذا ما يؤكد الظن ببلوغ عدد الجيش في كلا المعسكرين العشرين الفاً او يزيد قليلاً.
وهو « العسكر العظيم » الذي عناه ابن ابي الحديد، وهو - ايضاً - العدد الذي يلتقي بتصريح الحسن عليه السلام - الانف الذكر - ولا أحسن من تصريح الحسن دليلاً فيما يخص قضاياه.
ثم لا نعلم ان الحسن عليه السلام ، تلقى بعد وجوده في المدائن أيّ نجدة من أيّ جهة.
عناصر الجيش
قال المفيد في الارشاد (١٦٩): « وبعث الحسن حجر بن عديّ فأمر العمال - يعني امراء الاطراف - بالمسير، واستنفر الناس للجهاد، فتثاقلوا عنه، ثم خفوا، وخف معه اخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولابيه، وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم، وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين(9) ».
اقول: علمنا مما سبق قريباً ان جيش الحسن تألف من زهاء عشرين الفاً، أو يزيد قليلاً، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش. والمعتقد انها كانت الطريقة البدائية التي لم تدخلها التحسينات المكتسبة بعد ذلك. وهي - اذ ذاك - الطريقة المتبعة في التجمعات الاسلامية مع القرون الاولى في الاسلام، وهي الطريقة التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أيّ قابليات شخصية، ولا سناً خاصة، ولا تنزع في مناهج تجنيدها الى الاجبار بمعناه المعروف اليوم. وللمسلم القادر على حمل السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي اللّه بالجهاد فاما ان يبعث فيه هذا الوازع، الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل اللّه. واما ان يكون المغلوب على أمره بدوافع الدنيا، فيخمد في نفسه هذا الشعور، ويحرم نصيبه من الاجر ومن الغنيمة اذا قدّر لهذه الحرب الظفر والغنائم.
اما النظم الحديثة المتبعة اليوم في الاجبار على خدمة العلم، ودعوة ( مواليد ) السنوات المعينة، وفحص القابليات المحدودة، فلم تكن يومئذ ولا هي مما يتفق والتشريع الاسلامي بسعته وسماحته.
وللاسلام اعتداده بصحة حقائقه التي تكفل له بعث الناس الى الطاعة والانقياد. وليس في عناصر هذا الدين إكراه أحد على الطاعة بالقوة. ولكنه دلّهم على السبيلين وأعان على خيرهما بالهدى « والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا » وكان هذا هو شعار الاسلام في جميع ما أمر به أو نهى عنه.
وعلى ذلك جرى رؤساء المسلمين فيما دعوا الناس اليه، وفيما حذّروا الناس منه.
وكان لهم عند اعتزامهم الحرب، دعاواتهم الرائعة، في التحريض على الجهاد، وأساليبهم المؤثرة التي لا تتأخر - غالباً - عن اقناع اكبر عدد من المطلوبين الى حمل السلاح.
فمن ذلك، أنهم كانوا يزيدون في مخصصات أهل العطاء من مقاتلتهم، ويأمرون عمالهم على البلاد فيستنفرون الناس للجهاد، ويبثون السنتهم وخطباءهم وذوي التأثير من رجالهم لبعث الناس الى التطوع في سبيل اللّه عز وجل.
وفعل الحسن عليه السلام كل ذلك منذ ولي الخلافة في الكوفة، ومنذ أعلن النفير للحرب. وكان من أوليّاته - كما اشير اليه آنفاً -: انه زاد المقاتلة مائة مائة، وبعث حجر بن عديّ الى عماله يندبهم الى الجهاد، ونهض معه مناطقته الافذاذ من خطباء الناس أمثال عديّ بن حاتم، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، وقيس بن سعد الانصاري. فأنّبوا الناس(10) ، ولاموهم على تثاقلهم، وحرضوهم على اجابة داعي اللّه، ثم تسابقوا بأنفسهم الى صفوفهم في المعسكر العام، يغلبون الناس عليه.
ونشرت الوية الجهاد في « أسباع الكوفة » وفي مختلف مرافقها العامة، تدعو الناس الى اللّه عزّ وجل، وتدين بالطاعة لآل محمد عليهم السلام .
وانبعث في الحاضرة المتخاذلة وعي جديد يشبه ان يكون تحسّساً بالواجب، أو استعداداً له.
وكان التثاقل عن الحرب حباً بالعافية أو انصهاراً بدعاوات الشام، قد اخذ حظه من أهل الكوفة وممن حولها.
اما هذا الوعي الجديد الذي يدين لهؤلاء الخطباء المفوَّهين، فلم يلبث أن بعث في كثير من المتثاقلين رغبة، فأثارت الرغبة نشاطاً، فانبثق من النشاط حماس.
ونجحت دعاوة الشيعة الى حد ما، في اكتساب العدد الاكبر من المتحمسين للحرب، رغم المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون في الكوفة « ونشط الناس للخروج الى معسكرهم(11) ».
ونجحت - الى حد بعيد - في اكتساب الرأي العام، في الكوفة وأسباعها وقبائلها، وفي الضواحي القريبة التي لا تنقطع بمواصلاتها اليومية، عن اسواق الكوفة، وعن مراكز القضاء والادارة فيها.
وكان من براعة خطباء الحسن، انهم أحسنوا استغلال الذهنية المؤاتية في الناس، فبذلوا قصارى امكانياتهم في الدعوة الى أهل البيت تحت ستار الدعوة للجهاد.
وبحّت حناجر الاولياء، فيما يعرضون من مناقب آل محمد ومثالب أعدائهم. ومرّوا على مختلف نوادي الكوفة وأحيائها وأماكنها العامة، ينبهون الناس الى المركز الممتاز الذي ينفرد به سيّدا شباب اهل الجنة اللذان لا يعدل بهما أحد من المسلمين، والى الصلابة الدينية المركزة الموروثة في أهل بيت الوحي، والمزايا التي يستأثر بها هذا الفخذ من هاشم في العلم والطهارة والزهد بالدنيا والتضحية في اللّه والعمل لاصلاح الامة ووجوب المودة على المؤمنين.
ثم ذكروا البيعة وما اللّه سائلهم عنه من طاعة اولي الامر ووجوب الوفاء بالميثاق.
وعرضوا في حماستهم الى الانساب، فاذا هي « مقامة » ظريفة جداً وصادقة جداً ومؤثرة جداً، ملكت الالباب حتى أذهلت وأثارت الاعجاب حتى أدهشت.
ذكروا الحسن ومعاوية فقالوا: أين ابن علي من ابن صخر، وابن فاطمة من ابن هند، وأين من جده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ممن جده حرب، ومن جدته خديجة ممن جدته فتيلة؟؟ ولعنوا أخمل الرجلين ذكراً، وألأمهما حسباً، وشرَّهما قديماً وحديثاً، وأقدمهما كفراً ونفاقاً، فعج الناس قائلين آمين آمين. ثم جاءت بعدهم الاجيال، فما استعرض هذه الموازنة الظريفة مسلم من المسلمين، الا سجّل على حسابه ( آمين ) جديدة.
وعملت هذه الاساليب الحكيمة، والخطب الحماسية البليغة عملها وانتشرت - كما قلنا - القناعة بخذلان الشام والثقة بظفر الكوفة.
وفي الكوفة، وهي الحاضرة الجديدة الجبارة التي طاولت أهم الحواضر الاسلامية الكبرى - يومئذ - أجناس من الجاليات العربية وعير العربية ومن حمراء الناس وصفرائها وممن لم يرضهم الاسلام ولم يُجدهم اعتناقه توجيهاً جديداً، ولا أدباً اسلامياً ظاهراً، الا أن يكونوا قد أنسوا منه وسيلته الى منافعهم العاجلة. فكان هؤلاء لا يفهمون من الجهاد اذا نودي بالجهاد الا دعوته للمنافع ووسيلته الى الغنائم. ورأوا من انتشار القناعة بنجاح هذه الحرب، أن الالتحاق بجيش الحسن عليه السلام هو الذريعة المضمونة الى استعجال المنافع والرجوع بالغنائم، فلم لا يكونون من السابقين الاولين الى هذا الجهاد؟.
ولعلك تتفق معي الآن، على اكتشاف الحوافز التي اندفعت تحت تأثيرها « الاخلاط المختلفة » من رعاع الناس الى الالتحاق بجيش الحسن، فاذا بأصحاب الفتن، وأصحاب الطمع بالغنائم، وأصحاب العصبيات التي لا ترجع الى دين، والشكاك ومن اليهم - جنود متطوعون في هذا الجيش، أبعد ما يكونون في طماحهم وفي طباعهم عن أهدافه وغاياته.
ولم يكن ثمة في نظم التجنيد المتبعة في التجمعات الاسلامية يومئذ - كما بينا آنفاً - ما يحول دون قبول هؤلاء كجنود أو كمجاهدين، لان الكفاءة الاسلامية، والقدرة على حمل السلاح، هي كل شيء في حدود قابليات المجاهد المسلم.
واما الخوارج، فيقول المفيد رحمه الله في تعليل التحاقهم بجيش الحسن: « انهم كانوا يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ».
ولكنا لا نؤمن بهذا التعليل على اجماله، ولا ننكره على بعض وجوهه وقد يكون ما يقوله المفيد بعض هدفهم، وقد يكون هدفهم شيئاً آخر غير هذا.
وليس فيما نعهده من علاقات « الخوارج » مع الحسن وأبي الحسن عليهما السلام ما يشجعنا على الظن الحسن بهم، وان لنا من دراسة أحداث النهروان ما يزيدنا فيهم ريباً على ريب. واذا صح أنهم انما أرادوا قتال معاوية حين تبعوا الحسن، وأنهم كانوا لا يقصدون بالحسن سوءاً، فأين كانوا عن معاوية قبل ذلك، ولِم لم يتألبوا عليه كما كانوا يتألبون على علي عليه السلام في انتفاضاتهم التي حفظها التأريخ؟
وكان للخوارج من ذحولهم القريبة العهد، ومن اسلوب دعاوتهم النكراء ما يحفزنا حفزاً الى سوء الظن بما يهدفون اليه في خروجهم مع الحسن عليه السلام .
وعلمنا من أحوالهم قبل خروجهم لهذه الحرب، أنهم كانوا يداهنون الناس ويجاملون الحسن، بعد وقيعتهم الكافرة بالأمام الراحل عليه السلام ، يتقون بذلك غوائل الكراهة العامة التي غمرتهم في أعقاب الفاجعة الكبرى.
أفلا يقرب الى الذهن، أن يكون من جملة أساليب دهائهم الذي اضطروا اليه تحت ضغط الظروف الموقتة، ان يتظاهروا بالتطوع في الجيش كما لو كانوا جنوداً مناصحين، وان يبطنوا من وراء هذا التظاهر مقاصدهم فاذا هم جنود مبادئهم المعروفة بل مبادئهم المبطنة التي لم تعرف لحد الآن.
وكانت فكرة « الخروج » بذرةً خبيثةً انبثقت عن قضية التحكيم بصفين، ومنها سمّوا « المحكّمة »، ورسخت جذور هذه الفكرة كعقيدة مكينة في نفوس هؤلاء، واستطالت بمرور الزمن، فبسقت عليها أشجار أثمرت للمسلمين الواناً من الخطوب والنكبات.
وكان الخوارج على ظاهرتهم المخشوشنة في الدين، قوماً يحسنون المكر كثيراً.
فلم لا يغتنمون ظروف الحرب القائمة بين عدوين كبيرين من اعدائهم؟. ولمَ لا يكونون في غمار هذا الجيش الزاحف من الكوفة يقتنصون الفرص المؤاتية، بين تجهيزات المجاهدين، والحركات السوقية، والمعارك المنتظرة التي ستكون في كثير من أيامها سجالاً - والفرص في الحرب السجال أقرب تناولاً، وأيسر حصولاً، وأفظع مفعولاً، اذا حذق المتآمرون استخدامها -؟.
ولا أريد أن انكر - بهذا - عداوتهم لمعاوية وايثارهم قتاله بكل حيلة كما أفاده شيخنا المفيد رحمه الله . ولكني أرى أَنهم كانوا يرمون من خطتهم الى غرضين وما من غرض للخوارج في ثوراتهم ومؤامراتهم الا اقتناص الرؤوس العالية في الاسلام! سواء في العراق أو في مصر أو في الشام. وعشعشت بين ظهراني هؤلاء القوم كوامن الغيلة فغلبت على سائر مناهجهم الاخرى، فمشوا مع الحسن ولكن الى الفتنة، وحبوا في طريق الجهاد ولكن الى الفساد. وكانت الطعنة المركزة الجريئة التي « أشوت » الحسن عليه السلام في « مظلم ساباط(12) »، هي الحلقة الجهنمية الثانية من سلسلة جرائم هذه العصابة الخطرة في البيت النبوي العظيم.
وكلتا الجريمتين وليدة المؤامرات السرية النشيطة التي حذقها الخوارج الطغام، في مختلف المناسبات.
وشاء اللّه بلطفه أن لا تبلغ طعنة ابن سنان الاسدي(13) من الحسن، ما بلغته بالأمس القريب ضربة صاحبه ابن ملجم المرادي من أمير المؤمنين أبي الحسن عليه السلام .
ومثّلت هذه المؤامرة الدنيئة أفظع قطيعة لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من نوعها، بما حاولته من القضاء على الامام الثاني - سبطه الاكبر -. وازدلفت الى معاوية بالخدمة الفريدة التي لا تفضلها خدمة اخرى لأهدافه، من القوم الذين كان يقال عنهم « انهم انما خرجوا مع الحسن لانهم يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة »!!
وهكذا ثبت للأمام الحسن بصورة لا تقبل الشك، نيات المحكّمة معه رغم مجاملاتهم الكاذبة له. وكان هو منذ البداية شديد الحذر منهم ولكنه كان يعاملهم - دائماً - على ضغن مكتوم.
وليس أنكى من عدوّ في ثوب صديق. ذلك هو العدو الذي ينافقك ظاهراً، ويحاربك سراً. وأنكى أقسام هذا العدو عدو يحاربك بذحوله وعصبيته كما حاربت الخوارج الحسن بذحولها وعصبيتها.
وهكذا قدّر لجيش الحسن عليه السلام ، أن يتخم بالكثرة من هؤلاء واولئك جميعاً، وأن يفقد بهذا التلوّن المنتشر في صفوفه، روحية الجيش المؤمل لربح الوقائع. وأن يبتلي بالصريح والدخيل من كيد العدوين الداخل والخارج، وفي المكانين العراق والشام معاً.
وأحر بجيش يتألف من أمثال هذه العناصر، أن يكون مهدداً لدى كل بادرة بالانقسام على نفسه، والانتقاض على رؤسائه.
ولم يكن الجهاد المقدس - يوماً من الايام - وسيلة لطمع مادي، ولا مجالاً للمؤامرات الشائكة، ولا مظهراً للعصبيات الجاهلية الهزيلة، ولا مسرحاً لتجارب الشكاكين.
و « ازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له(14) »، وتراءى له من خلال ظروفه شبح الخيبة الذي ينتظر هذه الحرب في نهاية مطافها، اذ كانت العدة المدخرة لها، هي هذا الجيش الذي لا يرجى استصلاحه بحال.
وأثر عنه كلمات كثيرة في التعبير عن ضعف ثقته بجيشه.
وكان من أبلغ ما أفضى به في هذا الصدد - مما يناسب موضوع هذا الفصل - خطابه الذي خاطب به جيشه في المدائن.
وقال فيه:
« وكنتم في مسيركم الى صفين، ودينكم أمام دنياكم. وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. وأنتم بين قتيلين، قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون(15) بثاره. فأما الباقي فخاذل، واما الباكي فثائر ».
وهذه هي خطبته الوحيدة التي تعرض الى تقسيم عناصر الجيش من ناحية نزعاته واهوائه في الحرب.
فيشير بالباكي الثائر الى الكثرة من أصحابه وخاصته، وبالطالب للثأر الى الخوارج الموجودين في معسكره [ وما كان ثأرهم الذي يعنيه الا عنده ] ويشير بالخاذل الى العناصر الاخرى من اصحاب الفتن واتباع المطامع وعبدة الاهواء.
واستطرد التاريخ بين صفحاته أسطراً قاتمة دامية. بما انقاد اليه الاغرار المفتونون من هذه « العناصر »، وبما صبغوا به ميدان الجهاد المقدس - بعد ذلك - من اساليب الغدر، والخلاف، ونقض العهود، والمؤامرات، ونسيان الدين، وخفر الذمام حتى قد عادت بقية آثار النبوة - متمثلة بالطيبين من آل محمد وبنيه عليهم السلام - نهباً صيح في حجراتها. ولعلنا سنأتي على استطراد صورة من هذه المآسي في محلها المناسب لذكرها من الكتاب.
تتميم:
وبقي علينا ان نستمع هنا الى ما يدور في خلد كثير من الناس حين يدرسون هذا العرض المؤسف لعناصر جيش الحسن عليه السلام ، فيسألون: لماذا فسح الحسن مجاله لهذه العناصر؟ ولماذا تأخر بعد ذلك عن تصفية جيشه بسبيل من هذه السبل التي يفزع اليها رؤساء الجيوش في تصفية جيوشهم بقطع العضو الفاسد، أو بادانته، أو باقصائه على الاقل؟.
ونحن من هذه النقطة بازاء قلب المشكلة وصميمها على الاكثر.
ونقول في الجواب على هذا السؤال:
اولاً:
ان الاسلام كما الغى الطبقات فيما شرعه من شؤون الاجتماع، الغاها في الجهاد ايضاً، فكان على اولياء الامور أن لا يفرقوا في قبولهم الجنود بين سائر طبقات المسلمين، ما دام المتطوع للجندية مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح. ولما لم يكن أحد من هؤلاء « الاخلاط » الذين التحقوا بالحسن، الا مدّعياً للاسلام وقادراً على حمل السلاح، فلا مندوحة للامام - بالنظر الى صميم التشريع الاسلامي - عن قبوله.
وثانياً:
ان النبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمير المؤمنين ايضاً، منيا في بعض وقائعهما بمثل هذا الجيش، ولا يؤثر عنهما انهما منعا قبول أمثال هؤلاء الجنود في صفوفهما، ولا طردا أحداً منهم بعد قبوله، مع العلم بأن كلاً منهما، جنى بعد ذلك أضرار وجود هذه العناصر في كل من ميدانيهما.
فقالت السير عن واقعة حنين ما لفظه بحرفه: « رأى بعض المسلمين كثرة جيشهم فأعجبتهم كثرتهم، وقالوا سوف لا نغلب من قلة، ولكن جيش المسلمين كان خليطاً، وبينهم الكثيرون ممن جاء للغنيمة ».
وجاء في حوادث اقفال المسلمين من غزوة بني المصطلق ما يشعر بمثل ذلك.
وقالوا عن حروب علي عليه السلام : « كان جند علي في صفين خليطاً من امم وقبائل شتى، وهو جند مشاكس معاكس لا يرضخ لامر ولا يعمل بنصيحة ».
وقال معاوية - فيما يحكيه البيهقي في « المحاسن والمساوئ »: « وكان - يعني علياً عليه السلام - في أخبث جيش وأشدهم خلافاً، وكنت في أطوع جند واقلهم خلافاً ».
اقول: وما على الحسن الا أن يسير بسنة جده وبسيرة أبيه، ومن الحيف أن يطالب بأكثر مما اتى به جده وأبوه، وكفى بهما اسوة حسنة وقدوة صالحة.
وكان التحرّج في الدين والالتزام بحرفية الاسلام يقيدان الحسن في كل حركة وسكون، ولكنهما لا يقيدان خصومه فيما يفعلون أو يتركون، ولولا ذلك لرأيت تاريخ هذه الحقبة من الزمن تكتب على غير ما تقرأه اليوم.
وثالثاً:
فان معالجة الوضع بما يرجع اليه رؤساء الجيوش في تنقية جيوشهم بالقتل، أو بالافصاء، أو بالادانة، كان في مثل ظروف الحسن تعجلاً للنكبة قبل أوانها - كما ألمحنا اليه في غمار الفصل الرابع - وسبباً مباشراً لاثارة الشقاق واعلان الخلاف ورفع راية العصيان في نصف جيشه على أقل تقدير ومعنى ذلك القصد الى اشعال نار الثورة في صميم الجيش. ومعنى هذا ان ينقلب الجهاد المقدس الى حرب داخلية شعواء، هي أقصى ما كان يتمناه معاوية في موقفه من الحسن وأصحابه، وهي أقصى ما يحذره الحسن في موقفه من معاوية وأحابيله.
وشيء آخر:
هو أن الحسن عليه السلام ، لم يكن له من عهده القصير الذي احتوشته فيه النكبات بشتى ألوانها، مجال للعمل على استصلاح هذه الالوان من الناس، وجمعهم على رأي واحد. بل ان ذلك لم يكن - في وقته - من مقدور أحد الا اللّه عزّ وجل، ذلك لان الصلاح في الاخلاق ليس مما يمكن تزريقه في الزمن القليل، وانما هو تهذيب الدين وصقال الدهر الطويل، ولان التيارات المعاكسة التي طلعت على ذلك الجيل بأنواع المغريات، حالت دون امكان الاصلاح وجمع الاهواء، الا من طريق المطامع نفسها، وكان معنى ذلك معالجة الداء بالداء، وكان من دون هذه الاساليب في عرف الحسن حاجز من أمر اللّه.
_______________
(1) الخرايج والجرايح للراوندي ( ص ٢٢٨ ).
(2) مدينة كانت على الفرات ( غربي بغداد ) تبعد عنها عشرة فراسخ سميت بذلك لانها كانت تجمع بها انابير الحنطة والشعير منذ أيام الفرس، وأقام بها أبو العباس السفاح العباسي الى أن مات، وجدد بها قصوراً وأبنية، ثم اندثرت عمارتها.
(3) هو ابو الحسن بن محمد بن عبد اللّه بن أبي سيف البصري الاصل. سكن المدائن ثم انتقل الى بغداد وتوفي بها سنة ٢١٥ وهو الذي يكثر ابن ابي الحديد النقل عنه في شرح النهج. وله ما يقرب من مائتي كتاب في مختلف الموضوعات رحمه الله .
(4) هو عبيد اللّه لا عبد اللّه ولا قيس كما ذكرنا آنفاً ونبهنا على بواعث الخطأ في ذكر كل منهما.
(5) شرح النهج ( ج ٤ ص ٧ )، وابن كثير ( ج ٨ ص ٤٢ ).
(6) اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩٤ )، وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦٦ ). ورواه الاول بتسعين الفاً، والثاني بسبعين الفاً.
(7) صرح بغياب سليمان بن صرد عن الكوفة كل من ابن قتيبة في الامامة والسياسة، والمرتضى في تنزيه الانبياء ونص فيه على غيبته سنتين. واما زياد فكان والي فارس من سنة ٣٩ بعثه اليها عبد اللّه بن عباس وهو اذ ذاك والي البصرة. وكان زياد قبل سنة ٣٩ في البصرة كما صرح به الطبري في حوادث ٣٩.
(8) وذلك فيما أجاب به بشير الهمداني وهو أحد وجوه شيعته في الكوفة، البحار ( ج ١٠ ص ١١٣).
(9) وروى هذا النص الاربلي في كشف الغمة ( ص ١٦١ ) والبحار ( ج ١٠ ص ١١٠ ).
(10) ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٤ ).
(11) نص عبارة ابن ابي الحديد في الموضوع ( ج ٤ ص ١٤ ).
(12) الساباط لغة سقيفة بين دارين من تحتها طريق نافذ، وساباط قرية في « المدائن » عندها قنطرة على « نهر الملك » ولعلها انما سميت بهذا الاسم لوجود سقيفة نادرة من « السوابيط » فيها، والمظنون ان هذه السقيفة هي « مظلم ساباط ».
(13) ووهم حسن مراد في كتابه ( الدولة الاموية في الشام والاندلس )(الباب الرابع: ص ٥٠) حيث نسب طعن الحسن عليه السلام بالخنجر الى اتباع الامويين دون الخوارج. وستقرأ في فصل « سر الموقف » نصوص الحادثة كما يرويها مؤرخوها القدامى وكما يجب أن يفهمها المحدثون.
(14) نص عبارة المفيد في الارشاد ( ص ١٧٠ ).
(15) وبرواية ابن طاووس في كتاب « الملاحم والفتن »(ص ١٤٢ طبع النجف سنة ١٣٦٨): « وقتيل بالنهروان تطلبون منا ثاره ».
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|