أقرأ أيضاً
التاريخ: 21-12-2015
4966
التاريخ: 2024-11-23
111
التاريخ: 1-12-2015
4664
التاريخ: 2023-11-06
1325
|
يتضح هذا الأمر بعد الانتباه إلى مقدّمة واحدة تفيد أنّ من الامور الفطرية التي جبل عليها بنو الإنسان جميعا، حتّى أنّك لن تجد إنسانا واحدا يخالفها من جميع العائلة البشرية، كما لا يمكن أن يغيّرها أو يلحق بها الخلل أيّ من العادات والتقاليد والأعراف والأخلاق والسنن وغير ذلك، هي فطرة حبّ الكمال. فلو أنّك طفت في جميع الأدوار الحياتية التي مرّت بها البشرية، واستنطقت كلّ فرد من الأفراد، وكلّ طائفة من الطوائف، وكلّ امّة من الامم لرأيت هذا العشق وهذه المحبة معجونين في خميرته، وأنّ قلبه متّجه صوب الكمال أبدا.
بل إنّ حبّ الكمال هو الدافع الذي يكمن وراء كلّ الحركات والسكنات والفعّاليات التي تصدر عن كلّ واحد من أفراد النوع الإنساني، وهو الباعث للجهود المضنية الشاقّة التي يبذلها كلّ إنسان في مجال عمله، وذلك على الرغم من الاختلافات القصوى بين الناس في تحديد الكمال وبما ذا يكمن، وبم يتمثّل الحبيب وأين يكمن المعشوق وهكذا. فكلّ إنسان وجد معشوقه في شيء، ظانا أنّ ما توهّمه هو منتهى كماله وكعبة آماله، ويسعى نحوه ببذل الغالي والنفيس. أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدون فيها معشوقهم، فيبذلون الغالي والنفيس في سبيل تحصيلها. وهكذا يتّجه كلّ إنسان في أيّ اختصاص كان، ومهما كان نوع عمله والشيء الذي يحبّه، يتجه إلى ذلك الشيء لحسبانه أنّه هو الكمال.
هكذا الحال بالنسبة لأهل العلوم والصنائع إذ يبذل كلّ واحد جهده ويتفانى في سبيل ما ظنّ أنّه كماله ومعشوقه، مع اختلاف هذه الكمالات المتوهّمة بحسب اختلاف سعتهم الفكرية. وأهل الآخرة والذكر والفكر يرون الكمال والمعشوق في غير ذلك.
بشكل عام، كلّ هؤلاء متّجهون صوب الكمال، حتّى إذا ما تصوّروه في موجود أو أمر وهمي تعلقوا به وعشقوه. لكن ينبغي أن يتضح أنّه على رغم ما مرّ، فإنّ حبّ هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي أحبّوه وظنّوا بأنّه معشوقهم، وإنّ ما توهّموه محبوبهم وكمالهم لا يمثّل في الحقيقة معشوقهم وكعبة آمالهم. آية ذلك ودليله، أنّ كلّ واحد من هؤلاء لو عاد إلى فطرته، لوجد أنّ قلبه في الوقت الذي يبدي الحبّ لشيء ما ويظهر العلقة به، فهو لا يلبث وأن يتحوّل إلى غيره وينصرف عنه سريعا إذا وجد أنّ الثاني أكمل منه وأسمى مرتبة. وعند ما يبلغ هذا الكامل ويحوز عليه، ثمّ يعثر على ما هو أكمل منه يترك الثاني ويتجه إلى الأكمل منه، بل تشتعل نيران عشقه ويضطرم أوار اشتياقه ويزداد حتّى لا يستقر قلبه على مرتبة من المراتب ولا يلقي برحاله في أيّ حدّ من الحدود ولا يقنع به.
فلو كنت مثلا محبّا لجمال القدود ونضارة الوجوه، وعثرت على ضالّتك عند من تراه كذلك وتوجّه قلبك نحوه، ثمّ لاح لك وجه أجمل، فستتّجه بالضرورة إلى الأجمل، أو تطلب الاثنين معا على الأقلّ. ثمّ لا تستقر نيران الاشتياق ولا ينطفئ أوارها، ولسان حالك وفطرتك : أريدها جميعا، بل أنت تريد الاستحواذ على الجمال كلّه. وإنّ هذا الذوق والشوق يستعر حتّى بالاحتمال والتخيّل، فلو احتملت جميلا أجمل من كلّ ما تراه بعينيك وما هو موجود بين يديك، لصبا قلبك إليه، فتحلّق إلى بلد الحبيب، ولسان حالك يقول : أنا بين الجمع وقلبي في مكان آخر.
بل أنت تعشق حتّى ما تصافحه آمالك، فلو سمعت أوصاف الجنّة وما فيها من الوجوه الساحرة، لنادت فطرتك : يا حبذا هذه الجنة، ويا ليت هذه الوجوه من نصيبي، حتّى لو لم تكن تؤمن بالجنة لا سامح اللّه.
كذلك من يرى الكمال في النفوذ والسلطان واتساع الملك واتجه اشتياقه نحو ذلك، فتراه لو استحوذ على بلد فكّر بالاستحواذ على الثاني، ولو سيطر على الثاني وأصبح تحت نفوذه وسلطته لتطلع إلى ما هو أكثر. فهو كلّما استولى على بلد، مال للاستيلاء على بلدان اخرى، بل تضطرم نار تطلّعاته وتزداد، بحيث إذا ما بسط هيمنته على الكرة الأرضية وصارت جميعها بحوزته، ثمّ احتمل إمكان بسط سلطته على الكواكب الاخرى، لتطلع قلبه إلى تلك الكواكب وتمنى لو كان بالإمكان أن يطير إلى تلك العوالم كي يخضعها لسلطانه.
قس على ذلك أصحاب الصناعات ورجال العلم. أساسا هذا حال أفراد الجنس البشري برمته، مهما تكن مهنتهم وحرفهم، فأيّ ما إنسان بلغ مرتبة ما، فإنّ شوقه يحمله إلى ما هو أكمل منها وأرقى، ومن ثمّ فإنّ هذا الشوق والتطلع لا يستقر ولا ينطفئ، بل هو في أوار واشتعال وتزايد.
إذا، فهذا هو نور الفطرة الذي هدانا إلى أنّ قلوب العائلة البشرية كافة، بدءا من سكان أقاصي بلاد إفريقيا حتّى سكان بلدان العالم المتقدّم، ومن الطبيعيين الماديين حتّى أهل الملل والنحل، تتّجه قلوبهم بالفطرة صوب كمال لا نقص فيه وهم بأجمعهم عاشقون جمالا وكمالا لا يعتوره عيب، ومتطلّعون إلى علم لا جهل فيه، وقدرة وسلطان لا يلابسهما عجز ولا فتور، وحياة لا موت فيها، ومن ثمّ فإنّ الكمال المطلق هو معشوق الجميع.
إنّ الموجودات بأكملها والعائلة الإنسانية برمتها، لينادون بلسان فصيح وقلب واحد : إننا نعشق الكمال المطلق، نحن نحبّ الجمال والجلال المطلقين، نحن نريد القدرة المطلقة، ونصبو إلى العلم المطلق. والسؤال : هل ثمّ في جميع سلسلة الموجودات في عالم التصوّر والخيال، وفي التجويزات العقلية والاعتبارية؛ هل ثمّ موجود ينطوي على الكمال المطلق والجمال المطلق، غير الذات المقدّسة، مبدأ العالم جلّت عظمته؟ وهل ثمّ جميل على الإطلاق لا يشوبه نقص إلّا ذلك المحبوب المطلق (1)؟
فيا أيها الهائمون في وادي الحيرة، الضائعون في صحارى الضلالة، لا بل، أيّتها الفراشات الهائمة حول نور جمال الجميل المطلق، ويا عشّاق المحبوب الأزلي المنزّه من العيب، عودوا قليلا إلى كتاب الفطرة، وتصفّحوا كتاب ذاتكم، فسترون وقد خطّ فيها بقلم قدرة الفطرة الإلهية : {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79] ؛ فهل أنّ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] هي فطرة التوجّه إلى المحبوب المطلق؟ وهل الفطرة التي لا تتبدّل {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]هي فطرة المعرفة؟
إلى متى وأنت توجّه هذا الحبّ الفطري الذي وهبك اللّه إياه، صوب الخيالات الباطلة؟ وإلى متى وأنت تنفق هذه الوديعة الإلهية نحو هذا وذاك؟ إذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص وضروب الكمالات المحدودة، فلما ذا لا يقرّ لك قرار وأنت تصل إليها، ولما ذا لا يهدأ أوار اشتياقك، بل يزيد ذلك في اتقاد شوقك واشتداده؟
تيقّظ من نوم الغفلة واستبشر فرحا بأنّ لك محبوبا لا يزول، ومعشوقا لا نقص فيه، ومطلوبا من دون عيب، وإنّ لك مقصودا نور طلعته { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35], وأنّ لك محبوبا سعة إحاطته، هي : «لو دلّيتم بحبل إلى الأرضين السفلى لهبطتم على اللّه» (2).
إذن، يستوجب عشقك الفعلي الحقيقي معشوقا فعليا حقيقيا، ولا يمكن أن يكون هذا المعشوق شيئا وهميّا خياليا؛ مردّ ذلك أنّ كلّ موهوم ناقص، والفطرة تتّجه صوب الكامل. فإذا، لا يكون العاشق الحقيقي والعشق الفعلي الحقيقي من دون معشوق، وما ثمّ غير الذات الكاملة معشوق تتّجه إليه الفطرة. هكذا يكون لازم عشق الكامل المطلق، وجود الكامل المطلق.
وبذلك اتضح أنّ أحكام الفطرة ولوازمها أوضح من جميع البديهيات : {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] .
___________________________________
(1)- لقد ساق الإمام هذا الدليل الفطري على أصل وجود المبدأ في الرسالة التي بعث بها إلى غورباتشوف، يدعوه فيها إلى الإيمان والخروج من ربقة الإلحاد.
(2)- علم اليقين في اصول الدين 1 : 54.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|