أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-10-2014
2452
التاريخ: 27-02-2015
2121
التاريخ: 2024-03-26
998
التاريخ: 2024-01-13
1418
|
ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا، لانه يبدأ من الفاتحة وينتهي بسورة الناس، وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل اكماله إلى فترة زمنية طويلة أيضا. ولهذا لم يحظ من علماء الاسلام الاعلام الا عدد محدود بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته إلى نهايته. ونحن نشعر بأن هذه الايام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل، ولهذا كان من الافضل اختيار أشواط أقصر، نستطيع ان نكملها في رحاب القرآن الكريم.
من هنا، سوف نختار موضوعات متعددة في القرآن المجيد، ونستعرض ما يتعلق بكل موضوع منها، وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء.
وسوف نحاول أن يكون البحث مضغوطا بقدر الامكان. لكي نستوعب أكبر عدد من المواضيع المهمة. فنقتصر على الافكار الاساسية والمبادئ الرئيسية بالنسبة إلى كل موضوع.
والموضوع الاول الذي سوف نختاره للبحث هو : «سنن التاريخ في القرآن الكريم»! هل للتاريخ البشري سنن وقوانين في مفهوم القرآن الكريم، تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره؟ ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري؟ كيف بدأ التاريخ البشري؟ كيف نما؟ كيف تطور؟ ما هي العوامل الاساسية في نظرية التاريخ؟ ما هو دور الانسان في عملية التاريخ؟ ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة البشرية؟ هذا كله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان، عنوان سنن التاريخ في القرآن الكريم، حيث نجد أن القرآن قد بحث الجزء الاعظم من مواد هذا الجانب ومفرداته القرآنية، لكن من زوايا مختلفة، فمثلا : قصص الانبياء (عليهم السلام) التي تمثل الجزء الاعظم من هذه المادة القرآنية. فحصت قصص الانبياء من زاوية تاريخية تناولها المؤرخون، واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم. وحينما لاحظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز، حاولوا ان يملئوها بالروايات والاحاديث، أو بما هو المأثور عن أديان سابقة، أو بالأساطير والخرافات، فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية، كذلك أيضا بحثت هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى، من زاوية منهج القصة في القرآن، وبيّنت مدى ما يتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وإبداع، وما تزخر به القصة القرآنية من حيوية، وحركة، وأحداث، وهكذا. ونحن نريد ان نتناول الآن هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى، من زاوية مقدار ما تلقي من أضواء على سنن التاريخ، على تلك الضوابط والقوانين، التي تتحكم في عملية التاريخ لنكتشف ما اذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيء منها. فالساحة التاريخية كأية ساحة أخرى، فلكية كانت، أو فيزيائية أو نباتية، إذ لا إشكال في ان كلا من هذه الساحات زاخرة بمجموعة من الظواهر، وهذه الظواهر المتكثرة في كل ساحة من الساحات تلك، تتكئ على سنن وقوانين وضوابط، تحكمها أو تتحكم فيها.
وكما في الساحات الأخرى، كذلك في الساحة التاريخية، ظواهر متكثرة ومتنوعة.
وهنا نتساءل : هل لهذه الظواهر على الساحة التاريخية قوانين وضوابط تحكمها أو تتحكم فيها، كما كان الحال بالنسبة للظواهر التي تزخر بها مختلف الساحات الأخرى ؟
وما هو موقف القرآن منها، وما هو عطاؤه في تأكيد ذلك ايجابا أو سلبآ ، اجمالا أو تفصيلا ؟ ... قد يتوهم البعض ، أننا لا ينبغي أن نترقب من القرآن الكريم أن يتحدث عن سنن التاريخ، لان البحث في سنن التاريخ بحث علمي، كالبحث في سنن الطبيعة والذرة والنبات. والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية، القرآن الكريم لم يكن كتابا مدرسيا، وإنما نزل هذا الكتاب على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجاهلية إلى نور الاسلام. اذن فهو كتاب هداية وتغيير، وليس كتاب اكتشاف.
ومن هنا لا نترقب من القرآن الكريم ان يكشف لنا الحقائق والمبادئ العامة للعلوم الأخرى، ولا نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان. صحيح أن في القرآن الكريم إشارات إلى كل ذلك، ولكنها إشارات بالحدود التي تؤكد على البعد الإلهي للقرآن، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل، والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرقة في الميادين العلمية المتفرقة، لكن هذه الإشارات القرآنية، انما هي لأجل غرض علمي من هذا القبيل، لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء. القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الانسان الخلّاقة، ومواهبه وقابلياته في مقام الكدح في كل ميادين الحياة، بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة، وإنما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للإنسان، مفجرة لطاقاته، محركة له في المسار الصحيح. ومن نفس هذا المنظور، ننتظر من القرآن الكريم أن يعطينا عموميات، أن يعطينا مواقف، أن يبلور لنا مفهوما علميا في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون، بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الأخرى، ولا حرج على القرآن في ان لا يكون له ذلك على الساحات الأخرى؟ لأن القرآن لو صار في مقام استعراض هذه القوانين، وكشف هذه الحقائق، لكان بذلك يتحول إلى كتاب آخر نوعيا، يتحول من كتاب للبشرية جمعاء، إلى كتاب للمتخصصين يدرس في الحلقات الخاصة.
قد يتوهم البعض ذلك، فيورد علينا هذا الاعتراض، ونحن بصدد عملية اكتشاف نظرية قرآنية عامة حول السنن التاريخية في كتاب اللّه.
الا ان هذه الملاحظة، رغم ان الروح العامة فيها صحيحة، بمعنى أن القرآن الكريم ليس كتاب اكتشاف، ولم يطرح نفسه ليجمد في الانسان طاقات النمو والابداع والبحث، وإنما هو كتاب هداية، ولكن مع هذا، يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون، هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سننها أمرا مرتبطا أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية، خلافا لبقية الساحات الكونية الأخرى للمعرفة البشرية، وذلك أن القرآن الكريم كتاب هداية، ولكنه عملية تغيير عبر عنها في القرآن الكريم بأنها إخراج للناس من الظلمات إلى النور.
وعملية التغيير هذه فيها جانبان :
الجانب الأول : جانب المحتوى والمضمون، ما تدعو اليه هذه العملية التغييرية من أحكام ومناهج، وما تتبناه من تشريعات، هذا الجانب من عملية التغيير جانب رباني سماوي، يمثل شريعة اللّه سبحانه، التي نزلت على النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) وتحدّى بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ المادية، لأن هذه الشريعة كانت اكبر من الجو الذي نزلت عليه، ومن البيئة التي حلت فيها، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها.
الجانب الثاني : لكن هناك جانب آخر لعملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأصحابه الاطهار، هذه العملية حينما تلحظ بوصفها عملية اجتماعية متجسدة في جماعة من الناس وهم النبي والصفوة من الصحابة، وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها، واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري، حينما تؤخذ هذه العملية التغييرية بوصفها تجسيدا بشريا واقعا على الساحة التاريخية، مترابطا مع الجماعات والتيارات الاخرى التي تكتنف هذا التجسيد، والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد، من هذه الزاوية تكون عملية بشرية، يكون هؤلاء اناسا كسائر الناس، تتحكم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن.
اذن ، عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لها جانبان، من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي، هي ربانية، هي فوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملا قائما على الساحة التاريخية، من حيث كونها جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية اخرى، تعتبر عملا تاريخيا تحكمه سنن التاريخ، وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها اللّه سبحانه لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية، ولهذا نرى ان القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية، عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس، بوصفهم بشرا من البشر، تتحكم فيهم القوانين التي تتحكم في الآخرين، حينما أراد ان يتحدث عن انكسار المسلمين في غزوة أحد بعد أن احرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر، تحدث القرآن الكريم عن هذه الخسارة، ما ذا قال؟ هل قال بأن رسالة السماء خسرت المعركة بعد أن كانت ربحت المعركة في بدر؟ لا .. لأن رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي، ولكن الذي يهزم هو الانسان، الانسان حتى ولو كان مجسدا لرسالة السماء، لأن هذا الانسان تتحكم فيه سنن التاريخ، ما ذا قال القرآن؟ قال :
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران : 140].
هنا أخذ يتكلم عنهم بوصفهم أناسا قال بأن هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض أن ينتصروا، وخسروا المعركة في أحد حينما كانت الشروط الموضوعية للخسارة بحسب نفس المنطق في معركة أحد، تفرض عليهم أن يخسروا المعركة.
{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران : 140] لا تتخيلوا أن النصر حق إلهي لكم، وإنما النصر حق طبيعي لكم، بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها اللّه سبحانه وتعالى كونيا لا تشريعيا، وحيث إنكم في غزوة أحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط، خسرتم المعركة.
فالكلام هنا كلام مع بشر، مع عملية بشرية لا مع رسالة ربانية. بل يذهب القرآن إلى اكثر من ذلك، يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاريخ بأنها إذا لم تقم بدورها التاريخي، وإذا لم تكن على مستوى مسئولية رسالة السماء، فإن هذا لا يعني ان تتعطل رسالة السماء، ولا يعني أن تسكت سنن التاريخ عنهم، بل انها سوف تستبدل، سنن التاريخ سوف تعزلها وسوف تأتي بأمم أخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الأفضل لكي تلعب هذا الدور، لكي تكون شهيدة على الناس، إذا لم تتهيأ لهذه الأمة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة :
{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة : 39] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة : 54].
إذن، فالقرآن الكريم إنما يتحدث من خلال الجانب الثاني في عملية التغيير، مع البشر في ضعفه وقوته ، في استقامته وانحرافه، في توفر الشروط الموضوعية له وعدم توفرها.
من هنا يظهر، بان البحث في سنن التاريخ، مرتبط ارتباطا عضويا شديدا بكتاب اللّه بوصفه كتاب هدى، بوصفه إخراجا للناس من الظلمات إلى النور، لأن الجانب العملي البشري والتطبيقي من هذه العملية، يخضع لسنن التاريخ، فلا بد اذن ان نستلهم، ولا بد ان يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال، لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية والاسلامية عن سنن التاريخ.
اذن، هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات، تلك السنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ، ولكن هذه السنن داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التغيير، باعتبار الجانب الثاني، ولذا، لا بد من شرح ذلك، ولا بد ان نترقب من القرآن اعطاء عموميات في ذلك، نعم لا ينبغي ان نترقب من القرآن ان يتحول ايضا إلى كتاب مدرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ، بحيث يستوعب كل التفاصيل وكل الجزئيات، حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، وانما القرآن الكريم يحتفظ دائما بوصفه الأساسي والرئيسي، يحتفظ بوصفه كتاب هداية، كتاب اخراج للناس من الظلمات إلى النور، وفي حدود هذه المهمات الكبيرة العظيمة التي مارسها في صدور هذه المهمة، يعطي مقولاته على الساحة التاريخية، ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يلقي ضوءا على عملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه واله وسلم)، بقدر ما يكون موجها وهاديا وخالقا لرؤية موضوعية للأحداث والظروف والشروط.
ونحن نلاحظ في القرآن الكريم هذه الحقيقة، حقيقة ان الساحة التاريخية عامرة بسنن كما عمرت كل الساحات الكونية الأخرى بسنن.
فقد بيّنت هذه الحقيقة بأشكال مختلفة وبأساليب متعددة في عدد كثير من الآيات، بيّنت على مستوى اعطاء نفس هذا المفهوم بالنحو الكلي، وبيّنت هذه الحقيقة في آيات اخرى على مستوى عرض هذه القوانين، وبيان مصاديق ونماذج وأمثلة لها وكيف تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان، وبيّنت في سياق آخر، على نحو تمتزج فيه النظرية بتطبيقاتها امتزاج المفهوم بالمصداق، وفي آيات اخرى حصل الحث الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية، وشحذ الهمم لا يجاد عملية استقراء للتاريخ، وعملية الاستقراء للحوادث كما تعلمون، هي عملية علمية بطبيعتها، تريد أن تفتش عن سنّة وقانون، وإلا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة أو قانون. إذن هناك السنة متعددة درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها.
ونحن عند ما نتصفّح كتاب اللّه العظيم، نجد أن هناك عددا كثيرا من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر، وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة، وبعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح الدلالة على المقصود، والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر، أو يكون معززا ومؤيدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية.
فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية، فكرة ان التاريخ له سنن وضوابط ما يلي :
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس : 49] .
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف : 34]
نلاحظ في هاتي الآيتين الكريمتين، أن الأجل أضيف إلى الأمة، إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد أو ذاك الفرد بالذات، إذن، هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردي، أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي للأفراد، للأمة بوصفها مجتمعا ينشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة على أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوى والقابليات ، هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالأمة، له أجل، له موت، له حياة ، له حركة ، كما أن الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت، كذلك الأمة تكون حية ثم تموت، وكما أن موت الفرد يخضع لأجل ولقانون، كذلك الأمم ايضا لها آجالها المضبوطة وقوانينها.
وهناك نواميس تحدد لكل أمة هذا الأجل.
إذن ، هاتان الآيتان الكريمتان، فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة أن التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الأفراد، بهوياتهم الشخصية :
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [الحجر : 4، 5]. {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } [المؤمنون : 43]. { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف : 185].
ظاهر الآية الكريمة، أن الأجل الذي يترقب هؤلاء أن يكون قريبا أو يهدّدون بأن يكون قريبا، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردي، لأن قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد، وإنما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي، هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله.
فالأجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة، لا عن حالة قائمة بهذا الفرد أو بذاك، لأن الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر إليهم بالمنظار الفردي، لكن حينما ننظر إليهم بالمنظار الاجتماعي وبوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها، في سرّائها وضرائها، يكون لها أجل واحد، فهذا الأجل الجماعي المشار إليه، إنما هو أجل الأمة، وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة.
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } [الكهف : 58، 59].
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر : 45].
ففي هاتين الآيتين الكريمتين، تحدث القرآن الكريم، عن أنه لو كان اللّه يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم، وبما كسبوا، لما ترك على ساحة الناس من دابة، يعني لأهلك الناس جميعا.
وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني، حيث إن الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة، فيهم الأنبياء، فيهم الأئمة وفيهم الأوصياء. هل يشمل الهلاك الأنبياء، والأئمة العدول من المؤمنين ؟ حتى ان بعض الناس استغل هاتين الآيتين لإنكار عصمة الأنبياء (عليهم السلام).
والحقيقة ، ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع، بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم، وعلى اختلاف انحاء سلوكهم.
حينما وقع التيه أربعين عاما على بني اسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب ظلمه وطغيانه وتمرده، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني اسرائيل، انما شمل موسى (عليه السلام)، شمل اطهر الناس وأزكاهم وأشجعهم، في مواجهة لظلمة والطواغيت، شمل موسى (عليه السلام) لانه جزء من تلك الامة، وبهذا شمل لتيه موسى (عليه السلام).
حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم، فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم، يتحكم في دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم، لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي، وقتئذ شمل الحسين (عليه السلام)، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس، شمل الامام المعصوم (عليه السلام) حيث قتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته.
هذا كله هو منطق سنن التاريخ، والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق هذه السنن، لا يختص بخصوص الظالمين من ابناء ذلك المجتمع، ولهذا قال القرآن الكريم في آية اخرى :
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال : 25].
بينما يقول في موضع آخر.
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر : 18] فالعقاب الأخروي دائما ينصب على العامل مباشرة، وأما العقاب الدنيوي فيكون أوسع من ذلك، اذن هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الأمة وسعيها وجهدها، لا عن العقاب بالمعنى الاخروي، والعذاب بمعنى مقاييس يوم القيامة، {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء : 76، 77].
هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام، يقول :
{ ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا } ، هذه سنة سلكناها مع الأنبياء من قبلك، وسوف تستمر ولن تتغير. أهل مكة يحاولون أن يستفزوك لتخرج من مكة، لأنهم عجزوا عن امكانية القضاء عليك، وعلى كلمتك ودعوتك، ولهذا صار أمامهم طريق واحد، وهو اخراجك من مكة.
وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي ان شاء اللّه شرحها بعد ذلك، يشار اليها في هذه الآية الكريمة. وهي أنه اذا وصلت عملية المعارضة إلى مستوى اخراج النبي من هذا البلد، بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الاخرى، فانهم لا يلبثون الا قليلا. ليس المقصود من انهم لا يلبثون الا قليلا، أنهم سوف ينزل عليهم عذاب اللّه سبحانه من السماء، لأن أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة. استفزوه وارعبوه، وخرج النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من مكة إلى المدينة، اذ لم يجد له ملجأ وأمانا، ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير، أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة، وكموقع اجتماعي، لا كأناس وكبشر، وانما سوف ينهار هذا الموقع نتيجة هذه العملية، لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها، سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة، وهذا ما وقع فعلا. فان رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) حينما أخرج من مكة لم يمكثوا بعده الا قليلا، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها، وتحولت مكة إلى جزء من دار الاسلام بعد سنين معدودة.
اذن، الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ، وتؤكد وتقول { ولا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا }.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران : 137].
تؤكد هذه الآية على السنن، وتؤكد على ضرورة التتبع لإحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن ومن ثمّ الاعتبار بها.
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام : 34].
هذه الآية أيضا تثبّت قلب رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم)، تحدثه عن التجارب السابقة، وتربطه بقانونها، وتوضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الانبياء الذين مارسوا هذه التجربة من قبله، وان النصر سوف يأتيه، ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر، والثبات، واستكمال باقي الشروط، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر، ولهذا تقول الآية :
{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام : 34] ، {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام : 34] اذن هناك كلمة للّه لا تتبدل على مر التاريخ، هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت من خلال الآيات المتفرقة، وجمعت على وجه الاجمال هنا. اذن فهناك سنة للتاريخ.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر : 42، 43] {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح : 22، 23].
هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد : 11].
المحتوى الداخلي النفسي والروحي للإنسان هو القاعدة، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي، لا يتغير هذا البناء العلوي الا وفقا لتغيّر القاعدة، على ما يأتي ان شاء اللّه شرحه بعد ذلك.
هذه الآية اذن، تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للإنسان، وبين الوضع الاجتماعي، بين داخل الانسان وبين خارجه، فخارج الانسان، يصنعه داخل الانسان، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير ما عليه وضعهم، وعلاقاتهم، والروابط التي تربط بعضهم ببعض.
اذن فهذه سنة من سنن التاريخ، ربطت القاعدة بالبناء العلوي {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال : 53]. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214].
يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنة التاريخ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر، وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل إلى حد الزلزال، على حد تعبير القرآن الكريم؟ ان حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة، هي امتحان لإرادتها وصمودها وثباتها، لكي تستطيع بالتدريج، ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس.
وعليه، فنصر اللّه قريب لكنه ليس أمرا عفويا، ليس أمرا على سبيل الصدفة، نصر اللّه قريب ولكن اهتد إلى طريقه. ومن أجل تحصيل ذلك الاهتداء، لا بد وان تعرف منطق التاريخ، قد يكون الدواء قريبا من المريض، لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي إلى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه.
فالاطلاع على سنن التاريخ، هو الذي يمكّن الانسان من التوصل إلى النصر. فهذه الآية تستنكر على المخاطبين بها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ :
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ : 34، 35].
هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ، وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات. هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة، والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد، ولما قال : {فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [سبأ : 34]. اذن هناك علاقة سلبية، هناك علاقة تطارد وتناقض، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية، والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع، ودور المترفين والمسرفين في المجتمع. هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع، كما سوف يتضح ان شاء اللّه عند ما نبحث عن دور النبوة في المجتمع، والموقع الاجتماعي للنبوة، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هو موقع المترفين والمسرفين.
اذن هذه سنة من سنن التاريخ : .. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء : 16، 17].
هذه الآية أيضا، تتحدث عن علاقة معيّنة ومطّردة بين ظلم يسود ويسيطر، وبين هلاك تجر اليه الامة جرا. وهي سنة من سنن التاريخ.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة : 66].
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف : 96].
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن : 16] {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف : 22] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف : 23].
هذه الآيات ايضا، تتحدث عن علاقة معينة بين الاستقامة وتطبيق احكام اللّه سبحانه، وبين وفرة الخيرات ووفرة الانتاج، وبلغة اليوم : بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج، القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع، التي عبر عنها القرآن تارة ب : {لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} واخرى ب : {لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا واتَّقَوْا} واخرى ب : {لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ والْإِنْجِيلَ} ، لأن شريعة السماء نزلت من أجل تقرير عدالة التوزيع، وإقامتها على أسس عادلة، يقول : لو أنهم طبقوا عدالة التوزيع، اذن لما وقعوا في ضيق من ناحية لثروة المنتجة، بل لازداد الثراء وازدادت الخيرات والبركات. لكنهم تخيلوا أن عدالة التوزيع تقتضي التقسيم، وبالتالي تقتضي فقر الناس، بينما الحقيقة أن السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد أحكامها في علاقات التوزيع، تؤدي دائما وباستمرار، إلى وفرة الانتاج وإلى زيادة الثروة ، إلى أن يفتح على الناس بركات السماء والأرض.
اذن هذه ايضا سنّة من سنن التاريخ.
وهناك آيات اخرى حثت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية، من اجل تكوين نظرة استقرائية، من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد : 10].
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف : 109]
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج : 45، 46]
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق : 36، 37].
من مجموع هذه الآيات الكريمة، يتبلور المفهوم القرآني الذي اوضحناه، وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط، كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى. وهذا المفهوم القرآني، يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم .. لاننا في حدود ما نعلم، أن القرآن اول كتاب عرفه الانسان، اكد على هذا المفهوم، وكشف عنه وأصر عليه، وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم، النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية في تفسير الاحداث، الانسان الاعتيادي كان يفسر التاريخ بوصفه كومة متراكمة من الاحداث، يفسره على اساس الصدفة تارة، وعلى اساس القضاء والقدر والاستسلام لامر اللّه سبحانه وتعالى تارة أخرى، القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية الاستسلامية، ونبه العقل البشري، إلى ان هذه الساحة لها سنن، ولها قوانين، ولكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا، لا بد لك أن تكتشف هذه السنن، وتتعرف على تلك القوانين، لكي تستطيع ان تتحكم فيها، والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين، افتح عينيك على هذه القوانين، لكي تكون انت المتحكم فيها وليس العكس.
هذا الفتح القرآني الجليل، هو الذي مهد إلى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون، إلى ان تجري محاولات لفهم التاريخ فهما علميا، بعد نزول القرآن بثمانية قرون، بدأت هذه المحاولات على ايدي المسلمين انفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه، ثم بعد ذلك بأربعة قرون (على اقل تقدير)، اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة، نحو تجسيد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون، حيث لم يتوغلوا إلى
اعماقه، وبدأت لدى الغربيين أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ، وفهم سننه، ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة، ومدارس متعددة، كل واحدة منها تحاول ان تحدد هذه السنن التاريخية.
وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس وأوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرا في التاريخ نفسه ، اذن ، كل هذا الجهد البشري في الحقيقة، هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ، ويبقي للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لأول مرة على ساحة المعرفة البشرية.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|