المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17980 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



المدرسة الوجودية ‏  
  
3886   03:39 مساءاً   التاريخ: 4-05-2015
المؤلف : جواد علي كسار
الكتاب أو المصدر : فهم القرآن دراسة على ضوء المدرسة السلوكية
الجزء والصفحة : ص 401- 423
القسم : القرآن الكريم وعلومه / علوم القرآن / مواضيع عامة في علوم القرآن /

لعرض رؤية الإمام الخميني للظاهر والباطن وموقعها في الفكر القرآني، لا مناص من استعادة التصوّر الكوني للمدرسة العرفانية الوجودية وتبيّن موقع القرآن من هذا التصوّر، بحكم انتمائها إليه، من خلال استعراض عدد من المحطّات البارزة على هذا الخطّ.

أ- ابن عربي‏

في الرؤية الوجودية كلّ شي‏ء في العالم حيّ‏ (1)، يسبّح بحمد ربّه‏ (2) لأنّه‏ تجليّات للأسماء الحسنى‏ (3)، وهذه الأسماء هي المؤثّرة في العالم‏ (4)، وهي سبب وجوده، والعالم مجال فسيح لظهور سلطانها (5).

تواجهنا في هذه الرؤية ثلاثة وجودات محورية هي الإنسان والقرآن والعالم، بينها علاقات وشيجة وتماثل يصل حدّ التطابق. فالإنسان عالم صغير توجد فيه حقائق العالم بأكملها هي فيه على حال الاجتماع فيما هي في الخارج متفرّقة، والعالم بدوره إنسان كبير، ومن ثمّ فإنّ حكمهما واحد : «فإنّ العالم إنسان كبير كامل، فحكمه حكم الإنسان» (6).

والقرآن رديف ثالث للإنسان والعالم لا يشذّ عنهما في الحكم، فكلّ الأحكام العامة التي تنطبق عليهما تنطبق عليه. فالإنسان جامع لحقائق الكون من جهة وحقائق القرآن من جهة اخرى، والقرآن يختزل بين دفتيه مراتب الإنسان وحقيقة وجوده، كما يعدّ تعبيرا موازيا عن الوجود.

لا غرابة في هذه الرؤية وهي تذهب إلى أنّ العالم كلّه (عالم الممكنات) هو كلمات اللّه‏ (7)، ف «الموجودات كلها كلمات اللّه» (8). وتجليّات لأسمائه وصفاته، والإنسان (الإنسان الكامل نموذجه وذروتهـ) هو الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود، والقرآن هو كلمات اللّه المرقومة التي توازي الوجود وترمز إليه‏ (9).

انطلاقا من الموازاة بين القرآن والوجود والإنسان يصبح القرآن هو الدال اللغوي والتعبير اللفظي والرقمي عن الوجود بكلّ مراتبه ومستوياته‏ (10)، فهو مواز للوجود وللإنسان في آن، ومن ثمّ تشترك هذه الوجودات الثلاثة بأحكام عامّة موحّدة تنتظمها جميعا، أبرزها أنّ لكلّ واحد منها ظهرا وبطنا وحدّا ومطّلعا.

في التصوّر الكوني الوجودي لا وجود لظاهر ليس له باطن‏ (11)، فللإنسان ظاهر وباطن هما الجسد والروح، وللعالم ظاهر وباطن هما الشهادة والغيب، وكذلك القرآن. ليس هذا وحسب بل لكلّ منهما حدّ ومطّلع أيضا ليستقرّ الجميع على حدود رباعية : الظاهر والباطن والحدّ والمطّلع، يكون فيها الظاهر هو عالم الملك والشهادة، والباطن هو الغيب والملكوت، والحدّ هو عالم البرزخ والجبروت، والمطّلع هو عالم الأسماء الإلهية : «ما من شي‏ء إلّا وله ظاهر وباطن وحدّ ومطّلع، فالظاهر منه ما أعطتك صورته، والباطن ما أعطاك ما يمسك عليه الصورة، والحدّ ما يميّزه عن غيره، والمطّلع منه ما يعطيك الوصول إليه إذا كنت تكشف به، وكلّ ما لا تكشف به فما وصلت إلى مطّلعة ... لا فرق بين هذه الامور الأربعة لكلّ شي‏ء وبين الأربعة الأسماء الإلهية الجامعة، الاسم الظاهر وهو ما أعطاه الدليل، والباطن وهو ما أعطاه الشرع من العلم باللّه، والأوّل بالوجود والآخر بالعلم» (12).

إذا للإنسان والقرآن والعالم؛ لكلّ واحد منها ظهر وبطن وحدّ ومطّلع. وحيث يعنينا في بحثنا هذا أمر القرآن، فإنّ هذه الرؤية تسجّل أنّ لكلّ آية وجهين الأوّل الظاهر الذي يعلمه أهل اللسان الذي نزل القرآن بلسانهم، والثاني الحقيقة الكائنة

وراء اللفظ التي تدركها الخاصة بعين الفهم، وهي الباطن، وأهل اللّه وخاصته يجمعون بين «الوجهين، كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ‏}[ فصّلت : 53] يعني الآيات المنزلة في الآفاق وفي أنفسهم. فكلّ آية منزلة لها وجهان وجه يرونه [أهل اللّه‏] في نفوسهم، ووجه آخر يرونه فيما خرج عنهم» (13).

الظاهر في هذه الرؤية هو الصورة الحسية؛ أي عالم الشهادة والملك بالنسبة إلى العالم، والجسد بالنسبة إلى الإنسان، والألفاظ والتركيب الحروفي بالنسبة إلى القرآن، والمطلوب عدم المكوث في هذه الصورة الحسية، بل مجاوزتها إلى الروح المعنوي الذي يمسك بها. وفيما يتعلّق بالقرآن المطلوب هو تجاوز الظاهر وتخطّيه إلى الباطن، لكن لا بمعنى الإلغاء وإنّما بمعنى عدم الاكتفاء، إذ لا طريق إلى الباطن إلّا عبر الظاهر بإجماع المدرسة أو الرموز التي نتحدّث عنها على أقل تقدير (14) : «إنّ اللّه قد ربط بكلّ صورة حسية روحا معنويا بتوجّه إلهي عن حكم اسم ربّاني، لهذا اعتبرنا خطاب الشارع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر قدما بقدم، لأنّ الظاهر منه هو صورته الحسية، والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسمّيه الاعتبار في الباطن من عبرت الوادي إذا جزته، وهو قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ}[ آل عمران : 13] ، وقال : {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ}[ الحشر : 2] أي جوزوا ممّا رأيتموه من الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم، فتدركونها ببصائركم. وأمر وحثّ على الاعتبار. وهذا باب أغفله العلماء ولا سيّما أهل الجمود على الظاهر، فليس عندهم من الاعتبار إلّا التعجّب فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار، فهؤلاء ما عبروا قطّ من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم اللّه» (15).

خلاصة الرؤية، إنّ دلالات القرآن وإن خضعت في ظاهرها إلى العرف وموازين اللسان الذي نزلت به، لكنّها في باطنها تدلّ على حقائق وجوديّة، ومن ثمّ فإنّ البطون في هذه المدرسة هي من سنخ الحقائق والأعيان، وليس من نوع الألفاظ والمقولات الذهنية، والطريق إليها يكون بأداة تأتي ما بعد العقل، بعد أن يستنفد العقل طاقاته أو يكاد في منطقة الظاهر وعالم المقولات الذهنية.

لنر الآن كيف تطوّرت هذه الرؤية عند اللاحقين من رموز هذه المدرسة وأتباعها؟ الحقيقة لم نشهد تطوّرا معرفيا على يد اللاحقين، بقدر ما أنّهم قدّموا لها شروحا وتوضيحات وحسب بما في ذلك الإمام الخميني، على ما نتبيّن ذلك من خلال المحطّات الاخرى التي سنقف عندها.

ب- الشيرازي‏

يتابع الشيرازي (ت : 1050 هـ) ابن عربي (ت : 638 هـ) في الرؤية الكونية والوجودية العامّة. فللحقائق أمثالا في العوالم «بل بناء كلّ عالم على وجود المظاهر والأمثلة» (16) للعالم الأعلى منه، وما خلق اللّه شيئا في عالم الصورة إلّا وله نظير في عالم المعنى، إذ العوالم متطابقة؛ الأدنى مثال الأعلى، والأعلى حقيقة الأدنى، وهكذا إلى حقيقة الحقائق‏ (17)، ومن ثمّ فإنّ كلّ معنى من المعاني الموجودة في عالم الشهادة يكون «ظلا دالا على ما في غيب عالم الأسماء»، وهكذا تندرج العوالم في إطار هذا النسق المتراكب.

ثمّ إنّ العوالم كلها «كتب إلهية وصحائف رحمانية» دالّة على اللّه، وتجليّات لأسمائه وصفاته ومظاهر لها، تكتسب في الإنسان هيئة وفي القرآن اخرى وفي العالم ثالثة وهكذا (18).

من خصائص هذه العوالم أنّها متداخلة بعضها مع بعض على نحو الإحاطة، بحيث يحيط الأعلى الأدنى وهكذا : «و اعلم أنّ العوالم والنشآت الوجودية بمنزلة طبقات بعضها محيطة ببعض» (19).

ثنائية الظاهر والباطن شاملة عامة تتّسع للممكنات جميعا وتعمّ العالم كافّة، وهي بمنزلة القانون، إذ يعقّب الشيرازي على قوله تعالى : {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}[ البقرة : 3]‏ ، وقوله : {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}[ هود : 123]‏ وقوله : {عالِمُ الْغَيْبِ‏ وَالشَّهادَةِ}[ الأنعام : 73] بقوله : «فاللّه تعالى أوجد الملك والشهادة لقضية اسمه (الظاهر)، وأوجد الملكوت والغيب لقضية اسمه (الباطن)» (20)، كما قوله أيضا : «إنّ موجودات العالم الطبيعي والنشأة الدنيوية مثنوية» (21).

حين تتحوّل هذه الثنائية إلى قانون فلن توفّر ظاهرة ولا يشذّ عنها وجود إمكاني في عالم الإمكان، ومن ثمّ فهي تشمل الإنسان والقرآن والعالم، بوصفها مظاهر لأسماء اللّه وصفاته. فحقيقة الإنسان مثلا : «لها ظهر جلي، وباطن خفي، ولها صورة مشهورة وحقيقة مستورة، فهو منقسم إلى ظاهر متغيّر وباطن ثابت» (22).

ما دام «الإنسان حقيقة واحدة وله مراتب كثيرة ... فكذلك القرآن حقيقة واحدة وله مراتب كثيرة» (23)، وذلك بمقتضى قانون التوازي الوجودي بين الاثنين.

ليس هذا وحسب، بل : «إنّ للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطّلعا، كما أنّ للإنسان ظاهرا وباطنا، ولباطنه باطن آخر إلى سبعة أبطن»(24).

يمعن الشيرازي في إبراز التشابه الوجودي بين ثلاثية الإنسان والقرآن والعالم ويحشد له الأدلّة في مواضع مختلفة من تفسيره، حتّى تغدو مقولة الظهر والبطن في القرآن بديهية لا تحتاج إلى كلام، ليؤسّس على ضوء ذلك : «إنّ للقرآن‏ منازل ومراتب كما للإنسان درجات ومعارج» (25)، كما أيضا : «للقرآن درجات- كما مرّ- وكذلك للإنسان بحسبها» (26) ، و«إنّ الإنسان ومراتبه مثال مطابق للإيمان ومراتبه، وكذا حكم القرآن» (27).

لا يقتصر هذا التوازي الوجودي على القرآن والإنسان دون العالم : «كما أنّ العالم بتمامه منقسم إلى غيب وشهادة، كذلك الإنسان الذي هو على صورة العالم، عالم صغير مشتمل على غيب وشهادة» (28).

الحصيلة الطبيعية- بل البديهية- لهذه الجولة أنّ للقرآن ظهرا وبطنا، ولبطنه بطون، والبطون من سنخ الحقائق والعينيّات وليست من مقولة المفاهيم والذهنيات.

يكتب موضّحا : «إنّ القرآن كالإنسان المنقسم إلى سرّ وعلن، ولكلّ منها ظهر وبطن، ولبطنه بطن إلى أن يعلمه اللّه، ولعلانيته علانية اخرى إلى أن يدركه الحواس وأهلها» (29).

ثمّ يطبق ذلك كما يلي :

1- أمّا ظاهر علن القرآن، فهو المصحف المحسوس الملموس والرقم المنقوش الممسوس.

2- وباطن علنه، هو ما يدركه الحسّ الباطن ويستثبته القرّاء والحفّاظ في خزانة محفوظاتهم.

هاتان المرتبتان من القرآن «أوليتان دنيويتان ممّا يدركه كلّ إنسان». وأمّا باطنه وسرّه فهما : «مرتبتان أخرويتان لكلّ منهما درجات» حيث يصير إلى تعداد بعضها، وذكر تقسيمات لبطون القرآن هي تعبير عن حقائق وجودية (30).

للقرآن إذا معان وإطار حروفي كتبي يتمّ الانطلاق منه في الرحلة صوب تلك المعاني، ومن لم يفهم المعاني وتلهّى بالأطر والقوالب والمقدّمات فلا نصيب له من القرآن إلّا هذه : «فإن لم تفهم معاني القرآن كذلك، فليس لك نصيب من القرآن إلّا قشوره» (31)، ذلك لأنّ ما يفهمه أهل الظاهر من «أوائل المفهومات هي قوالب الحقائق التي هي مراد اللّه ومراد رسوله» (32). فهناك حقائق مصبوبة في اطر وقوالب لفظية وكتبية هي ظاهر الكتاب، والحقائق باطنه وغوره، وهذه الأخيرة يصيبها كلّ إنسان بحسب استعداده : «و أمّا التحقيق فهو ممّا يستمدّ ويستنبط من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير، بل لعلّ الإنسان لو أنفق عمره في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدّماته ولواحقه لكان قليلا، بل لانقطع عمره قبل استيفاء جميع لواحقه، وما من كلمة من القرآن إلّا وتحقيقها يحوج إلى مثل ذلك.

وإنّما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره وأغواره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم، وتوفّر دواعيهم على التدبّر وتجرّدهم للطلب، ويكون لكلّ عالم منهم حظّ نقص أو كمل، ولكلّ مجتهد ذوق كثر أو قلّ، فلهم درجات في الترقّي‏ إلى أطواره وأغواره» (33). وقد عرفنا من مذاق هذه المدرسة ونصوصها أنّ الظاهر يقتنص بالاجتهاد العقلي والنشاط الذهني، في حين أنّ الباطن يلامس بالقلب والذوق والتزكية والارتقاء النفسي، ولا دور للعلوم وللنظر العقلي إلّا كمعدّ وحسب، أو كأداة للتعبير عن تلك المشاهدات في قنوات الفكر والبرهنة عليها، لكي يكون فيها للآخرين حجّة : «و أمّا روح القرآن ولبّه وسرّه فلا يدركه إلّا أولو الألباب، ولا ينالونه بالعلوم المكتسبة من التعلّم والتفكّر، بل بالعلوم اللدنية» (34).

عرفنا أيضا من الفصول السابقة كما من مقدّمات هذا الفصل أنّ المدرسة الوجودية تذهب إلى أنّ ما في عالم الإمكان تجليّات لأسماء اللّه وصفاته، وأنّ أعظم التجلّيات وأتمّها ما يندرج تحت الاسم الأعظم ويكون مظهرا له، كما هو الحال في القرآن والإنسان الكامل. وهذا هو الأساس الذي تفسّر على ضوئه بطون القرآن، وتدرج هذه البطون في الحقائق لا في المقولات الذهنية والمفاهيم والنظريات.

لكن ثمّ في نصوص الشيرازي أساس آخر لإثبات البطون وتفسيرها ينطلق من مقولة الكلام، وأنّ القرآن كلام اللّه، وكلام اللّه لمعة من ذاته، وكما وقع الاختلاف في الذات وتوزّعت فيها الآراء إلى مذاهب، فكذلك حال كلامه الذي يمثّله القرآن :

«وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره ولبابه وقشوره، لأنّ كلام اللّه لمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلق واعتقاداتهم للّه بين مجسم ومنزّه ومتفلسف ومعطّل ومشرك‏

وموحد، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت في الفهوم» (35). ومن الواضح أنّ هذا تفسير معرفي لمقولة البطون، وإن كان يرجع إلى أساس وجودي هو الذات.

لكن الأساس في النظرية الوجودية لمنشإ البطون هو الذي ذكرناه متمثّلا بالتوازي الوجودي بين القرآن والإنسان والعالم، وأنّ القرآن هو تعبير لفظي عن الإنسان والعالم، ولمّا كان للوجود والإنسان مراتب متعدّدة ودرجات مختلفة فإنّ له على صعيد المعنى مراتب ومستويات متعدّدة، لأنّ الوجودات الثلاثة هي تجليات ومظاهر لاسم اللّه الأعظم وما يندرج تحته من الأسماء والصفات.

على هذا سيرجع ما ذكره صدر الدين الشيرازي في مقولة الكلام الإلهي إلى الأساس الوجودي ذاته، ضمن قراءة ملخّصها أنّ الكلام الإلهي هو في بدء صدوره كان طليقا من التعيّنات، خلوا في ظهوره الأوّل من كلّ القيود لتناسبه مع ذات المتكلّم البسيطة المطلقة، ممّا يعني أن ليس في الموجودات ما يطيق الكلام الإلهي بتلك الصفة الإطلاقية. لذلك راح يتنزّل عن مرحلة الإطلاق ويحجب بحجب متعدّدة حتّى صار بكسوة الحروف والألفاظ رحمة من اللّه بالعباد، وإلّا لمّا ثبت لسماع كلامه سبحانه عرش ولا فرش، ولتلاشى ما بينهما من سبحات نوره وعظمة برهانه‏ (36).

فالقرآن اللفظي الكتبي الذي بين أيدينا هو المرحلة النازلة للكلام الإلهي، والتنزّل الأخير له من مرحلة الإطلاق إلى مرحلة التقيّد بالتعيّنات اللفظية والكتبية.

وما دامت ماهية الكلام من مرحلة الذروة والإطلاق حتّى مرحلة التقيّد باللفظ والتعيين بالحروف واحدة، فستكون جميع مراحل النزول أو التنزّل مطويّة فيه، وبالنتيجة يستبطن القرآن جميع مراتب نزول الكلام ومراحله، التي هي الموجودات المختلفة نفسها، لتكون المصاديق الطبيعية المحسوسة ظاهره، ومصاديقه الروحانية بطونه : «اعلم أنّ القرآن كلام الحقّ الأوّل تعالى، وقد ظهر أوّل ما ظهر مطلقا عن جميع التعيّنات الإمكانية ... ولمّا كان القرآن بإطلاقه وكلام اللّه في أوّل ظهور لا يقوم لسماعه السماوات والسماويّات ولا الأرض والأرضيّات، أنزله تعالى عن مقام إطلاقه وحجبه بحجب التعيّنات العقلية بمراتبها، فصار العقول بفعليتها ووجوداتها مصاديق القرآن.

ثمّ أنزله وحجبه بحجب التعيّنات المقدارية النورية فصار عالم المثال بمراتبها مصاديق له. ثمّ نزّله وحجبه بحجب التعيّنات الطبيعية فصارت الأجسام الطبيعية مصاديق له. ثمّ نزّله إلى أنزل مراتب الوجود وألبسه لباس الصوت والحروف والكتابة والنقوش حتّى يطيقه الآذان والأبصار البشرية، فصارت الحروف والنقوش مصاديق له.

و لكون جميع مراتب الوجود مصاديق للقرآن صار تبيانا لكلّ شي‏ء، ولا رطب ولا يابس إلّا كان فيه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مصاديقه المحسوسة الطبيعية ظهوره، ومصاديقه الروحانية بطونه» (37).

أمّا عن تفسير البطون وتعدّد المراتب على أساس التجلّي والملازمة بين‏ المتجلّي والمتجلّى به، فبودّنا أن لا نختم هذه الفقرة من دون أن نعرج على ما ذكره بهذا الشأن مفسّر معاصر ربما عدّ ألمع تلاميذ الطباطبائي، على الأقل في مجال التفسير : القرآن الكريم موضع تجلّي اللّه سبحانه : «فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه» (38).

و ما دام اللّه قد تجلّى في هذا الكتاب، وما دام في عين كونه عليا : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}[ الأعلى : 1]‏ فهو قريب : {وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ‏}[ الحديد : 4] ، {وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[ البقرة : 186]‏ ؛ فكذلك سيكون موضع تجلّيه، أي القرآن الكريم. فهو قريب في عين كونه بعيدا، وفي عين كونه عاليا فهو دان ... المتجلّي والتجلّي ليسا متساويان البتة، فالقرآن في قربه وظهوره ينظر ويسمع بالحواس، لكن الذات الإلهية المقدسة لا تدرك بالحواس رغم قربها».

ثمّ يضيف موضّحا : «القرآن الكريم حبل اللّه الممدود، له مراتب كثيرة.

فكذلك للناس مراتب متنوّعة في الإفادة من القرآن تبعا للمراتب المختلفة في طهارة القلب ... فمن يرتبط بالقرآن على مستوى مراتبه النازلة (المشار لها ب «هذا القرآن») فحظّه العلوم الحصولية والمدرسية التي تكون عرضة للنسيان والزوال. أمّا الكاملون الذين يرتبطون بالمراحل العالية من القرآن (المشار إليها ب «ذلك الكتاب»)، فهم يتعلّمون القرآن من «عند اللّه» و«لدى اللّه»، ومن ثمّ فإنّ حظّهم العلمي منه قد وسم ب «العلم اللدني» : {وإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ‏ عَلِيمٍ}[ النمل : 6]‏ ... لقد جعل اللّه سبحانه طهارة القلب شرط بلوغ مراحل القرآن العالية :

{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}[ الواقعة : 77- 79]‏. فإذا كان مرجع ضمير لا يَمَسُّهُ‏ الكتاب المكنون، فسيكون المراد بالمسّ، هو المسّ العقلي والقلبي، والمراد بالطهارة طهارة الباطن ... والرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السّلام، لهم حضورهم في جميع مراحل القرآن، وثمّ اتساق وانسجام بل توحّد بينهم وبين مراحل القرآن كافة» (39) كما في حديث الثقلين : «لن يفترقا»، وقول الإمام أمير المؤمنين : «و جعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا» (40).

ج- الإمام الخميني‏

ينطلق الإمام الخميني من المرتكزات ذاتها التي تؤطّر الرؤية الكونية للمدرسة. فالوجود برمّته ينبض بالحياة والحركة والحيوية، والعالم المادّي كلّه في تسبيح، ليس بمعنى التسبيح التكويني وعودته إلى علّة محدّدة بل التسبيح الشعوري العلمي العبادي الذي لا نفقهه‏ (41) : {وإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}[ الإسراء : 44] ، وكلّ موجود من الموجودات هو مظهر لاسم اللّه وآية اللّه، والجميع‏ تجليات لأسماء اللّه‏‏ (42).

وعوالم الوجود برمّته هي كتب وآيات وكلمات وصحف إلهية، فالعالم كتاب أو قرآن تدويني متلوّ آفاقيا، والإنسان قرآن متلوّ أنفسيا، والقرآن ما بين الدفتين تعبير لفظي عن الوجود والإنسان وصورة كتبية للوجود التكويني ينطوي على القراءتين معا الآفاقية والأنفسية، ويخضع لثنائية الظهر والبطن : «إنّ سلسلة الوجود من عنصرياتها وفلكياتها وأشباحها وأرواحها وغيبها وشهودها ونزولها وصعودها، كتب إلهية وصحف مكرّمة ربوبية وزبر نازلة من سماء الأحدية، وكلّ مرتبة من مراتبها ودرجة من درجاتها من السلسلتين الطولية والعرضية آيات مقروّة على آذان قلوب الموقنين»‏ (43).

في إطار هذه الرؤية كلّ ما في الوجود كتاب إلهي بمقدور الإنسان أن يقرأه، ويرقى عبر هذه القراءة وجوديا ويثرى معرفيا، حتّى الجماد والنبات : «فإنّ كلّ موجود حتّى الجماد والنبات كتاب إلهي يقرأ السالك إلى اللّه والمجاهد في سبيله منه، الأسماء والصفات الإلهية بمقدار الوعاء الوجودي له»‏ (44).

تملي هذه المنظومة توحّد الإنسان والقرآن والعالم في قوانين عامّة مشتركة تنبسط فيما بينها، فحيث يكون في العالم غيب وشهادة فكذلك في الإنسان، وحيث يكون في القرآن ظهر وبطن فكذلك الحال في الإنسان، وحيث يكون للقرآن منازل ودرجات فكذلك الإنسان وهكذا، لأنّها وحدات وجودية متوازية، وهي بأجمعها كلمات اللّه وكتبه ومظاهر لأسماء اللّه برغم اختلاف صورة هذه الكلمات وهيئة هذه‏ التجليات ونقصانها وكمالها، حيث يعدّ الإنسان (و ذروته الإنسان الكامل) أعظم هذه التجلّيات وأكبرها وأتمّها، إذ هو تجلّ الاسم الأعظم ومظهر وجودي له : «فإنّ الإنسان مظهر اسم اللّه الأعظم الجامع لجميع المراتب والأسماء والصفات»‏ (45).

والإنسان إلى ذلك كون جامع له بحسب المراتب النزولية والصعودية نشآت وظهورات وعوالم‏‏ (46) : «اعلم أنّ الإنسان هو الكون الجامع ... منطو فيه العوالم الغيبية والشهادية وما فيها ... فهو مع الملك ملك، ومع الملكوت ملكوت ومع الجبروت جبروت». هذا الإنسان كون جامع «لجميع الصور الكونية»‏ (47).

إنّ أوّل ما تعنيه هذه المنظومة بالإنسان هو ذروته القصوى وسنامه الأعلى المتمثّل بالإنسان الكامل : «إنّ الإنسان الكامل ... أكرم آيات اللّه وأكبر حججه»‏ (48) و«أكمل الأسماء هو الاسم الجامع لكلّ الكمالات، ومظهره الإنسان الكامل»‏ (49).

و هو «أتمّ الكلمات الإلهية»‏ (50) بل «هو الكتاب الإلهي الذي فيه كلّ الكتب الإلهية‏ (51). وهو الكتاب الكلّي الإلهي»‏ (52) إذ هو بالوجود التفريقي فرقان في إشارة إلى العالم وأنّه على صورته بل حاو على مراتبه وتنطبق عليه جميع قوانينه، وفي‏ الوجود الجمعي قرآن في إشارة إلى القرآن اللفظي الكتبي الموجود ما بين الدفتين‏‏ (53)، وإنّه حاو على مراتبه ومنازله تنطبق عليه جميع قوانينه بما في ذلك قانون الظهر والبطن، والسرّ والعلن، والقشر واللبّ، والغيب والشهادة، والملك والملكوت.

مثلما يكون الإنسان حاويا بوحدته لجميع مراتب الغيب والشهادة، وببساطة ذاته جامعا لكلّ الكتب الإلهية‏ (54)، فكذلك القرآن الذي : «يختزل جميع الخليقة»‏ (55) لأنّه هو الآخر مظهر اسم اللّه سبحانه وتجلّ له. هذا التوحّد بين الإنسان والقرآن، هو الذي دعا ابن عربي إلى أن ينظمه شعرا بالصيغة التالية التي نقلها عنه الإمام :

أنا القرآن والسبع المثاني‏           وروح الروح لا روح الأواني‏  (56)

تأسيسا على هذه المقدّمات فإنّ الظهر والبطن هما تعبير عن قانون عام يضرب بشعابه في الكينونة الوجودية برمّتها دون أن يستثني أحدا، والبطون حقائق وجودية تومئ إلى مراتب اخرى للإنسان والقرآن والعالم، تأتي ماوراء الظهور وما بعد القشر والصورة. فلكلّ شي‏ء غيب وشهادة «غيبه ما يغيب عنّا وما لا نستطيع إدراكه، وشهادته ما ندركه منه» (57). وثنائية «الغيب والشهادة سارية في كلّ‏ مكان» (58). والظاهر والباطن هما سنّة مطّردة في الجميع : «فقد يقال أحيانا (عالم الغيب)، (عالم ملائكة اللّهـ)، (عالم العقول) وما شابه هذه التعبيرات، فهذه أيضا سرّ ولها ظاهر، وظهور وبطون. وهذا هو الظاهر والباطن. ففي ذلك الشي‏ء [أي شي‏ء كان‏] الذي ظهر ثمّ بطون أيضا، وفي ذلك البطون ثمّ ظهور أيضا» (59). وأيضا فكل «موجود من الموجودات له وجهة إلى عالم الغيب والنور، ووجهة إلى عالم الظلمة والقصور» (60) ، وإنّ «لمراتب الموجودات من مطالع عوالم الأنوار المشرقة إلى غواسق صياصي الأقطار المظلمة، ظلا نورانيا ووجها حقانيا إلى عالم القدس والطهارة، وظلا ظلمانيا ووجها شيطانيا إلى معدن الخسّة والكدورة» (61).

على ضوء ما مرّ وللتطابق بين الكتابين التدويني والتكويني فسيكون لكلّ منهما ظهر وبطن : «اعلم أنّه كما أنّ للكتاب التدويني الإلهي بطونا سبعة باعتبار وسبعين بطنا بوجه ... كذلك الكتب التكوينية الإلهية الأنفسية والآفاقية حذوا بالحذو ونعلا بالنعل» (62).

و من ثمّ : «فإنّ للقرآن منازل ومراحل وظواهر وبواطن أدناها ما يكون في قشور الألفاظ وقبور التعيّنات، كما ورد أنّ للقرآن ظهرا وبطنا وحدّا ومطّلعا» (63).

أيضا : «للقرآن مراتب، له سبعة أبطن أو سبعون بطنا، وقد تنزّل من هذه البطون إلى‏ أن بلغ الموضع الذي يريد أن يتحدّث به إلينا» (64). وما دام الكتاب الإلهي ليس هذه الصورة الحروفية والقشرة اللفظية، لذلك لا معنى للعكوف على الظاهر والمكوث فيه وعدم تجاوزه : «ولا تتوهمنّ أنّ الكتاب السماوي والقرآن النازل الربّاني، لا يكون إلّا هذا القشر والصورة، فإنّ الوقوف على الصورة والعكوف على عالم الظاهر وعدم التجاوز إلى اللبّ والباطن اخترام وهلاك، وأصل اصول الجهالات واسّ أساس إنكار النبوات والولايات» (65).

وبذلك صار أعظم ما يفاض على الإنسان السالك نحو اللّه، وأسمى ما يعطاه هو : «انشراح صدره لأرواح المعاني وبطونها، وسرّ الحقائق ومكنونها، وانفتاح قلبه لتجريدها عن قشور التعيّنات ... والدخول في مدينة العلماء الراسخين، والسفر من طريق الحسّ إلى منازل الكتاب الإلهي، فإنّ للقرآن منازل ومراحل وظواهر وبواطن أدناها ما يكون في قشور الألفاظ ... وهذا المنزل رزق المسجونين في ظلمات عالم الطبيعة، ولا يمسّ سائر مراتبه إلّا المطهّرون عن أرجاس عالم الطبيعة وحدثه ... المتوسّلون بأذيال أهل بيت العصمة والطهارة ... المتمسّكون بالعروة الوثقى ... حتّى لا يكون تأويله أو تفسيره بالرأي ومن قبل نفسه» (66).

تأسّيا ببقية رموز المدرسة ينتهي الإمام إلى أنّ للقرآن قراءتين آفاقية هي التي تنطلق من النص وتتفاعل مع مظاهر الوجود، وأنفسية وهي التي تنطلق من‏ باطن الإنسان، ولا تتمّ إلّا بعد أن يخترق الإنسان حجب الغفلة ويكسر أواصر ارتباطه بعالم الطبيعة ويتجاوز ألفته بعالم المادة ليتعامل مع القرآن وجوديا، بحيث يتمّ التفاعل بين وجود ووجود : «انتبه يا أخ الحقيقة عن نوم الغفلة، وافتح عين قلبك وبصر فؤادك واقرأ كتاب نفسك كفى بها شهيدا. قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ‏}[ فصلت : 53] ... وما دام تكون في غشوة عالم الطبع وسكر خمر الهيولى، لا يمكنك شهود نفسك ونفسيتك، وقراءة كتاب ذاتك وزبور حقيقة وجودك، فاخرج عن هذه القرية الظالمة المظلمة والدار الموحشة المستوحشة والنشأة الكدرة الضيّقة، واقرأ وارق» (67). في هذه التلاوة الأنفسية الوجودية، يتمّ التعامل بين وجود وجود، بل يصير باطن الإنسان تعبيرا عن حقيقة القرآن ووجوده، هذه الحقيقة التي تكشف عن نفسها وتفتح أسرارها بحسب استعداد الإنسان وطهارته الباطنية.

هذا الالتحام الوجودي بين الإنسان والقرآن، الذي يتمّ بعد تخطّي ظاهر النص والعبور إلى باطنه الوجودي، يسهل فهمه إذا استعدنا المقدّمات السابقة. فنحن مع القرآن بإزاء حقيقة لها مراتب ومنازل، والتأثير الفعلي للحقيقة، وما اللفظ إلّا قشر لها، أو هو في الأقصى التنزّل الأخير لها، وإلّا : «فالقرآن ليس من مقولة السمع والبصر، ولا من مقولة الألفاظ، كما ليس أيضا من مقولة الأعراض، لكن أنزلوه من أجلنا نحن الصمّ العمي، أنزلوه إلى المرتبة التي يستطيع بها هؤلاء الصمّ العمي أن يستفيدوا منه أيضا» (68). أجل، لقد تنزّل اللّه بالقرآن إلى أن بلغ مرحلة «الألفاظ المتوافقة مع فهم البشر» (69).

المتحصّل من هذه الجولة حتّى الآن، أنّ البطون مراتب وجودية، ومن ثمّ فهي ليست من مقولة المفاهيم والأفكار النظرية. وما دامت البطون من مقولة الغيب داخلة في المستور الغائب عنّا، فلا مجال لإدراكها بالجدالات الكلامية ولا حتّى بالقياسات الفلسفية والبراهين العقلية :

ألا إنّ ثوبا خيط من نسج تسعة             وعشرين حرفا عن معاليه قاصر (70)

أجل، لا يتمّ : «فهم هذه الحقائق بالبراهين المشائية والقياسات الفلسفية والمجادلات الكلامية» (71) وإنّ «الإيمان بهذه الحقائق لا يمكن بالتسويلات الكلامية ولا البراهين الفلسفية» (72).

لكن إذا كان النشاط الذهني والفعالية العقلية قاصرين عن التعاطي مع بطون القرآن بواقعهما الوجودي الكامل، فإنّ ذلك لا يعني انسداد الطريق مطلقا، بقدر ما يملي على الإنسان الارتقاء من طور في المعرفة أداته العقل، إلى طور آخر أداته القلب، والوسيلة إليه التزكية وفكّ أواصر الارتباط المادّي، والتوسل بأذيال أهل العصمة صلوات اللّه وسلامه عليهم.

الرحلة تبدأ من الظاهر وبالمعرفة العقلية التي توفّر إدراكا ناقصا وتتحوّل إلى معدّ وحسب، أمّا إذا رام الإنسان استكمال الشوط فذلك لا يكون إلّا : «بقدم‏ الولاية، حيث يبلغ ذلك الوضع الذي يقع فيه تجلّي الحقّ في قلبه بجميع أبعاده» (73).

فاللّه سبحانه قد تجلّى لعباده في كلامه أي في القرآن، ولكن الإنسان لا يبصر (74).

إنّ القرآن لا يكشف عن أسراره إلّا بالطهارة، ولا يمسّ باطنه أحد إلّا :

«بشرط الطهارة اللازمة في مسّ الكتاب الإلهي» (75). وعلم الباطن «يحتاج إلى لطف قريحة وصقالة قلب وصفاء باطن بالرياضات والخلوات» (76)، ومن ثمّ فهو : «مختصّ بأصحاب القلوب من المشايخ المستفيدين من مشكاة النبوّة ومصباح الولاية بالرياضات والمجاهدات»، و«نحن وأمثالنا لا نعرف من العلم إلّا ظاهره، ولا من مرموزات الأنبياء والأولياء ورواياتهم إلّا سوادها وقشرها، لتعلّقنا بظلمة عالم الطبيعة» (77). من هنا وصية الإمام : «اخرق حجاب الطبع والطبيعة، فإنّك من عالم القدس والطهارة ودار النور والكرامة ... فإذا خرقت الحجب الظلمانية رأيت ظهور الحقّ في كلّ الأشياء، وإحاطته عليها، وأنّها آياته وبيّناته الدالّة بكمالاتها على كمال منشئها وبارئها» (78).

إنّها النتيجة ذاتها التي ائتلفت عليها المدرسة، كما تبيّنا ذلك بالتفصيل عند الرمزين السابقين ابن عربي والشيرازي. نتيجة بشقّين؛ الأوّل أنّ البطون أمر وجودي وليست من مقولة المفاهيم والأفكار النظرية، والثاني أنّها لا تنال‏ بالاجتهاد العقلي والفعاليات الذهنية، بل بتصفية الباطن والارتقاء بالطهارة الداخلية، والتمسّك بحبل الولاية. ولا يخفى أنّ الثانية مترتبة على الاولى‏ (79).

______________________
(1)- الفتوحات المكّية 4 : 85.

(2)- نفس المصدر 2 : 228 و345.

(3)- نفس المصدر : 83.

(4)- نفس المصدر : 124.

(5)- نفس المصدر : 229.

(6)- نفس المصدر 4 : 141.

(7)- نفس المصدر : 65.

(8)- نفس المصدر : 409.

(9)- نفس المصدر 3 : 108.

(10)- راجع : فلسفة التأويل : 260 ومواضع اخرى كثيرة.

(11)- الفتوحات المكّية 1 : 151.

(12)- نفس المصدر 4 : 411.

(13)- الفتوحات المكّية 1 : 279.

(14)- سيأتي إشباع الحديث في هذه المسألة عند الحديث عن العلاقة بين الظاهر والباطن في النقطة الثالثة من هذا الفصل.

(15)- الفتوحات المكّية 1 : 551.

(16)- تفسير القرآن الكريم 4 : 415.

(17)- نفس المصدر : 166.

(18)- نفس المصدر : 396.

(19)- نفس المصدر : 424.

(20)- تفسير القرآن الكريم 7 : 123.

(21)- نفس المصدر : 244.

(22)- نفس المصدر.

(23)- نفس المصدر 6 : 22.

(24)- نفس المصدر : 23.

(25)- نفس المصدر 7 : 108.

(26)- نفس المصدر : 109.

(27)- نفس المصدر : 110.

(28)- نفس المصدر 6 : 55.

(29)- نفس المصدر 7 : 107.

(30)- نفس المصدر : 107 فما بعد.

(31)- نفس المصدر 4 : 170.

(32)- نفس المصدر : 161.

(33)- نفس المصدر : 161- 162، وهو تلخيص لكلام الغزالي بعباراته. (راجع : إحياء علوم الدين 1 : 293)

(34)- مفاتيح الغيب : 41.

(35)- تفسير القرآن الكريم 1 : 30.

(36)- هذا المعنى وارد بحذافيره عند الغزالي (إحياء علوم الدين 1 : 280)، والشيرازي (مفاتيح الغيب : 58 ومواضع كثيرة اخرى) والإمام الخميني (شرح دعاء السحر : 93 ومواضع كثيرة اخرى)

(37)- بيان السعادة في مقامات العبادة 1 : 13، وهذا التفسير هو ممّا أشاد به الإمام الخميني وأثنى عليه في مفتتح دروسه التفسيرية لسورة الفاتحة عام 1979. (راجع : تفسير سورة حمد : 94)

(38)- نهج البلاغة، الخطبة 147.

(39)- تسنيم 2 : 148- 150.

(40)- الكافي 1 : 191/ 5.

(41)- شرح چهل حديث : 655، تفسير سورة حمد : 101- 102.

(42)- شرح دعاء السحر : 272، تفسير سورة حمد : 100 و103.

(43)- شرح دعاء السحر : 145، وعلى نحو أوضح : 88، 132- 133.

(44)- نفس المصدر : 146.

(45)- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية : 71.

(46)- شرح دعاء السحر : 233.

(47)- نفس المصدر : 7.

(48)- نفس المصدر : 146- 147.

(49)- نفس المصدر : 66.

(50)- نفس المصدر : 53.

(51)- نفس المصدر.

(52)- نفس المصدر : 55.

(53)- نفس المصدر.

(54)- يستشهد الإمام الخميني بهذا البيت الشعري المأثور عن الإمام أمير المؤمنين : أ تزعم أنّك جرم صغير           و فيك انطوى العالم الأكبر

راجع : شرح دعاء السحر : 147 ومواضع كثيرة اخرى.

(55)- صحيفه امام 14 : 386.

(56)- شرح دعاء السحر : 147.

(57)- تفسير سورة حمد : 166.

(58)- نفس المصدر : 167.

(59)- نفس المصدر.

(60)- شرح دعاء السحر : 48.

(61)- التعليقة على الفوائد الرضوية : 66.

(62)- شرح دعاء السحر : 59.

(63)- نفس المصدر : 38.

(64)- تفسير سورة حمد : 136.

(65)- شرح دعاء السحر : 59- 60، ولنا أن نلاحظ التطابق شبه الكامل في هذه الفقرات مع نصوص صدر الدين الشيرازي، بل بعضها نقل لعباراته نفسها، ممّا يزودنا بأفق أوفر لوحدة المدرسة ووحدة الانتماء.

(66)- شرح دعاء السحر : 37- 38.

(67)- شرح دعاء السحر : 147.

(68)- تفسير سورة حمد : 139- 140.

(69)- صحيفه امام 17 : 525.

(70)- يستشهد به الإمام في الصفحة 118 من «شرح دعاء السحر».

(71)- شرح دعاء السحر : 118.

(72)- نفس المصدر : 143.

(73)- تفسير سورة حمد : 166.

(74)- شرح دعاء السحر : 57، والكلام مضمون حديث عن الإمام علي عليه السّلام.

(75)- نفس المصدر : 56.

(76)- نفس المصدر : 143.

(78)- نفس المصدر : 118- 119.

(79)- نفس المصدر : 148.

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .