أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-05-09
730
التاريخ: 24-8-2022
1049
التاريخ: 2023-10-25
4245
التاريخ: 9-11-2014
2436
|
قال الزمخشري في أساس البلاغة : « . . . ومن المجاز : ساق الله إليه خيراً ، وساق إليها المهر ، وساقت الريح السحاب ، وفلان في ساقة العسكر ، في آخره ، وهو جمع سائق كقادة في قائد ، ويقال : تساوقت الإبل : تتابعت ، وهو يسوق الكلام أحسن سياق . . . وقامت الحرب على ساقها ، وكشف الأمر عن ساقه . . .» (1) .
وجاء في لسان العرب في شرح مادة (سوق) «ساق الإبل وغيرها يسوقها سوقاً وسوّق وسياقاً . . . وقال الله تعالى : ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ (2) ، والسياق : نزع الروح . . .» (3) . وقال في المعجم الوسيط : «ساق الله خيراً ونحوه : بعثه وأرسله . . .» (4) .
أما في الإصطلاح ، فمعنى السياق ، هو بناء كامل من فقراتٍ مترابطةٍ في علاقته بأي جزء من أجزائه ، أو تلك الأجزاء التي تسبق أو تتلو مباشرة فقرة ، أو كلمة معينة ، وهو ما يسمى بالقرينة الحالية ، إذ إنه قد يعبر عن القرينة الحالية بالسياق (5) ، نحو قول المتنبي :
فيوماً بخيلٍ تطردُ الروم عنهُمُ ويوماً بجودٍ تطرد الفقر والجَدْبا (6)
فتطرد الثانية مجاز لغوي ، والقرينة حالية ، لأن الفقر لا يطرد .
وطالما أن البحث هنا في السياق في تفسير الطباطبائي ، فيكون المحدد هو الإستفادة من سياق الآيات القرآنية ، بحيث يظهر ذلك الارتباط الحاصل بين الألفاظ ، أو العبارات ، أو الجمل الناتج بسبب الإقتران الواقع بينهما . . . والسياق له عدة أقسام : فربما يكون السياق ، سياق كلمات ، أو سياق جمل ، أو سياق آيات ، وهذا ما سنحاول التعرف إليه في تفسير الطباطبائي نظراً لتميزه في إظهار الحقائق والمعارف القرآنية من خلاله ، فنقول : لقد أثر السياق في تفسير الميزان إلى حدّ أنه اعتمد في مناقشته لكثير من الأقوال على سياق الآيات ، وقد لازمته الفكرة السياقية في تفسيره ، فكانت سمة مميزة له ، وهذا يتضح من طريقة تعامل الطباطبائي مع النصوص والروايات التي حفل بها في تفسيره ، حيث تراه يحدّد معاني الآيات ، وأين نزلت في مكة ، أو في المدينة من خلال السياق ، ويمكن ملاحظة ذلك في بحوثه الروائية . فالطباطبائي ، كمفسر ، لم يبتعد عن ظروف الآية الزمنية وعلاقتها بما بعدها من الآيات ، وهذا ما سيتضح لنا من خلال بعض النماذج ، سواء في الآيات ، أم في الروايات .
أ - السياق في الآيات
قال الله تعالى : ﴿ قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [يونس : 16] ، قوله : أدراكم به أي أعلمكم به ، والعمر بضمتين أو بالفتح فالسكون ، هو البقاء . وإذا استعمل في القسم كقولهم لعمري ولعمرك تعين الفتح ، وهذه الآية ، كما يرى الطباطبائي ، تتضمن رد الشق الأول من سؤالهم ، وهو قولهم : «اِئت بقرآن غير هذا» ، ومعناها على ما يساعد عليه السياق ، أن الأمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيّتي ، فإنما أنا رسول الله ، ولو شاء أن ينزل قرآناً غير هذا ولم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم ، ولا أدراكم به ، فإني مكثت فيكم عمراً من قبل نزول القرآن وعشت بينكم وخالطتكم وخالطتموني ، فوجدتموني لا خبر عندي من وحي القرآن ، ولو كان ذلك إلي وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك . . . فليس إلي من الأمر شيء ، وإنما الأمر في ذلك إلى مشيئة الله ، وقد تعلقت مشيّته بهذا القرآن لا غيره أفلا تعقلون ؟
وفي تفسير قوله تعالى : ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم : 39] فظاهر السياق أن قوله ﴿ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ﴾ بيان لقوله : ﴿ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ﴾ ، ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر ، والقضاء إنما يوجب الحسرة إذا كانت بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه وأمنية نفسه ، الذي كان يقدر حصوله لنفسه ، ولا يرى طيباً للعيش من دونه لتعلق قلبه به ، ومعلوم أن الإنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه ، وإن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه ، إلاّ أن تصرفه عنه الغفلة ، فيفرّط في جنبه ، ولذلك عقب الكلام بقوله : ﴿ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ ، يقول الطباطبائي : «وفيما قدمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التي أوردوها في تفسير الآية والله الهادي . . .» (7) .
كما استعان الطباطبائي بالسياق لتعين معاني بعض الألفاظ الواردة في قوله تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [يونس : 37] . فهذا نفي لشأنية الإفتراء عن القرآن كما قيل وهو أبلغ من نفي فعليته ، والمعنى ليس من شأن هذا القرآن ولا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله تعالى ، فهناك فرق بين أن تقول : ما كان زيد ليقوم ، وأن تقول : لم يقم أو ما قام زيد ، إذ الأول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد ولا استعد له استعداداً ، والثاني ينفي القيام عنه فحسب ، وفي القرآن مثله كثير ، كقوله تعالى : ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ [يونس : 74] وقوله : ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ﴾ [الشورى : 53] ، وقوله تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾ [العنكبوت : 40] ، فالسياق يرشد إلى الشأنية وليس إلى الفعلية وهذا قلما التفت إليه أحد من المفسرين ، ما يجعل للطباطبائي الفرادة في استفادة المعنى الحقيقي للآية من خلال السياق ، سواء من خلال الارتباط الحاصل بين الألفاظ ، أو العبارات ، أو الجمل . . . ومن جملة ما استفاده الطباطبائي بالسياق أيضاً ما ذهب إليه في قوله تعالى : ﴿ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء : 17] . وللمفسرين رأيان في هذه الآية :
الرأي الأول ، قال : إن معنى اللهو في هذه الآية ، هو المرأة والولد وهي إشارة إلى نفي عقائد المسيحيين ، الذين يعتقدون أن لله تعالى زوجة وولداً . أما الرأي الثاني ، فذهب إلى أن معنى اللهو هو التسلي ، أو الأهداف غير المعقولة ، وعلى هذا يكون معنى الآية أن هدف الخالق ليس التسلي ، وقد تمسك أصحاب الرأي الثاني بالسياق لرد الرأي الأول ، لأن ارتباط الآيات أعلاه سينقطع بالآيات السابقة ، فضلاً عن أن كلمة (اللهو) إذا جاءت بعد كلمة (اللعب) فتعني التسلي وليس المرأة والولد (8) ، وقد استفاد الطباطبائي من هذه الطريقة في تفسير القرآن بالقرآن ، واستدل بمفهوم السياق في كثير من الموارد في تفسير الميزان (9) .
ومما يمكن أن نعرض له ونناقش في سياقه ، هو ما لم يستو لنا وجه تفسيره عند الطباطبائي في قوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [سورة فاطر : 28] ، حيث نرى أن الآية تتحدث في سياق واحد عن العلماء الذين حصرهم الطباطبائي بالعلماء بالله تعالى ، وهم الذين يعرفون الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله معرفة تامة . . . والمراد بالخشية حينئذ حق الخشية ، ويتبعها خشوع في باطنهم ، يقول الطباطبائي : «هذا ما يستدعيه السياق في معنى الآية» (10) . وهكذا ، فإن المفسّر يصر على أن السياق لا يفيد أكثر من هذا المعنى ، الذي يحصر العلماء بمن خشي الله في صيامه وقيامه ومعرفة صفاته وأسمائه ، رغم أن الآية ، كما سبق من القول في مبحث مناهج المفسرين ومنهج الطباطبائي ، تتحدث عن العلماء بشكل مطلق ، الذين يعرفون حقيقة الخلق ، ويكتشفون أسراره ، سواء في مجال التشريع ، أم في مجال التكوين ، فلماذا حصر الطباطبائي معنى الآية بمن يعرف الله بأسمائه وصفاته ، ويحسم الرأي في كون السياق يستدعي ذلك ، في حين أن جل العلماء يذهبون إلى القول بأن العلماء هم مطلق العلماء وليس من يعرف حق الصيام والقيام فقط ، وقد قلنا في ما سبق أنه يمكن إعادة النظر فيما ذهب إليه الطباطبائي على اعتبار أن صدر الآية يؤلف مع عجزها نسقاً جدلياً . . . ولا نرى أن سياق الآية المباركة يحصر العلماء بعلماء الشريعة ، لأن كل عالم حقيقة يخشى الله تعالى ، سواء أكان عمله في دائرة التكوين ، أم في دائرة التشريع ، فالكل يقوم باكتشاف أسرار الله في خلقه ، فعالم النبات في النبات ، وعالم الفيزياء في الطبيعة ، وعالم التشريع في القرآن ، ولعل السيد الطباطبائي لم يرد أن يخرج من دائرة السياق باستلهام معانٍ من خارج الدلالة القرآنية الظاهرة . كما يمكن القول أيضاً ، أن هناك الكثير من السياقات التي يمكن إعادة النظر فيها ، لأن الإنسان يتفاعل مع نص مطلق وهادف إلى تبيان الحقيقة ، ويمكن للإنسان أن يحيط بأسرار هذا الكتاب الكريم ، وإلا فما يكون معنى وفائدة ، أنه كتاب لكل ناس في كل زمان ، وأنه في كل زمان جديد كما روي عن الرضا (عليه السلام) ، حيث يمكن أن يكون مفاد السياق مطلق العلماء ، وليس مجرد علماء القيام والصيام وسائر التكاليف والمعارف الدينية . ولا شك في أن الطباطبائي كان متواضعاً في تفسيره ، فلم يخلط بين ما يراه دلالة سياقية ، يراها مناسبة ، وبين ما قد يصحّ أو لا يصحّ تفسير القرآن به من روايات أو آيات ، فاكتفى بدلالة السياق على النحو الذي يُظهّر رأيه وفاقاً لدلالات من آيات وروايات أخرى ، وهو يشير إلى هذا منعاً لأي التباس ، بحيث يُظنّ أن الطباطبائي يريد أن يفرض رأيه على كتاب الله تعالى ، مما قد يؤدي سهواً إلى الانضواء تحت عنوان (مدرسة الرأي) (11) . . . فالطباطبائي عالم في المعقول والمنقول ويخشى الله تعالى حق خشيته ، وقد بلغ من التقوى درجة قلما بلغها إنسان عايشه وتفاعل معه علماً وعملاً . ولهذا ، نجده دائماً يحرص على أن لا يخلط بين تفسير الآيات وما يراه بشأنها من بحوث اجتماعية ، وفلسفية ، وروائية .
كما نلاحظ أيضاً أن الطباطبائي (قده) لم يرد أن يجهد طالب الحقائق القرآنية بعروض السياقات التي تفنن فيها علماء اللغة والبلاغة والصرف ، وغير ذلك مما اصطلح عليه العلماء قديماً وحديثاً بأنماط السياق المختلفة كما اعتاد بعض المفسرين ، كالسياق النحوي واللغوي والصوتي والعرفي والمعجمي والقصصي ، أو ما اصطلح عليه بالسياق الخارجي من سياق في المقام والحال ، أو السياق الاجتماعي والتاريخي ، وسياق الموقف إلى غير ذلك مما يمكن أن يطلب من مظانه . فلم يرد الطباطبائي أن يُغرق تفسيره في هذه السياقات المتعددة والمختلفة فيما بينها ليجعل من تفسيره كتاباً وموسوعة في التفسير ، كما فعل أسلافه من المفسرين ، وإنما أراد أن يُفسر القرآن بالقرآن على النحو الذي يستطيع معه أن يبين المعاني والحقائق والمعارف القرآنية ، التي يجب أن يهتدي إليها الإنسان في طريقه إلى الله تعالى ، وكل ما احتاجته هذه الطريقة ، وهذا الهدف المقدس استعان به الطباطبائي ليكون تفسيره منسجماً مع هدفه (12) ، ولهذا ، هو اعتمد السياق واستفاد منه بما يسمح له بيان المراد من الآيات القرآنية ، سواء في مجال اللغة أو في مجال الاجتماع ، أو في مجال القصص ، فكل علم المفسّر انصب على استكشاف الكنوز والمعارف القرآنية ، وقد وفق أيما توفيق في ذلك نظراً للبراعة والمعرفة التي تميز بها في الاستفادة من السياق ، سواء في مجال الكلمات أو العبارات ، أو الجمل ، وهذا لا يعني ، كما سلف القول ، أن الطباطبائي لم يترك شيئاً إلا قدّمه في تفسيره ، فهذا مما لا يقدر عليه إلاّ مَن اصطفاه الله تعالى لتلقي كتابه ، ويسّره بلسانه ليبشر به المتقين وينذر به قوماً لُدّاً .
ب - السياق في الروايات
لقد استعان الطباطبائي أيضاً بالسياق في قبول الروايات ورفضها ، وقد ظهر هذا الأسلوب عنده في روايات أسباب النزول ، فهو اعتمد في قبول أكثر الروايات على ما يلائم السياق كما ظهر في تعليقه على ما جاء في تفسير البرهان عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية : ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ﴾ [الحجر : 47] ، يقول الطباطبائي : « إن وقوع الجملة في سياق هذه الآيات وهي مكية يأبى نزولها يوم بدر ، أو في أهل بدر (13) ، وكما نلاحظ أن الجملة جاءت في قوله تعالى : ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ ، وهي أيضاً في سياق آيات أهل الجنة ، وهي مكية ، ولا يساعد السياق على أن تكون نازلة بأحد (14) . . .
ومن نماذج استعانة المفسر بالسياق لقبول أو رد الروايات ، هو إضرابه عن بعض ما روي في أسباب النزول في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [الاحزاب : 1] .
يقول الطباطبائي : «إنه في سياق النهي ، وقد جمع فيه بين الكافرين والمنافقين ، كشف عن أن الكافرين كانوا يسألونه أمراً لا يرتضيه الله تعالى وكان المنافقون يؤيدونهم في مسألتهم ويلحّون . . . وبهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن عدداً من صناديد قريش بعد وقعة أحد دخلوا المدينة بأمان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتركهم وآلهتهم فيتركوه وإلهه فنزلت الآيات ولم يجبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذلك وفي البحث الروائي ، يرى الطباطبائي ، أن الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الأعور السلمي قدموا المدينة بأمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد فنزلت الآية ﴿ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾ ، من أهل مكة أبا سفيان وأبا الأعور ، وعكرمة ، والمنافقين ابن أبي وابن سعيد وطعمة ، يقول الطباطبائي : وروي إجمال القصة في الدر المنثور عن جرير عن ابن عباس ، وروي أسباب أُخر لنزول الآيات ، لكنها أجنبية غير ملائمة لسياق الآيات فأضربنا عنها» (15) .
كما استخدم الطباطبائي سياق الآيات أيضاً في الترجيح بين الآراء ، فمثلاً تراه يقدم ما ورد في روح المعاني في خصوص طلب موسى (عليه السلام) الرسالة لأخيه هارون في قوله : ﴿ فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ﴾ (16) أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معيناً لي على تبليغ الرسالة ، حيث يقال لمن نزلت به نائبة ، أو أشكل عليه أمراً أرسل إلى فلان ، أي استمد منه واتخذه عوناً . فالجملة أعني قوله فأرسل إلى هارون ، متفرعة على قوله تعالى : ﴿ إِنِّي أَخَافُ ﴾ وذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدر وعدم الإنطلاق في اللسان توطئة وتقدمة لذكرها ، وسؤال موهبة الرسالة لهارون ، فهو رأي موسى (عليه السلام) ، اعتل بما اعتل به وسأل الرسالة لأخيه ليكون شريكاً له في أمره ، معيناً له في التبليغ ، لا فراراً من تحمل أعباء الرسالة واستعفاءً منها ، قال في روح المعاني : ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع «فأرسل» بين الأوائل وبين الرابعة ، أعني قوله تعالى : ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ ﴾ فأذن بتعلقه بها ولو كان تعللاً لأخر ، وهو حسن وأوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة : ﴿ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ﴾ [القصص : 34] .
هذه نماذج مختصرة وواضحة لما قدمه الطباطبائي في باب معنى السياق ودلالاته ، سواء في الآيات ، أم في الروايات ، أم في القراءات ، وهذا ما سنقدم نموذجاً عنه فيما يأتي ، لكن قبل ذلك لا بد من التركيز على مبدأ وحقيقة أن الطباطبائي جعل من السياق أساساً ومرتكزاً للتمييز بين المكي والمدني ، إذ هو يرى أن العلم بمكية السورة ومدنيتها ، ثم ترتيب نزولها له أثر هام في البحوث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والمدني والسياسي في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتحليل سيرته الشريفة . والروايات ـ كما نرى ـ لا تصلح أن تنهض حجة معتمداً عليها في إثبات شيء من ذلك على أن فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار .
إن الطريق المتعين لهذا الغرض ، برأي المفسّر ، هو التدبر في سياق الآيات ، والاستمرار بما يتحصل من القرائن والإمارات الداخلية والخارجية (17) .
وإذا كان الطباطبائي قد قدم نماذج فيما يتعلق بسياق الآيات والروايات ، فإنه كذلك يقدّم انموذجاً في ما يتصل بالقراءات ، فهو يفضّل بعضها على بعض على أساس السياق ، ففي تفسير قوله تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة : 214] .
فالمفسر في قراءته لهذه الآية يذكر أن قوله تعالى : ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾ قرىء بنصب يقول ، والجملة على هذا في محل الغاية لما سبقها ، وقرىء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية ، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين ، لكن الثاني أنسب للسياق ، فإن كون الجملة غاية يعلل بها قوله : ﴿ وَزُلْزِلُواْ ﴾ ، لا يناسب السياق كل المناسبة (18) .
لقد اهتم الطباطبائي بالسياق وجعل منه أساساً ومرتكزاً للفهم ، لكون المنهج الذي اعتمده في تفسير القرآن بالقرآن يحتم هذا الاهتمام بالسياق لأجل أن يتمكن من فهم المراد من الآيات أولاً ، ولتمحيص الروايات ثانياً ، ولمعرفة القراءات ثالثاً ، وقد قدم نماذج عن كيفية استعانته بالسياق لهذه الغاية . ولعل الدافع إلى ذلك ، هو أن الطباطبائي يرى في القرآن تبياناً لكل شيء ، ولا بد أن يكون الأصل هو المعنى المستفاد من الآية ، ومن ثم الاستفادة بالآية في إثبات حجة ما ثبت في الرواية ، والإستعانة بالرواية لتأكيد ما ثبت في الآية ، وهذا كله يحتاج إلى وعي كامل بالسياق ، سواء في الآية ، أم في الرواية ، وذلك لما يشكله السياق من قوة خفية تقف وراء المعنى ، بل هو مصنع الدلالات ، مَثلُه مثل الجاذبية في الطبيعة مع أنها غير منظورة ، إلاّ انها تقف وراء معظم الظواهر الفيزيائية فيها . . .!
_______________________________
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|