أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-9-2020
4359
التاريخ: 4-9-2020
14153
التاريخ: 19-9-2020
3635
التاريخ: 19-9-2020
68101
|
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوشَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُو الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَو شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُو الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُو الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } [الفرقان : 45 - 54] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ثم نبه سبحانه على النظر فيما يدل على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أ لم تر} الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد به سائر المكلفين {إلى ربك كيف مد الظل} أي أ لم تر إلى فعل ربك ثم حذف المضاف عن مقاتل وقيل معناه أ لم تعلم فيكون من رؤية القلب عن الزجاج وذكر أن هذا على القلب وتقديره أ لم تر إلى الظل كيف مده ربك يعني الظل من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس عن ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير وجعله ممدودا لأنه لا شمس معه كما قيل في ظل الجنة ممدودا إذا لم تكن معه الشمس وقال أبو عبيدة الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفيء من وقت غروب الشمس إلى وقت طلوعها فيكون الظل بالليل لأنه ظل الأرض عن الجبائي والبلخي {ولوشاء لجعله ساكنا} أي مقيما دائما لا يزول ولا تنسخه الشمس يقال فلان يسكن بلد كذا إذا أقام به فهو مثل قوله سبحانه قل أ رأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة الآية في المعنى وفي هذا إشارة إلى أنه قادر على تسكين الشمس حتى يبقى الظل ممدودا بخلاف ما يقوله الفلاسفة .
{ثم جعلنا الشمس عليه} أي على الظل {دليلا} قال ابن عباس تدل الشمس على الظل بمعنى أنه لولا الشمس لما عرف الظل ولولا النور لما عرفت الظلمة وكل الأشياء تعرف بأضدادها وقيل معناه ثم جعلنا الشمس عليه دليلا بإذهابها إياه عند مجيئها عن ابن زيد وقيل لأن الظل يتبع الشمس في طوله وقصره كما يتبع السائر الدليل فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل وإذا انحطت الشمس طال الظل وقيل إن على هنا بمعنى مع فالمعنى ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلا على وحدانيتنا .
{ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا} أي قبضنا الظل بارتفاع الشمس لأن الشمس كلما تعلو ينقص الظل فجعل سبحانه ذلك قبضا وأخبر أن ذلك يسير بمعنى أنه سهل عليه لا يعجزه قال الكلبي إذا طلعت الشمس قبض الله الظل قبضا خفيا والمعنى ثم جمعنا أجزاء الظل المنبسط بتسليط الشمس عليه حتى ننسخها شيئا فشيئا وقيل معناه ثم قبضنا الظل بغروب الشمس إلينا أي إلى الموضع الذي حكمنا بكون الظل فيه . قبضا يسيرا أي خفيا وإنما قيل ذلك لأن الظل لا يذهب بغروب الشمس دفعة بل يذهب جزءا فجزأ بحدوث الظلام فكلما حدث جزء من الظلام نقص جزء من الظل .
{وهو الذي جعل لكم الليل لباسا} أي غطاء ساترا للأشياء بالظلام كاللباس الذي يشتمل على لابسه فالله سبحانه ألبسنا الليل وغشانا به لنسكن ونستريح من كد الأعمال كما قال في موضع آخر لتسكنوا فيه {والنوم سباتا} أي راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم قال الزجاج السبات أن ينقطع عن الحركة والروح في بدنه {وجعل النهار نشورا} لانتشار الروح باليقظة فيه مأخوذ من نشور البعث وقيل لأن الناس ينتشرون فيه لطلب حوائجهم ومعايشهم فيكون النشور هنا بمعنى التفرق لابتغاء الرزق عن ابن عباس .
{وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} مضى الكلام فيه في سورة الأعراف {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} أي طاهرا في نفسه ومطهرا لغيره مزيلا للأحداث والنجاسات {لنحيي به بلدة ميتا} قد مات بالجدب وأراد بالبلدة البلد أو المكان فلذلك قال ميتا بالتذكير والمعنى لنحيي بالمطر بلدة ليس فيها نبت قال ابن عباس لنخرج به النبات والثمار {ونسقيه مما خلقنا أنعاما} أي ولنسقي من ذلك الماء أنعاما جمة أو نجعله سقيا لأنعام {وأناسي كثيرا} أي أناسا كثيرة .
{ولقد صرفناه} أي صرفنا المطر بينهم يدور في جهات الأرض وقيل قسمناه بينهم يعني المطر فلا يدوم على مكان فيهلك ولا ينقطع عن مكان فيهلك ويزيد لقوم وينقص لآخرين على حسب المصلحة {ليذكروا} أي ليتفكروا ويستدلوا به على سعة مقدورنا ولأنه لا يستحق العبادة غيرنا {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} أي جحودا لما عددناه من النعم وإنكارا فيقولون مطرنا بنوء كذا وكذا عن عكرمة وقيل فأبوا إلا كفورا بالبعث والنشور .
{ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا} ينذرهم ولكن بعثناك يا محمد إلى القرى كلها رسولا لعظيم منزلتك لدينا والنذير هو الداعي إلى ما يؤمن معه الخوف من العقاب وقيل إنه إخبار عن قدرته سبحانه والمعنى لو شئنا لقسمنا بينهم النذر كما قسمنا الأمطار بينهم ولكنا نفعل ما هو الأصلح لهم والأعود عليهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة {فلا تطع الكافرين} فيما يدعونك إليه من المداهنة والإجابة إلى ما يريدون {وجاهدهم} في الله {به} أي بالقرآن عن ابن عباس {جهادا كبيرا} أي تاما شديدا وفي هذا دلالة على أن من أجل الجهاد وأعظمه منزلة عند الله سبحانه جهاد المتكلمين في حل شبه المبطلين وأعداء الدين ويمكن أن يتأول عليه قوله ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) .
{وهو الذي مرج البحرين} أي أرسلهما في مجاريهما وخلاهما كما يرسل الخيل في المرج وهما يلتقيان فلا يختلط الملح بالعذب ولا العذب بالملح وهو قوله {هذا} يعني أحد البحرين {عذب فرات} أي طيب شديد الطيب {وهذا ملح أجاج} شديد الملوحة وقيل الفرات البارد والأجاج الحار وقيل الأجاج المر عن قتادة {وجعل بينهما برزخا} أي حجابا وحاجزا من قدرة الله تعالى يمنعها من الاختلاط {وحجرا محجورا} أي حراما محرما أن يفسد الملح العذب {وهو الذي خلق من الماء بشرا} أي خلق من النطفة إنسانا وقيل أراد به آدم (عليه السلام) فإنه خلق من التراب الذي خلق من الماء وقيل أراد به أولاد آدم فإنهم المخلوقون من الماء {فجعله نسبا وصهرا} أي فجعله ذا نسب وصهر والصهر حرمة الختونة وقيل النسب الذي لا يحل نكاحه والصهر النسب الذي يحل نكاحه كبنات العم والخال عن الفراء وقيل النسب سبعة أصناف والصهر خمسة ذكرهم الله في قوله {حرمت عليكم أمهاتكم} عن قتادة والضحاك وقد تقدم بيانه في سورة النساء وقيل النسب البنون والصهر البنات اللاتي يستفيد الإنسان بهن الأصهار فكأنه قال فجعل منه البنين والبنات وقال ابن سيرين نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وعلي بن أبي طالب زوج فاطمة (عليها السلام) عليا (عليه السلام) فهو ابن عمه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا {وكان ربك قديرا} أي قادرا على ما أراد .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج7 ، ص229-304 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
ذكر سبحانه في هذه الآيات طرفا من النعم التي أسبغها على عباده ، ودلت على وجوده وعظمته ، نبهنا إليها جل وعلا لنؤمن به ونعبده مخلصين له الدين ، وفيما يلي التفصيل :
1 - {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وهو الفيء وجمعه ظلال ، قال تعالى : {يَتَفَيَّؤُوا ظِلالُهُ} [النحل - 48] . وقيل الظل أعم من الفيء حيث يقال :
ظل الجنة ، ولا يقال : فيؤها ، ومهما يكن فإن القصد التذكير بنعمة الظل الذي يجد الإنسان فيه الراحة والمتعة ، وبأن اللَّه هو الذي يبسطه ويقبضه {ولَوشاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً} أي جعل الأرض ساكنة ، وبسكونها يسكن الظل ويثبت على حال واحدة ، لأن الظل لا استقلال له في ذاته واسمه يدل عليه ، وانما هو تبع لصاحبه إن تحرك تحرك ، وان سكن سكن .
{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} لولا وجود الشمس لم يكن للأرض ظل ، فوجودها يدل على وجوده ، تماما كما يدل وجود العلة على وجود المعلول {ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً} بسط سبحانه الظل رويدا رويدا ، وأزاله أيضا رويدا رويدا بحسب حركة الأرض .
ونسب إليه تعالى الظل ومده وقبضه مع أن ذلك يستند إلى الأرض مباشرة كما ذكرنا لأنه جل وعز هو المؤثر الأول في الوجود ، وان الفيض كله من عنده ، وليست الظواهر الكونية إلا وسائط .
2 - {وهُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً} . وصف سبحانه هنا الليل باللباس ، وفي الآية 96 من سورة الأنعام وصفه بالسكن : {وجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} والمعنيان متقاربان لأن اللباس يحجب الأبصار ، ولا صوت للسكون يصل إلى الأسماع .
3 - {والنَّوْمَ سُباتاً} سكونا وانقطاعا عن العمل ، يقال : سبت القوم إذا استراحوا وانقطعوا عن العمل .
4 - {وجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً} حركة وعملا ، وأوضح تفسير لهذه الآية قوله تعالى : {ومِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص - 73 ] أي لتسكنوا في الليل ، وتعملوا في النهار طلبا للعيش .
5 - {وهُو الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً} . المراد برحمته هنا المطر ، والمعنى ان الرياح تبشر بنزول الماء من السماء وهو طاهر في نفسه مطهر لغيره على حد تعبير الفقهاء {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ونُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وأَناسِيَّ كَثِيراً} . قال سبحانه هنا بلدة ، وفي الآية 56 من سورة الأعراف قال : {سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} . ويدل هذا على أن البلدة والبلد بمعنى واحد ، ولذا قال : بلدة ميتا ولم يقل ميتة . أنظر تفسير الآية 56 من سورة الأعراف ج 3 ص 342 ، وأيضا تفسير الآية 30 من سورة الأنبياء {ولَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} . ضمير صرفناه يجوز أن يعود إلى القرآن ، وعليه تكون الآية بمعنى قوله تعالى : {ولَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً} [الاسراء - 41] . ويجوز أن يعود ضمير صرفناه إلى المطر ، ويكون المعنى ان اللَّه سبحانه أرسل المطر من مكان إلى مكان لأنه لو دام واستمر في مكان واحد لهلك أهله غرقا ، ولوانقطع عنهم كلية لماتوا عطشا ، وعلى كل عاقل أن يتدبر هذه الحكمة والنعمة ويشكر اللَّه عليها ، ولكن أبى أكثر الناس إلا الجحود باللَّه ، والكفران بأنعمه .
{ولَو شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} . قبل ان يبعث اللَّه محمدا {ص} جعل لكل أمة رسولا : {ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس - 47] ، ومنذ عهد محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى آخر يوم أقفل سبحانه باب إرسال الرسل إلى الخلائق ، واكتفى برسول واحد لجميع الأمم في جميع الأجيال ، وهو محمد بن عبد اللَّه صلى اللَّه عليه وآله ، فدينه هو الدين الأخير للإنسانية كلها ، ومن أجل هذا أخذ اللَّه عهدا على كل نبي أن يبشر به وبصفاته : {وإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران - 81] ج 2 ص 98 . وليس فوق هذه المنزلة إلا اللَّه وحده ، وقد ذكر اللَّه صاحبها بهذه النعمة العظمى حيث قال له : {ولَو شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ولكنا لم نفعل ، وأوكلنا إنذار الأمم كلها إليك وحدك تعظيما لشأنك لأن العظمة على مقدار التكليف وثقله .
القرآن والإذاعة :
{فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً} . الخطاب في لا تطع لرسول اللَّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، ويجوز النهي عن الشيء حتى مع العلم بأن المكلف لا يفعله إطلاقا ، وبالخصوص إذا كان الناهي هو اللَّه تعالى ، وضمير به يعود إلى القرآن ، والمعنى لا تستجب يا محمد لشيء مما يدعوك إليه الكافرون ، ولا تدع فرصة إلا وبلَّغت القرآن ، وتلوته على مسامعهم ، أحبوا ذلك أم كرهوا ، وإذا لاقيت منهم الأذى في هذه السبيل فاصبر ، ولا يصدنك أذاهم عن إعلانه وإذاعته ، فإن إذاعة آيات اللَّه هي الجهاد الأكبر في سبيل الحق والإنسانية .
وليس الغرض من هذا التأكيد والترغيب هو تحدي العتاة والطغاة ببلاغة القرآن وكفى ، وانما الغرض توعية المستضعفين والجاهلين ، وإرشادهم إلى حريتهم التي اعتدى عليها الأقوياء ، وان العدالة والمساواة حق إلهي وطبيعي لكل فرد ، وانه لا قوي ولا غني ولا شريف إلا بالتقوى والعمل الصالح ، وان القرآن هو الذي يضمن هذا الحق ، ولا يؤدي تأديته في ذلك دين ولا شريعة إلا إذا قامت على ما قام عليه من العدل والمساواة ، وبهذا نعرف السر في قوله تعالى : {وإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف - 203] .
لقد أمر اللَّه نبيه الكريم أن يجاهد الجهاد الأكبر بقراءة القرآن وإذاعته لأن بها يرتفع صوت الحق والعدل ، وينشر العلم والوعي بين الناس ، ويحس كل إنسان بكرامته ، فيحرص عليها ، ويدافع عنها ، وبهذا يتبين ان تلاوة القرآن من الإذاعات العالمية هي لخير الإنسانية كلها ، لا للمسلمين وحدهم ، وان الدافع على هذه الإذاعات ليس البلاغة البيانية - كما يظن - وانما الدافع الأول دعوة القرآن التي ترسي قواعد العدل والمساواة بين الناس أجمعين .
{وهُو الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وحِجْراً مَحْجُوراً} . ليس المراد بالبحرين في الآية بحران معينان ، وانما المراد بهما نوعان من الماء : أحدهما عذب ، وثانيهما مالح ، فإن كلمة بحر تطلق في اللغة على الماء الكثير عذبا كان أم مالحا ، والمعنى ان اللَّه سبحانه جعل الماء المالح في أرض منخفضة يركد فيها الماء ، وجعل مجاري الماء العذب كالأنهار والجداول في أرض مرتفعة عن سطح البحر ، بحيث يصب الماء العذب في الماء المالح ، فيبقى العذب على عذوبته ، والمالح على ملوحته ، ولو انعكس الأمر ، وجعل سبحانه الماء الحلو في أرض منخفضة ، والماء المالح في أرض مرتفعة ، وصب المالح في العذب لأفسد المالح العذب ، وأصبح الماء كله مرا ، ووقع الناس في العسر والحرج . . وليس هذا من باب الصدفة ، بل هو بتقدير حكيم عليم ، وقوله تعالى : {وجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وحِجْراً مَحْجُوراً} معناه ان الماءين وان التقيا عند مصب الأنهر فإن أحدهما لا يطغى على الآخر ، بل تبقى لكل منهما خصائصه وآثاره . . فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا .
6 - {وهُو الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً} . المراد بالنسب القرابة بالتوالد ، وبالصهر القرابة بالمصاهرة ، والمعنى ان اللَّه سبحانه خلق من النطفة إنسانا هو أعجب الكائنات ، وجعل بين أفراده القرابة والتعاطف . انظر تفسير الآية 14 من سورة المؤمنون . {وكانَ رَبُّكَ قَدِيراً} ومن مظاهر قدرته ان جعل من خلية ذكرا ، ومن خلية أنثى مع أن حقيقة الخليتين واحدة ، ومصدرهما واحد .
______________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج5 ، ص473-476 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : {أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل ولوشاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا} هاتان الآيتان وما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظير لما تضمنته الآيتان السابقتان بل الآيات الأربع السابقة من أن الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد وإنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممن شاء الله وأما غيرهم ممن اتخذ إلهه هواه فصار لا يسمع ولا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله .
فهي تبين أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه وبينات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه وهو على صراط مستقيم ، وذلك كمد الظل وجعل الشمس دليلا عليه تنسخه ، وكجعل الليل لباسا والنوم سباتا والنهار نشورا ، وكجعل الرياح بشرا وإنزال المطر وإحياء الأرض الميتة وإرواء الأنعام والأناسي به .
ثم ما مثل المؤمن والكافر في اهتداء هذا وضلال ذاك - وهم جميعا عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلا كمثل الماءين العذب الفرات والملح الأجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخا وحجرا محجورا ، وكالماء خلق الله سبحانه منه بشرا ثم جعله نسبا وصهرا فاختلف بذلك المواليد وكان ربك قديرا .
هذا ما يهدي إليه التدبر في مضامين الآيات وخصوصيات نظمها وبه يظهر وجه اتصالها بما تقدمها ، وأما ما ذكروه من أن الآيات مسوقة لبيان بعض أدلة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم فالسياق لا يساعد عليه وسنزيد ذلك إيضاحا .
فقوله : {أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل ولوشاء لجعله ساكنا} تنظير - كما تقدمت الإشارة إليه - لشمول الجهل والضلال للناس ورفعه تعالى ذلك بالرسالة والدعوة الحقة كما يشاء ولازم ذلك أن يكون المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئا فشيئا من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الأفق حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد وهو الليل ، وهو في جميع أحواله متحرك ولوشاء الله لجعله ساكنا .
وقوله : {ثم جعلنا الشمس عليه دليلا} والدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على أن هناك ظلا وبانبساطه شيئا فشيئا على تمدد الظل شيئا فشيئا ولولاها لم يتنبه لوجود الظل فإن السبب العام لتمييز الإنسان بعض المعاني من بعض تحول الأحوال المختلفة عليه من فقدان ووجدان فإذا فقد شيئا كان يجده تنبه لوجوده وإذا وجد ما كان يفقده تنبه لعدمه ، وأما الأمر الثابت الذي لا تتحول عليه الحال فليس إلى تصوره بالتنبه سبيل .
وقوله : {ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا} أي أزلنا الظل بإشراق الشمس وارتفاعها شيئا فشيئا حتى ينسخ بالكلية ، وفي التعبير عن الإزالة والنسخ بالقبض ، وكونه إليه ، وتوصيفه باليسير دلالة على كمال القدرة الإلهية وأنها لا يشق عليها فعل ، وأن فقدان الأشياء بعد وجودها ليس بالانعدام والبطلان بل بالرجوع إليه تعالى .
وما تقدم من تفسير مد الظل بتمديد الفيء بعد زوال الشمس وإن كان معنى لم يذكره المفسرون لكن السياق - على ما أشرنا إليه - لا يلائم غيره مما ذكره المفسرون كقول بعضهم : إن المراد بالظل الممدود ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وقول بعض : ما بين غروب الشمس وطلوعها ، وقول بعض : ما يحدث من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس بعد طلوعها ، وقول بعض – وهو أسخف الأقوال - هوما كان يوم خلق الله السماء وجعلها كالقبة ثم دحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها .
وفي الآية أعني قوله : {أ لم تر إلى ربك} إلخ ، التفات من سياق التكلم بالغير في الآيات السابقة إلى الغيبة ، والنكتة فيه أن المراد بالآية وما يتلوها من الآيات بيان أن أمر الهداية إلى الله سبحانه وليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأمر شيء وهو تعالى لا يريد هدايتهم وأن الرسالة والدعوة الحقة في مقابلتها للضلال المنبسط على أهل الضلال ونسخها ما تنسخ منه من شعب السنة العامة الإلهية في بسط الرحمة على خلقه نظير إطلاع الشمس على الأرض ونسخ الظل الممدود فيها بها ، ومن المعلوم أن الخطاب المتضمن لهذه الحقيقة مما ينبغي أن يختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصة من جهة سلب القدرة على الهداية عنه ، وأما الكفار المتخذون إلههم هواهم وهم لا يسمعون ولا يعقلون فلا نصيب لهم فيه .
وفي قوله : {ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا} رجوع إلى السياق السابق ، وفي ذلك مع ذلك من إظهار العظمة والدلالة على الكبرياء ما لا يخفى .
والكلام في قوله الآتي : {وهو الذي جعل لكم الليل} إلخ ، وقوله : {وهو الذي أرسل الرياح} وقوله : {وهو الذي مرج البحرين} ، وقوله : {وهو الذي خلق من الماء بشرا} كالكلام في قوله : {أ لم تر إلى ربك} ، والكلام في قوله : {وأنزلنا من السماء ماء} إلخ ، وقوله : {ولقد صرفناه بينهم} ، وقوله : {ولو شئنا لبعثنا} ، كالكلام في قوله : {ثم جعلنا الشمس} .
قوله تعالى : {وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا} كون الليل لباسا إنما هو سترة الإنسان بغشيان الظلمة كما يستر اللباس لابسه .
وقوله : {والنوم سباتا} أي قطعا للعمل ، وقوله : {وجعل النهار نشورا} أي جعل فيه الانتشار وطلب الرزق على ما ذكره الراغب في معنى اللفظتين .
وحال ستره تعالى الناس بلباس الليل وقطعهم به عن العمل والحركة ثم نشرهم للعمل والسعي بإظهار النهار وبسط النور كحال مد الظل ثم جعل الشمس عليه دليلا وقبض الظل بها إليه .
قوله تعالى : {وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا} البشر بالضم فالسكون مخفف بشر بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي هو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته وهي المطر .
وقوله : {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} أي من جهة العلو وهي جو الأرض ماء طهورا أي بالغا في طهارته فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره يزيل الأوساخ ويذهب بالأرجاس والأحداث - فالطهور على ما قيل صيغة مبالغة - .
قوله تعالى : {لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا{ ، البلدة معروفة قيل : وأريد بها المكان كما في قوله : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [الأعراف : 58] ، ولذا اتصف بالميت وهو مذكر والمكان الميت ما لا نبات فيه وإحياؤه إنباته ، والأناسي جمع إنسان ، ومعنى الآية ظاهر .
وحال شمول الموت للأرض والحاجة إلى الشرب والري للأنعام والأناسي ثم إنزاله تعالى من السماء ماء طهورا ليحيي به بلدة ميتا ويسقيه أنعاما وأناسي كثيرا من خلقه كحال مد الظل ثم الدلالة عليه بالشمس ونسخه بها كما تقدم .
قوله تعالى : {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا} ظاهر اتصال الآية بما قبلها أن ضمير {صرفناه} للماء وتصريفه بينهم صرفه عن قوم إلى غيرهم تارة وعن غيرهم إليهم أخرى فلا يدوم في نزوله على قوم فيهلكوا ولا ينقطع عن قوم دائما فيهلكوا بل يدور بينهم حتى ينال كل نصيبه بحسب المصلحة ، وقيل : المراد بالتصريف التحويل من مكان إلى مكان .
وقوله : {ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا} تعليل للتصريف أي وأقسم لقد صرفنا الماء بتقسيمه بينهم ليتذكروا فيشكروا فأبى وامتنع أكثر الناس إلا كفران النعمة .
قوله تعالى : {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا} أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية نذيرا ينذرهم ورسولا يبلغهم رسالاتنا لبعثنا ولكن بعثناك إلى القرى كلها نذيرا ورسولا لعظيم منزلتك عندنا .
هكذا فسرت الآية ولا تخلو الآية التالية من تأييد لذلك ، وهذا المعنى لما وجهنا به اتصال الآيات أنسب .
أو أن المراد أنا قادرون على أن نبعث في كل قرية رسولا وإنما اخترناك لمصلحة في اختيارك .
قوله تعالى : {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} متفرع على معنى الآية السابقة ، وضمير {به} للقرآن بشهادة سياق الآيات ، والمجاهدة والجهاد بذل الجهد والطاقة في مدافعة العدو وإذ كان بالقرآن فالمراد تلاوته عليهم وبيان حقائقه لهم وإتمام حججه عليهم .
فمحصل مضمون الآية أنه إذا كان مثل الرسالة الإلهية في رفع حجاب الجهل والغفلة المضروب على قلوب الناس بإظهار الحق لهم وإتمام الحجة عليهم مثل الشمس في الدلالة على الظل الممدود ونسخه بأمر الله ، ومثل النهار بالنسبة إلى الليل وسبته ، ومثل المطر بالنسبة إلى الأرض الميتة والأنعام والأناسي الظامئة ، وقد بعثناك لتكون نذيرا لأهل القرى فلا تطع الكافرين لأن طاعتهم تبطل هذا الناموس العام المضروب للهداية .
وابذل مبلغ جهدك ووسعك في تبليغ رسالتك وإتمام حجتك بالقرآن المشتمل على الدعوة الحقة وجاهدهم به مجاهدة كبيرة .
قوله تعالى : {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} المرج الخلط ومنه أمر مريج أي مختلط ، والعذب من الماء ما طاب طعمه ، والفرات منه ما كثر عذوبته ، والملح هو الماء المتغير طعمه .
والأجاج شديد الملوحة ، والبرزخ هو الحد الحاجز بين شيئين ، وحجرا محجورا أي حراما محرما أن يختلط أحد الماءين بالآخر .
وقوله : {وجعل بينهما} إلخ قرينة على أن المراد بمرج البحرين إرسال الماءين متقارنين لا الخلط بمعنى ضرب الأجزاء بعضها ببعض .
والكلام معطوف على ما عطف عليه قوله : {وهو الذي أرسل الرياح} إلخ ، وفيه تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدة مختلطين وهما مع ذلك غير متمازجين كما تقدمت الإشارة إليه في أول الآيات التسع .
قوله تعالى : {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} الصهر على ما نقل عن الخليل الختن وأهل بيت المرأة فالنسب هو التحرم من جهة الرجل والصهر هو التحرم من جهة المرأة - كما قيل - ويؤيده المقابلة بين النسب والصهر .
وقد قيل : إن كلا من النسب والصهر بتقدير مضاف والتقدير فجعله ذا نسب وصهر ، والضمير للبشر ، والمراد بالماء النطفة ، وربما احتمل أن يكون المراد به مطلق الماء الذي خلق الله منه الأشياء الحية كما قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء : 30] .
والمعنى : وهو الذي خلق من النطفة - وهي ماء واحد - بشرا فقسمه قسمين ذا نسب وذا صهر يعني الرجل والمرأة وهذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة والتفرق في عين الاتحاد وهكذا يحفظ اختلاف النفوس والآراء بالإيمان والكفر مع اتحاد المجتمع البشري بما بعث الله الرسل لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لولا الدعوة الحقة .
وقوله : {وكان ربك قديرا} في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب من النكتة نظير ما تقدم في قوله : {أ لم تر إلى ربك} .
______________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج15 ، ص180-184 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
حركة الظلال :
في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية ، على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة الله ، الأُمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقرباً منه ، ومع الإلتفات إلى أنّ المحاورات الكثيرة في الآيات الماضية كانت مع المشركين ، تتّضح صلة وارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة .
في هذه الآيات ، كلام في نعمة «الضلال» ثمّ في آثار وبركات «الليل» و«النوم و الإستراحة» و«ضياء» النهار و«هبوب الرياح» و«نزول المطر» و«إحياء الأراضي الموات» و«سقاية» الأنعام والناس .
يقول تعالى أولا : {ألم تر إلى ربّك كيف مد الظل ، ولوشاء لجعله ساكناً} .
لا شك أنّ هذا الجزء من الآية إشارة إلى أهمية نعمة الظلال الممتدة والمتحركة .
الظِلال التي لا تثبت على حال ، بل هي في حركة وانتقال .
ولكن أي ظل هو المقصود بالآية؟ ثمّة أقوال في أوساط المفسّرين :
بعضهم يقول : هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك ، هذا النور الشفاف ، والظل المنبسط ، يبدأ عند طلوع الفجر ، يتلاشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء .
ويرى البعض الآخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه ، الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند لحظة طلوع الشمس ، لأنّنا نعلم أنّ الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس ، وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الآخر ومنتشراً في الفضاء الواسع . وهذا الظل المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في أُخرى .
وقال آخرون : المقصود هو الظل الذي يظهر للأجسام بعد الظهر فينبسط شيئاً فشيئاً بالتدريج .
طبيعي ، أنّه لولم تكن الجمل الآتية ، لكنّا نفهم من هذه الجملة معنىً واسعاً يشمل جميع الظلال الشاسعة ، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التّفسير الأوّل أكثر تناسباً ، لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك : {ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا} .
إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لولم تكن الشمس ، فالظل من حيث الأصل يخلق بسبب ضياء الشمس ، لأنّ «الظل» يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الأشياء فيها ، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسماً مانعاً لنفوذ النور ، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة . بناءً على هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقاً لقاعدة «تعرف الأشياء بأضدادها» فقط ، بل إنّ وجوده أيضاً من بركة النور .
بعد ذلك يبيّن تعالى : ثمّ إنّنا نجمعه جمعاً وئيداً {ثمّ قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} .
من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً ، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق ، لأنّ الشمس آنئذ تستقر تماماً فوق رأس كل موجود ، وفي مناطق أُخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص ، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً ، وهذا نفسه حكمة الخالق ، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات . لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة الإنتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات ، دون أن يكون له أي ضرر .
التعبير بـ «يسيراً» إشارة إلى انقباض الظل التدريجي ، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص ، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق . وكلمة (إلينا) تأكيد على هذه القدرة أيضاً .
على أية حال ، لا شك أن الإنسان كما يحتاج إلى أشعة «النور» في حياته ، فهو كذلك يحتاج إلى «الظل» لتعديل ومنع «النور» أوقات اشتداده ، فكما أنّ أشعة النور المستديمة تربك الحياة ، كذلك فإنّ الظل الدائم الساكن مهلك أيضاً .
في الحالة الأُولى تحترق جميع الموجودات ، وفي الحالة الثّانية تنجمد جميعاً ، ولكن هذا النظام المتناوب من «النور» و«الظل» هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة للإِنسان .
لذا فإنّ آيات قرآنية أُخرى تعدُّ وجود الليل والنهار ، الواحد تلو الآخر ، من النعم الإلهية العظيمة ، ففي موضع يقول تعالى : {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ، أفلا تسمعون} . ويضيف مباشرة { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [القصص : 72] .
ويستنتج من هذا القول أنّ هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا فيهما ، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله ، ولعلكم تشكرون {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص : 73] .
ولهذا يعد القرآن «الظل الممدود» إحدى نعم الجنّة ، حيث لا نورَ مُعش مرهق ، ولا ظلمة موحشة .
بعد ذكر نعمة الظلال ، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أُخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً ، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله ، يقول تعالى : {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} .
كم هو تعبير جميل ورائع {جعل لكم الليل لباساً} . . . هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط ، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس ، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم ، أو لإيجاد الظلام .
ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم {والنوم سباتاً} .
«السبات» في اللغة من «سبت» (على وزن وقت) بمعنى القطع ، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة ، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب «يوم السبت» وهي تسمية أُخذت من طريقة اليهود ، لأنّه يوم تعطيلهم .
هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم ، لأنّنا نعلم أن قسماً مهماً من الأفعال البدنية يتوقف كلياً في حال النوم ، وقسماً آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّاً ، ويستمر بصورة أكثر هدوءً كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى .
النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه ، مجدد لجميع طاقات البدن ، وباعث للنشاط والقوّة ، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب ، بعكس الأرق خصوصاً لفترة طويلة ـ فهو ضارٌ جدّاً وقد يؤدي الى الموت أيضاً . ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة .
وفي ختام الآية ، أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى : {وجعل النهار نشوراً} .
كلمة «النشور» في الأصل من النشر بمعنى البسط ، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن ، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت ، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع ، والحركة للمعاش على وجه الأرض . نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يقول كل صباح : «الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور» . (2)
فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً ، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء .
في عالم الطبيعة أيضاً ، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية ويستجد انبعاثٌ فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس ، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله ، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور ، أمّا عند مغيب الشمس ، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون ، الطيور تؤوب إلى أوكارها ، الموجودات الحية تفيء إلى الإستراحة والنوم ، حتى النباتات تغطُّ في نوع من النوم .
بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة أُخرى مهمّة جدّاً فيقول : {وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته ، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً} .
لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية ، وإلاّ فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبداً .
صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء ، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة ، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة ، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر .
والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه ، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض ، سبب رواء الجفاف على الأرض ، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار ، ونمو أنواع النباتات .
إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم ، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة ، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر ، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز .
التعبير بـ «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها ، فبعض شمالي ، وبعض جنوبي ، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب ، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق ، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق .(3)
المهم هنا هو أن «الماء» قد وصف بـ «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته ، ويطهر الأشياء الملوثة . . . ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة ، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها !
وعلى أية حال ، فمضافاً إلى خاصية الإحياء ، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير ، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة ، ولكنّه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة) . ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّاً في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض .
مضافاً إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء ، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً .
لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية ، اعتبرت في الدرجة الثّانية ، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء : {لنحي به بلدة ميتاً} (4) .
وأيضاً {ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً} .
وقوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان : 51 - 54]
بحران متجاوران : عذب فرات وملح أُجاج :
الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، يقول تعالى : لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد ، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك : {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} .
كما أنّ الله عزَّوجلّ ـ طبقاً للآيات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كل الأراضي الميتة ، فله القدرة أيضاً على إنزال الوحي والنبوّة على قلب نبيّ في كل قرية ، وأن يبعث لكل أُمة نذيراً ، لكن الله يختار لعباده ما هو أصلح ، لأنّ تمركز النبوّة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس ، ومانعاً من كل فرقة وتشتت .
ويحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الاشكال وهو : ألم يكن من الأفضل أن يبعث الله نبيّاً في كل مدينة وقرية ؟!
لكن القرآن يقول في ردّهم : لو أراد الله ذلك لفعل ، لكن هذا التشتت ليس في صالح الأمم والشعوب قطعاً .
وعلى أية حال ، فكما أن هذه الآية دليل على عظمة مقام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد ، وعلى ثقل عبء مسؤوليته .
وبنفس هذا الدليل ، يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية ، أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء ، فيوجه الخطاب أوّلا إلى الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول : {فلا تطع الكافرين} .
لا تخطُ أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم ، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله ، قف أمامهم بقوّة ، واسعَ إلى إصلاحهم ، لكن كن حذراً ولا تتسلم لأهواءهم وخرافاتهم .
أمّا القانون الثّاني فهو : جاهد أُولئك بالقرآن : {وجاهدهم به جهاداً كبيراً} .
جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك ، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين ، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس ، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية .
لا شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس الجهاد المسلح ، ذلك لأنّ هذه السورة مكية ، والأمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مكّة . وعلى قول العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان ، أن هذه الآية دليل واضح على أنّ الجهاد الفكري والتبليغي في مواجهة وساوس المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد .
وروي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» .
وربّما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ بالدين ، هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن ، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع ، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر .
الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار ، والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل ، والمحركة كحركة الرياح الخلاقة ، والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة ، حيث أشارت إلى ذلك الآيات السابقة .
وبعد فاصلة وجيزة ، يتناول القرآن الكريم مجدداً الإستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني ، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة : {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً} .
«مرج» من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال ، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح .
«عذب» بمعنى سائغ وطيب وبارد ، و«فرات» بمعنى لذيذ وهنيء .
«ملح» بمعى مالح ، و«أجاج» بمعنى مُرّ وحار . (بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب وفرات) .
«برزخ» بمعنى حجاب وحائل بين شيئين .
وجملة (حجراً محجوراً) كما أشرنا سابقاً (ذيل الآية 22 من هذه السورة) كانت جملة لاخذ الأمان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه ، يعني (أعفُ عنا ، وآمنا ، وابتعد عنا) .
على أية حال ، فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق في عالم مخلوقاته ، وكيف يستقر حجاب غير مرئي ، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب ، فلا يسمح لهما بالاختلاط .
وقد اتّضح اليوم أن هذا الحجاب اللامرئي ، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الإصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما ، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة .
ورغم أنّ جماعة من المفسّرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة الأرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ولا يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا ، لأنّنا نعلم أن جميع أنهار الماء ، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل ، تشكل بحراً من الماء العذب ، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف ، ويستمر هذا الوضع إلى مدّة طويلة ، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن الإمتزاج مع بعضهما ، فكل واحد منهما يقول للآخر : {حجراً محجوراً} .
الملفت هو أنّ سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلان مرّتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحراً اليابسة في مصبات تلك الأنهار وأطرافها ، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان ، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى الأنهار مع البحر ، وزرعوا اراض شاسعة بالاشجار ، حيث تتمّ سقايتها بنفس ذلك الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر .
توجد حتى الآن في جنوب العراق وإيران ملايين من أشجار النخيل ، وقد شاهدنا عن قرب أنّ قسماً منها يسقى فقط بهذه الوسيلة ، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر ، وأحياناً يتغلب الماء المالح حيث تقل المياه التي تصبها الأنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية ، فيقلق المزارعون من أهل هذه المنطقة ، لأنّ ذلك يضرُّ بزراعتهم ضرراً بالغاً .
لكن العادة ليست كذلك ، فهذا الماء «العذب الفرات» المستقر إلى جوار الماء «المالح والأجاج» يُعدُّ ذخيرة عظيمة لهم .
معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل لا يقلل من قيمتها أبداً ، وإلاّ فما هي الطبيعة؟ ليست هي إلاّ فعل الله وإرادته ومشيئته ، وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات .
والملفت للنظر أنّ الإنسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة ، يرى جيداً هذان الماءان المختلفان في اللون ، غير الممتزجين ، فيذكّر هذا المشهد الإِنسان بهذه النكتة القرآنية .
إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق بـ «الكفر» و«الإيمان» ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلا لهذا الأمر ، ففي المجتمع الواحد أحياناً ، وفي المدينة الواحدة ، بل حتى في البيت الواحد أحياناً ، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات ، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج . . . مع طرازين من الفكر ، ونوعين من العقيدة ، ونمطين من العمل ، طاهر وغير طاهر ، دون أن يمتزجا .
في الآية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر ، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء ، فيقول تعالى : {وهو الذي خلق من الماء بشراً} .
حقاً إن النحت في الماء ، وخلق صورة بديعة كهذه على الماء ، دليل على عظمة قدرة الخالق ، وكان الكلام في الآيات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر ، والكلام ـ هنا عن مرحلة أعلى ، يعني خلق الإنسان من الماء .
وبين المفسّرين أقوال في المراد من الماء هنا :
ذهب جماعة أنّ المقصود من «بشر» هو الإنسان الأول ، يعني آدم(عليه السلام) ، ذلك لأنّ خلقه كان من «طين» يعني عجيناً من ماء وتراب ، إضافة إلى أن الماء كان أوّل موجود خلقه الله تعالى طبقاً للرّوايات الإسلامية ، وخلق الإنسان من ذلك الماء ، وتنكير «بشر» شاهد على هذا المعنى .
وذهب جماعة آخرون أن المقصود من «الماء» هو ماء النطفة ، حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة الخالق ، ومع امتزاج نطفة الرجل «الحيمن» الذي يسبح في الماء مع «البويضة» نطفة المرأة ، تتكون أول نواة لحياة الإنسان ، يعني الخلية الإنسانية الحية الأُولى .
لو تدبّر الإنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها ، فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها ، حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى .
الشاهد على هذا التّفسير ، جملة وردت في آخر الآية ، وسنشرحها {فجعله نسباً وصهراً} .
فضلا عن هذا ، فلا شك أنّ الماء يشكل القسم الأكبر من وجود الإنسان ، بالصورة التي يمكن القول أنّ المادة الأساس لوجود أي إنسان هي الماء ، لهذا فإن مقاومة الإنسان إزاء العطش قليلة جدّاً ، في حين يستطيع الإنسان أن يقاوم أيّاماً وأسابيع حيال قلّة المواد الغذائية .
ويحتمل قوياً أيضاً ، أنَّ جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الآية ، أي أن الإنسان الأوّل خلق من ماء ، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً ، وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً . . . الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم ، كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى .
بعد ذكر خلق الإنسان ، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان ، فيقول : {فجعله نسباً وصهراً} .
المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد ، مثل ارتباط الأب والابن ، أو الإخوة بعضهم مع بعض ، أمّا المقصود من «صهر» التي هي في الأصل بمعنى «الختن» هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق ، مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته ، وهذان الإثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ «النسب» و«السبب» .
في القرآن المجيد في سورة النساء ، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد (الأم ، البنت ، الأخت ، العمة ، الخالة ، بنت الأخ ، بنت الأخت) وإلى المحارم السببية في أربعة موارد (بنت الزوجة ، أم الزوجة ، زوجة الابن ، زوجة الأب) .
من المؤكّد أن هناك وجهات نظر أُخرى لدى المفسّرين في تفسير هذه الجملة ، لكن ماقلناه أوضح وأقوى من جميعها .
فمن جملتها أنّ جماعة منهم اعتبروا «النسب» بمعنى أولاد الابن ، و«الصهر» بمعنى أولاد البنت ، ذلك لأن الإرتباط النسبي يحسب على أساس الآباء لا على أساس الاُمهات .
وكما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الاية (61) من سورة آل عمران ـ فإنّ هذا اشتباه كبير ، استمدَّ من سنن أيّام ما قبل الإسلام ، حيث اعتبروا النسب عن طريق الأب فقط ، وليس للأم أي أثر ، في حين أن من المسلمات في الفقه الإسلامي وبين جميع علماء الإسلام أن الحرمة النسبية من ناحية الأب ومن ناحية الاُم أيضاً (ولزيادة الاطلاع ، راجع التّفسير ذيل الآية (61) من سورة آل عمران) .
والجدير بالذكر ، أن لدينا حديثاً معروفاً ، نقل في كتب الشيعة والسنة ، وطبقاً لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام) ، وذلك أنّ النّبي زوّج ابنته فاطمة من علي(عليهما السلام) ، ولهذا فقد كان علي(عليه السلام) ابن عمّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته أيضاً ، وهذا معنى «نسباً وصهراً» .(5)
ولكن هذه الرّوايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة ، ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية ، فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة ، وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي(عليه السلام) من جهتين مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) .
في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية : {وكان ربّك قديراً} .
__________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج9 ، ص216-228 .
2 ـ تفسير القرطبي .
3 ـ يجب الإنتباه إلى أنّ «بُشْراً» ـ بسكون الشين مخفف ـ «بُشُراً» ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع «بشور» (على وزن قبول) بمعنى مبشر وبشير .
4 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن «بلدة» هنا بمعنى الصحراء ، ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث ، فصفته التي هي «ميتاً» وردت بصيغة المذكر ، ذلك لأن المراد بالمعنى «المكان» وهو مذكر .
5 ـ مجمع البيان ، وتفسير روح المعاني ، ذيل هذه الآية .
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|