أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-7-2020
2583
التاريخ: 26-8-2016
1635
التاريخ: 8-8-2016
1469
التاريخ: 26-8-2016
3118
|
ما قيل باعتباره من الأمارات الغير العلميّة أو صحّ أن يقال.
وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم امور:
أحدها: أنّ ما سوى القطع من الأمارات ليس حجّة بالذات وليس حالها كالقطع، حيث علمت أنّ حجيّته لا يحتاج إلى الجعل؛ بل هي يحتاج في الحجيّة إلى جعل أو ثبوت مقدّمات مفيدة لحكومة العقل بحجيّتها.
ثمّ لا فرق في ذلك بين مرحلة الثبوت ومرحلة السقوط، ففي كليهما يحتاج الحجيّة في غير القطع إلى الدليل، بخلاف القطع، بمعنى أنّ القطع بثبوت التكليف حجّة ولا يحتاج إلى الدليل، وكذلك القطع بالفراغ حجّة من دون حاجة إلى دليل؛ إذ ليس فوق القطع حجّة أحرى وأعلى.
وأمّا الظن فهو بقسميه من المتعلّق منه بثبوت التكليف، ومن المتعلّق منه بفراغ الذمّة عن التكليف المعلوم الثبوت محتاج إلى جعل الحجيّة ودليل الاعتبار.
إلّا أنّه نقل في الكفاية عن بعض المحقّقين المصير إلى أنّ الظّن بالفراغ يكون حجّة عقلا كالقطع.
أقول: لا نفهم كون الظّن كالقطع وإن قلنا بعدم وجوب دفع الضرر الموهوم؛ فإنّ معنى كونه كالقطع أنّه يسقط حجّة المولى ولا يصحّ عقابه لو فرض كون العبد مشغول الذمّة واقعا وكون ظنّه بفراغ ذمّته مخالفا للواقع، كما أنّ القاطع بالفراغ لا يصحّ عقابه لو فرض كون قطعه جهلا مركّبا وكونه غير فارغ واقعا، وهذا المعنى لا يمكن إثباته في الظنّ ولو على مبنى القول بعدم وجوب دفع الضرر الموهوم.
بيان ذلك: أنّ الحكم بعدم الوجوب لا يوجب رفع موضوع الضرر وتبدّل احتماله ووهمه بالقطع بالعدم، بل المقصود أنّه مع بقائه على وصف موهوميّته واحتمال طرفي وجوده وعدمه غير واجب الدفع، ومعنى ذلك أنّه لو وقع أحيانا في الضرر كان هذا الوقوع عقلائيّا ومعذورا فيه عند العقلاء، فمن يسلك طريقا يظنّ بعدم البئر مثلا فيه، ويحتمل بطريق الوهم وجود البئر فيه، لو سلكه ولم يعتن بهذا الوهم فاتّفق وقوعه في البئر كان غير مذموم عند العقلاء.
وبعبارة اخرى ليس إلقاء النفس في الضرر في هذه الصورة قبيحا مستحقّا للّوم والذّم عليه، فكذلك نقول في المقام، فإنّ من يعلم من ابتداء الأمر بتوجّه التكليف وقطع باستحقاقه العقاب على الترك، ثمّ ظنّ بسقوط هذا التكليف عنه فهو محتمل وهما لعدم سقوطه وكونه معاقبا على تركه، فلو فرضنا حكم العقلاء في هذا الفرض بأن هذا العقاب الذي هو موهوم لا يجب دفعه.
وبعبارة اخرى: لا بأس بالإقدام ولو استلزم الوقوع في العقاب، فمعناه أنّ الوقوع فيه على تقدير صدق الوهم وقوع في العذاب على نحو عقلائي، وإمضاء الشرع أيضا ليس زائدا على أنّ الوقوع على هذا النحو عقلائي، وأين هذا من عدم ترتّب العقاب رأسا كما هو المدّعى.
وبعبارة اخرى لو تبدّل بعد الظنّ بالفراغ وهم العقاب بالقطع بعدمه بواسطة حكم العقل بعدم وجوب دفع الضرر الموهوم وإمضاء الشرع له، فهذا مع ما فيه من أنّ الحكم لا يوجب ارتفاع الموضوع أنّه حينئذ خارج عن مسألة عدم وجوب دفع الضرر الموهوم، ويدخل في باب القطع بعدم العقاب، ولو لم يتبدّل وكان الاحتمال باقيا فهو غير منفكّ عن اتّفاق الوقوع في العقاب أحيانا، كما هو الحال في الضرر الدنيوي كما مثّلناه.
وبالجملة، فلم يحصل بمجرّد ذلك الأمن من العقاب على كلّ تقدير، ولا نعني بالحجّة إلّا ما يوجب ذلك كالقطع بالبراءة؛ فإنّه مؤمّن من العقاب؛ إذ نقطع بأنّ عقاب المولى قبيح على تقدير كون القطع جهلا مركّبا.
ثانيها: في إمكان التعبّد بغير العلم من الأمارات والاصول وعدمه، المعروف هو الأوّل، ويظهر من الدليل الذي أقامه ابن قبة على استحالة التعبّد بخبر الواحد عموم المنع لكلّ ما سوى العلم.
فاعلم أوّلا أنّ الإمكان تارة يقال في مقابل الامتناع الذاتي، والمراد بالامتناع الذاتي أن يكون مجرّد تصوّر الشيء وتعقّله كافيا في الجزم بامتناعه من دون حاجة في إثباته إلى التشبّث بشيء آخر، وذلك كاجتماع الوجود والعدم، فإنّ الوجدان يكفي في الحكم بامتناعه، ولا يحتاج إلى التعليل، وينقطع السؤال بلم وبم، كما أنّ قبح الظلم ذاتا معناه أنّ نفس تصوّر ذاته موجب لاشمئزاز العقل عنه من دون حاجة إلى إدراجه تحت عنوان آخر، بخلاف ضرب اليتيم.
[فى امكان حجيّة الظن وكلام ابن قبة]
وهذا القسم من الإمكان ليس محلا للنزاع في المقام، بمعنى أنّ ابن قبة لا يدّعي أنّ التعبّد بالأمارة ممّا يدرك امتناعه بنفس تعقّله، كيف ولو كان مدّعيا لذلك لم يحتج إلى الاستدلال وهو حاول إثبات مطلبه بالدليل، مع أنّ من الواضح عدم كون التعبّد بالأمارة من هذا القبيل.
واخرى يقال بمعنى الاحتمال، ويمكن أن يكون هذا المعنى مرادا من الإمكان في قاعدة الإمكان المقرّرة في باب الحيض، ويظهر الثمرة بينه وبين إرادة الإمكان الوقوعي في أوّل ظهور الدم؛ فإنّه قبل تبيّن استمراره إلى الثلاثة لا يستقرّ إمكان حيضيّته بالمعنى الثاني، وقد استقرّ بالمعنى الأوّل، وهذا أيضا ليس محلا للكلام؛ فإنّ الاحتمال أمر وجداني فليس قابلا لأن يقع مطرحا لأنظار العلماء.
وثالثة يقال في قبال الامتناع بالعرض الذي يطلق عليه الامتناع الوقوعي أيضا، وهو ما لا يدرك امتناعه بالوجدان بمجرّد تصوّر ذاته، بل يحتاج إلى التشبّث بأمر آخر كان هو محالا بالذات، وكان هذا الشيء محالا لاستلزامه لذاك الأمر المحال، فيكون امتناع هذا الشيء بالغير لا بالذات، وهذا هو محلّ البحث في هذا المبحث.
فمحصّل محلّ الكلام أنّه هل يستلزم التعبّد بالأمارات الغير العلميّة بعد الفراغ عن إمكانه ذاتا محذورا حتى يكون ممتنعا وقوعا، أو هو غير مستلزم لمحذور أصلا فيكون ممكنا وقوعيّا أيضا؟، ولا بدّ أن لا يكون هذا الكلام من جهة المقتضي؛ فإنّ الأشياء من هذه الجهة غير خارجة عن الواجب والممتنع؛ لأنّها إمّا أن توجد علّتها فتجب، وإمّا أن لا توجد فتمتنع، فلا يتصوّر الممكن، ويساوق القطع بالإمكان على هذا مع القطع بالوجود، بل يكون الكلام في الإمكان الوقوعي من حيث المانع، فالقائل بالإمكان مقصوده نفي المانع مع قطع النظر عن المقتضي، يعني أنّ التعبّد بالأمارة لا يمنع عنه مانع، ولا ينافي ذلك امتناعه وقوعا لأجل عدم المقتضي.
وكيف كان فقد استدلّ المعروف في قبال ابن قبة: بأنّا نقطع بعدم المانع واقعا، واستشكل عليهم شيخنا المرتضى قدّس سرّه بأنّ هذه الدعوى فرع الاطّلاع على جميع الجهات المحسّنة والمقبّحة، وهو غير حاصل لغير علّام الغيوب، فلا يمكن دعوى الجزم لغيره.
فالأولى أن يقال: إنّا لا نجد من عقولنا مانعا من التعبّد بالأمارة، والحكم بالإمكان عند ذلك أصل عقلائي في كلّ ما دار الأمر فيه بين الإمكان والامتناع، نظير عدم وجدان القرينة؛ حيث يجعلونه في باب الألفاظ عند الدوران بين وجود القرينة وعدمها قرينة وأمارة على العدم، وكذلك كلّما دار الأمر بين إمكان شيء وامتناعه يجعلون عدم وجدان المانع عنه دليلا على الإمكان.
ولعلّ نظره قدّس سرّه إلى القضيّة المحكيّة عن الشيخ الرئيس: كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يمنعك عنه قائم البرهان، بناء على أن يكون الإمكان في كلامه بمعنى الإمكان الوقوعي وتكون إشارة إلى الأصل المذكور.
أقول: أمّا دعوى القطع الوجداني الذي منشائه الوجدان كما هو ظاهر المعروف(1) فإنّما يصحّ ممّن يقطع بعدم لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال من التعبّد بالأمارة، ويقطع أيضا بعدم لزوم الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، وذلك لا يحصل إلّا مع القطع بإصابة جميع الأمارات للواقع؛ فإنّه حينئذ يقطع بعدم لزوم شيء من المحذورات، وأمّا اجتماع المثلين فهو غير لازم؛ لإمكان الحمل على التأكّد، ومن الواضح أنّ هذا القطع غير متمشّ في حقّنا، وهذا هو مراد شيخنا قدّس سرّه.
وأمّا ما ذكره من جعل الحكم بالإمكان أصلا عقلائيا عند الدوران بين الإمكان والامتناع وعدم وجدان المانع في عقولنا فغير مسلّم (2) ولم يثبت هذا الأصل، والقضيّة المحكيّة عن الشيخ الرئيس إن كان ناظرا إلى ذلك فلا نسلّمها، ويحتمل أن يكون الامكان فيها بمعنى الاحتمال، وعلى هذا فليست قاعدة علميّة، بل وصيّة للطلاب بعدم المبادرة إلى الحكم بعدم المعقوليّة بمجرّد سماع شيء من الغرائب، بل إبقائه على احتمال الإمكان والامتناع ما لم يقم على امتناعه البرهان.
وكيف كان فالتعبّد بالأمارة يبقى على احتمال الإمكان والامتناع من دون أن يكون هنا أصل عقلائي على إمكانه، نعم ليس على امتناعه أيضا دليل.
وحينئذ يجوز لنا بمجرّد عدم القطع بالامتناع واحتمال الإمكان وإن لم يكن الأصل معاضدا لنا أن نأخذ بظاهر دلّ على وقوع التعبّد بالأمارة كظاهر آية النبأ؛ إذ لا وجه لطرحه أو تأويله، وحينئذ يتبدّل احتمال الامتناع بالجزم بالإمكان.
نعم يعتبر أن يكون هذا الدليل الدالّ على التعبّد قطعيّا وإن كان ظاهرا ثبت حجيّته بدليل قطعي، فإنّه لو لم يكن قطعيّا لم يحصل لنا القطع بالإمكان، وأمّا لو كان قطعيّا كما لو قطعنا بأنّ ظاهر آية النبأ حجّة، فنقطع بوقوع التعبّد بخبر العادل، ومن هنا نكشف إمكانه ونقطع بعدم جميع المحاذير واقعا، وهذا ثمرة عدم القطع بالامتناع.
وأمّا من يقطع به كابن قبة فهو لم يجز له الأخذ بهذا الظاهر، كيف وهو قاطع بخلافه، فلا بدّ له من التأويل أو الطرح والقول بعدم حجيّة هذا الظاهر.
ومحصّل الكلام أنّه بعد الاحتمال والترديد وعدم القطع بشيء من الطرفين لا يخلو الحال إمّا أن يكون في البين دليل قطعيّ على التعبّد بالأمارة من الشرع، وإمّا أن لا يكون، فعلى الأوّل يكشف بهذا الدليل عن الإمكان ويقطع بعدم شيء من المحاذير بقضيّة حكمة الشارع، وعلى الثاني فلا ثمرة عمليّة في البحث عن الإمكان والامتناع.
وكيف كان فقد استدلّ ابن قبة على امتناع التعبّد بخبر الواحد بوجهين، الأوّل:
أنّه لو جاز التعبّد بالإخبار عن النبي صلى اللّه عليه وآله لجاز بالإخبار عن اللّه سبحانه، والتالي باطل بالإجماع، فالمقدّم مثله، وسند الملازمة هو القاعدة المسلّمة من أنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، والإخبار عن النبي والإخبار عن اللّه مثلان(3)؛ فإنّ الإخبار عن النبي أيضا إخبار عن اللّه، غاية الأمر مع وساطة النبي، ولا ملازمة بين الإخبار عن اللّه والنبوّة، فإنّها إنّما كانت لو لم يكن له طريق غير الوحي وليس كذلك؛ إذ يمكن أن يكون بطريق الإلهام والمكاشفة، فلو كان التعبّد بالإخبار عن النبي ممكنا لكان بالإخبار عن اللّه أيضا ممكنا كأن يقول الشارع: متى أخبركم الزهراء سلام اللّه عليها أو السلمان أو غيرهما بحكم عن اللّه تعالى فعليكم بقبول قوله والعمل على طبقه، ولكنّ الثاني غير جائز فكذا الأوّل بقضيّته المماثلة.
والجواب: أنّا نسلّم كونهما مثلين، ولكن قضيّة المماثلة ليست إلّا اتّحادهما بحسب الحكم في ما يجوز وفي ما لا يجوز، لا في ما وقع وفي ما لم يقع، ونحن نقول بمساواة الاخبارين في الإمكان، والاجماع لم يقم في الإخبار عن اللّه إلّا على عدم الوقوع لا على عدم الإمكان، فهما بعد اتّحادهما في إمكان التعبّد افترقا في أنّ التعبّد بالإخبار عن النبي واقع وعن اللّه غير واقع بدليل الإجماع.
والثاني: أنّ التعبّد بخبر الواحد لو جاز لزم تحليل الحرام وتحريم الحلال، أقول:
وهذا بعض المحاذير الذي يتوهّم لزومها، وهنا محاذير أخر، وتوضيح الجميع أنّه على ما هو الصواب من مذهب المخطئة يكون لنا أحكام واقعيّة مجعولة في حقّ جميع المكلّفين سواء العالم والجاهل، وأنّ الطرق والأمارات ليست تقييدا في أدلّة تلك الأحكام، ولا شكّ أيضا في أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة.
وإذن فيلزم من التعبّد بالأمارة أن يجتمع في واقعة واحدة اجتماع الضدّين على تقدير مخالفة الأمارة للواقع، كما لو كانت صلاة الظهر واجبة واقعا وقامت الأمارة على حرمتها، فيلزم اجتماع الوجوب والحرمة فيها وهما ضدّان، وكذلك يلزم اجتماع المحبوبيّة والمبغوضيّة، والمصلحة اللزوميّة والمفسدة اللزوميّة الاجتناب بدون الكسر والانكسار.
ولو قام على إباحة ما هو واجب مثلا واقعا يلزم علاوة على اجتماع الضدّين اجتماع النقيضين؛ فإنّ الإباحة مضادّة للوجوب ومع ذلك يلزم اجتماع المحبوبيّة وعدمها، والمصلحة اللزوميّة وعدمها؛ فإنّ مبدأ الإباحة هو الخلوّ عن المفسدة والمصلحة، فيلزم في هذا الفرض اجتماع الوجود والعدم في المحبوبيّة والمصلحة وهما نقيضان.
ويلزم التكليف بما لا يطاق في ما لو قام على وجوب المحرّم الواقعي؛ فإنّه يلزم الإيجاب على كلّ واحد من الفعل والترك، وكذلك لو قام على إيجاب ضد الواجب الواقعي في زمانه، فإنّه يلزم إيجاب الضدين في زمان واحد، ويلزم أيضا تفويت المصلحة اللزوميّة الإدراك، فإنّه لو قام على إباحة ما هو الواجب واقعا فيلزم أن يكون الشارع قد فوّت مصلحة هذا الواجب على العباد. وكذلك الإلقاء في المفسدة اللزوميّة الاجتناب، كما لو قام على إباحة ما هو الحرام واقعا، فيلزم أن يكون الشارع قد ألقى العباد في مفسدة هذا الحرام.
هذا كلّه على تقدير مخالفة الأمارة للواقع، ويلزم على تقدير إصابتها- كما لو قام على وجوب الجمعة الواجبة واقعا- اجتماع المثلين، فيلزم في المثال اجتماع الوجوبين.
فتحصّل أنّ اللازم من التعبّد بالأمارة اجتماع الضدّين، والنقيضين، والمثلين، والتكليف بما لا يطاق، وتفويت المصلحة، والإلقاء في المفسدة.
والجواب عن ذلك على وجه لم يلزم شيء من هذه المحاذير يكون على وجوه:
أحدها: أن يكون الأمر بالعمل بمؤدّى الأمارة بنحو الترتّب على الأمر بالواقع وفي طوله، وبهذا يدفع إشكال اجتماع الضدّين والنقيضين والمثلين في النفس. نعم نحتاج في دفع إشكال تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ولزوم التكليف بما لا يطاق إلى جواب آخر، وتوضيح الترتّب في هذا المقام يحصل بمقدّمات ثلاث:
الاولى: أنّه لا إشكال في أنّ الحبّ والإرادة والبغض والكراهة ليس اتّصاف الشيء بها على نحو اتّصافه بالأعراض الخارجيّة- كاتّصاف الجسم الخارجي بالبياض، والنار الخارجي بالحرارة- بأن لا يكون لتصوّر هذا الشيء دخل أصلا في اتّصافه كما هو الحال في البياض والحرارة؛ فإنّ الجسم الخارجي يتّصف بهما في الخارج سواء تصوّره ذهن ذاهن أو لم يتصوّره، بل كان مغفولا عنه، وأمّا الحبّ والإرادة ونحوهما فليس الشيء الخارجي في حال الغفلة وعدم تصوّره، متّصفا بها؛ فإنّها امور نفسانيّة، فلا يعقل تعلّقها بالأمر الخارجي بلا وساطة تعقّله في النفس.
وإن شئت قلت: إنّ الحبّ والإرادة يتعلّقان بالأشياء المتصوّرة، غاية الأمر على نحو يراها المتصوّر خارجيّة، وأمّا بلا توسيط التصوّر والالتفات فلا اتّصاف، ولا فرق بين أوامر الباري تعالى وغيره، فوساطة الرؤية والالتفات محتاج إليها، ولا يمكن اتّصاف الخارج الصرف، غاية الأمر أنّ الرؤية والالتفات فيه تعالى ليس على حذوه في غيره.
الثانية: الموضوع المتصوّر تارة يكون على وجه بأيّ حالة تصوّره المتصوّر وكلّ طور تفكّر له المتفكّر فهو في جميع تلك الحالات وجميع تلك الأطوار مريد ومحبّ له، وليس شيء من هذه الأطوار والحالات دخيلا في حبّه وإرادته، واخرى يكون على خلاف هذا بأن يرى المتفكّر أنّه لو تصوّره مع بعض الحالات وضمّ إليه في عالم التصوّر بعض الأطوار فهو محبّه ومريده، ولو تصوّره في غيره هذه الحالة وضمّ إليه ضدّها فهو غير مريد.
وهذا على قسمين؛ لأنّ عدم حبّه في بعض الحالات إمّا يكون لأجل عدم المقتضي في المتصوّر بهذا النحو، وإمّا أن يكون لأجل الإضرار بغرض آخر له مع وجود المقتضي فيه، فهو نافع بهذا الغرض، لكن ضارّ بغرض آخر، وغيره نافع به وغير ضارّ بغيره.
فطالب عتق الرقبة المؤمنة يكون عدم طلبه للرقبة الكافرة إمّا من باب عدم حصول الفائدة المقصودة به، وإمّا من باب إضراره بغرض آخر له مع حصول الفائدة المقصودة بمطلق عتق الرقبة، فهنا ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون الشيء مع كلّ من الخصوصيّات المحاط بها في عالم التصوّر والتفكّر لهذا الشيء محصّلا للغرض ومفيدا له،
والثاني: أن يكون منضمّا إلى بعضها مفيدا لهذا الغرض غير مخلّ بغرض آخر ومع بعضها غير مفيد أصلا لهذا الغرض،
والثالث: أن يكون مع البعض مفيدا لهذا بلا إخلال بغيره ومع غيره مفيدا لهذا ومضرّا بغيره.
فلا إشكال في إطلاق الإرادة في القسم الأوّل وتقييدها في الثاني، وكذلك يقع الكسر والانكسار في مقام الإرادة، ويقيّد الإرادة في الثالث بخصوص البعض المفيد الخالي عن الضرر، ولا ينقدح الإرادة في النفس بالنسبة إلى البعض الآخر المقيّد مع الاشتمال على الضرر فرارا عن هذا الضرر، وبالجملة، الفرار عن هذا الضرر مع درك تلك الفائدة يقتضي تقييد الإرادة وإن كان الضرر في غاية الضعف، ومن المعلوم أنّ هذا مبنيّ على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي.
الثالثة: أنّه لو فرض أنّ عنوانين لا يوجدان في عالم التصوّر أبدا إلّا على التبادل، ولا يمكن جمعهما في هذا العالم في شيء من الأوقات، وكان في أحدهما مقتضى الحبّ وفي الآخر مقتضى البغض فلا محالة متى تصوّر المتصوّر العنوان المحبوب ينقدح في نفسه الإرادة المطلقة نحوه؛ فإنّ هذا قضيّة عدم المزاحم له في عالم التصوّر الذي هو الدخيل في عروض الحبّ والبغض.
وكذلك متى تصوّر العنوان المبغوض ينقدح في نفسه الكراهة المطلقة نحوه؛ إذ هذا قضيّة خلّوه في التصوّر عن تصوّر ما يزاحم مبغوضيّته.
وأمّا الوجود الخارجي الذي هو مجمع للعنوانين فهو لا يوجد في الذهن معنونا بأحدهما إلّا وهو معرّى عن الآخر؛ إذ المفروض أنّه لا يمكن أن يوجد في الذهن على نحو وجوده في الخارج منطبقا عليه العنوانان حتّى يزاحم في مقام الإرادة المبغوض من العنوانين مع محبوبهما، ويخصّ الإرادة بصورة تجرّد العنوان المحبوب عن المبغوض.
وبالجملة، فبعد فرض عدم إمكان دخول كلا العنوانين في الذهن فلا محيص عن إطلاق الإرادة، فإنّه متى وجد فيه وجد وحده بدون العنوان المزاحم له، ولازم هذا توجّه الإرادة المطلقة نحوه.
ومحصّل هذه المقدّمات:
أنّ المقدّمة الاولى أنّ الحبّ والإرادة ليس كالأعراض الأخر حتى لا يحتاج إلى تصوّر الموضوع ودرجه في القوّة الخياليّة، فالجسم متّصف في الخارج بالبياض وإن لم يتصوّره احد، ولكنّه لا يتّصف بالمحبوبيّة لك قبل أن تتصوّره.
والمقدّمة الثانية أنّ المتصوّر إذا تصوّر الموضوع فلا يخلو من حالين: إمّا أنه لو لاحظه مع كل حالة تتصوّر له في الخيال فهو مع بعض تلك الحالات يكون فيه مقتضى الحب دونه مع البعض الآخر، وحينئذ فقهرا يتقيّد الإرادة بالبعض الأوّل، وإمّا أنّه يكون فيه مقتضيه مع كلّ واحدة واحدة، وحينئذ فإمّا أن يجد في شخص بعض هذه المتصوّرات مانع، وإمّا لا يجد في شيء منها مانع شخصي عن الحبّ ففي هذه الصورة يسري الحبّ قهرا إلى الجميع.
وأمّا في الاولى فبناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي يلزم عقلا تقييد الحبّ، وليس مقام ملاحظة الأهميّة والمهميّة، بل وإن كان الضرر الشخصي أضعف بمراتب من النفع الجنسي؛ فإنّ المحبوب له بدل ومع البدل له يقدّم جانب المبغوض في مقام الإرادة حفظا للغرضين.
والمقدّمة الثالثة أنّه لو فرضنا أنّ هنا موضوعين، أحدهما يكون فيه مقتضى الحبّ والآخر إمّا ليس فيه مقتضيه، وإمّا يكون فيه مقتضى البغض، لكن لا يتّفق لمتصوّر ولاحظ أن يجمع بين هذين في عالم تصوّره ولحاظه وقوّة خياله أبدا، بل إمّا هذا متصوّر دون ذاك وإمّا ذاك دون هذا، وفي ظرف تصوّر هذا لا يمكن أن يقع في الخيال تصوّر ذاك، وفي حال تصوّر ذاك لا يمكن أن يقع فيه تصوّر هذا فلا محالة لا يتقيّد إرادته، فإنّ المناط جمعهما في الخيال ودرجهما في التصوّر مجتمعين حتّى يقع الكسر والانكسار بينهما بحسب الإرادة؛ فإنّك قد عرفت أنّه بدون توسيط التصوّر لا يمكن تعلّق الإرادة بشيء، فلا محالة يكون مناط الكسر والانكسار في الحبّ والبغض والإرادة والكراهة اجتماع ما يقتضي الحبّ مع ما يقتضي الخلاف في عالم التصوّر بمعنى تصوّرهما منضمّين؛ فإنّه بعد هذا التصوّر تكون الإرادة الجائية عقيب هذا التصوّر متعلّقا بغير صورة الاجتماع.
وأمّا على ما فرضنا من أنّ هذا لا يتصوّر إلّا بدون ما يقتضي خلاف الحبّ، وما يقتضي خلافه لا يتصوّر إلّا بدون هذا، فهذا التصوّر لمقتضى الحبّ لا محالة مورث لتعلّق الحبّ؛ فإنّ تصوّر الشيء الملائم بدون تصوّر منافر طبع معه لا محالة موجب الحبّ به.
فإن قلت: يمكن أن يتصوّر أحدهما ثمّ بعده يتصوّر الآخر، ثمّ بعد هذا تصوّر اجتماع الشيئين الذين تصوّرهما، فبهذا النحو يمكن جمعهما في عالم الخيال وإن كان لا يمكن في النظرة الاولى.
قلت: إنّا نفرض أن يكون اجتماعهما حتّى في النظرة الثانية أيضا غير ممكن وأنّه بهذا النحو أيضا لا يقع صورة اجتماعهما في الذهن، وبالجملة، فلا إشكال على تقدير تحقّق هذا الفرض في عدم تقيّد الإرادة، وإنّما الكلام والإشكال في تحقّق هذا الفرض وإثبات الصغرى له في الخارج.
المقدّمة الرابعة: في إثبات صغرى هذا الفرض وهو محلّ الكلام والنقض والإبرام، فنقول وعلى اللّه التوكّل: إنّ العناوين الأوّليّة التي هي موضوعات الأحكام الواقعيّة، والعناوين الثانوية التي هي موضوعات الأحكام الظاهريّة، أعني الموضوعات بما هي مشكوكة الحكم، لا يمكن أن يقعا ويندرجا في القوّة الخياليّة وعالم التصوّر في زمان واحد أبدا.
بيان ذلك أنّ الإرادة مثل العلم، والعلم لا يتعلّق إلّا بنفس المعلوم لا بالمعلوم مع وصف العلم، فالعلم يتعلّق بالذات المجرّدة عن المعلوميّة.
نعم يمكن أن يلتفت الإنسان حال العلم إلى علمه، لكن في رتبة تعلّق العلم لا يمكن أن يتعلّق إلّا بالشيء المجرّد، فهو في هذه الرتبة متجرّد عن وصف المعلوميّة، بل لا يعقل أن يكون ملحوظا بوصف المعلوميّة؛ فإنّ العلم المأخوذ فيه إن كان نفس هذا العلم الذي يتعلّق به فهذا تقدّم الشيء على النفس ودور، وإن كان علما آخر لزم التسلسل، وهكذا التصوّر، فإنّ الإنسان يتصوّر ذات الشيء لا الشيء المتصوّر، فلا يتعلّق التصوّر بالموصوف بالتصوّر، بل لا يعقل.
وكذلك الكلام في الإرادة، فهي أيضا لا بدّ أن تتعلّق بذات المراد مع التجرّد عن وصف المراديّة، بل لا يعقل أن تتعلّق الإرادة في أوّل الوهلة بالمراد، وهذا في الوضوح بمثابة لا يحتاج إلى بيان.
إذا تقرّر هذا فنقول: إنّ في ابتداء تعلّق البغض بعنوان الخمر مثلا لا شكّ أنّه يتصوّره الشارع، فإذا تصوّره بهذا التصوّر الذي لم يوجد في حالة إرادة ولا كراهة بل هو مقدّمة ويتعقّبه إحداهما فهو يتصوّر الخمر ويتصوّر جميع ما يطرأ عليه من الكيفيّات، فيتصوّر أنّ بعضه أسود وبعضه أبيض وبعضه اصفهاني وبعضه طهراني، إلى غير ذلك من خصوصيّاته، فيلاحظ ويرى أنّه مع كلّ هذه الخصوصيّات اخذ ليس فيه إلّا النفرة ولا يجد منه إلّا المساءة، فحينئذ لا محالة يبغضه ويكرهه ويحرّمه.
هذا في نظرته الاولى، ثمّ بعد ذلك يعني بعد ما صار مبغوضا يحدث ويوجد له حينئذ أفراد أخر لم يكن له تلك الأفراد سابقا وهو مشكوك الحكم ومعلومه ومظنونه، وهذه إنّما يحدث له بعد تحقّق الحكم حقيقة أو بعد تقديره إن لم يكن متحققا، كما لو كان في حال التصوّر الأوّلي قبل حصول الإرادة والكراهة، فيتصور كون الخمر على تقدير الطلب مشكوك الحكم. وبالجملة، هذه حالات تحصل عقيب الطلب وبعد مفروغيّته.
فنقول: لا إشكال ولا كلام في أنّ هذا العنوان المستحدث بسبب الحكم لا يمكن تصوّره في رتبة المتصوّر الأوّل أعني: نفس الخمر؛ فإنّه حادث بالمبغوضيّة، فكيف يتصوّر في حال حصول المبغوضيّة وانقداحها، وإلّا لزم الدور التسلسل؛ إذ كما أنّ مبغوضيّة المبغوض لا يمكن، كذلك مبغوضيّة مشكوك المبغوضيّة؛ فإنّ الشكّ في المبغوضيّة متأخّر عن نفس المبغوضيّة، فإذا لم يعقل اتّصاف الشيء في حال يتعلّق به المبغوضيّة بالمبغوضيّة، فكذلك لا يمكن اتّصافه بالشكّ في المبغوضيّة، وهذا أيضا واضح.
فإن قلت: لا ندّعي سراية الحكم إلى هذا المتقيّد بالمشكوكيّة، بل نقول: إنّ الحكم متعلّق بالذات، والذات موجودة في ضمن المتقيّد بالمشكوكيّة، فلا محالة يسري حكمها إليها.
قلت: إنّ معنى كون مقيّد تحت الإطلاق أن يتعلّق الحكم بالذات والقيد بحيث وقعا جميعا في حيّز الحكم، وهو فرع إمكان رؤية القيد في مرتبة الحكم، والمفروض كونه متأخّرا عنه، فلا إشكال في أنّ الحكم الأوّلي لا يتجاوز من مرتبة الذات إلى مرتبة نفس الحكم والطواري الطارية عليه.
إنّما الكلام والإشكال في عدم إمكان الجمع بين المتصوّر الأوّلي مع الثانوي في رتبة المتصوّر الثانوي، فربّما يقال: إنّ من يتصوّر في الرتبة الثانية الخمر المشكوك الحرمة فهو قد تصوّر نفس الخمر الذي أيضا هو متصوّرة في المرتبة الاولى، فقد جمع بين المتصوّرين في هذه الرتبة، والمقصود عدم إمكان جمعهما حتى في الرتبة الثانية والنظرة الثانية، وقد اجتمعا فيها، وهذا يكفي في وقوع الكسر والانكسار، فتتبدّل كراهة الخمر بطروّ عنوان المشكوكيّة الخالي عن مقتضى البغض عليه في عالم التصوّر بعدم الكراهة، وإلّا يلزم المحذورات جميعا في هذه الرتبة.
وقد يقال: إنّ جمعهما في هذه الرتبة أيضا لا يمكن، وبيانه أنّ الخمر عند التصوّر الأوّلي كان واجدا لكيفيّة خاصّة بها صار ضيّق الدائرة، وفي التصوّر الثانوي زالت تلك الكيفيّة عنه وتبدّلت باخرى صار معها أوسع دائرة وأكثر أفرادا، فهذا الخمر المتصوّر في ثاني الحال غير الخمر المتصوّر في أوّل الأمر في هذه الكيفيّة.
فإن قلت: إنّ المطلق موجود في ضمن المقيّد وغاية الأمر أنّ الخمر كان عند التصوّر الأوّل متّصفا بوصف الإهمال بالنسبة إلى قيد المشكوكية، لا متّصفا بالإطلاق ولا بالتقييد، ولكن في الثاني صار مقيّدا بهذا القيد، ولا إشكال أنّ المهملة موجودة في ضمن المقيّد.
قلت: كيف يكون المتصوّر الأوّل موجودا في ضمن الثاني، والموجود في ضمن الثاني متكيّف بكيفيّة مضادة مع الكيفيّة القائمة بالأوّل، والكيفيّة الحاصلة في الأوّل هي كونه بحيث لا يصدق على المشكوك، والكيفيّة الموجودة في الثانية كونه بحيث يصدق عليه، وإن شئت قلت: إنّه في الأوّل كان فاقد الحكم، وفي اللحاظ الثاني صار واجد الحكم، وبينهما بون بعيد.
فإن قلت: إنّ موضوع المبغوضيّة نفس الخمر بدون تقيّده بشيء حتّى بهذه الكيفيّة التي ذكرت، وبالجملة، فرق بين عدم وجود الحكم وعدم وجود الاتّصاف والتقيّد بهذا العدم، فالمعتبر في المرحلة الاولى عدم الاتّصاف، لا أنّ البغض يتعلّق بالمتقيّد بعدم الاتّصاف والمشروط به.
قلت: قد ذكرنا أنّ الإرادة تكون مثل العلم وأنّه لا يمكن أن يتعلّق بالمبغوض أو بمشكوك البغض، وحينئذ فقوام المبغوضيّة بالتجرّد عن المبغوضيّة، فهذا معنى تقيّد الخمر بهذا التجرّد وعدم الاتّصاف، فمعنى التقيّد لازميّة وجوده، وأنّه لولاه لما تمّ وصحّ تعلّق الحكم والبغض.
فإن قلت: لا شكّ أنّ قوام المبغوضيّة ليس إلّا بنفس الخمر بدون قيد أصلا ولم يحتج إلى ملاحظة سوى نفس الخمر، فكيف يكون قوام المبغوضيّة بما ليس بملحوظ أبدا.
قلت: إنّ التقيّد ثابت واقعا وغير ملحوظ بعنوانه، وإن شئت توضيح ذلك في ضمن المثال فاعلم أنّ الكلّي الطبيعي يشترط ويعتبر في اتّصافه بالكليّة والصدق على الكثيرين تجريده عن جميع الخصوصيّات؛ إذ لولاه كان جزئيّا وغير صادق على الكثيرين، فقوام وصف الكليّة بوصف التجريد، فهو متقيّد بالتجريد واقعا، وليس قيد التجريد ملحوظا معه بعنوانه، وإلّا لزم أيضا جزئيته.
فكذلك في ما نحن فيه، فالخمر مثلا مع وصف كونه بحيث يمتنع انطباقه على مشكوك الحكم يكون موجودا في ذهن الحاكم في النظرة الاولى، وهذا ثابت له في خياله ولحاظه، كيف وإلّا لما أمكن تعلّق المبغوضيّة به، فإنّ متعلّقها لا بدّ من أن يتجرّد من ذلك كما عرفت، مع أنّ هذا الوصف غير ملحوظ بعنوانه.
وبعبارة اخرى: ما يتصوّر في الأوّل لا بدّ أن يكون موضوعا بلا حكم، وما يتصوّر في الثاني موضوع مفروغ عن حكمه، وكيفيّة كونه موضوعا بلا حكم في الأوّل دخيلة في مبغوضيّته، ولا يعقل عروض المبغوضيّة عليه بدون هذه الكيفيّة، كما أنّ كيفيّة تجريد الكلّي الطبيعي عن الخصوصيّات دخيلة في كليّته، ولا يعقل عروض الكليّة عليه بدون هذه الكيفيّة.
وحينئذ فإذا تصوّرت الإنسان متجرّدا عن جميع الخصوصيّات فلا إشكال أنّه متّصف بالكليّة فتحكم عليه في اللحاظ الثانوي بأنّه كلّي، ثمّ إنّك في قولك: زيد إنسان ما تصوّرت ولاحظت إلّا عين ما لاحظت وتصوّرت في اللحاظ الأوّل بلا نقيصة وزيادة، فما وجه أنّ ملحوظك في الأوّل كلّي، وأمّا ملحوظك في الثاني وهو الإنسان المخصوص في ضمن زيد جزئي وليس بكلّي؟، وهل هذا إلّا لأجل أنّ الأوّل في لحاظك متجرّد عن جميع الخصوصيات ومتكيّف بهذه الكيفيّة، وفي الثاني يكون مقرونا معها ومتكيّفا بالاقتران؟.
فإن قلت: لكن مع ذلك لو تعلّق المبغوضيّة بالإنسان كانت متعلّقة بالزيد قطعا مع كونهما على الوصف الذي ذكرت من تضادّ الكيفيّة.
قلت الأعراض التي تعرض الجامع تكون على قسمين، فبعضها تعرضه لا بوصف جامعيّته ولا بتوسيط الذهن، وذلك مثل المبغوضيّة ونحوها، وهذا يسري فيه إلى الأفراد، وبعضها تعرضه بوصف جامعيته وبتوسيط الذهن كوصف أنّه يصدق على الكثيرين، فهذا لا يسري منه إلى الأفراد.
كما أنّ أعراض الفرد أيضا على قسمين، فبعضها تعرضه لا بفرديّته وتوسيط الذهن، وهذا يسري منه إلى الجامع، وبعضها تعرضه بفرديّته وتوسيط الذهن كوصف أنّه لا يصدق على الكثيرين، وهذا لا يسري منه إلى الجامع، فمناط عدم سراية عرض أحدهما إلى الآخر تقوّم العرض بالوصف الذهني وكونه شرطا وواسطة في عروضه.
والحاصل أنّ هنا مطلبين، الأوّل: أنّ العنوان الثانوي أعني المشكوك ليس محفوظا في الرتبة الاولى، والثاني: أنّ العنوان الأوّلي غير محفوظ في الرتبة الثانية، أمّا الأوّل فلأنّ كلّ عرض لا بدّ أن يكون الذات منسلخا في مرتبة عروضه عن هذا العرض ونقيضه؛ لئلّا يجتمع المثلان ولا النقيضان، فالجسم الأبيض إنّما يرد عليه البياض حال انسلاخه عن البياض ونقيضه، والماهيّة في رتبة عروض الوجود عليها لا بدّ أن ينسلخ منه ومن العدم، كيف وهو الموضوع وهما محمولاه، ورتبة المحمول متأخرة عن الموضوع، ففي رتبة الموضوع هو لا موجود ولا معدوم، يعني له قابليّة الوجود والعدم.
فكذلك هنا أيضا عرض البغض في رتبة عروضه بالخمر لا بدّ أن يكون الخمر منسلخا عن البغض ونقيضه ومتكيّفا بالتجرّد عن الحكم، فيمتنع أن يكون من أفراده مشكوك الحكم والمبغوضيّة وإن قلنا على تقدير كونه منها بسراية المبغوضيّة من عنوان الخمر إليه، بناء على سراية الأعراض من العناوين إلى الجزئيات.
وإذن فلا يرى الناهي عن شرب الخمر في هذه الرتبة مشكوك الحكم حتى تقع المزاحمة والكسر والانكسار بينه وبين الخمر بحسب الحبّ والبغض؛ فإنّ الحبّ والبغض أمران حاصلان في النفس كما مرّ، فلا بدّ من تصوّر العنوان المحبوب مع الحالة المبغوضة في القوّة العاقلة حتى يحصل التنفّر ويحصل البغض، وأمّا بدون تصوّرهما في الخيال فلا، فالمزاحم الذي لا يتعقّل بل يغفل عنه لا يعقل تزاحمه في باب الحبّ والبغض، فليسا كالحرارة والبرودة، فالماء البارد والماء الحارّ لو اختلطا في الخارج وقع بينهما الكسر والانكسار ولا حاجة إلى التصوّر، ولكن هنا ما لم يتصوّر حالة اجتماعهما لم يعقل التزاحم.
وأمّا عدم محفوظيّة العنوان الأوّل في الرتبة الثانية فربّما يقال: إنّه بعد تمام الحكم والبغض وتحقّق مشكوك الحكم أنّ الخمر المشكوك الحكم كيف يجوز تحليله، وهل هو إلّا تحليل المبغوض؛ فإنّ الخمر مبغوضة وهو هنا موجود مع الزيادة، فليس تحليله إلّا تحمّلا للمبغوض وترخيصا فيه.
قلت: الكيفيّة التي يتعقّل في الرتبة الاولى هي كون الخمر متصوّرا بحيث يمكن أن يكون من مصاديقه مشكوك الحكم؛ فإنّه في هذه الرتبة منسلخ عن الاتّصاف بالحكم، ونقيض هذا الاتّصاف وهي الثانية قد يعقل على كيفيّة يكون من أفراده مشكوك الحكم، وهاتان الكيفيّتان لا تجتمعان في لحاظ واحد قطّ، كيف وإلّا يلزم اجتماع المتناقضين في الذهن؛ فإنّ الانسلاخ عن الحكم والاتّصاف به لا يمكن جمعهما في الذهن.
وحينئذ فلا تقع المزاحمة والكسر والانكسار أصلا؛ فإنّه فرع اجتماع ما هو المبغوض وهو الخمر بكيفيّة الخاصّة مع عنوان مشكوك الحكم في التصوّر، وقد فرض امتناع اجتماعهما، فكيف تقع المزاحمة بحسب الحبّ والبغض؟.
فالخمر الخارجي المشكوك الحكم يكون الخمر الذي في ضمنه ساريا إليه المبغوضيّة من عنوان الخمر، ولا يسري إلى وصف كونه مشكوك الحكم، فتكون الذات متّصفة بالمبغوضيّة والوصف خاليا عنها، أو يكون محبوبا، ولا يزاحم محبوبيّة هذا الجزء لمبغوضيّة ذلك الجزء، ولا مبغوضيّة ذلك الجزء لمحبوبيّة هذا؛ فإنّ المناط هو الذهن وعالم التصوّر؛ وفيه لا يتّفق بل لا يمكن الاجتماع، وبدونه لا يقع بين الحبّ والبغض كسر وانكسار، فلا محيص إلّا عن اجتماعهما في الوجود الخارجي.
فتحصّل ممّا ذكرنا أنّا وإن قلنا بأنّ الحكم يسري من العناوين إلى الجزئيات، وقلنا أيضا بامتناع اجتماع الأمر والنهي في عنوانين باعتبار اتّحادهما في الوجود ولزوم وقوع الكسر والانكسار بينهما، ولكن هذه السراية وهذا الكسر والانكسار إنّما هما في ما إذا كان هذان العنوانان ممّا أمكن جمعهما في عالم التصوّر وتصوّرهما مجتمعين، وكان هذا الجزئي ممّا أمكن وقوعه تحت هذا العنوان في عالم التصوّر. وأمّا لو لا ذلك كما في عنوان مشكوك الحكم وعنوان الخمر فلا محيص عن عدم تقييد حبّ أحدهما ببغض الآخر ولا العكس وعدم السراية، ولازمه اجتماعهما في الخارج.
ثمّ هذا كلّه بالنّسبة إلى عرض الحبّ والبغض الذين هما يعرضان المتصوّر الذهني دون الشيء الخارجي.
ومن هنا يندفع الإشكال بأنّه كيف اجتمع الضدّان في موضوع واحد؛ فإنّ الخارج ليس بموضوع الحكم والإرادة والكراهة، وإنّما هو المتصوّر، وعرفت عدم اجتماع الضدّين ولا النقيضين ولا المثلين فيه.
نعم، يقع الكلام في ما موضوعه الخارج وليس مرتبطا بعالم التعقّل وهو المفسدة والمصلحة، وكذلك التكليف بما لا يطاق فيما إذا كان حكم مشكوك الحكم مثلا الوجوب، وحكم نفس العنوان الحرمة، فإنّه يقال: كيف اجتمع المفسدة والمصلحة في الوجود الواحد بدون الكسر والانكسار، وكيف يوجّه التكليف بالفعل وبالترك معا بالنسبة إلى شيء واحد، وكذلك تفويت المصلحة، كما لو أدّى الأمارة إلى حرمة الجمعة الواجبة واقعا، والإبقاء في المفسدة فيما إذا أدّى إلى حليّة الخمر المحرّم واقعا.
فنقول: أمّا التكليف بما لا يطاق فهو يلزم على تقدير كون كلا التكليفين منجّزا وليس كذلك؛ فإنّ شرائط التنجيز لا يوجد فيهما معا في شيء من الأوقات، فكلّما كان الحكم الواقعي معلوما فهو منجّز دون الظاهري؛ لعدم تحقّق موضوعه وهو الشكّ في الحكم الواقعي، وكلّما كان الحكم الواقعي غير معلوم فالمنجّز هو الحكم الظاهري دونه، لعدم العلم به الذي هو من شرط التنجيز.
وأمّا اجتماع المصلحة والمفسدة في الوجود الواحد بلا كسر وانكسار فهو ليس بمحذور؛ إذ من الممكن بمكان من الإمكان أن يكون وجود واحد منشئا لأثرين من جهتين، كأن يكون شرب السكنجبين الحارّ مزيلا للصفراء من حيث ذاته، ومورّثا لضعف القلب من حيث وصف حرارة مائه.
وبالجملة، فليس كلّ مصلحة ومفسدة متضادّين، بل لو قلنا في مبحث اجتماع الأمر والنهي بالامتناع أيضا فلا نقول بوقوع الكسر والانكسار إلّا في نفس الطالب بين إرادتيه، لا في الخارج بين المفسدة والمصلحة، ففي المثال لو كان حبّه بزوال الصفراء أكثر من حبّه بعدم عروض الضعف يريد الشرب ويغضّ النظر عن عروض الضعف، ولو كان العكس كان العكس.
وأمّا لزوم التفويت أو الإلقاء أحيانا من العمل بالحكم الظاهري فنلتزم لدفعه بوجود مصلحة في العمل على طبق الظاهري يتدارك بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الواقعة فيها.
«تقرير هذا الوجه (4) وتوضيحه مرّة أخرى»
المقدّمة الاولى: أنّ الأحكام المتعلّقة بالموضوعات ليست كالأعراض الخارجيّة مثل حرارة النار وبرودة الماء وبياض اللبن، فاتّصاف هذه بهذه الأوصاف لا يتوقّف على حضورها في ذهن ذاهن، بل هي واجدة لها في الخارج وإن لم يتصوّرها أحد، وهذا بخلاف الأحكام، فإنّ عروضها على موضوعاتها لا يحصل إلّا بتوسّط ملاحظة الموضوع وتصوّره، فالتصوّر دخيل في عروضها وهذا واضح.
المقدّمة الثانية: أنّ الطالب لشيء متى تصوّر هذا الشيء وتصوّر جميع حالاته التي تطرأ عليه وقلّبه في عالم التخيّل مع كلّ واحدة من تلك الحالات فهذا يكون على ثلاثة أقسام:
الأوّل أن يكون هذا الشيء مع جميع حالاته مطلوبا.
والثاني: أن يكون مع بعضها مطلوبا ومع بعضها غير مطلوب، والصورة الاولى تكون على قسمين: الأوّل: أن يكون في خصوصيّة بعض الحالات منفّر الطبع بأن يكون فيه مع الفائدة المحبوبة فائدة اخرى مبغوضة، والثاني: أن يكون الجميع خاليا عن منفّر الطبع، وبعبارة اخرى واجدا لمقتضى المطلوبيّة وفاقدا للمانع، فهذه أقسام متصوّرة.
فلا إشكال أنّه في صورة يكون الشيء مع بعض حالاته مطلوبا فقط يكون إرادة الطالب مقيّدة بهذا البعض، فلو كان طالبا لعتق الرقبة ولم يحصل مطلوبه إلّا مع كون الرقبة مؤمنة بحيث لا يحصل المطلوب من عتق الكافرة فهو لا محالة يريد عتق المؤمنة.
وكذلك لو كانت الفائدة المطلوبة قائمة بمطلق عتق الرقبة وإن كانت كافرة، ولكن كان في خصوص عتق الكافرة جهة اخرى منفّرة الطبع، وعتق المؤمنة سالمة عن هذه الجهة المزاحمة، فلا محالة أيضا يريد عتق المؤمنة للجمع بين غرضيه من تحصيل الجهة المطلوبة والفرار عن الجهة المنفّرة، فيرفع اليد عن مصلحة عتق الكافرة لأجل الفرار عن مفسدته؛ لأنّ مصلحته ممكن الإدراك في عتق المؤمنة مع السلامة عن محذور مفسدته وإن فرض كون المصلحة أقوى بمراتب من المفسدة.
وليس هنا مقام ملاحظة الأهمّ والمهم، ومقامها مورد الدوران بين فوت المصلحة والفرار عن المفسدة بأن لم يكن لما فيه المصلحة والمفسدة، بدل أمكن درك المصلحة فيه مع السلامة عن المفسدة، وقد عرفت البدل هنا؛ ولهذا على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي تكون الصلاة في الدار المغصوبة فاسدة وإن فرض أشدّية مصلحة الصلاة بمراتب من مفسدة الغصب؛ لإمكان درك هذه المصلحة مع الفرار عن تلك المفسدة بالصلاة في مكان آخر مباح.
وأمّا الصورة الثالثة وهي أن يكون الشيء مع جميع الحالات واجدا لمقتضى المطلوبيّة مع خلوّ خصوصيّة جميع حالاته عن المانع، فحينئذ يكون الطالب مريدا على نحو الإطلاق بدون تقييدها بشيء، وهذه المقدّمة أيضا واضحة ولا كلام فيها وإن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي.
المقدّمة الثالثة وهي أيضا واضحة، وهي أنّه لو فرضنا عنوانين ليس لهما جمع في عالم الخيال، بل لهما فيه وجود بدلي وكان في أحدهما مقتضي المبغوضيّة وفي الآخر مقتضى الترخيص فالعنوان الأوّل يصير مبغوضا مطلقا، والثاني مرخّصا فيه كذلك وإن فرض جمعهما في الوجود الخارجي، وهذا بعد وضوح المقدّمتين السابقتين لا إشكال فيه؛ فإنّك قد عرفت أنّ عروض الأحكام إنّما هو بتوسيط الذهن.
فإن وصل ما فيه مقتضي المبغوضيّة بما فيه مقتضي الترخيص في عالم الخيال يوجب صرف الترخيص عمّا فيه مقتضيه، ولكن هذا فرع إمكان الوصل الذهني والجمع اللحاظي، والمفروض عدم إمكانه، ومعه لا ثمرة لإمكان الجمع في الخارج بعد أنّ عروض المبغوضيّة والترخيص إنّما هو بتوسيط الذهن، فلا محالة يصير ما فيه مقتضى البغض محلا للكراهة المطلقة، وما فيه مقتضى الترخيص محلا للترخيص المطلق، ولا كلام في ذلك.
إنّما الكلام والإشكال في تشخيص صغراه وأنّ العناوين الأوّليّة المتعلّق بها الأحكام الواقعيّة مع العناوين الثانوية التي هي موضوع الأحكام الظاهرية يكون من هذا القبيل؟
فنقول وعلى اللّه التوكيل:
أمّا المرحلة الاولى وهو عدم جمع العنوان الثانوي مع الأوّلي في رتبة لحاظ الأوّلي للحكم عليه بالحكم الواقعي فهو واضح؛ فإنّ الحكم على الخمر مثلا بالحرمة والمبغوضيّة لا يمكن إلّا مع تجرّده عن المبغوضيّة؛ فإنّ عروض العرض على المحلّ لا بدّ وأن يكون في حال خلوّ المحلّ عن هذا العرض، ففي هذه المرحلة الخمر المشكوك مبغوضيّته لا يمكن تصوّره، فلا محالة لا يحكم عليه إلّا بالحرمة؛ فإنّه مع كلّ حالة يمكن لحاظه معها في هذه المرحلة لو لوحظ لا يوجد فيه سوى المفسدة.
وأمّا المرحلة الثانية وهو عدم اجتماع الأوّلي مع الثانوي في عالم لحاظ الثانوي للحكم عليه بالحكم الظاهري ففيها الإشكال، ووجهه أنّ من يلاحظ الخمر المشكوك مبغوضيّته فهو قد لاحظ عنوانين: شرب الخمر ومشكوكيّة الحكم، والأوّل هو الذي لاحظه في المرحلة الاولى وحكم عليه بالمبغوضيّة المطلقة، فكيف يحكم في الثانية بالإباحة أو الوجوب؟ وليس هذا إلّا اجتماع الضدّين وهما الحبّ والبغض، والإرادة والكراهة، والوجوب والحرمة، أو الحرمة والإباحة، أو المتماثلين في محلّ واحد في النفس.
وجوابه أنّ البغض قوامه إنّما هو بوصف خاص وكيفيّة مخصوصة تعقليّة، وحينما يعرض ضدّه ينفكّ عنه هذه الكيفيّة والوصف، بل يحصل له في عالم التعقّل كيفيّة اخرى مضادّة لتلك الكيفيّة، ولا ضير في اجتماع الضدّين في عالم النفس في شيء واحد مع اختلاف كيفيّة تعقّله عند عروض كلّ من العرضين المتضادّين.
ولتوضيح ذلك نمثّل لك مثالا وهو: أنّ الإنسان مثلا إنّما يعرض عليه وصف الكليّة في الذهن عند تعقّله مجرّدا عن جميع الخصوصيّات والضمائم، ولا يصير كليّا مع ملاحظته معها، فقوام كليّته يكون بوصف تجرّده، مع أنّ التجرّد لا يمكن أن يقع قيدا له، فإنّ اللاحظ لو لاحظ وصف التجرّد أيضا فلا ينطبق على أمر آخر، وليس إلّا نفسه، فيكون قوام الكليّة بثبوت التجرّد في عالم النفس واقعا وعدم كونه ملحوظا للحاكم.
ثمّ لو لاحظ هذا الحاكم نفس الإنسان الذي لاحظه أوّلا وحكم عليه بالكليّة بملاحظة ثانويّة مع ملاحظة حالة تجرّده فلا يحكم عليه هذا الحاكم في هذا اللحاظ الثاني إلّا بالجزئيّة، فقد اتّصف الشيء الواحد وهو الإنسان في عالم النفس بعرضين متضادّين وهما الجزئيّة والكليّة مع كون الحاكم واحدا.
ونظير ذلك أيضا اجتماع الجزء والكلّ في أجزاء المركّب؛ فإنّها على ما ذكره الاصوليّون وأهل المعقول يلاحظ.
تارة على نحو خاص وهو لحاظه لا بشرط وعلى سبيل الاندكاك في الكل، فيحكم حينئذ عليه بعينيته مع الكلّ ويصير متعلّقا للوجوب النفسي مثلا.
واخرى يلاحظ بما هو شيء برأسه وعلى سبيل الاستقلال ويعبّر عنه بلحاظه بشرط لا، وحينئذ يحكم عليه بالغيريّة للكلّ ومقدّميّته له وأنّه صار متحصّلا منه ومن سائر الأجزاء، ويصير متعلّقا للوجوب المقدّمي، فقد لزم اتّصاف الشيء الواحد في النفس بعرضين نفسيين متضادين وهما الجزئيّة والكليّة، وكذا يلزم اجتماع المثلين أعني الوجوب النفسي والغيري، وليس وجه صحّة ذلك إلّا اختلاف كيفيّة التعقّل ونحو الاعتبار.
فقوام كليّة الإنسان في المثال الأوّل بتجرّده عن الخصوصيّات في عالم التعقّل مع عدم ملحوظيّة تجرّده، وقوام جزئيّته بلحاظ وصف تجرّده، وقوام عينيّة الحمد والقطرة للصلاة وماء الحوض بلحاظهما لا بشرط، وقوام جزئيتهما بلحاظهما بشرط لا.
فكما جاز في هذين الموضعين جمع المتضادّين والمتماثلين في معروض واحد بمجرّد اختلاف كيفيّة التعقّل، فنقول في المقام أيضا: إنّ الخمر مثلا عند عروض المبغوضيّة عليه متّصف في عالم التعقّل بالتجرّد عن المبغوضيّة، ومبغوضيّته متقوّمة بذلك، ولا يمكن اتصافه بها مع كونه متّصفا بها، وأمّا عروض الإباحة عليه فيكون في حال كونه متّصفا في عالم التعقّل بمفروغيّة مبغوضيّته وشكّ المكلّف فيها، وهاتان كيفيتان لا يمكن جمعهما في تعقّل واحد، واتصاف الخمر بالحرمة يكون في حال إحداهما، وبالإباحة في حال الاخرى، وليس لمقامنا زيادة على المقامين أصلا، فكما لا يستشكل فيهما من جهة جمع الضدين أو المثلين فلا بدّ أن لا يستشكل أيضا فيه.
هذا حاصل الكلام في دفع لزوم اجتماع الضدين والمثلين في النفس، بقي الكلام في أمرين آخرين:
أحدهما: اجتماع المصلحة والمفسدة وترخيص ما فيه المفسدة وتحريم ما فيه المصلحة.
والثاني: التكليف بما لا يطاق وهو اجتماع إيجاب الفعل وإيجاب الترك في موضوع واحد في ما لو كان الفعل بحسب الواقع حراما، وأدّى الطرق إلى وجوبه، أو العكس.
فنقول: أمّا التكليف بما لا يطاق فهو إنّما يلزم لو ساق المكلّف التكليف نحو الضدّين في آن واحد على وجه صار شرائط التنجيز حاصلا في كليهما في آن واحد وعرض واحد، كما لو أمر بالقعود والقيام في آن واحد مع علم المأمور بذلك، وأمّا لو أمر بالضدّين على وجه لم يلزم اجتماع شرائط التنجيز في كليهما في زمان واحد أبدا فلا محذور فيه، كما هو الحال في المقام؛ فإنّ إيجاب الفعل مثلا يكون تنجيزه في حال العلم به، وإيجاب الترك لا يحصل موضوعه إلّا مع الشكّ في إيجاب الفعل وهو في حال الشكّ غير منجّز؛ إذ العلم من شرائط التنجيز، فالوجوب والحرمة وإن كانا موجودين فعلا، لكن أحدهما مؤثّر في العقاب بحسب حكم العقل، والآخر خال عن التبعة والعقاب بحكم العقل.
وأمّا الإشكال الأوّل، فالمصلحة والمفسدة وإن كانا من قبيل الحرارة والبرودة، والسواد والبياض من الأعراض الخارجيّة العارضة على محالّها بدون توسيط ذهن ذاهن- فالخمر بوجوده الخارجي يكون ذا مفسدة فترخيصه في حال الشكّ في حرمته يكون ترخيصا لأمر ذي مفسدة، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم- إلّا أنّا بعد ورود الترخيص من الشرع نلتزم بأنّ مفسدة الخمر وإن كانت غير منقلبة إلى المصلحة- كيف وإلّا يلزم التصويب، بل مفسدته لا فرق فيها بين حالتي العلم والشكّ- إلّا أنّه يمكن أن يكون الخمر مثلا في نظر الشارع ذا مفسدة كإيراثه لقساوة القلب، ولكنّه رأى أنّه لو حرّمه في حال الشكّ في حرمته يلزم مفسدة اقوى كلزوم العسر الشديد على المكلّف في تحصيل الحال فيه وكونه مؤدّيا إلى قتل النفس مثلا.
وبالجملة، فرأى الأمر في حال الشكّ دائرا بين الوقوع في المفسدة الصغرى الكائنة في ذات الخمر، والمفسدة العظمى الحاصلة في تحريمه حال الشكّ، فرجّح الوقوع في الصغرى على الوقوع في العظمى.
ومن هنا ظهر اندفاع الإشكال بلزوم نقض الغرض؛ فإنّ للشارع غرضين، أحدهما أهمّ من الآخر، فعند الدوران رجّح الأهمّ منهما على غيره، فاندفع الإشكال بحذافيره.
الوجه الثاني من وجوه الجواب عن إشكال لزوم المحاذير من التعبّد بغير العلم ما ذكره شيخنا المرتضى وهو ممّا يمكن أن يقال به وهو: أنّ الأوامر الصادرة من الشارع في باب الطرق ليست أحكاما مولويّة، بل هي إرشاد إلى الصواب والواقع.
وتصوير كونها إرشاديّة في حال انفتاح باب العلم أنّ الانسداد عقلي وشرعي، فالعقلي هو عدم إمكان الواقع، مثل أن يكون السفر من البلاد البعيدة إلى مدينة المعصوم للسؤال عنه موجبا لانتشار تشيّع السائل ومورثا لقتل النفوس الكثيرة من الشيعة أو الإمام عليه السلام، فلهذا يرفع عنه مولويّا وجوب تحصيل العلم؛ فإنّ وجوب تحصيل العلم عقليّ، فإنّ مراتب الامتثال أربع، فأوّلها العلم وبعده الظن وبعده الاحتمال وبعده الوهم.
فإن قلت: هذا مبني على بقاء العلم الإجمالي بالأحكام وعدم انحلاله بالأمارات المعتبرة وهو خلاف الواقع.
قلت: الكلام الآن في اعتبار الأمارات، فنحن ندّعي عدم جعل الشارع لها حجيّة، وإنّما أرشد إلى الطريق الأقرب، والعقل بعد جزمه بصدق الشارع يحكم بالحجيّة، فببركة هذا البحث نريد انحلال العلم، وبالجملة، فالصادر من الشارع حكمان، أحدهما مولوي، والآخر إرشادي، فالحكم المولوي الصادر من الشرع في هذا الحال ليس إلّا رفع وجوب تحصيل العلم بالحكم الواقعي، وهذا موضوع آخر غير موضوع الحكم الواقعي؛ فإنّ موضوع الوجوب مثلا صلاة الجمعة، وموضوع رفع الوجوب تحصيل العلم بحكمها.
فإن قلت: نعم يتغاير الموضوعان وبذلك يرتفع غائلة التضادّ ونحوه، لكن إشكال نقض الغرض باق بحاله كما هو جار في الانسداد العقلي؛ فإنّ الشارع يمضي طريقة العقل فيتسبّب بإمضائه إلى نقض غرضه.
قلت: لا محيص عنه؛ فإنّ تحصيل الغرض يكون بإيجاب تحصيل العلم أو بإيجاب الاحتياط وكلاهما مشتمل على المحذور الأشدّ، فلا بدّ من الصبر على عدم مثل هذا الغرض.
ثمّ بعد حصول هذه المقدّمات للمكلّف أعني: صيرورة تحصيل الواقع موجبا لمفسدة أعظم ودفع وجوبه من الشارع يصير حاله حال من انسدّ عليه باب العلم بالواقع عقلا، ولا إشكال أنّ المكلّف في هذا الحال أي حال انقطاع يده من العلم لو خلّي وطبعه، لكان حكم عقله الرجوع إلى ظنّه الفعلي في تشخيص الحكم الواقعي، وكان هو المتعيّن بعد العلم بحكم عقله.
لا يقال: إنّ نتيجة مقدّمات الانسداد على فرض تماميّتها هو التبعيض في الاحتياط لا حجيّة الظّن.
لأنّا نقول: نحن نتكلّم على فرض المبنى الأخير، فلو أعلمه الشارع العالم بالغيب بطريق أقرب كما لو رأى الشارع أنّ المكلّف بعد هذه المقدّمات لو عمل على طبق ظنّه كما هو مقتضى عقله، لوقع في أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر، ولكن لو عمل على طبق مفاد خبر الثقة لكان واقعا في أكل الميتة فقط ويكون وقوعه في خلاف الواقع أقلّ فأعلمه الشارع حينئذ بأنّ هذا الطريق الخاص أقرب من سائر الطرق إلى الواقع فهل صدر منه فعل قبيح، وهل يقول العاقل في ما إذا أدّى هذا الطريق الخاص إلى حليّة الخمر مثلا: إنّ الشارع قد أوقعه في مفسدة شرب الخمر؟ أو يقال: إنّه فعل فعلا حسنا؟ فإنّه لو لم يعلمه وقع في هذه المفسدة ومائة مفسدة اخرى، فالشارع حفظه عن الوقوع في خمسين منها.
وبعبارة اخرى: أنّه وإن كان للشارع في الواقعة الواحدة حكمان أحدهما عدم الجواز والآخر الجواز، إلّا أنّه صدر الأوّل منه على أنّه حاكم، وصدر الثاني منه على أنّه عاقل، فكما أنّ العقل لو رأى فيما بين الظنون ظنّا أقوى من سائر الظنون يحكم بتعيّنه، فكذا هنا أرشد الشارع إلى أنّ خبر الثقة أقوى من الظنّ الفعلي، وبعد القطع بصدقه يحكم العقل بوجوب اتّباع خبر الثقة دون سائر الظنون.
فإن قلت: كيف يمكن منع المكلّف عن الطريق الذي يكون أقرب بنظره إلى الواقع إلى غير الأقرب؛ فإنّ الظنون الفعليّة كلّها أقرب من الأوهام التي في قبالها، فكيف يمكن إرجاع المكلّف إلى الأوهام؟.
قلت: يمكن كون الظن النوعي أقرب إلى الواقع من الشخصي، فإذا اجتمع جميع الظنون الشخصيّة واجتمع جميع الظنون النوعيّة يمكن أن يكون الثانية أقرب من الاولى، كما هو الحال في ظواهر الألفاظ وكما يمكن أن يقطع الإنسان بمخالفة واحد من ظنونه للواقع.
والفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدّم أنّ الحكم الظاهري على ذلك الوجه كان مولويّا، وعلى هذا يكون إرشاديّا.
ونقول لتوضيحه أيضا: أ لا ترى أنّه لو كان لحاكم أحكام وكان في تحصيلها بطريق العلم مفسدة أقوى، أو كان غير ممكن فجاء المحكوم إلى هذا الحاكم واستفسر عنه من حيث إنّه عاقل كامل فقال له: الظنون التي هي مرجعي في أحكامك الغير الممكن علمي بها أيّ منها أقرب إلى الواقع ويوجب الوقوع في المفسدة أقل؟ فعيّن الحاكم له على سبيل الإرشاد وإراءة الصلاح بأنّ الطريق الفلاني أسلم، وإيجابه للمفسدة أقل، فهل يقال لهذا الحاكم في ما إذا أخطأ هذا الطريق: إنّك حكمت في موضوع واحد بحكمين متضادّين؟.
ولو قيل له ذلك يقول: أمّا من حيث كوني حاكما فلا يتفاوت حكمي بجهل المكلّف وعلمه، وليس لي وراء الحكم الأوّلي حكم آخر، وأمّا من حيث كوني عاقلا ومرشدا إلى الصواب وهاديا إلى الواقع فقد حكمت بسلوك الطريق الفلاني؛ لأنّي رأيته أقرب من سائر الطرق إلى الواقع، ولم يصدر منّي إلّا مجرّد إراءة صلاح المكلّف والإرشاد إلى الصواب من دون صدور حكم منّي أصلا.
فإن قلت: على تقدير اللابدّيّة من رفع اليد عن المصالح الواقعيّة إمّا بالانسداد والحرج في الاحتياط، أو بما ذكرت من المفسدة الأعظم في تحصيل العلم هل يكون فعليّة التكليف بمعنى البعث والزجر الفعليين نحوه إلّا فعلا لغوا لا يصدر من الحكيم؟.
قلت: الجواب هو الجواب عن إشكال فعليّة التكليف عند جهل المكلّف مركّبا أو بسيطا مع قصوره، حيث يكون معذورا عقلا والشارع يمضي ذلك من العقل، وعند علم الشارع بعصيان العبد، فما كان هو الجواب في ذينك المقامين نقوله في هذا المقام وأنّه لا ينثلم بذلك فعليّة التكليف، ولا يوجب الكسر والانكسار بين مصلحة الواقع ومفسدة تحصيل العلم حتّى يصير الواقع اقتضائيّا شأنيّا.
والحلّ في الجميع أنّ أوامر الشارع مقرّبات إلى المصالح الواقعيّة، ونواهيه مبعّدات عن المفاسد كذلك، ويجب عليه هذا المعنى بمقتضى حكمته، ففرامينه ليست كفراميننا، حيث إنّ غرضنا ممحّض في شراء اللحم وإتيان الماء وغيرهما من الأغراض المترتّبة على الوجود الخارجي للمأمور به، فلهذا لو علمنا أنّ عبدنا متمرّد ولا يطيع أمرنا لا نأمره، ولو علمنا المانع من إتيانه المأمور به نمتنع من الأمر، لكن فرامين الشارع نظير حكم الحاكم في مقام فصل الخصومة وختم المرافعة، حيث لا عشق له في وجدان زيد للعباء وفقدان عمرو له، بل وظيفته الجلوس في مسند القضاء وإصدار الحكم، فالغرض في نفس الحكم.
وهكذا في مقامنا ليس لطف الحكيم تعالى مقتضيا لأزيد من نصب الإمام وجعل الأحكام، ولو لا ذلك وكان غرضه في حصول المتعلّقات أيضا لزم العياذ باللّه أن يكون اللّه دائما مقهورا لعباده؛ إذ ما من زمان إلّا وفيه جماعة من الناس يعصون اللّه، فالمقصود يتمّ بالنصب والجعل، وبعد ذلك يصير النقصان راجعا إلى المكلّفين إمّا لعصيانهم وإمّا لكونهم موجبين لغيبة الإمام عليه السلام، وعلى كلّ حال يقع التقصير على عنقهم بعد تمام اللطف من اللّه وإتمام الحجّة من قبله.
فإن قلت: مع هذا أيضا يبقى محذور المضادّة بحالها؛ إذ الكراهة والحبّ بالنسبة إلى المتعلّقات سلّمنا انتفائهما وأنّ المصلحة في نفس الحكم، لكن نقول: نفس الحالة الباعثة والزاجرة ولو انقدحت لمصلحة في نفسها ينافي مع إراءة طريق يؤدّي إلى خلاف متعلّقها؛ إذ معناه الرضى بترك المتعلّق في هذا الحال، والمفروض أنّه في بحبوحة البعث نحوه والتحريك إليه.
قلت: نعم ولكن إحدى الحالتين من حيث كونه شارعا، والاخرى من حيث كونه عاقلا، ولا محذور بين الإيجاب والترخيص مع اختلاف الحيثيّة ولو اتّحد الشخص، فكما لا منافاة بين بعث الشرع وترخيص العقل لتعدّد الحاكمين، فكذلك في المقام؛ لفرض كون الشارع حاكما بحيثية الشارعيّة في أحدهما وقطع النظر عن ذلك في الآخر وحكم بحيثية العاقليّة، فافهم.
الوجه الثالث: أنّ المقام من فروع مسألة اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد؛ فإنّ هنا عنوانين أحدهما شرب الخمر مثلا، والآخر اتّباع العادل، فمورد النهي والمفسدة هو الأوّل، ومورد الأمر والمصلحة هو الثاني، وقد تقدّم في بابه أنّ تعدّد العنوان كاف في رفع غائلة اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد وإن فرض اجتماع العنوانين في الوجود الخارجي.
لا يقال: إنّ من يجوّز الاجتماع بتعدّد العنوان إنّما يقول به إذا كان للمكلّف مندوحة كما في الصلاة والغصب؛ فإنّ النهي وإن كان عن كلّ فرد من الغصب تعينيّا، ولكن الأمر لا يقتضي كلّ وجود على التعيين، بل أحد الوجودات، فيمكن امتثاله بالصلاة في مكان مباح، وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ المطلوب من المكلّف كلّ فرد من اتّباع العادل على التعيين، ففي المثال نهي تعييني عن شرب الخمر، وأمر تعييني بشربه لكون العادل قد أخبر بوجوبه، فعلم أنّ القائل بالجواز لا يقول به هنا لعدم المندوحة.
لأنّا نقول: لا فرق في رفع غائلة اجتماع المتضادّين بتعدّد العنوان بين صورة ثبوت المندوحة وصورة عدمها، وتقييد الجواز بصورة ثبوتها ليس لأجل دخله في رفع هذا المحذور، بل هو لأجل دفع محذور آخر وهو لزوم التكليف بما لا يطاق، والعمدة في المقام رفع محذور اجتماع الضدين وهو حاصل بتعدّد الجهة عند مجوّز الاجتماع، وأمّا محذور التكليف بما لا يطاق فقد عرفت جوابه وأنّه إنّما يلزم لو كان كلّ من التكليفين منجّزا في عرض واحد، وليس كذلك في المقام، هذا ما ربّما يقال في تقريب هذا الوجه.
وفيه أنّه لا بدّ في مبحث الاجتماع أن يكون قوام كلّ من الأمر والنهي بأحد العنوانين كما في الصلاة والغصب، وليس كذلك في المقام؛ فإنّ عنوان اتّباع العادل ليس مأمورا به على أنّه هذا العنوان(5)، بل المطلوب حقيقة إتيان ما أخبر العادل بوجوبه، مثلا على أنّ هذا العنوان المخبر عن وجوبه واجب، مثلا لو أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فاتّباعه ومعامله الصدق مع إخباره هو الإتيان بصلاة الجمعة على أنّه بعنوان كونه صلاة الجمعة واجبة، لا الإتيان بها على أنّها بعنوان كونها متابعة لخبر العادل واجبة.
وعلى هذا فمرجع أمر الشارع باتّباع العادل هو الأمر بنفس العناوين التي أخبر العادل بوجوبها بما هي هذه العناوين.
وبعبارة اخرى: الأمر المذكور أمر طريقي بمعنى أنّه طريق إلى ما هو المطلوب حقيقة، وهذا إنّما طلب لأجل إيصاله إلى ذاك ومقدّميّته له، وليس بأمر موضوعي كان المطلوب نفسه.
وإذن فيلزم في ما إذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة مع حرمتها واقعا أن تكون صلاة الجمعة بعنوان أنّها صلاة الجمعة متعلّقة للوجوب والحرمة معا، فيلزم اجتماع المتضادّين في الشيء الواحد مع اتّحاد الجهة، فهو خارج عن موضوع مسألة الاجتماع ويكون باطلا بالاتّفاق.
هذا كلّه بناء على مذهب المشهور من طريقيّة الأحكام الظاهريّة، وأمّا على ما يظهر من شيخ الطائفة قدّس سرّه من موضوعيّتها وأنّ المصالح والمفاسد يكون بالوجوه والاعتبار، وكوننا ظانّين بصدق الراوي جهة من جهات العمل وصفة من صفاتنا، فيمكن أن يتغيّر بسببه حسن العمل وقبحه، فيلزم التصويب المجمع على بطلانه.
وتفصيل هذا الإجمال أنّ التصويب يكون على ثلاثة أقسام:
الأوّل: هو القول بعدم ثبوت حكم مجعول واقعي رأسا مع قطع النظر عن العلم والظّن، بل الحكم الواقعي تابع لآراء المجتهدين، وهذا محال عقلا؛ للزوم كون العلم محدثا للحكم بنظر العالم وهو محال للدور(6)، نعم يمكن أن يكون علم شخص يرى للحكم واقعا محدثا له بنظر شخص آخر.
والثاني: هو القول بأنّ الشارع لكونه عالما بالغيب يعلم بأنّ ما يجعله وينشئه أيّ مكلّف يصل إليه، وأيّ مكلّف لا يطّلع عليه وإن تتّبع، فمن أوّل الجعل يخصّ جعله بمن يعلم أنّه يتتبّع ويطّلع، دون من لو تتّبع لا يطّلع أو يطّلع على الخلاف، وهذا هو الشأن في أوامر الموالي الظاهريّة بالنسبة إلى عبيدهم أيضا، فإنّهم يخصّون أحكامهم وأوامرهم بمن يعلمون أنّه يسمع صوتهم، ولا يوجّهون الحكم نحو من يعلمون عدم سماعه.
وعلى هذا فصلاة الجمعة في حقّ من يؤدّي نظره إلى وجوبها واجبة بجعل الشارع من أوّل الأمر، وفي حقّ من يؤدّي إلى حرمته محرّمة كذلك، وهذا وإن كان لا يستلزم محذورا عقليّا، ولكن يمكن دعوى الإجماع القطعي على بطلانه؛ فإنّ كلّ أحد يعلم بالضرورة بأنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما واحدا يساوي فيه جميع المكلّفين.
الثالث: هو القول بأنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما واقعيّا يساوي فيه العالم والجاهل، إلّا أنّ طروّ عنوان كون العمل ممّا أخبر بوجوبه العادل يوجب انقلاب المفسدة الكامنة في ذاته إلى المصلحة، فيكون الحكم الواقعي في حقّ من قام عنده الأمارة اقتضائيّا فقط، ولم يصل إلى مرتبة الفعليّة، وهذا وإن كان ممكنا عقلا وليس بمثابة الثاني في ثبوت الإجماع القطعي على بطلانه، إلّا أنّ الأساتيد نقلوا الإجماع على بطلانه.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أعلى اللّه مقامه اختار لدفع المحاذير المذكورة وجها آخر وهو أنّها بين ما ليس بمحذور وبين ما ليس بلازم، ثمّ بيّن هذا بوجهين.
الأوّل: أنّه ليس المجعول في مورد الأمارات هو الحكم، بل المجعول هو الحجّية بناء على أنّ الحجيّة أمر وراء الحكم وتناله يد الجعل، بمعنى أنّ الحجيّة ليست منتزعة من الأحكام ولا مستتبعة لها، فإنّه قد يقال: إنّ الصادر الأمر بتصديق العادل وبسبب ذلك ينتزع الحجيّة، فيقال: قد تمّ الحجّة، فإنّ أمر المولى حجّة ذاتيّة، وقد يقال: إنّ الحجيّة بنفسها مجعولة، لكن يلزمها الحكم المولوي والأمر بالمتابعة، فالمدّعى أنّ الحجيّة الصرفة المعرّاة عن الحكم سابقا ولا حقا مجعولة، فيصير موضوع حكم العقل بلزوم الاتباع، والمقصود منه إعطاء شيء حال العلم.
فكما أنّ العبد العالم بأمر مولاه أو نهيه يكون علمه حجّة بالذات بمعنى أنّه لو طابق الواقع تنجّز الواقع، فلا عذر له لو خالف وعصى، ولو كان جهلا مركّبا يعذّر العبد، فلا عذر للمولى في عقوبة العبد على المخالفة، فكون العلم حجّة معناه كونه على حالة يصحّ به الاحتجاج، ومن آثاره حسن العقوبة على الترك عند المصادفة وقبحها عند عدمها وإسقاط العذر من الطرفين.
ثمّ هذا المعنى في العلم ذاتي وجدانا، فإنّ من يرى أمر المولى بلا سترة فلا عذر له ويستحقّ العقوبة، فأمر المولى حجّة ذاتيّة وما وراءه ليس هكذا قطعا، فربّما يدّعى أنّ للشارع أن يحدث ويوجد هذا المعنى فيه بعد ما لم يكن بتوسّط الجعل والإنشاء، كما يوجد الأحكام، وذلك كما لو قال المولى لعبده: جعلت قول الشخص الفلاني حجّة بيني وبينك، بحيث لو اتبعته وظهر مخالفته ما كان لي عذر في عقوبتك وحقّ لمؤاخذتك، ولو خالفته وكان مطابقا ما كان لك العذر.
وفيه أنّ الحجيّة ليست إلّا سببيّة مخصوصة وهو كون الشيء سببا لرفع العذر عمّا بين شخصين، كما أنّ السند عبارة عمّا هو سبب لرفع الكلام عن بين مترافعين.
وبالجملة، لا يتصوّر معنى للحجيّة إلّا السببيّة لصحّة العقاب ولعدم صحّته وقد قرّر في محلّه أنّ مطلق السببيّة غير قابلة للجعل، وعلّل بأنّه لا بدّ من وجود سنخيّة ومناسبة بين العلّة ومعلولها؛ فإنّ المعلول مرتبة نازلة للعلّة، ولأنّه لو لا ذلك لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء، والنسخيّة إن كانت بين شيئين فهو، وإلّا فلا يمكن إحداثها في فاقدها.
فنقول: قول العادل قبل هذا الجعل لم يكن حجّة وسببا للآثار المذكورة، وما كان كذلك لا يعقل إعطاء السببيّة إيّاه.
ومحصّل الكلام أنّه قد يقال: إنّه بتوسّط الوضع والقرار على أنّه متى أراد من العبد الفعل الفلاني يقول كذا أو يفعل كذا، فيصر أمارة وعلامة على إرادته، فيعرض عليه وصف الحجيّة قهرا، فهذا ليس من باب جعل الحجيّة أوّلا، نعم هو فعل يعرض عليه عنوان ثانوي قهرا هو جعل الحجيّة وهذا هو الحال في حجيّة الظواهر، فإنّ متعلّق الجعل أوّلا ليس هو الحجيّة، بل ينجعل بتركه الوضع، وقد يقال: إنّ العنوان الأوّلي جعل الحجيّة بدون توسيط أمر آخر.
فنقول: لا يتعقّل من الحجيّة إلّا معذوريّة العبد واستحقاقه اللذان هما وصفان للعبد أو المصححيّة للعقاب والمعذريّة اللذان هما وصفان لخبر الثقة مثلا، وشيء منهما غير قابل للجعل بهذا النحو، فإنّ العبد إمّا معذور وإمّا لا، وإمّا مستحقّ وإمّا لا، ولا يمكن تكوين المعذوريّة أو عدمها فيه، وكذا في المصححيّة والمعذريّة، وإن اريد معنى آخر فلا نتعقّله.
فالحقّ ما ذكره شيخنا المرتضى من أنّه لا معنى لجعل الحجيّة إلّا جعل الأحكام التي هي مفاد خبر العادل مثلا، فمعنى حجيّة خبره ليس إلّا وجوب العمل على طبقه ولزوم اتّباعه، ومعنى هذا إنشاء الحكم الذي هو المخبر عنه في خبره، وكيف كان فإن قلنا بقابليّة الحجيّة للجعل وإن قلنا بعدم قابليّة مطلق السببيّة له، وقلنا أيضا بأنّ لزوم الاتّباع حكم عقلي يحكم به العقل بعد جعل الحجيّة، فليس الحاكم به الشرع وعلى فرضه يكون ارشاديا، نظير أوامر الإطاعة في الأوامر فلا يلزم اجتماع حكمين، بل اللازم إنشاء حكم وحجيّة، وشأن الحجّة أن يصادف تارة ويخالف اخرى، فهذا محذور غير لازم.
وأمّا تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فهو غير محذور؛ إذ نلتزم بوجود مصلحة اخرى يتدارك بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الواقعة فيها.
والوجه الثاني (7) : أنّه لو قلنا بقبول الحجيّة للجعل وأنّ لازم جعلها جعل لزوم الاتباع الراجع إلى جعل الحكم الذي أفاده الأمارة، أو قلنا بأنّ الحجيّة غير قابلة للجعل، ومعنى جعلها جعل وجوب العمل ولزوم الاتّباع، كما قاله شيخنا المتقدّم قدّس سرّه فاجتماع الحكمين وإن كان يلزم، إلّا أنّهما غير متضادّين ولا متماثلين، وذلك لأنّ الاحكام الواقعيّة ناشئة عن مصالح أو مفاسد في التعليقات، والحكم الظاهري ناش عن مصلحة في نفس إنشائه، نظير الأمر الامتحاني.
وبعبارة اخرى: تضادّ الحكمين إنّما هو من باب تضادّ منشئهما في نفس الحاكم بأن يكون الإيجاب عن إرادة الفعل والحبّ به، والتحريم عن كراهته وبغضه، فلا محالة لا يمكن اجتماعهما في محلّ يمكن وجودهما مثلا لنفس النبويّة والولويّة، وهذا بخلاف ما إذا كان منشأ أحدهما إرادة الفعل أو كراهته، ومنشأ الآخر إرادة نفس الإنشاء.
وتوضيح المقام أنّ الحكم الطريقي بحسب ما يقتضيه الارتكاز يكون عبارة عن حكم لا ملاك في موضوعه، فإنّ العنوان مشير صرف لا موضوعيّة فيه أصلا، بمعنى أنّه لا يحصل غرضا مستقلا غير الأغراض الواقعيّة وليس مقدّمة لوجود تلك الأغراض أيضا، فينحصر أن يكون الملاك منحصرا في الواقع، وهذا الحكم يكون عن ملاك في نفسه، ثمّ مقتضى طريقيته أنّه إن صادف الواقع يصير عينه لا مغايرا له مثله حتى يلزم اجتماع المثلين، وهذا معنى جدّيّته عند المصادفة.
ولو خالف الواقع يصير إنشاء صرفا ليس موضوعا لوجوب الامتثال عقلا، وهذا معنى صوريّته عند عدم الإصابة، ومن المعلوم أنّ الإنشاء الصرف وبعبارة اخرى الطلب الإيقاعي الذي هو الموضوع له لصيغة «افعل» بمذاق هذا المحقّق الجليل قدّس سرّه لا منافاة بينه وبين الطلب الحقيقي المتعلّق بضدّ متعلّقه.
والترخيص المشتمل عليه هذا الطلب الانشائي أيضا ترخيص إنشائي لا حقيقي كما هو واضح، فلا منافاة من جهته أيضا، هذا تقريب رفع المنافاة من جهة المضادّة والمناقضة والمماثلة.
وأمّا تقريب كون الحكم الطريقي قائما مقام العلم في منجزيّة الواقع ورفع العقوبة عنه، أنّ الأمر المولوي الطريقي الذي شأنه العينيّة مع الواقع لدى الإصابة لا يؤمّن عن ضرر عقوبته لأجل هذا الاحتمال، حتى يعلم بصوريّته وعدم إصابته، فتنجّز الواقع يكون مقتضى طريقيته وعدم موضوعيّته، وشأنه الاتّحاد والعينيّة مع الواقع، وملاك تنجّزه إحراز أمر المولى مع احتمال جديّته، فإنّ ذلك موضوع للزوم الامتثال عند العقل.
وأمّا وجه الفرق بين الحليّة التي هي مفاد «كلّ شيء حلال» والحليّة التي هي مفاد خبر الثقة حيث قال بلزوم المنافاة في الاولى بينهما وبين المنع الفعلى لو صادفته، وبعدم اللزوم في الثانية، أمّا عدم اللزوم في الثانية فقد اتّضح وجهه ببيان أنّه صرف حكم إيقاعي إنشائي وليس بترخيص حقيقي، وأمّا اللزوم في مفاد «كلّ شيء حلال» فلأجل أنّه ترخيص حقيقي في موضوع مشكوك الحليّة وليس بطريقي؛ لأنّ عنوان المشكوك لا طريقيّة فيه، ومن المعلوم أنّ الإذن الحقيقي ينافي المنع كذلك.
هذا محصّل ما أفاده هذا المحقّق الجليل على ما وضحه عند البحث بعض تلاميذ تلامذته أيدهم اللّه تعالى بتوفيقه، ولكن استشكل عليه شيخنا المحقّق النحرير واستادنا الذي ليس له نظير أفاض اللّه تعالى علينا من بركات أنفاسه بما حاصله: إنّ الحكم الطريقي إن جعل عبارة عن صرف الإيقاع الذي يحدث في النفس عند التلفظ ب «افعل» الذي لا تنافي بينه وبين الإيقاع بهذا المعنى الذي هو مفاد «لا تفعل» فكما لا محذور بأن يتلفّظ الإنسان بكلمتي «افعل» و«لا تفعل» لا محذور أيضا في انقداح معناهما في الذهن كما في مقام الهزل، فالإشكال متّضح الورود، إذ حال هذا المعنى معلوم عند العقل وأنّه لا يجب اتباعه أصلا.
وإن اريد به الحالة النفسانيّة الباعثة والزاجرة التي يحمل المأمور في الإرادة الآمريّة على العمل عند تمام شرائط التنجيز، والفاعل في الإرادة الفاعليّة، فحينئذ يصحّ كونه موضوعا لحكم العقل بلزوم الامتثال، لكن هذا المعنى متى تحقّق في النفس ولو من قبل مصلحة في نفسها على ما حقّقنا من إمكان ذلك يضادّه تحقّق مثله في طرف النقيض، فكيف حكم بأنّه لا مضادّة بين الحكمين؟ ومجرّد كون المصلحة في أحدهما في المتعلّق وعدمها فيه في الآخر لا يوجب عدم اجتماع كراهتين وحبّين في المتعلّق، وأمّا اجتماع الحالتين الباعثة والزاجرة فيلزم [أن يكون] هما أيضا متضادّان.
ويرد على هذا أيضا أنّه ما معنى كون الرافع بسبب هذا الحكم مثبتا على تقدير الإصابة ومسقطا على تقدير عدمها؛ إذ الأمر المولوي الجدّي بموضوع تصديق العادل وإن كان طريقا ومرآة إلى العنوان الواقعي، لكنّه في مرحلة الحجيّة موضوع، يعني أنّ المولى لا يؤاخذ العبد عند المصادفة وترك الامتثال على ترك الواقع، بل على ترك التصديق، فإنّ شأن الأمر هو الحجيّة بالنسبة إلى متعلّقه ليس إلّا.
فتحصّل أنّ الأمر الإنشائي الصوري ليس له قابليّة تنجيز الواقع؛ إذ بعد ما لم يدخل تحت حكم العقل بلزوم الإطاعة كيف ينجّز الغير؟ وأمّا الأمر الجدّي البعثي فهو موضوع حكم العقل، لكن لا يرتفع غائلة التّضاد بالتزامه أوّلا ولا تنجّز الواقع ثانيا.
لا يقال: على ما ذكرت من كون المؤاخذة على ترك التصديق لا على الواقع المتروك فلم لا يؤاخذ عند عدم الإصابة.
لأنّا نقول: عدم المؤاخذة حينئذ من باب عدم تفويته غرضا من المولى لما هو المفروض من طريقيّته، وعلى هذا يستشكل بأنّه لا فرق بين الأمارة المرخّصة والأصل المرخّص، فلو اغمضنا عمّا ذكرنا وقلنا بأنّ محض كون المصلحة في نفس الحكم ولو الحقيقي يرتفع التضاد بينه وبين ما يكون المصلحة في متعلّقه فعين هذا موجود في الحكم الأصلي أيضا.
ثمّ قال استادنا دام ظلّه: بأنّ كلامه قدّس سرّه عام في كلا شقّي الترديد المذكورين في كلامه من استتباع الحجيّة للتكليف واستتباع التكليف للحجيّة، ويمكن توجيه كلامه وذبّ الإشكال عنه على أحد الشقّين أعني استتباع الحجيّة للتكليف، فإنّه على هذا يكون المجعول الأوّلي هو الحجيّة، غاية ما في الباب من باب الملازمة العقليّة لا ينفكّ جعلها عن جعل حكم بمتابعة الحجّة المجعولة، ومن المعلوم أنّ المؤثّر في تنجيز الواقع وإسقاطه حينئذ هو الحجيّة، والحكم المستتبع بالنسبة إلى هذا الأثر وجوده وعدمه سواء.
فيمكن أن يقال حينئذ بعد الإغماض عن أنّ الحجيّة إنّما تستتبع الحكم الفعلي وعلى فرض صدور حكم من الشرع في هذا الخصوص يكون إرشاديّا، والقول بإمكان جعل الحكم المولوي، بل لزومه وعدم انفكاكه، بأنّه لا نلتزم بعد هذا التسليم بأنّه حكم جدّي ليس إلّا، بل نقول: أمّا عند الإصابة فالحكم الواقعي موجود يكفي عن جعل حكم آخر، وأمّا عند عدمها فالمستتبع- بالفتح- إنّما هو حكم صوري إنشائي، ولا مضادّة بينه وبين الواقع، وهذا بخلاف الحال في الأصل، فإنّ فيه يكون المجعول أوّلا هو الحكم لا حجيّة مستتبعة للحكم، والحكم المجعول لا محالة جدّي فينافي الواقع، لكن هذا كلّه على تقدير هذا الشّق من الترديد.
وأمّا على تقدير القول بأنّ المجعول في الأمارات أيضا هو التكليف، والحجيّة أمر ينتزعه العقل من التكليف، بمعنى أنّ العقل يرى الأمر شيئا يحتجّ به المولى على العبد والعبد على المولى، فحينئذ المؤثّر في التنجيز والإسقاط لا محالة هو التكليف، فلا محيص عن الالتزام بكونه جدّيا، ضرورة عدم الأثر للإنشائي أصلا، فيبقى الإشكالات بحالها.
ثمّ إنّه قدّس سرّه بعد وصوله إلى هنا استدرك بقوله: نعم يشكل الأمر في بعض الاصول العمليّة كأصالة الإباحة الشرعيّة، فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلا، كما في ما صادف الحرام وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه، انتهى.
فيرد عليه أنّه ما وجه الفرق بين هذا وسائر الطرق؟ فكما تقولون في الأمارة التي مفادها الإباحة بأنّ المصلحة في نفس الترخيص فلم لا تقولون به هنا؟.
ثم قال ما حاصله: إنّه لا محيص في مورد هذا الأصل عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في النفس النبويّة أو الولويّة أيضا كالمبدإ الأعلى، ولكن هذا لا يوجب عدم كون الحكم الواقعي بفعلي، بل هو مع ذلك فعلي، بمعنى أنّه فعلي مع قطع النظر عن حالة الشكّ والترخيص.
وتوضيح ذلك أنّه كما يكون للحكم مراتب كذلك للفعلي أيضا مرتبتان، الأوّل:
الفعلي بجميع الجهات وبجميع اللحاظات، والثاني: الفعلي ببعضها، والأوّل واضح، والثاني مثل حليّة الغنم؛ فإنّها بلحاظ كبر الجثّة وصغرها والسواد والبياض فعلي، بمعنى أنّه ناظر بجميع هذه اللحاظات، وأمّا بلحاظ الموطوئيّة فشأني، وليس إلّا ناظرا إلى الاقتضاء، فلا منافاة بين دليلها وبين دليل حرمة الموطوء، وهكذا في ما نحن فيه.
فحرمة شرب الخمر مثلا حكم فعلي بجميع لحاظاته بحسب الظاهر، ولكن بعد ورود الترخيص في الخمر المشكوك يعلم أنّ فعليّته إنّما هو بجميع لحاظات الخمر من اللون والكيفيّة والمعلوميّة إلّا بالنسبة إلى لحاظ مشكوكيّته، فبالنسبة إليه حكم اقتضائي، فما دام الشكّ لا منافاة بينه وبين حكم الأصل، وإذا رفع الشكّ وحصل العلم فقد ارتفع المانع عن الفعليّة فلا يحتاج إلى إنشاء جديد، بل يصير بنفسه وقهرا فعليّا.
ثمّ قال ما حاصله: إنّه على هذا فانقدح أنّه لا يلزم الالتزام بكون الحكم الواقعي في مورد الاصول والأمارات غير فعلي بل شأني حتى يلزم عليه إشكالان، ثمّ أخذ في تقريب الإشكالين.
وحاصل الأوّل منهما أنّه لو كان الحكم الواقعي في المورد المذكور شأنيّا فيلزم أن لا يوجب الأمارات تنجيز الحكم الواقعي، فإنّ قيامها ليس بأقوى من حصول العلم، ولا شكّ أنّه لو حصل العلم بالحكم الشأني فلا يلزم امتثاله واتّباعه، فكذا ما يقوم مقام العلم.
ثمّ ذكر هنا سؤالا وجوابا، وحاصل الأوّل أنّ الحكم الواقعي بنفسه ولو لا قيام الأمارة كذلك، وأمّا هو بعد أداء الأمارة فيصير فعليّا.
وحاصل الجواب أنّ دليل الاعتبار ليس إلّا التنزيل للمؤدّى منزلة نفس الواقع لا منزلة الواقع المؤدّى، وبعبارة اخرى: خبر الثقة مثلا إنّما يحكي نفس وجوب صلاة الجمعة الواقعي، ودليل الاعتبار أيضا ليس أزيد من الالتزام بهذا المضمون وتنزيل ذلك منزلة العلم بهذا المعنى، وليس حكايته عن الوجوب المؤدّي للطريق، وليس التنزيل أيضا منزلة الوجوب المؤدّى له، بل منزلة نفس الوجوب الواقعي.
ثمّ قال ما حاصله: اللّهم إلّا أن يقال: إنّ دليل الحجيّة يدّل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ذى الطريق بدلالة الاقتضاء، فإنّه لو كان تنزيله منزلة نفس الواقع فكما أنّ نفس الواقع إنشائي ليس له وجوب اتّباع، فكذا المجعول بدليل الحجيّة أيضا يصير حكما إنشائيا ليس له وجوب اتباع، فيكون لغوا، فلصون الكلام عن اللغوية لا بدّ من الحمل على أنّ التنزيل إنّما هو منزلة الواقع ذي الطريق، فكما أنّ الواقع ذي الطريق له وجوب اتّباع، فكذلك مؤدّى الأمارة.
ولكن هذا إنّما يتمّ في ما إذا لم يكن للحكم الإنشائي أثر أصلا، وإلّا أمكن التنزيل بلحاظ ذلك الأثر، كما لو كان الحكم الواقعي حليّة اللحم، فيصح تنزيل مؤدّي الأمارة منزلته لا من حيث جواز الأكل، ولكن من حيث جواز الصلاة في الشعر والوبر وسائر الأجزاء، هذا حاصل الإشكال الأوّل.
وحاصل الإشكال الثاني أنّه لو كان الحكم في المورد المزبور شأنيا لزم إمّا عدم المورد لشيء من الاصول والأمارات، وإمّا التنافي والتناقض بحسب الاحتمال، بيان ذلك أنّه لا إشكال أنّ موضوع الاصول والأمارات هو الشكّ في الحكم الفعلي دون الشأني، ضرورة أنّه لو قطع بكون الحكم المحتمل وجوده في المقام شأنيّا فلا مجرى لشيء من الاصول والأمارات.
فنقول: لو كان الحكم الواقعي المحتمل ثبوته في مورد الأصل والأمارة مقطوع الشأنية وغير محتمل الفعليّة فيلزم عدم جريان شيء منهما في شيء من الموارد، فيصيران بلا مورد، وإن كان محتمل الفعليّة فيلزم احتمال حكمين متناقضين في موضوع واحد؛ فإنّ الحكم الذي أفاده الأصل أو الأمارة فعلي بلا شكّ، فاحتمال الفعليّة في الحكم الواقعي أيضا مع كون أحدهما الحليّة والآخر الحرمة مثلا ليس إلّا احتمالا لوجود التناقض، وكما أنّ القطع بالتناقض محذور كذلك احتماله أيضا، هذا على تقدير القول بكون الحكم الفعلي ذا مرتبة واحدة وهو الفعلي من جميع الجهات.
وأمّا على ما ذكرنا من تحقّق الفعلي ببعض الجهات وكون الحكم الواقعي من هذا القبيل فلا يلزم هذا الإشكال، وذلك لأنّ الحكم المدلول للأصل أو الأمارة وإن كان فعليّا بالقسم الأوّل، ولكنّ الواقعي المشكوك فعلي مع قطع النظر عن الحكم الظاهري المذكور، وهذا ليس بتناقض محتمل، وإنّما يكون لو كان كلا الحكمين فعليّا بالقسم الأوّل، ووجه عدم التناقض في الأوّل أنّه قد اخذ في فعليّة أحد الفعليتين قطع النظر عن الآخر، ثمّ أخذ في بطلان الجواب بالترتّب بأنّ الحكم الظاهري وإن كان لا يجتمع مع الواقعي في رتبته، ولكنّ الواقعي يجتمع معه في رتبته، فيلزم اجتماع الضدّين وسائر المحاذير في هذه الرتبة.
هذا محصّل كلامه قدّس سرّه في هذا المقام وقد عرفت الجواب عن إشكاله في جواب الترتّب فلا حاجة إلى الإعادة.
وأمّا إشكاله الأوّل على الجواب بكون الواقعي إنشائيّا بأنّه على هذا يلزم أن لا يصير الواقع بعد قيام الأمارة منجّزا فإنّ الأمارة إنّما يحكي نفس الواقع دون الواقع ذي الطريق، والمفروض أنّ الواقع حكم شأني.
فجوابه أنّ الحكم الشأني لا بدّ في الحكم بفعليّته في زمان من التماس دليل دالّ على أنّه متى يصير فعليّا؟ فإنّ من يبنى على كون الواقعي إنشائيّا فلا محالة يكون مآل أمره إلى هذا، ولا شكّ أنّ قضيّة قوله: الناس في سعة ما لا يعلمون، ورفع عن امّتي ما لا يعلمون، هو ارتفاع السعة بعد العلم، فيكون المحصّل منها أنّ الحكم الواقعي متى تعلّق به العلم يصير فعليّا، ثمّ لو قام الأمارة على حكم نقول بفعليته أيضا بواسطة قيامها مقام العلم في جميع الآثار، فإنّ العلم المأخوذ في هذه الادلّة طريقي بلا إشكال، فيكون مفادها أنّه متى تعلّق العلم أو قام طريق معتبر على حكم يصير فعليّا.
وحينئذ فالأمارة علاوة على حكاية الواقع يفيد أمرين آخرين، أحدهما تعبّدي وهو صيرورة الحكم بسبب قيامه فعليّا، فهذا مأخوذ من التعبّد، وهو الأدلّة المذكورة المعلّقة لرفع السعة على العلم بضميمة أدلّة الاعتبار الدالّة على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.
وبعبارة اخرى: موضوع الفعليّة له جزءان، أحدهما الحكم، والآخر قيام الطريق المعتبر عليه، ففي مورد الأمارة الجزء الثاني محرز بالوجدان ولا حاجة فيه إلى التنزيل، بمعنى أنّه لا حاجة إلى تجشّم أنّ مفاد دليل الاعتبار بدلالة الاقتضاء هو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ذي الطريق، وذلك لأنّ الحكم بعد قيام الأمارة عليه يكون ذا طريق قهرا، نعم في كونه هو الواقع يحتاج إلى التنزيل، ودليل الاعتبار متكفّل لهذا التنزيل وإن فرض كون الواقع إنشائيّا لا أثر له أصلا؛ فإنّ التنزيل بلحاظ الأكثر التعليقي صحيح، أعني كون الواقع الإنشائي بحيث لو لا تعلّق به العلم أو الطريق يصير فعليّا.
والحاصل أنّ مؤدّى الطريق يكون واقعا لو تعلّق به العلم أو الطريق ليصير فعليّا بدليل التنزيل وتعلّق الطريق به بالوجدان.
والأمر الآخر الحاصل من الأمارة عقلي وهو التنجيز، فالأمارة تحكي الواقع بدليل الاعتبار وتوجب الفعليّة بدليل الرفع والسعة ويوجب التنجّز بمقدّمات عقليّة.
[فى انّه لو شكّ فى حجية شيء فهو كالمقطوع عدم حجيته]
الامر الثالث بعد تبيّن إمكان أصل الحجيّة نتكلّم قبل الشروع في الوقوع في الشك فيها.
فنقول: لو شكّ في حجيّة شيء ولم يظفر بعد الفحص بالدليل عليها فهو كالمقطوع عدم حجيّته.
بيان ذلك أمّا على رجوع الحجيّة إلى الإيجاب الشرعي بمعنى إيجاب الاتّباع فواضح، فإنّ هذا الإيجاب ليس بأزيد من إيجاب نفس الواقع، مثلا لو أوجب الشارع العمل على طبق الشهرة وقامت على وجوب الجمعة وكانت واجبة واقعا، ولكن شكّ المكلّف في كلا الإيجابين فكما أنّه عند العقل معذور بحسب نفس وجوب الجمعة وليس في قيده، كذلك بالنسبة إلى إيجاب اتّباع الشهرة الذي هو حكم طريقي يكون كذلك، يعنى لا يترتّب الأثر الذي كان مترتّبا لو علم بالحجيّة وهو استحقاق العقاب؛ فإنّ أثر الحجّة هو العذر عند مخالفة الواقع مع متابعته، والاستحقاق عند موافقة الواقع ومخالفته، فهذان الأثران مسلوبان عند الشكّ في الحجيّة بهذا المعنى، فمعنى مقطوعيّة عدم الحجيّة مقطوعيّة عدم هذه الآثار، كما هو المراد في الحكم الواقعي، فإنّه عند الشكّ في وجوده لا يصير مقطوع العدم بالبديهة، ولكنّ الآثار العقليّة وهو وجوب الاتّباع مقطوعة العدم.
وأمّا بناء على القول بأنّ الحجيّة- أعني المعذورية في وقت والاستحقاق في وقت- بنفسها مجعول للشارع، فكيفيّة كونه عند الشكّ فيه مقطوع العدم أن يقال:
إنّه كما يكون للحكم مراتب كذلك للحجيّة أيضا مراتب، فالمرتبة الاولى نفس الإنشاء والجعل، فهذا يتحقّق بنفس الإنشاء، والمرتبة الاخرى انجعالها وفعليّتها وهو يحتاج مع الجعل إلى علم المكلّف بهذا الجعل، فالمعذوريّة والاستحقاق مشكوك من حيث وجودهما الجعلي الإنشائي، ومقطوع عدمهما بحسب الوجود الانجعالي الفعلي؛ لتوقّفه على علم المكلّف وهو مفقود.
وإذن فيرجع في كلّ واقعة إلى الاصول التي يجري في ذاتها، فإن كان الأصل الذاتي فيها البراءة يحكم بالبراءة وإن قامت الحجّة المشكوكة على ثبوت التكليف، فعلى تقدير الموافقة للواقع لا يوجب الاستحقاق، وإن كان الأصل الذاتي فيها الاحتياط- كما لو كان طرفا للعلم الإجمالي، أو كان من باب الأقلّ والأكثر- يعمل به وإن كانت الحجّة المشكوكة حاكمة بنفي التكليف عن الطرف أو بنفي جزئيّة الجزء المشكوك فلا يكون عذرا لو اتّبعها المكلّف وكان التكليف أو الجزئيّة ثابتا في الواقع، فهذا هو الحال في الشكّ في الحجيّة بعد الفحص، كما هو الظاهر من كلامهم، فإنّ الرجوع إلى الأصل إنّما يكون بعد اليأس عن الدليل.
وأمّا قبل الفحص فإن كانت قائمة على رفع التكليف فهو كما بعد الفحص في أنّه على تقدير الثبوت لا أثر لوجودها الواقعي، فلو كان التكليف موجودا في الواقع وتحقّق أسباب تنجّزه مثل العلم الإجمالي، لا تصير هذه الحجّة مسقطا وإن كانت مثبتة للتكليف، فإن كانت بحسب الواقع ثابتة والمكلّف لو فحص لظفر فهو كمن هو عالم بالحكم.
وبعبارة اخرى: الوجود الواقعي للحكم في هذا التقدير منجّز؛ إذ ليس الساتر بينه وبين المكلّف سوى التكاهل والتهاون عن الفحص الجزئي، فكذلك الحجيّة بأيّ المعنيين يكون في هذا التقدير بوجودها الواقعي منجّز؛ إذ ليس الساتر بينها وبين المكلّف سوى التهاون في الفحص بالمقدار المتعارف، فلو كانت مثبتة للتكليف وخالفها المكلّف فهو كمن خالف الحجّة المعلوم الحجيّة في الاستحقاق للعقوبة إذا كانت الحجّة مطابقة للواقع.
وأمّا قبل الفحص مع كون الحجّة ثابتة في الواقع ولم يكن المكلّف على فرض الفحص المتعارف ظافرا به في علم اللّه، فقد اختار شيخنا المرتضى قدّس سرّه في الشكّ قبل الفحص في نفس الحكم الواقعي استحقاق العقوبة، فإنّ نفس التكاليف الواقعيّة لها اقتضاء الاستحقاق، غاية الأمر أنّ العذر مانع عن العقاب، فلو فحص ولم يظفر كان العذر ثابتا، وأمّا لو لم يفحص فهو وإن كان في علم اللّه لو تفحّص لم يظفر ولكن ليس له في قبال العقاب عذر.
فعلى هذا المبنى يكون الحال في الشكّ قبل الفحص في الحجيّة أيضا ذلك، فيقال:
لو فحص ولم يظفر فهو معذور، ولكن قبل الفحص ليس له عذر، فعدم العذر إنّما هو من أثر الشكّ المذكور، ووجود الحجيّة وعدمها سيّان، بل على هذا يكون في صورة كونه لو فحص لظفر أيضا كذلك، يعني أنّ الشكّ هو المنجّز لا الحجّة الواقعيّة.
ولكن منعنا هذا الكلام في ذلك المقام بأنّ العقاب بلا حجّة قبيح، ولا يمكن أن يكون الشكّ حجّة، فمن شكّ في ثبوت التكليف ولم يفحص وجه كونه ملزما بالاحتياط أو الفحص أنّه شاكّ في أنّ العقاب مع الحجّة أو بلا حجّة، فلهذا يحكم ةعقله بالاحتياط أو الفحص حتى يستريح، ولا يحكم باستراحته قبل الفحص؛ لاحتمال وجود الحكم في الواقع ووصول المكلّف إليه لو فحص عنه بحيث يكون حجّته على العقاب على هذا التقدير هو هذا الحكم الواصل، لا الشكّ قبل الفحص بنفسه.
وبعبارة اخرى: الشكّ قبل الفحص بيان قطعي على البيان، لا أنّ نفسه بيان، وأمّا على ما هو المفروض من أنّه وإن فحص فهو لا يصل إلى الحكم في علم اللّه فعقابه عند اللّه عقاب بلا حجّة وإن كان هو يحتمل كونه عقابا مع الحجّة، ولا يرخّصه عقله بالاستراحة، بل يوجب عليه الفحص من باب دفع الضرر المحتمل، وعلى هذا ففي الشكّ في الحجيّة قبل الفحص مع عدم الظفر على تقدير الفحص يحكم بعدم الاستحقاق بعين هذا البيان.
فإن قلت: كما أنّه لو علم المكلّف بأنّ هذا المائع خمر وكان غصبا تقولون بأنّه مستحقّ للعقوبة، ووجهه أنّه خالف تكليف المولى مع وجود الملزم، فكذلك الحال في الشكّ قبل الفحص، الملزم، وهو نفس الشكّ موجود، والمفروض وقوعه في مخالفة الواقع.
قلت: وجه الاستحقاق في المثال أنّه علم بأصل الحرمة الشرعيّة التي كانت نتيجة لقياس «كلّ خمر حرام وهذا خمر فهو حرام» والمفروض إصابة علمه في هذه الجهة، وهذا بخلاف مقامنا؛ فإنّ الشكّ وجه ملزميّته احتمال وجود البيان، فمع عدم وجوده لا مصحّح في البين ولا يكفي وجود البيان على البيان مع عدم نفس البيان، وهل هو إلّا كوجود البيان على الواقع مع عدم نفس الواقع، وإلّا فاللازم في ما إذا كان التكليف المعلوم في أطراف العلم الإجمالي موجودا في جميع الأطراف أن يتعدّد العقاب لو ارتكب الأطراف، فإنّ وجه تنجّزه أيضا من باب احتمال الواقع المنجّز في كلّ طرف، فالملزم في كلّ طرف موجود، فإذا صادف مع الواقع في الكلّ يلزم على قولك تعدّد العقاب، ووجه الكلّ أنّ المدار على البيان القائم على الواقع، لا على البيان القائم على البيان.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الحجّة المشكوكة بعد الفحص يكون مقطوعا عدم حجيّتها بلا شكّ على كلا معنييها، وكذلك قبل الفحص في النافية للتكليف، وأمّا المثبت فقبل الفحص مع الظفر على تقديره يكون منجّزة كالحجّة المعلومة بلا شكّ، وقبل الفحص مع عدم الظفر على تقديره فبناء على مبنى الشيخ المرتضى يكون كصورة الظفر على تقديره، وعلى ما ذكرنا يكون كالصورة الاولى.
فعلى ما ذكرنا يكون الحجّة الواقعيّة منجّزة في صورتين، إحداهما: الفحص والظفر بها، والثانية: عدم الفحص والظفر على تقديره، وغير منجّزة في غيرهما.
وخلاصة ما ذكرنا مع تشريح زائد أن يقال: إنّ الحجيّة التي إثباتها ونفيها مهمّنا قد اخذ في حقيقتها أمران وأثران، الأوّل: التنجيز، والثاني: الإسقاط، فإذا كان في الواقع أحكام ملزمة وأصابت الأمارة فهي منجّزة لهذه الأحكام، ولو كانت الأحكام ملزمة وقامت الأمارة على الإباحة فهي مسقطه لها، فنقول: هذان الأمران اللذان هما إمّا نفس الحجيّة، وإمّا فائدتاها لا يمكن عند الشكّ في الحجيّة القطع والجزم بعدمهما بالضرس القاطع، بل لا بدّ من التفصيل.
فنقول: أمّا من حيث الأثر الأوّل وهو التنجيز والإثبات والإلزام فهو بعد الفحص وعدم الظفر مقطوع العدم، بمعنى أنّ وجود الحجّة الواقعيّة حينئذ كعدمه وليس مورثا لوقوع المكلّف في مئونة التكليف الذي يشتمله هذه الحجّة، كيف والحال كذلك في نفس الواقع، فالحكم الواقعي بوجوده الواقعي ليس مؤثّرا في عقاب تاركه لو تفحّص ولم يجده، فكذا الحجيّة الواقعيّة أيضا لا يؤثّر في تنجيز مفادها لو تفحّص عنها المكلّف ولم يجدها، وهذا واضح.
وأمّا الحال بالنسبة إلى هذا الأثر قبل الفحص فهو أنّه على مبنى شيخنا المرتضى يكون الحكم هو الإلزام، فيقول بأنّ نفس الشكّ ملزم سواء كان في الواقع حجّة واقعيّة أم لم يكن أصلا، وعلى الأوّل سواء كانت بحيث يظفر به على تقدير الفحص، أم كانت بحيث لم يظفر به على هذا التقدير، غاية الأمر ما دام لم يتفحّص يكون الشكّ بنفسه ملزما، ولكن بعد الفحص لو ظفر بالحجّة وعلم بها تصير الحجّة المعلومة حينئذ ملزمة للمكلّف، فينقلب الحجيّة من الشكّ إلى الحجّة المعلومة، فتكون على هذا أيضا الحجيّة الواقعيّة بلا أثر؛ لأنّ الأثر للشكّ.
وأمّا على ما ذكرنا من أنّه لا موضوعيّة للشكّ بنفسه وإنّما يحكم العقل في حاله بالتفحّص لأجل احتمال وجود الحجّة في الواقع، فإنّه يكفي في حجّة المولى على العبد أن يقيم الحجّة له بحيث لو تفحّص عنها العبد لظفر بها ووصل إليها، فيكون الأمر تابعا للواقع، فإن كان بحسب علم اللّه تعالى لا حجيّة واقعيّة في البين أصلا فالمكلّف يكون في فسحة ووسعة، وكذلك لو كانت الحجيّة الواقعيّة ثابتة في علم اللّه ولكن كان الأمر في علم اللّه تعالى أيضا بحيث لو تفحّص المكلّف لما يصل إلى الحجيّة ويظفر، فيكون في فسحة أيضا ولا إلزام عليه.
وأمّا لو كان الحجّة في علم اللّه تعالى ثابتة في الواقع وكان في علمه تعالى أيضا بحيث لو تفحّص عنه لظفر به، فحينئذ تكون الحجّة الواقعيّة بوجودها الواقعي المجهول مؤثّرا في التنجيز والإثبات، وليس متوقّفا على تحقّق الوجود العلمي لها؛ فإنّ الإيصال الذي شأن الآمر ليس إلّا نصب الدليل على وجه يكون سهل الوصول إلى من أراد الوصول ولم يكن محتاجا إلى مقدّمات صعبة خارجة عن المتعارف، وليس في باب نفس الواقع ولا دليله حكم العقل بأزيد من ذلك؛ إذ لو اعتبر في تماميّة الحجيّة الإيصال الفعلي للزم إقحام الأنبياء؛ إذ لم يجب على أحد الحضور في مجلسهم وسماع كلامهم، بل كانوا يضعون الأصابع في آذانهم.
فتحقّق من ذلك أنّ الحجّة الواقعيّة المجهولة ليس وجودها الواقعي غير مؤثر بقول مطلق، بل هو مؤثّر بشرطين، الأوّل: أن يكون لها واقعيّة، والثاني: أن يكون بحيث لو تفحّص لظفر به، هذا هو الكلام من حيث أثر التنجيز.
وأمّا أثر الإسقاط فالحجّة المجهولة غير مقيّدة من هذا الحيث مطلقا، سواء كانت حجّة في الواقع أم لم يكن، وعلى الأوّل سواء وصل به على تقدير الفحص أم لم يوصل، وسواء قبل الفحص وبعده.
أمّا بعده فواضح، وأمّا قبله مع فرض الوصول لو تفحّص- مثلا لو كان المبتلى به من أطراف العلم الإجمالي- ثمّ قامت الشهرة على إباحة هذا الطرف وكان الواجب واقعا موجودا فيه وشكّ في حجيّة الشهرة وكانت في الواقع حجّة وبحيث لو تفحّص المكلّف عن حجيّته لوصل إليها، ومع ذلك لم يتفحّص وارتكب هذا الطرف على جهل بحجيّة الشهرة، فهذه الحجيّة الواقعيّة بوجودها الواقعي لا يورث سقوط تبعة ذلك الوجوب الواقعي عن هذا المكلّف.
سرّ ذلك أنّ مقدّمات صحّة عقوبة المولى وحجّته على العبد تامّة لا نقص فيها، فإنّ العلم الإجمالى منجّز للواقع وحجّة تامّة للمولى، ولا بدّ للعبد في ترك الاطاعة مع وجود هذه الحجّة القويّة للمولى من وجود مستند يستند إليه في ذلك حتى يجيب به عند سؤال المولى ويكون حجّة له في قبال حجّة المولى، وفي هذا الفرض المفروض أنّ تحقّق الحجّة على الإباحة في الواقع مع شكّ المكلّف فيه ليس لهذا المكلّف الشاك حجّة في قبال المولى، فيكون حجّة المولى وهو العلم الإجمالي حجّة عليه ومورثة لصحّة عقابه.
والفرق بين هاهنا ومرحلة التنجيز- حيث قلنا هناك بأنّ الحجّة الواقعيّة بوجودها الواقعي حجّة للمولى ومستند له في العقاب، وقلنا هنا بأنّ وجوده الواقعي الموصوف بكونه يوصل إليه على تقدير الفحص ليس بمستند وحجّة للعبد في رفع العقاب- أن لا يطلب في باب حجّة المولى إلّا إتمام المقدّمات التي من شأن المكلّف- بالكسر- اقامتها، وليس المقدّمات الأخر للوصول إلى المكلّف- بالفتح- المطلوبة منه مطلوبة من المكلّف- بالكسر- مثلا لو بيّن الشارع الحكم في مكان يصل صوته إلى العبد عادة فأوجد العبد باختياره مانعا عن إصغائه، فليس التقصير حينئذ إلّا من قبل العبد، فوظيفة المولى إقامة الحجّة على وجه كان الوصول إليه بطريق المتعارف سهلا، فلو أقامها كذلك ثمّ تهاون العبد عن التفحّص عنه بالقدر المتعارف، فليس جهله حينئذ عذرا له، بل الحجّة الواقعيّة حجّة للمولى.
فإن قلت: على ما تقدّم من الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي بالترتّب مع أخذ حال التجرّد لحاظا لا قيدا في الواقعي فالمكلّف في مورد العلم الإجمالي مستريح؛ لأنّه شاك.
قلت: إنّما اخذ التجرّد من غير الشكّ المقرون بالعلم.
فإن قلت: فما وجه الجمع بين الحكم الترخيصي في الأطراف مع الواقع؟ قلت:
نختار في باب العلم الإجمالى الطريق الآخر أعني: حيازة الشرع كرسي العقل وأنّه أرشد إلى ما هو الصلاح، كما لو رخّص العقل في بعض الأطراف، فهنا لم يدرك عقل العامّة، لكن الشارع رآه فأرشد إليه من باب أنّه عقل، ولا منافاة بين الحكم الصادر منه بما هو شارع، والحكم الصادر عنه بما هو حائز لكرسي العقل.
فإن قلت: فإذا فرضنا أنّه حكم بحجيّة الطريق المؤدّى إلى خلاف التكليف الثابت واقعا فمعناه أنّ سلوك هذا الطريق مرضيّ؛ ولا تنجيز للواقع معه، وليس في هذا الحكم قيد الوصول إلى المكلّف، فمن أين احدث هذا القيد؟.
قلت: حال هذا الحكم كحال الأحكام الواقعيّة، فكما هاهنا بوجوداتها الواقعيّة لا يؤثّر، بل بضميمة العلم، فكذلك هنا أيضا العقل التام الكامل وإن كان حكم بالمعذوريّة، لكن هذا حكم شأني، وإنّما يصير فعليّا عند وصوله إلى المكلّف.
وبعبارة اخرى: العلم الإجمالي منجّز للتكليف الواقعي لو لم يقم في أحد الأطراف مؤمّن، ووجود الحجّة العقليّة واقعا مع عدم الوصول إلى المكلّف ليس في حكم العقل مؤمّنا، فمؤمنيّته إنّما يكون في صورة الوصول، غاية الإشكال المتصوّر هنا بعد تسليم فعليّة الواقع مع العذر العقلي أنّ المعذريّة إن كان متعلّقا بالوجود الواقعي فلا فرق بين الوصول وعدمه، وإن كان متعلّقا بالموضوع مع قيد الوصول يلزم الدور، مع أنّه خلاف الواقع.
والجواب أنّه كما أنّ المنجزيّة في العلم الإجمالي يكون بنحو الاقتضاء بحيث يقبل أن يمنع عنه العذر العقلي القائم في بعض الأطراف، كذلك المعذّرية متعلّقة هنا بالواقع، لكنّه على نحو الاقتضاء بحيث يقبل منع المانع.
فنقول: جهل المكلّف مانع، والعلم الإجمالي مقتض للتنجيز، والحجّة الواقعيّة أيضا مقتض للعذر، ولكنّ الجهل مانع عن اقتضائه، فيكون مقتضى التنجيز سليما عن المانع.
وهذا بخلاف مرحلة الإسقاط، فوجود الحجّة في الواقع بهذا النحو ليس مثمرا ومنتجا للعبد شيئا في رفع العقاب عن نفسه، فإنّ رافع العقاب عنه استناده في العمل على خلاف القواعد والاصول المنجّزة عليه التكليف ظاهرا إلى حجّة قائمة على الرخصة، والاستناد إنّما يتحقّق لو علم بوجود الحجّة المذكورة، فلا يتحقّق الاستناد إليه بمجرّد وجودها الواقعي مع عدم العلم بها.
فتحصّل أنّ وجود الحجّة الواقعيّة المجهولة لا يؤثّر شيئا في مرحلة التنجيز والإثبات إلّا في صورة واحدة، وهي ما إذا كانت موجودة وكان المكلّف يظفر بها لو تفحّص، وأمّا في مرحلة الإسقاط فلا يؤثّر شيئا أصلا في شيء من الصور.
ثمّ إنّ شيخنا المرتضى قدّس سرّه حاول في هذا المقام إثبات عدم الحجيّة عند الشكّ بأدلّة حرمة التشريع عقلا ونقلا، وأنت تعرف أنّه لا مساس لهذه المسألة بمقامنا؛ فإنّ البحث في هذا المقام عن الحجيّة وعدمها والتنجيز والإسقاط وعدمهما، وليس لازم وجود الحجيّة صحّة الاستناد إلى الشارع.
ألا ترى أنّ حجيّة الظن بمقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة ليس الحاكم بها إلّا العقل، ولا يستند حجيّته إلى الشرع أصلا، وذلك لأنّ الحجّة العقليّة غير منتهية إلى الشرع، فكما أنّ وجوب اتّباع الحكم المعلوم عند انفتاح باب العلم حكم عقلي ولا مدخل للشرع فيه أصلا، فكذا وجوب اتّباع الحكم المظنون عند الانسداد على هذا التقرير أيضا عقلي محض لا دخل للشرع فيه.
وبالجملة، فالحكم بحجيّة شيء مشكوك الحجيّة ليس ملازما لنسبة حكم مشكوك الورود عن الشرع إلى الشرع، وليس داخلا في هذا العنوان حتى يرجع في حكمه إلى الأدلّة الدالّة على حرمة هذا العنوان.
_______________
(1) فإنّه على مذهب من يقول بالتوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي يجعل الواقعي شأنيّا والظاهري فعليّا يمكن له القطع بعد الاطلاع على الدليل على الحكم الظاهري، أمّا قبل الاطلاع لا يمكن له هذه الدعوى؛ لأنّه لا يدري لعلّ الأحكام الواقعيّة كانت فعليّة، وعلى هذا التقدير يعترف بالاستحالة، فكيف يصحّ له دعوى القطع بعدمها بقول مطلق؟.
وكذلك على قول من يذهب إلى الجمع بنحو الترتّب بضميمة أخذ حال التجرّد عن الشكّ في موضوع الواقعي على سبيل الحاليّة لا القيديّة كما في التجريد في موضوع الكليّة؛ فإنّه يمكن له بعد الظفر على الدليل أن يستكشف على طريق الإنّ من دخل التجرّد على النحو المذكور، ولكن قبل ذلك يحتمل عدم ذلك، ومعه يبقى محذور المناقضة والمضادّة بحالهما، فلا يمكن له أيضا دعوى القطع بعدمه لا محالة.
(2) وقد يقال: إنّه غير معقول؛ لأنّه بعد مساواة طرفي الإمكان والاستحالة في النظر فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجّح، وفيه: أنّه معقول وإلّا فكيف تعقّلتم من-- العقلاء الحكم بعدم القرينة عند احتمال وجودها وعدمها؟ والحلّ: أنّه يمكن أن يكون غلبة عدم القرينة في نظرهم طريقا إلى العدم، وفي مقامنا غلبة الممكنات طريقا إلى الإمكان فالأولى القول بأنّه غير مسلّم.
(3) والمناقشة في المثليّة بأنّ أحدهما إخبار عن حسّ والآخر عن حدس، أو أنّ في الإخبار عن اللّه الدواعي على الكذب متوفّرة للكشف عن علوّ الرتبة وسموّ المنزلة بخلاف الأخير، مخدوشة؛ فإنّ ذلك إنّما يصلح فارقا في مرحلة الوقوع لا الإمكان العقلي؛ فإنّ شيئا من ذلك لا يمنع عن الإمكان العقلي، منه قدّس سرّه.
(4) أي ترتّب الأمر بالعمل بمؤدّى الأمارة على الأمر بالواقع، وانظر الصفحة: 168.
(5) يعني عنوان تصديق العادل ليس بموضوع، بل مشير إلى الواقع، منه قدّس سرّه.
(6) بيانه قد سبق قبل هذا فليراجع.
(7) أي الوجه الثاني الذي ذكره المحقق الخراساني قدس سره.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|