المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17738 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الصمامات الغازية
9-9-2021
التركيب الكيمياوي للثمار
2023-03-24
Cubic Triangular Number
16-12-2020
عناصر الاقامة في المعاملة الضريبية
12-4-2016
الضريبة العامة على رقم الأعمال المتتابعة
26-2-2022
Molecular Fluorescence: Experimental Procedure
22-4-2020


تفسير الآية (1-14) من سورة الزخرف  
  
3405   09:48 صباحاً   التاريخ: 27-5-2020
المؤلف : إعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .....
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الزاي / سورة الزخرف /

قال تعالى : {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف : 1 - 14]

 

تفسير مجمع البيان

- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)

{حم} مر معناه {والكتاب المبين} أقسم بالقرآن المبين للحلال والحرام المبين ما يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام {إنا جعلناه} أي أنزلناه عن السدي وقيل : قلناه عن مجاهد ونظيره ويجعلون لله البنات أي يقولون {قرآنا عربيا} أي بلسان العرب والمعنى جعلناه على طريقة العرب في مذاهبهم في الحروف والمفهوم ومع ذلك فإنه لا يتمكن أحد منهم من إنشاء مثله والابتداء بما يقاربه من علو طبقته في البلاغة والفصاحة إما لعدم علمهم بذلك أو لأنهم صرفوا عنه على الخلاف بين العلماء فيه .

 {لعلكم تعقلون} أي لكي تعقلوا وتتفكروا فيه فتعلموا صدق من ظهر على يده وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن لأن المجعول هو المحدث بعينه {وإنه} يعني القرآن {في أم الكتاب} أي في اللوح المحفوظ وإنما سمي أما لأن سائر الكتب تنسخ منه وقيل لأن أصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ عن الزجاج وهو الكتاب الذي كتب الله فيه ما يكون إلى يوم القيامة لما رأى في ذلك من صلاح ملائكته بالنظر فيه وعلم فيه من لطف المكلفين بالإخبار عنه {لدينا} أي الذي عندنا عن ابن عباس {لعلي} أي عال في البلاغة مظهر ما بالعباد إليه من الحاجة وقيل : معناه يعلو كل كتاب بما اختص به من كونه معجزا وناسخا للكتب وبوجوب إدامة العمل به وبما تضمنه من الفوائد وقيل علي أن عظيم الشأن رفيع الدرجة تعظمه الملائكة والمؤمنون {حكيم} أي مظهر للحكمة البالغة وقيل حكيم دلالة على كل حق وصواب فهو بمنزلة الحكيم الذي لا ينطق إلا بالحق وصف الله تعالى القرآن بهاتين الصفتين على سبيل التوسع لأنهما من صفات الحي .

 ثم خاطب سبحانه من لم يعتبر بالقرآن وجحد ما فيه من الحكمة والبيان فقال {أ فنضرب عنكم الذكر صفحا} والمراد بالذكر هنا القرآن أي أ فنترك عنكم الوحي صفحا فلا نأمركم ولا ننهاكم ولا نرسل إليكم رسولا {أن كنتم قوما مسرفين} أي لأن كنتم والمعنى أ فنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم فلا نعرفكم ما يجب عليكم من أجل إنكم أسرفتم في كفركم وهذا استفهام إنكار ومعناه إنا لا نفعل ذلك وأصل ضربت عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصى أو سوط ليعدل به إلى جهة أخرى ثم وضع الضرب موضع الصرف والعدل وقيل أن الذكر بمعنى العذاب ومعناه أ حسبتم أنا لا نعذبكم أبدا عن السدي .

وقوله تعالى : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

ثم عزى سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقوله {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} أي في الأمم الماضية {وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون} يعني أن الأمم الخالية التي ذكرناها كفرت بالأنبياء وسخرت منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم واستهزأت بهم كما استهزأ قومك بك أي فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم بل كررنا الحجج وأعدنا الرسل {فأهلكنا أشد منهم بطشا} أي فأهلكنا من أولئك الأمم بأنواع العذاب من كان أشد قوة ومنعة من قومك فلا يغتر هؤلاء المشركون بالقوة والنجدة {ومضى مثل الأولين} أي سبق فيما أنزلنا إليك شبه حال الكفار الماضية بحال هؤلاء في التكذيب ولما أهلكوا أولئك بتكذيبهم رسلهم فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك .

 {ولئن سألتهم} أي إن سألت قومك يا محمد {من خلق السماوات والأرض} أي أنشأهما واخترعهما {ليقولن خلقهن العزيز العليم} أي لم يكن جوابهم في ذلك إلا أن يقولوا خلقهن يعني السماوات والأرض العزيز القادر الذي لا يقهر ، العليم بمصالح الخلق وهوالله تعالى لأنهم لا يمكنهم أن يحيلوا في ذلك على الأصنام والأوثان وهذا إخبار عن غاية جهلهم إذ اعترفوا بأن الله خلق السماوات والأرض ثم عبدوا معه غيره وأنكروا قدرته على البعث ثم وصف سبحانه نفسه فقال {الذي جعل لكم الأرض مهدا} وقرىء مهادا وقد مضى ذكره في طه {وجعل لكم فيها سبلا} تسلكونها {لعلكم تهتدون} لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في أسفاركم وقيل معناه لتهتدوا إلى الحق في الدين بالاعتبار الذي حصل لكم بالنظر فيها .

وقوله تعالى : {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}

فقد أكد سبحانه ما قدمه بقوله {والذي نزل من السماء ماء} أي غيثا ومطرا {بقدر} أي بقدر الحاجة لا زائدا عليها فيفسد ولا ناقصا عنها فيضر ولا ينفع وفي ذلك دلالة على أنه واقع من قادر مختار قد قدره على ما تقتضيه الحكمة لعلمه بذلك {فأنشرنا} أي فأحيينا {به} أي بذلك المطر {بلدة ميتا} أي جافة يابسة بإخراج النبات والأشجار والزروع والثمار {كذلك} أي مثل ما أخرج النبات من الأرض اليابسة {تخرجون} من قبوركم يوم البعث .

{والذي خلق الأزواج كلها} يعني أزواج الحيوان من ذكر وأنثى وقيل معناه خلق الأشكال جميعها من الحيوان والجماد فمن الحيوان الذكر والأنثى ومن غير الحيوان مما هو كالمقابل كالحلو والمر والرطب واليابس وغير ذلك وقيل الأزواج الشتاء والصيف والليل والنهار والشمس والقمر والسماء والأرض والجنة والنار عن الحسن .

{وجعل لكم من الفلك} أي السفن {والأنعام} من الإبل والبقر عن سعيد بن جبير وقيل الإبل {ما تركبون} في البحر والبر {لتستووا على ظهوره} بين سبحانه أن الغرض في خلق ما ذكر لتستووا على ظهور ما جعل لكم فالضمير في ظهوره يعود إلى لفظ ما {ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} فتشكروا على تلك النعمة التي هي تسخير ذلك المركب {وتقولوا} معترفين بنعمه منزهين له عن شبه المخلوقين {سبحان الذي سخر لنا هذا} المركب أي ذلله لنا حتى ركبناه .

{وما كنا له مقرنين} أي مطيقين مقاومين في القوة {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} أي ولتقولوا أيضا ذلك ومعناه وإنا إلى الله راجعون في آخر عمرنا على مركب آخر وهو الجنازة قال قتادة قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم وروي عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبر ثلاثا وقال : (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى والعمل بما ترضى اللهم هون علينا سفرنا واطوِ عنا بعده . اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال)

وإذا رجع قال : (آئبون تائبون لربنا حامدون) أورده مسلم في الصحيح وروى العياشي بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال ذكر النعمة أن تقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام وعلمنا القرآن ومن علينا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتقول بعده : سبحان الذي سخر لنا هذا . الى اخره .

___________________________

1 – مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص67-71 .

 

تفسير الكاشف

- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)

 

{حم} تقدم الكلام في مثله في أول سورة البقرة {والْكِتابِ الْمُبِينِ} . هذا قسم منه تعالى بالقرآن الذي فيه بيان الهدى والضلال ، والحلال والحرام {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . تقدم مثله في الآية 2 من سورة يوسف ج 4 ص 486 والآية 113 من سورة طه ج 5 ص 247 والآية 3 من سورة حم السجدة والآية 7 من سورة الشورى . وتكلمنا كثيرا حولها ، وليس لدينا الآن من مزيد .

{وإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} . ضمير انه للقرآن ، وأم الكتاب أصله . . وليس من شك ان علم اللَّه سبحانه هو الأصل لجميع الكتب السماوية . .

ووصف سبحانه القرآن بالعلي لأنه يعلي ويرفع من شأن الذين يستمعون له ويعملون به ، وقد رأينا كيف أخرج العرب من جاهلية جهلاء إلى حضارة زاهرة ، وكيف نشر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها حين أحلَّوا حلال القرآن ، وحرموا حرامه . . وأيضا وصفه تعالى بالحكيم لأنه ساوى بين الناس دون استثناء ، ودعا إلى التسامح ، وحث على العمل النافع ، والتعاون لمصلحة الإنسانية جمعاء .

{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} . بعد ان ذكر سبحانه القرآن ، وانه الناصح الأمين قال للذين كذبوا به من مشركي العرب : ما ذا ترون ؟

أنترك تذكيركم بالقرآن لا لشيء إلا لأنكم أسرفتم على أنفسكم وظلمتموها بالجهل والضلال ؟ بل أنتم أولى بالتذكير من غيركم {وكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} .

انهم كثيرون ، وقص سبحانه على نبيه أخبار العديد منهم ، وقال له : ولَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ومِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ - 78 غافر .

{وما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} . تماما كما استهزأ بك قومك يا محمد . . فلا يشقّنّ ذلك عليك . . ولا بدع في ذلك . . انه الصراع بين أهل الضلالة والعمى وبين دعاة الحق والعدل في كل زمان ومكان {فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أهلك سبحانه الطغاة الأشداء من الأمم الماضية انتصارا للأبرار الضعفاء {ومَضى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} أي وقصصنا في القرآن حال المكذبين الأولين وإهلاكهم لعل قومك يتذكرون ويتعظون .

{ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .

تقدم مثله في الآية 61 من سورة العنكبوت والآية 25 من سورة لقمان والآية 38 من سورة الزمر {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} . تقدم في الآية 99 من سورة الأنعام ج 3 ص 234 والآية 3 من سورة الرعد ج 4 ص 374 والآية 53 من سورة طه ج 5 ص 223 {والَّذِي خَلَقَ الأَزْواجَ كُلَّها} أي الأصناف من الحيوان والنبات والجماد .

{وجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ والأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ} . بعد أن ذكّرهم سبحانه بنعمة الماء والأرض ، وانهم يأكلون منها ويلبسون ويشربون - ذكّرهم بنعمة المواصلات ، وخص الفلك والأنعام بالذكر من باب المثال لا من باب الحصر لأن غيرهما كالسيارة والطائرة لم يكن معروفا في ذلك العهد {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} ضمير ظهوره يعود إلى الاسم الموصول ، وهوما تركبون {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} الاستواء الاستقرار ، وعليه أي على ما تركبون .

{وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ} أي راجعون ، ومقرنين مطيقين . وفي نهج البلاغة : (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال ، اللهم أنت الصاحب في السفر ، وأنت الخليفة في الأهل ، ولا يجمعهما - وهما الصحبة في السفر والبقاء عند الأهل - غيرك لأن المستخلف لا يكون مستصحبا ، والمستصحب لا يكون مستخلفا) .

وعلَّق الشيخ محمد عبده على ذلك بقوله : (أول هذا الكلام مروي عن رسول اللَّه (صلى الله عليه واله) ، وأتمه أمير المؤمنين بقوله : ولا يجمعهما الخ وذات اللَّه تستوي عندها الأمكنة كما تستوي الأزمنة ، فالسفر والحضر عندها سواء) .

_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص537-539 .

 

تفسير الميزان

- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) 

 

السورة موضوعة للإنذار كما تشهد به فاتحتها وخاتمتها والمقاصد المتخللة بينهما إلا ما في قوله : {إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم} إلى تمام ست آيات استطرادية .

تذكر أن السنة الإلهية إنزال الذكر وإرسال الأنبياء والرسل ولا يصده عن ذلك إسراف الناس في قولهم وفعلهم بل يرسل الأنبياء والرسل ويهلك المستهزءين بهم والمكذبين لهم ثم يسوقهم إلى نار خالدة .

وقد ذكرت إرسال الأنبياء بالإجمال أولا ثم سمي منهم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (عليه السلام) ، وذكرت من إسراف الكفار أشياء ومن عمدتها قولهم بأن لله سبحانه ولدا وأن الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصة بنفي الولد عنه تعالى فكررت ذلك وردته وأوعدتهم بالعذاب ، وفيها حقائق متفرقة أخرى .

والسورة مكية بشهادة مضامين آياتها إلا قوله : {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} الآية ، ولم يثبت كما سيأتي إن شاء الله .

قوله تعالى : {والكتاب المبين} ظاهره أنه قسم وجوابه قوله : {إنا جعلناه قرآنا عربيا} إلى آخر الآيتين ، وكون القرآن مبينا هو إبانته وإظهاره طريق الهدى كما قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89] ، أو كونه ظاهرا في نفسه لا يرتاب فيه كما قال : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة : 2] .

قوله تعالى : {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} الضمير للكتاب ، و{قرآنا عربيا} أي مقروا باللغة العربية و{لعلكم تعقلون} غاية الجعل وغرضه .

وجعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة والوجود لا ينالها عقول الناس ، ومن شأن العقل أن ينال كل أمر فكري وإن بلغ من اللطافة والدقة ما بلغ فمفاد الآية أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبي عن العقول البشرية وإنما جعله الله قرآنا عربيا وألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه ، والرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم كما تقدم غير مرة .

قوله تعالى : {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} تأكيد وتبيين لما تدل عليه الآية السابقة أن الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول .

والضمير للكتاب ، والمراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ كما قال تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج : 21 ، 22] ، وتسميته بأم الكتاب لكونه أصل الكتب السماوية يستنسخ منه غيره ، والتقييد بأم الكتاب و{لدينا} للتوضيح لا للاحتراز ، والمعنى : أنه حال كونه في أم الكتاب لدينا - حالا لازمة - لعلي حكيم ، وسيجيء في أواخر سورة الجاثية كلام في أم الكتاب إن شاء الله .

والمراد بكونه عليا على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنه رفيع القدر والمنزلة من أن تناله العقول ، وبكونه حكيما أنه هناك محكم غير مفصل ولا مجزى إلى سور وآيات وجمل وكلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآنا عربيا كما استفدناه من قوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود : 1] .

وهذان النعتان أعني كونه عليا حكيما هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية فإن العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم والألفاظ أولا وكان مؤلفا من مقدمات تصديقية يترتب بعضها على بعض كما في الآيات والجمل القرآنية ، وأما إذا كان الأمر وراء المفاهيم والألفاظ وكان غير متجز إلى أجزاء وفصول فلا طريق للعقل إلى نيله .

فمحصل معنى الآيتين : أن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع وأحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين وإنما أنزلناه بجعله مقروا عربيا رجاء أن يعقله الناس .

فإن قلت : ظاهر قوله : {لعلكم تعقلون} إمكان تعقل الناس هذا القرآن العربي النازل تعقلا تاما فهذا الذي نقرؤه ونعقله إما أن يكون مطابقا لما في أم الكتاب كل المطابقة أولا يكون ، والثاني باطل قطعا كيف؟ وهو تعالى يقول : {وإنه في أم الكتاب} و{بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} و {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة : 77 ، 78] ، فتعين الأول ومع مطابقته لأم الكتاب كل المطابقة ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولا لنا وما في أم الكتاب عند الله غير معقول لنا .

قلت : يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا وما في أم الكتاب نسبة المثل والممثل فالمثل هو الممثل بعينه لكن الممثل له لا يفقه إلا المثل فافهم ذلك .

وبما مر يظهر ضعف الوجوه التي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم : إن المراد بكونه عليا أنه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس ، وقول بعضهم : معناه أنه يعلو كل كتاب بما اختص به من الإعجاز وهو ينسخ الكتب غيره ولا ينسخه كتاب ، وقول بعضهم يعني أنه يعظمه الملائكة والمؤمنون .

وكقول بعضهم في معنى {حكيم} إنه مظهر للحكمة البالغة ، وقول بعضهم معناه أنه لا ينطق إلا بالحكمة ولا يقول إلا الحق والصواب ، ففي توصيفه بالحكيم تجوز لغرض المبالغة .

وضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبر في مفاد الآية السابقة وظهور أن جعله قرآنا عربيا بالنزول عن أم الكتاب .

قوله تعالى : {أ فنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين} الاستفهام للإنكار ، والفاء للتفريع على ما تقدم ، وضرب الذكر عنهم صرفه عنهم .

قال في المجمع : ، وأصل ضربت عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصا أو سوط ليعدل به إلى جهة أخرى ثم وضع الضرب موضع الصرف والعدل .

انتهى .

والصفح بمعنى الإعراض فصفحا مفعول له ، واحتمل أن يكون بمعنى الجانب {وإن كنتم} محذوف الجار والتقدير لأن كنتم وهو متعلق بقوله : {أ فنضرب} .

والمعنى : أ فنصرف عنكم الذكر – وهو الكتاب الذي جعلناه قرآنا لتعقلوه - للإعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أ فنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي أنا لا نصرفه عنكم لذلك .

قوله تعالى : {وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون} {كم} للتكثير ، والأولون هم الأمم الدارجة و{ما يأتيهم} إلخ ، حال والعامل فيها {أرسلنا} .

والآيتان وما يتلوهما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أن كونكم قوما مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنة الهداية من طريق الوحي فإنا كثيرا ما أرسلنا من نبي في الأمم الماضين والحال أنه ما يأتيهم من نبي إلا استهزءوا به وانجر الأمر إلى أن أهلكنا من أولئك من هو أشد بطشا منكم .

فكما كانت عاقبة إسرافهم واستهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة إسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعيد لقومه .

قوله تعالى : {فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين} قال الراغب ، : البطش تناول الشيء بصولة .

انتهى وفي الآية التفات في قوله : {منهم} من الخطاب إلى الغيبة ، وكان الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم اعتبارهم بهذه القصص والعبر وليكون تمهيدا لقوله بعد : {ومضى مثل الأولين} ويؤيده قوله بعد : {ولئن سألتهم} خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

ومعنى قوله : {ومضى مثل الأولين} ومضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الأمم الأولين وأنه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزءون .

قوله تعالى : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم} في الآية وما يتلوها إلى تمام ست آيات احتجاج على ربوبيته تعالى وتوحده فيها مع إشارة ما إلى المعاد وتبكيت لهم على إسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنه تعالى هو خالق الكل ثم الأخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لأمور العباد كجعل الأرض لهم مهدا وجعله فيها سبلا وإنزال الأمطار فينتج أنه تعالى وحده مالك مدبر لأمورهم فهو الرب لا رب غيره .

وبذلك تبين أن الآية تقدمة وتوطئة لما تتضمنه الآيات التالية من الحجة وقد تقدم في هذا الكتاب مرارا أن الوثنية لا تنكر رجوع الصنع والإيجاد إليه تعالى وحده وإنما تدعي رجوع أمر التدبير إلى غيره .

قوله تعالى : {الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون} أي جعل لكم الأرض بحيث تربون فيها كما يربى الأطفال في المهد ، وجعل لكم في الأرض سبلا وطرقا تسلكونها وتهتدون بها إلى مقاصدكم .

وقيل : معنى {لعلكم تهتدون} رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله وتوحيده في العبادة والأول أظهر .

وفي الكلام التفات إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعل الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة وهو أن التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصا بالله سبحانه وقولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلا فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة .

قوله تعالى : {والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون} قيد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنه عن إرادة وتدبير لا كيف اتفق والإنشار الإحياء ، والميت مخفف الميت بالتشديد ، وتوصيف البلدة به باعتبار أنها مكان لأن البلدة أيضا إنما تتصف بالموت والحياة باعتبار أنها مكان ، والالتفات عن الغيبة إلى التكلم مع الغير في {أنشرنا} لإظهار العناية .

ولما استدل بتنزيل الماء بقدر وإحياء البلدة الميتة على خلقه وتدبيره استنتج منه أمر آخر لا يتم التوحيد إلا به وهو المعاد الذي هو رجوع الكل إليه تعالى فقال : {كذلك تخرجون} أي كما أحيا البلدة الميتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء .

قيل : في التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال وتوضيح منهاج القياس .

قوله تعالى : {والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} قيل : المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر وأنثى وأبيض وأسود وغيرها ، وقيل : المراد الزوج من كل شيء فكل ما سوى الله كالفوق وتحت واليمين واليسار والذكر والأنثى زوج .

وقوله : {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} أي تركبونه ، والركوب إذا نسب إلى الحيوان كالفرس والإبل تعدى بنفسه فيقال : ركبت الفرس وإذا نسب إلى مثل الفلك والسفينة تعدى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى : {وإذا ركبوا في الفلك} ففي قوله : {ما تركبون} أي تركبونه تغليب لجانب الأنعام .

قوله تعالى : {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا - إلى قوله - لمنقلبون} الاستواء على الظهور الاستقرار عليها ، والضمير في {ظهوره} راجع إلى لفظ الموصول في {ما تركبون} ، والضمير في قوله : {إذا استويتم عليه} للموصول أيضا فكما يقال : استويت على ظهر الدابة يقال : استويت على الدابة .

والمراد بذكر نعمة الرب سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك والأنعام ذكر النعم التي ينتفع بها الإنسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى مكان وحمل الأثقال قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [إبراهيم : 32] ، وقال : {والأنعام خلقها - إلى أن قال - وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} : [النحل : 7] ، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه .

وقوله : {وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} أي مطيقين والإقران الإطاقة .

وظاهر ذكر النعمة عند استعمالها والانتفاع بها شكر منعمها ولازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول : {سبحان الذي} إلخ ، فإن هذا القول تسبيح وتنزيه له عما لا يليق بساحة كبريائه وهو الشريك في الربوبية والألوهية ، وذكر النعمة شكر - كما تقدم - والشكر غير التنزيه .

ويؤيد هذا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإن الروايات على اختلافها تتضمن التحميد وراء التسبيح يقول {سبحان الذي} إلخ .

وروي في الكشاف ، عن الحسن بن علي (عليهما السلام) أنه رأى رجلا يركب دابة فقال : سبحان الذي سخر لنا هذا فقال : أ بهذا أمرتم؟ فقال : وبم أمرنا؟ قال : إن تذكروا نعمة ربكم .

وقوله : {وإنا إلى ربنا لمنقلبون} أي صائرون شهادة بالمعاد .

______________________

1 - الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص68-73 .

 

تفسير الامثل

- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) 

ذنوبكم لا تمنع رحمتنا !

مرّة أُخرى نواجه الحروف المقطّعة في بداية هذه السورة ، وهي حروف (حم) ، وهذه رابع سورة تبدأ بـ (حم) وتتلوها ثلاث سور أُخرى أيضاً ، فتشكّل هذه السور السبعة بمجموعها (أسرة حم) وهي بالترتيب : المؤمن ، فصلت ، الشورى ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، والأحقاف .

وقد بحثنا الحروف المقطّعة بصورة مفصّلة فيما سبق (راجع بداية سورة البقرة ، بداية آل عمران ، أوّل الأعراف ، بداية سورة «فصلت» في خصوص حم) .

ويقسم تعالى بالقرآن الكريم في الآية الثّانية ، فيقول : (والكتاب المبين) . قسماً بهذا الكتاب الواضحة حقائقه ، والبيّنة معانيه ومفاهيمه ، والظاهرة دلائل صدقه ، والمبيّنة طرق هدايته ورشاده .

ثمّ يضيف : {إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون} (2) .

إنّ كون القرآن عربيّاً ، إمّا بمعنى أنّه نزل بلغة العرب التي هي أوسع لغات العالم في بيان الحقائق ، وقادرة على تبيان دقائق المطالب بكل جمال ودقّة في التعبير . أو بمعنى فصاحته ـ لأنّ أحد معاني كلمة (عربي) هو «الفصيح» وهي إشارة إلى أنا قد جعلناه في منتهى الفصاحة وغايتها ، لتظهر الحقائق جيّداً من خلال كلماته وجمله ، ويدركها الجميع جيداً .

والطّريف أنّ القسم وجوابه ـ هنا ـ شيء واحد ، فهو تعالى يقسم بالقرآن أنّه جعل القرآن عربيّاً ليستفيد الجميع منه ويعقلوا آياته ، وربّما كان هذا إشارة إلى أنّه لم يكن هناك شيء أجلّ من القرآن ليقسم به ، فإنّ ما هو أسمى من القرآن نفس القرآن ، لأنّه كلام الله سبحانه ، وكلام الله مبيّن لذاته المقدّسة .

ولا يدلّ التعبير بـ (لعل) على أنّ الله سبحانه يشك في تأثير القرآن ، أو أنّ الكلام هنا عن الرجاء والأمل الذي يصعب الوصول إليه وتحقّقه ، بل إنّه يشير إلى تفاوت الأرضيّات الفكرية والأخلاقيّة لسامعي آيات القرآن الكريم ، ويشير أيضاً إلى أنّ تأثير القرآن يستلزم توفر شروطاً معيّنة أُشير إليها إجمالاً بكلمة (لعل) . وقد أوردنا تفصيلاً أكثر لهذا المعنى في ذيل الآية (200) من آل عمران .

ثمّ يتطرق القرآن إلى بيان ثلاث صفات أُخرى لهذا الكتاب السماوي ، فيقول : (وإنّه في أُم الكتاب لدينا لعلي حكيم) ويشير في الصفة الأُولى إلى أن القرآن الكريم قد حُفظ وأُثبت في أُمّ الكتاب لدى الله سبحانه ، كما نقرأ ذلك أيضاً في الآية (22) من سورة البروج : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [البروج : 21 ، 22] .

والآن ، لنر ما هو المراد من «أم الكتاب» ، أو «اللوح المحفوظ» ؟

(الأُم) في اللغة تعني أصل كل شيء وأساسه ، وإنّما يقول العرب للأم أمّاً لأنّها أساس العائلة ومأوى الأولاد ، وعلى هذا فإنّ (أم الكتاب) يعني الكتاب الذي يكون أساساً لكل الكتب السماويّة ، وهو ذلك اللوح المحفوظ لدى الله سبحانه ، والمصون من كل تغيير وتبديل وتحريف . . إنّه كتاب علم الله المحفوظ لديه ، والذي أُدرجت فيه كل حقائق العالم ، وكل حوادث الماضي والمستقبل ، وكل الكتب السماويّة ، ولا يستطيع أي أحد أن يصل إليه ويعلم ما فيه ، إلاّ إذا أراد الله سبحانه أن يُعلم أحداً بالمقدار الذي يريده عزَّوجلّ .

وهذا وصف عظيم للقرآن الذي ينبع من علم الله اللامتناهي ، وأصله وأساسه لديه سبحانه ، ولهذا يقول في الصفة الثّانية : (لَعَلِيّ) وفي الثالثة (حكيم) .

إنّ الشيء الذي ينبعث من علم الله اللامتناهي يجب أن يكون بهذه الصفات .

واعتقد البعض أنّ سمو القرآن وعلو مقامه نابع من أنّه فاق كلّ الكتب السماويّة ، ونسخها جميعاً ، وهو في أرفع مراتب الإعجاز .

واعتبر البعض الآخر علو القرآن لاحتوائه على حقائق لا تدركها أفكار البشر ، وهي بعيدة عن مدى ما تستوعبه عقولهم ـ إضافة إلى الحقائق التي يفهمها الجميع من ظاهر القرآن .

ولا تتضارب هذه المعاني فيما بينها حيث تجتمع كلّها في مفهوم (عَلِيّ) .

وهنا مسألة تستحق الإِنتباه ، وهي أنّ (الحكيم) صفة للشخص عادة ، لا الكتاب ، لكن لمّا كان هذا الكتاب السماوي بنفسه معلماً عظيماً وناطقاً بالحكمة ناشراً لها ، فإنّ هذا التعبير في محله تماماً .

وقد وردت كلمة «الحكيم» بمعنى المستحكم الحصين أيضاً ، وكلّ هذه المعاني جمعت في اللفظة المذكورة ، وهي صادقة في شأن القرآن الكريم ، لأنّه حكيم بكل هذه المعاني .

وفي الآية التّالية يخاطب المنكرين للقرآن والمعرضين عنه ، فيقول : {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن كنتم قوماً مسرفين}؟

صحيح أنّكم لم تألوا جهداً في مخالفتكم للحق وعدائه ، ووصلتم في المخالفة إلى حدّ الإِفراط والإِسراف ، إلاّ أنّ رحمة الله سبحانه واسعة بحدٍّ لا تشكل هذه الأعمال المناوئة حاجزاً في طريقها ، ونظل نُنزل باستمرار هذا الكتاب السماوي الذي يوقظكم ، وآياته التي تبعث الحياة فيكم ، حتّى تهتزّ القلوب التي لها أدنى حظ من الإِستعداد وتثوب إلى طريق الحقّ ، وهذا هو مقام رحمة الله العامّة ، أي : رحمانيته التي تشمل العدو والصديق ، والمؤمن والكافر .

جملة (أفنضرب عنكم) جاءت هنا بمعنى : أفنصرب عنكم ، لأنّ الراكب إذا أراد أن يحوّل دابّته إلى طريق آخر ، فإنّه يحوّله بضربه بالسوط أو بشيء آخر ، ولذلك فإنّ كلمة الضرب تستعمل في مثل هذه الموارد بدلاً من الصرف (3) .

«الصفح» في الأصل بمعنى جانب الشيء وطرفه ، ويأتي أيضاً بمعنى العرض والسعة ، وهو في الآية بالمعنى الأوّل ، أي : أنحول عنكم هذا القرآن الذي هو أساس التذكرة إلى جانب وطرف آخر ؟

«المسرف» من الإِسراف ، وهو تجاوز الحدّ ، إشارة إلى أنّ المشركين وأعداء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقفوا عند حدّ في خلافهم وعدائهم مطلقاً .

ثمّ يقول في عبارة قصيرة كشاهد على ما قيل ، وتسليةً لخاطر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وتهديداً للمنكرين المعاندين : (وكم أرسلنا من نبيّ في الأوّلين * وما يأتيهم من نبيّ إلاّ كانوا به يستهزئون) .

إنّ هذه المخالفات وأنواع السخرية لم تكن لتمنع لطف الله ورحمته أبداً ، فإنّها فيض متواصل من الأزل إلى الأبد ، ووجود يعمُّ عطاؤه كلّ العباد ، بل إنّه سبحانه قد خلقهم للرحمة {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود : 119] ، ولهذا فإنّ إعراضكم وعنادكم سوف لا يمنع لطفه مطلقاً ، وينبغي أن لا يفتر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون الحقيقيّون ، فإنّ لهذا الإِعراض عن الحق واتباع الشهوات والهوى والميول تاريخاً طويلاً .

لكن ، ومن أجل أن لا يتصور هؤلاء بأنّ لطف الله اللامتناهي سيحول دون عقابهم في النهاية ، لأنّ العقاب بنفسه من مقتضى حكمته ، ولذلك يضيف في الآية التالية : {فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين} .

فالآية تخاطب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّنا سبق وأن ذكرنا لك نماذج كثيرة من هذه الأقوام العاصية الطاغية ، وأوحينا إليك تفصيل حالهم بدون زيادة أو نقصان ، وكان من بينهم أقوام أقوى وأشدّ من مشركي العرب كثيراً ، ولهم إمكانيّات وثروات وأفراد وجيوش وإمكانات واسعة . . كفرعون وآل فرعون ، والتاريخ ، وأوضح من ذلك أن تتدبّروا ما نزل في القرآن في شأنهم لتعلموا أيّها الطغاة المعاندون أنّكم لستم في مأمن من عذاب الله الأليم أبداً .

«البطش» ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ بمعنى أخذ الشيء بالقوّة ، وهنا اقترن بكلمة «أشدّ» وتعطي مفهوم شدّة القوّة والقدرة أكثر .

والضمير في (منهم) يعود على مشركي العرب الذين خوطبوا في الآيات السابقة ، إلاّ أنّهم ذكروا هنا بصيغة الغائب ، لأنّهم ليسوا أهلاً للإستمرار في مخاطبتهم من قبل الله تعالى .

واعتبر بعض كبار المفسّرين جملة (ومضى مثل الأوّلين) إشارة إلى المطالب التي جاءت في السورة السابقة ـ سورة الشورى ـ حول جماعة من هؤلاء . إلاّ أنّه لا دليل لدينا على هذا التحديد ، خاصّة وأنّه قلّما أشير إلى حوادث الأُمم الماضية في سورة الشورى ، في حين وردت بحوث مفصّلة حولهم في سور أُخرى من القرآن .

وعلى أيّة حال ، فإنّ هذه الآية تشبه ما مرّ في الآية (78) من سورة القصص ، حيث تقول {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا } [القصص : 78] ؟!

أو ما مرّ في الآية (21) من سورة المؤمن حيث حذّرت مشركي العرب إذ تقول : {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر : 21] ؟!

 

وقوله تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن خَلَقَ السَّمَوتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ الْعَلِيمُ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}

بعض أدلّة التوحيد :

من هنا يبدأ البحث حول التوحيد والشرك ، فتستعين الآيات بفطرة هؤلاء وطينتهم لإثبات التوحيد ، وبعد أن تبيّن الأدلّة الموجودة في عالم الوجود ، وتذكر خمسة نماذج من مواهب الله العظيمة وتثير فيهم حسّ الشكر ، تتطرّق إلى إبطال اعتقادهم الخرافي فيما يتعلق بالأصنام ومختلف أنواع الشرك .

يقول سبحانه في القسم الأوّل : {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز العليم} .

إنّ هذا التعبير الذي ورد بتفاوت يسير في أربع آيات من القرآن الكريم ـ العنكبوت 61 ، لقمان 25 ، الزمر/38 والزخرف في الآية التي نبحثها (4) ـ دليل على كون معرفة الله سبحانه أمر فطري مغروس في طينة البشر وطبيعتهم من جانب . ومن جانب آخر يدلّ على أنّ المشركين كانوا مقرّين بأن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه ، ولم يكونوا يعترفون بأنّ معبوداتهم خالقة إلاّ في موارد نادرة .

ومن جانب ثالث فإنّ هذا الاعتراف أساس ودعامة لإبطال عبوديّة الأصنام ، لأنّ الذي يكون أهلاً للعبادة هو خالق الكون ومدبّره ، لا الموجودات التي لا حظّ لها في هذا المجال ، وبناء على هذا ، فإنّ اعترافهم بكون الله سبحانه خالقاً كان دليلاً قاطعاً على بطلان مذهبهم ودينهم الفاسد .

والتعبير بـ(العزيز الحكيم) والذي يبيّن قدرة الله المطلقة ، وعلمه وحكمته ، وإن كان تعبيراً قرآنيّاً ، إلاّ أنّه لم يكن أمراً ينكره المشركون ، لأنّ لازم الإِعتراف بكون الله سبحانه خالقاً للسماء والأرض وجود هاتين الصفتين فيه . وهؤلاء المشركين كانوا يعتقدون بعلم أصنامهم وقدرتها ، فكيف بالله الذي يعتقدون أنّ أصنامهم وسيلة إليه ، وتقربّهم إليه زلفى؟!

ثمّ يشير سبحانه إلى خمس نعم من نعم الله العظيمة ، والتي تعتبر كلّ منها نموذجاً من نظام الخلقة ، وآية من آيات الله سبحانه ، فيقول أولاً : {الذي جعل لكم الأرض مهداً} .

إنّ لفظتي «المهد» و«المهاد» تعني المحلّ الذي أُعدّ للجلوس والنوم والإستراحة ، ويقال في الأصل للمكان الذي يضعون فيه الطفل لينام «مهد» .

أجل . . إنّ الله سبحانه جعل الأرض مهداً للإنسان ، ومع أنّ لها عدّة حركات بفعل قانون الجاذبيّة ، ورغم الطبقة الغازيّة العظيمة التي أحاطت بها من كلّ جانب ، فإنّها هادئة ومستقرّة بحيث لا يشعر ساكنوها بأيّ إزعاج ونعلم أنّ الهدوء النفسي هو الدعامة الأساسيّة للإستفادة من النعم الأُخرى والتنعّم بها ، ولا شكّ أنّ هذه العوامل المختلفة ما لم تنسجم مع بعضها ، ويكمل بعضها بعضاً ، فليس بالإِمكان تحقّق هذا الهدوء والإِطمئنان مطلقاً .

ثمّ يضيف سبحانه لتبيان النعمة الثانية : {وجعل لكم فيها سبلاً لعلّكم تهتدون} .

لقد أشير إلى هذه النعمة عدّة مرات في القرآن المجيد (سورة طه ـ 53 ، الأنبياء ـ 31 ، النحل ـ 15 وغيرهنّ) ، وهي من النعم التي غفل عنها الكثيرون ، لأنّا نعلم أنّ التضاريس تعمّ كلّ اليابسة تقريباً ، وفيها الجبال العظيمة والصغيرة والتلال والهضاب ، والبديع أن توجد بين أعظم سلال جبال العالم فواصل يستطيع الإِنسان أن يشقّ طريقه من خلالها ، وقلما اتفق أن تكون هذه الجبال سبباً لإنفصال أقسام الكرة الأرضية عن بعضها تماماً ، وهذا واحد من أسرار نظام الخلقة ، ومن مواهب الله سبحانه وعطاياه للعباد .

وإضافة إلى ما مرَّ ، فإنّ كثيراً من أجزاء الكرة الأرضية ترتبط مع بعضها بواسطة طرق المواصلات البحريّة ، وهذا يدخل أيضاً في عموم معنى الآية (5) .

واتضح ممّا قلناه أنّ المراد من جملة (لعلكم تهتدون) هوالهداية إلى الهدف ، واكتشاف مناطق الأرض المختلفة ، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى الهداية لأمر التوحيد ومعرفة الله . ولا مانع من جمع هذين المعنيين .

وذكرت الموهبة الثالثة ـ وهي موهبة نزول المطر ، وإحياء الأراضي الميّتة ـ في الآية التالية : {والذي نزّل من السماء ماءً بقدر فأنشرنا به بلدة ميتاً كذلك تخرجون} من قبوركم يوم البعث .

إنّ التعبير بكلمة «قدر» إشارة لطيفة إلى النظام الخاص الذي يحكم نزول الأمطار ، حيث أنّها تنزّل بمقدار كاف يكون مفيداً ومثمراً ، ولا يؤدّي إلى الخسارة والإِتلاف .

صحيح أنّه قد يؤدّي بعض الأحيان إلى حدوث فيضانات ، وجريان سيول ، وتدمير الأراضي ، إلاّ أنّ هذه الحالات استثنائيّة ، ولها صبغة التحذير ، فالأعمّ الأغلب من الأمطار مفيدة ومربحة ، فنمو كلّ الأشجار والنباتات والأزهار والمزارع المثمرة ، من بركة نزول المطر الموزون هذا ، ولولم يكن لنزول المطر نظام ، لما حصلت كلّ هذه البركات .

الآية الثانية تستخدم جملة «أنشرنا» ـ من مادّة النشور ـ لتجسيد انبعاث عالم النباتات ، فإنّ الأراضي اليابسة التي تضمّ بذور النباتات كما تضمّ القبور أجساد الموتى ، تتحرك وتحيا بنفخة صور نزول المطر ، وتهتزّ فتخرج أموات النبات رؤوسها من التراب ، ويقوم محشرها وتقع قيامتها التي تمثل صورة لقيامة البشر ، والتي أشير إليها في نهاية هذه الآية وفي آيات عديدة أُخرى من القرآن المجيد .

وبعد ذكر نزول المطر وحياة النباتات ، يشير في المرحلة الرّابعة إلى خلق أنواع الحيوانات ، فيقول سبحانه : {والذي خلق الأزواج كلها} .

إنّ التعبير بـ «الأزواج» كناية عن أنواع الحيوانات بقرينة ذكر النباتات في الآية السابقة ، بالرغم من أنّ البعض اعتبرها إشارة إلى كلّ أنواع الموجودات ، سواء الحيوان والنبات والجماد ، لأنّ قانون الزوجيّة يحكمها جميعاً ، فلكلّ جنس ما يخالفه : السماء والأرض ، الليل والنهار ، النور والظلام ، المرّ والحلو ، اليابس والرطب ، الشمس والقمر ، الجنّة والنّار ، إلاّ ذات الله المقدّسة فإنّها أحديّة ، ولا سبيل للزوجيّة إليها أبداً .

لكن كما قلنا ، فإنّ القرائن الموجودة توحي بأنّ المراد هو «أزواج الحيوانات» ، ونعلم أنّ قانون الزوجيّة سنّة حياتيّة في كلّ الكائنات الحيّة ، والعيّنات النادرة الإِستثنائية لا تقدح بعموميّة هذا القانون .

واعتبر البعض «الأزواج» بمعنى أصناف الحيوانات ، كالطيور والدواب والمائيّات والحشرات وغيرها .

وفي المرحلة الخامسة تبيّن الآيات آخر نعمة من هذه السلسلة ، وهي المراكب التي سخّرها الله سبحانه للبشر لطيّ الطرق البريّة والبحريّة ، فيقول سبحانه : {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} .

إنّ هذه النعمة هي إحدى مواهب الله سبحانه للبشر ، وكراماته التي منّ بها عليهم ، وهي لا تلاحظ في الأنواع الأُخرى من الموجودات ، وذلك أنّ الله سبحانه قد حمل الإِنسان على المراكب التي تعينه في رحلاته البحريّة والصحراويّة ، كما جاء ذلك في الآية (70) من سورة الإِسراء : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } [الإسراء : 70] .

والحقّ أنّ وجود هذه المراكب يضاعف أنشطة الإِنسان ويوسّع حياته عدّة أضعاف ، وحتّى الوسائل السريعة السير التي نراها اليوم ، والتي صنعت بالإِستفادة من مختلف خواصّ الموجودات ، ووضعت تحت تصرّف الإِنسان ، فإنّها من ألطاف الله الظاهرة ، تلك الوسائل التي غيّرت وجه حياته ، ومنحت كلّ شيء السرعة ، وأهدت له كلّ أنواع الراحة .

وتذكر الآية التالية الهدف النهائي لخلق هذه المراكب فتقول : {لتستووا على ظهوره ثمّ تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحانه الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين} .

إنّ جملة : (لتستووا على ظهوره) إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد خلق هذه المراكب على هيئة تستطيعون معها ركوبها بصورة جيّدة ، وتصلون إلى مقاصدكم براحة ويسر (6) .

لقد أوضحت هذه الآية هدفين لخلق هذه المراكب البحريّة والبريّة ، من الفلك والأنعام ، أحدهما : ذكر نعم الله سبحانه حين الإِستواء على ظهورها ، والآخر : تنزيه الله سبحانه الذي سخّرها للإنسان ، فقد جعل الفلك على هيئة تقدر أن تشقّ صدر الأمواج وتسير نحو المقصد ، وجعل الدواب والأنعام خاضعة لأمر الإِنسان ومنقادة لإرادته .

«مقرنين» من مادة «إقران» ، أي امتلاك القدرة على شيء ، وقال بعض أرباب اللغة : إنّه يعني مسك الشيء وحفظه ، وفي الأصل بمعنى وقوع الشيء قريناً لشيء آخر ، ولازم ذلك القدرة على حفظه (7) .

بناء على هذا ، فإنّ معنى جملة (وما كنّا له مقرنين) هو أنّه لولم يكن لطف الله وعنايته لما كان بإمكاننا السيطرة على هذه المراكب وحفظها ، ولتحطمت بفعل الرياح المخالفة لحركة السفن ، وكذلك الحيوانات القويّة التي تفوق قوّتها قوّة الإِنسان أضعافاً ، ما كان الإِنسان ليستطيع أن يقترب منها مطلقاً لولا روح التسليم التي تحكمها ، ولذلك حين يغضب أحد هذه الحيوانات ويفقد روح التسليم ، فإنّه سيتحوّل إلى موجود خطر لا يقوى عدّة أشخاص على مقابلته ، في حين أن من الممكن في حالة سكونها ودعتها ـ أن تربط عشرات ، بل مئات منها بحبل وزمام ، ويسلّم بيد صبي ليذهب بها حيث يشاء ، وكأنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن للإنسان نعمة الحالة الطبيعيّة للحيوانات من خلال بيان الحالة الإِستثنائيّة .

وتذكر آخر آية ـ من هذه الآيات ـ قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب ، إذ يقولون : {وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون} .

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد ، لأنّ الإِنتباه إلى الخالق والمبدأ ، يلفت نظر الإِنسان نحو المعاد دائماً .

وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها ، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها ، بل يجب أن تكونوا دائماً ذاكرين للآخرة غير ناسين لها ، لأنّ حالات الغرور تشتد وتتعمّق في مثل هذه الموارد خاصّة ، والأشخاص الذين يتّخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبّر على الآخرين ليسوا بالقليلين .

ومن جهة ثالثة ، فإنّ الإِستواء على المركب والإِنتقال من مكان إلى آخر يذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر .

نعم . . فنحن أخيراً ننقلب إلى الله سبحانه .

__________________________

1-الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12 ، ص345-355 .

2 ـ الواو في {والكتاب المبين} للقسم ، وجواب هذا القسم جملة {إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً} .

3 ـ مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث .

4 ـ جاء في موضعين آخرين من القرآن اعتراف هؤلاء بكون الله خالقاً ، غايته أن أحدهما في شأن نزول المطر من السماء (العنكبوت ـ 63) والآخر في كون الله سبحانه خالقهم (الزخرف ـ 87) .

5 ـ كلمة (السبل) ـ جمع سبيل ـ تطلق على الطرق البرّية والبحريّة ، كما نقرأ في الفقرة (42) من دعاء الجوشن {يامن في البرّ والبحر سبيله» .

6 ـ الضمير في {على ظهوره} يعود على {ما} الموصولة والتي وردت في جملة «ما تركبون} وهي تشمل السفن والدواب ، وكونه مفرداً لظاهر اللفظ .

7 ـ جاء في لسان العرب : {أقرن له وعليه} : أطاق وقوي عليه واعتلى ، وفي التنزيل العزيز : {وما كنّا له مقرنين} .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .