أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-03-2015
25759
التاريخ: 27-02-2015
1664
التاريخ: 27-02-2015
4818
التاريخ: 27-02-2015
10080
|
ص72
نشأ الخليل مع مستهل القرن الثاني الهجري، و ملأ منه برهة ينظر و يقرئ.
فكان من نتائج فكره أن أملى علم النحو على تلميذه سيبويه الذي دونه باستقصاء في كتابه.
كما اخترع الخليل أيضا علم العروض، و وضع أسس المعجم اللغوي عن طريق عملية حسابية تؤهله أن ينظر إليه و كأنه أول من رسم النّظم التي تسير عليها الآلات الحاسبة بعد ألف و مائتي سنة من وفاته. فالآثار التي خلفها هذا العالم العبقري تبرهن على ما نعت به من ذكاء و علم. فإذا كان من سبقه قد (يضحك من علمهم و يثير الإعجاب ذكاؤهم) (1)، فإن الخليل جمع بين الذكاء و العلم حتى صار مضرب الأمثال فيهما. فلم ينل عالم في عهد الخليل مثل ما نال من ثناء و إطراء. و لم يجمع مؤرخو العربية على التنويه بأحد مثل إجماعهم على التنويه به، فيقول عنه أبو الطيب اللغوي: (إنه لم يك قبله، و لا بعده مثله، و لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى منه فكان أعلم الناس، و أفضل الناس و أتقى الناس، فكان مفتاح العلوم و مصرفها) (2). و اتفقوا أنه كان آية في الذكاء غاية في استخراج مسائل النحو، مع تحليه بجميع الفضائل، فرووا عن سفيان الثوري قوله: (من أراد أن ينظر إلى رجل خلقه اللّه من الذهب و المسك فلينظر إلى الخليل)(3). و قد ضربوا الأمثال أيضا بعلمه، فيقول إسحق الموصلي في هجاء الأصمعي:
ص73
و ليس من شك أن الخليل نظر إلى اللغة نظرة جديدة. لقد كانت بين يديه مادة غزيرة، منها ما قرأه على أبي عمرو بن العلاء من مروياته في القراءة والشعر و الغريب، و منها ما سمعه من عيسى بن عمر من كتاباته النحوية التي يقال إنها بلغت سبعين، و أثنى الخليل نفسه على اثنين منها، و هما «الجامع» و «الإكمال»، ثم سمع من فصحاء العرب في بوادي نجد و تهامة و الحجاز، و قارن بين ما سمع و ما رأى من جهود سابقيه في بناء الصرح النحوي، كل هذا جعله يخلص إلى أن اللغة صنعت صنعا منطقيا، مثل له بدار محكمة البناء عجيبة النظم و الأقسام. و كل ما وضع فيها من رسوم و حدود و أبواب، جاء لعلل قامت في عقول العرب و إن لم تنقل عنهم لأنهم نطقوا على سجيتهم و طباعهم (7).
فاستطاع الخليل في الأخير، أن يستنبط مقاييس التركيب العام للكلام العملي، و أن يفحص مادته التي صيغ منها و هي الحروف، و لبناته التي شيد منها و هي الكلمات، و نسقه المميز و هو التركيب الإعرابي. مرتكزا في تحليله على الأساليب المطردة التي تعتبر نموذجا مختارا للاستعمال الصحيح، و حكم بالشذوذ على ما سواه، مبرزا العلاقة بين تغير صور التراكيب اللفظية و بين معنى الكلام. و فيما يلي نماذج مقتضبة حول أعماله على مستويات الحروف، و المقاطع و الكلمات و الجمل.
عند ما قرر الخليل تصنيف كتاب العين لاستيعاب مفردات اللغة العربية اعتمد على اعداد حروف الكلمة، مع تبديل مواضع حروفها حسب الحالات الممكنة حسابيا، و سميت هذه العملية بالاشتقاق الكبير، مثل علم، عمل، معل، ملع، لعم، لمع، ثم بين المستعمل و المهمل من هذه المفردات و ابتدأ بحرف العين لأسباب تعود إلى طبيعة هذه الحرف من حيث مخرجه و صفاته، و لهذا العمل صلة واضحة بالتفكير في دراسة مخارج الحروف كلها، و استظهار صفاتها، و هكذا لأول مرة، ضبطت مخارج الحروف و عرف منها ما هو حلقي، و لهوي، و شفوي إلخ، و ما يوسم بالجهر و الهمس و الاستعلاء و الانسفال، و الشدة و الرخاوة و نحوها.
و على غرار ما ضبطت للمستمع، استكمل كذلك ضبطها للقارئ، إذ أتم الخليل عمل أبي الأسود الدؤلي و نصر بن عاصم، فوضع الشكل المتعارف بعلامات الفتح و الكسر بخط فوق الحرف و تحته، بدل النقط، و جعل الضم واوا صغيرة و وضع علامات الأمداد، فنشأ عن هذا العمل ضبط أصوات اللغة و رسم حروفها على صورة، جعلت في وسع القراء
ص74
أن يحفظوا كيفية اللغة من ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، و قد يكون هذا من أسرار معجزة حفظ القرآن الحكيم، حيث شمل هذا الحفظ رسمه و أداءه (8).
انتبه الخليل، أثناء تحليله لأجزاء الكلمة أنها لا تتألف من أجزاء بسيطة، و هي الحروف التي تكوّن الوحدات الصوتية، بل إن فيها وحدات أخرى و هي المقاطع، فعبر عنها بالأسباب و الأوتاد في وضعه لعلم العروض، و لاحظ أن منها ما هو ذو مغزى إبقاعي فقط، إذا كان المقطع جزءا لا يتجزأ من الكلمة المجردة، و منها ما يدل على معنى زائد في الكلمة سواء كان هذا المقطع لفظا مستقلا كمعاني الحروف، أو كان من زوائد الكلمة التي تغير معناها في صيغتها الأصلية، مثال: «في» من «فيهم» ، و السين و التاء من (استحسن).
و في اعتباره للمقاطع، رأى أنها قد تتجمع في بعض الأحيان لتؤلف كلمة مركبة فقال: إن «لن» أصلها (لا أن)(9) وإن «مهما» مؤلفة من ماما و أبدل ألف «ما» الأولى هاء لتسهيل الأداء اللفظي (10)، و قال: إن «هلم» مركبة من هاء التنبيه و «لم» التي بمعنى أقبل (11) و إن هذه التغييرات وقعت نتيجة كثرة الاستعمال.
و مما روي عنه قوله أن ليس أصلها (لا أيس)(12). و من الغريب أن لهذه الفكرة شواهد في عدة لغات غير العربية.
أما على مستوى الكلمة، فقد عمل الخليل على تحديد مجموع حروفها و صيغها، و هذا ما قاده إلى استبانة عدة مفاهيم جديدة وضع لها ما تقتضيه من ضوابط.
فمن هذه المفاهيم التفرقة بين أصول الكلمة و زوائدها التي بينها ابن أبي إسحق، و أوضح الخليل تأثير هذه الزوائد على قواعد الصرف و منعه، و على صيغ التثنية و جمع التكسير، و على أمثلة التصغير(13).
فوطد قاعدة وضع الأوزان من حروف لفظة «فعل» لمقابلة أصول الكلمة، مع إيراد الحروف الزائدة بلفظها. و نرى هنا منهج الخليل في التجريد و التعميم، في استعمال هذه الحروف كآلات قياسية، تميز الأصول من الزوائد، مثل ما استعملها في الأوزان العروضية.
ص75
و من هذه المفاهيم استنبط إعلال الكلمات أي إبدال بعض حروفها ببعض، و استطاع أيضا أن يضع لهذا الإعلال ضوابط حرفية تحكم قواعد الإبدال، و الإدغام، و الفك، و التغيرات التي تجرى على الكلمة بسبب اللواحق، و صلاتها بحروف الإعراب، و عوامل البناء.
كل هذا يجعلنا نعتقد أن الخليل انتقل بالنحو من المرحلة الوصفية إلى تأسيس المعايير التي اعتمدت الاطراد، و فتحت الطريق أمام القياس و التعليل.
قد لاحظ الخليل أن لكلام العرب نسقا يسير على قواعد محكمة، فعمل
على تبيان تلك القواعد استقراء من سماع فصيح اللغة، و على توضيح علل أقيستها و إبراز العوامل المؤثرة في إعرابها.
و لقد سبق أن أشرنا إلى دور ابن أبي إسحق الحضرمي في مدّ القياس و شرح العلل، و هو ما عنينا به تثبيته للقياس الأصلي و النظيري في اللغة، و هذا هو النسق الذي شبهه الخليل بالبناء المحكم. ثم إن الخليل تجاوز ما أقره سابقوه فجاء بفكرة القياس التعليلي.
لقد نظر إلى اللغة نظرة شمولية فافترض أن قواعدها معللة بأسباب معقولة. فمن هذه القواعد الأصلية، أن الإعراب مقيس في الأسماء، و أن البناء مقيس في الأفعال. و أن هذه القاعدة لا تتغير إلا لعلة عارضة مثل شبه الاسم بالحرف، و شبه الفعل بالاسم (14)، و منها أن التعريف لا يحتاج إلى أداتين، من أجل ذلك امتنع أن نقول «يا الغلام» لأن النداء وحده في معنى التعريف(15). و منها أيضا أنه لا يجوز لك أن تندب من لا تعرف، فامتنع أن يندب المنكور لأنه مبهم(16). و من هذه القواعد القياسية امتناع العطف على جزء من الكلمة، مما يجر إلى منع العطف على ضمير الرفع المتصل، فلا يجوز عنده قول: (فعلت و عبد اللّه) لالتصاق الضمير بالفعل، و إحداثه تغييرا في بنية الكلمة، بإسكان اللام فيها، فصارت مع الضمير كلمة واحدة(17). لكنه صح أن يقال: (ما أشركنا و لا آباؤنا) ، بسبب الفصل ب (لا) بين الفعل و المعطوف. و اعتبارا لهذه القاعدة منع الخليل العطف على ضمير الخفض دون
ص76
إعادة الخافض قائلا إن الضمير هنا بمثابة التنوين (18)، و هي من المسائل التي خالفه فيها ابن مالك إذ يقول في الخلاصة في باب العطف.
فاليوم قرّبت تهجونا و تشتمنا فاذهب و ما بك و الأيام من عجب
و الإعراب عند الخليل ليس وضعا اعتباطيا يقع دون أسباب معينة، لذلك أكد أن نسق الكلام لا يتغير إلا بسبب تأثير عوامل خاصة، و استخلص وجود أربعة أقسام من العوامل منها ما هو ظاهر، أو معنوي، أو محذوف، أو مفترض.
قد يكون العامل المعنوي يتمثل في الوضع الأصلي للكلام قبل وجود العوامل الأخرى، و لذلك فهو الذي يعمل في المبتدأ، و في المضارع المعرب و المجرد من النواصب و الجوازم، و لارتباطه بالاستئناف و بدء الكلام استحق أن يكون «العالم الأول» الذي يستمد تأثيره من معناه و لذلك يسمى (العامل المعنوي)(19).
مثل الأفعال، و النواسخ الفعلية و الحرفية، و أدوات الشرط و الجزاء، و حروف المعاني، و هذه العوامل تؤثر حسب رأيه في جميع أجزاء الجملة. فالفاعل و المفعول كلاهما معمول للفعل، و النواسخ تعمل في المبتدإ و الخبر و أدوات الشرط تعمل في الشرط و الجزاء. و هذا يدل على أمرين، أحدهما اعتباره لقوة العامل الظاهر في معموله، الثاني اعتباره أن الجملة وحدة متماسكة، مرتبطة العناصر، و يظهر هذا في قوله: (إنّ وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى وَ مٰا خَلَقَ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ) (الليل – الآيتان 2-3) عطف على الآية الأولى. و ليس قسما مكررا، لأن كل قسم يحتاج إلى جواب(20).
ص77
و إذا ما رأينا تأثيرا في الإعراب، دون ظهور العوامل، فإن الخليل يدعو إلى تقديرها استنادا على دلالة السياق. و لذلك قدر الحذف في الأمثلة التالية، ففي قول الشاعر:
و إن لم يكن للإعراب عامل أساسي كالمعنوي، أو عامل ظاهر أو محذوف يسهل تقديره، فإن الخليل لا يتخلى عن نظرية العامل، و يلجأ حينئذ إلى ما يمكن أن نسميه بالعوامل المفترضة. و منها النصب على الترحم، و الدعاء، و المدح و الذّم. و قد رأينا أن يونس كان يشير إلى بعضها في توجيه قراءة ( اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ). غير أن الخليل قام بعملية التعميم فيها، منبها على الفرق بين ما هو استئناف، و ما هو طلب، و سنرى تطبيق الفكرة عند سيبويه.
و من هذه العوامل الخليلية، نزع الخافض، و هو لا يعمل إلا النصب، و منها كذلك «التوهم» الذي سبق ذكره في معرض الحديث عن أبي الخطاب. و قد زاده الخليل شرحا و استعمالا، و به فسر عدة استعمالات منها مثلا قول الشاعر:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا أو تنزلون فإنا معشر نزل(25)
ص78
هذا و إن فكرة تنوع العوامل عنده جعلته يجيز عدة احتمالات في توجيه الإعراب. فلك مثلا أن تقول: هذا رجل صدق معروف (أو معروفا) صلاحه.
تنصب «معروفا» على الحال، و ترفعها نعتا. و من هذا النوع، (يا زيد الطويل، و يا تميم أجمعون أو أجمعين)(26)
و موجز القول أن الخليل جمع ثروة ضخمة من علوم اللغة، اكتسب أصولها باستيعاب كل ما استطاع أن يسمع، و نماها بتفكير أتاح له أن يستنبط ما لم يسمع. لقد تلقى معلومات أبي عمرو بن العلاء في المسموع و معارف ابن أبي إسحق الحضرمي في المقاييس النحوية، فصاغ الجميع في شكل علم متكامل محكم الصنعة فاخترع للغة معجما شاملا و جعل من النحو علما قائما.
و اقتسم النحويون من بعده هذه الثروة، فكان نصيب الأسد منها لتلميذه الفذ سيبويه الذي ملأ حياضه من معين الخليل. و إذا كان هذا التلميذ ظل وفيا لأستاذه. معترفا بفضله، و مصرحا بما أخذ عنه، و لم يخالفه إلا في مسائل قليلة جدا، فإن الذين جاءوا من بعده استبدلوا سيبويه بالخليل فنسبوا لصاحب الكتاب جل ما كان لأستاذه. و لم يدعوا للخليل إلا جميل الذكر و الثناء. ثم اختطف منه كتاب «العين» فقالوا: إن الليث بن عاصم هو الذي أكمله، و استغله محمد بن دريد في جمهرته حتى قيل عنه:
فلم يبق للخليل من أعماله الإبداعية إلا علم العروض الذي حاول الأخفش الأوسط أن يشاركه فيه. و مع هذا فلم يسع الجميع إلا الإجماع على أن الخليل هو إمام النحو و أن النحو هو علم الخليل، و لعل هذا ما عناه المبرد حين يقول:
______________________
(1) الجمحي: طبقات الشعراء، ص31.
(2) أبو الطيب اللغوي: مراتب النحويين، ص54.
(3) ابن الأنباري: نزهة الألباء، ص47.
(4) أبو الطيب اللغوي: مراتب النحويين، ص9.
(5) المرجع و الصفحة نفسهما.
(6) المدارس النحوية، ص31.
(7) الزجاجي: الإيضاح، ص65.
(8) شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص 35 نقلا عن الجزء المطبوع من كتاب العين.
(9) سيبويه: الكتاب، ج 3 ص 5.
(10) المصدر نفسه، ج 3 ص 59.
(11) المصدر نفسه، ج 3 ص 529.
(12) لسان العرب مادة ليس.
(13) سيبويه الكتاب، ج3 ص205
(14) الزجاجي: الإيضاح، ص 77.
(15) سيبويه: الكتاب، ج 2 ص 197.
(16) سيبويه: الكتاب، ج 2 ص 228.
(17) المصدر و الصفحة نفسهما.
(18) سيبويه: الكتاب، ج 2 ص 378.
(19) المصدر نفسه، ج 2 ص 382.
(20) المصدر نفسه، ج 3 ص 501.
(21) سيبويه: الكتاب، ج 2 ص 308.
(22) المصدر نفسه، ج 2 ص 66.
(23) المصدر نفسه، ص 16.
(24) المصدر نفسه، ج 1 ص 282.
(25) المصدر نفسه، ج 3 ص 51.
(26) سيبويه: الكتاب، ص 184.
(27) راجع كتاب: (الجمل) المعزو للخليل بتحقيق فجر الدين قباوة.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|