أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-03-2015
20047
التاريخ: 24-03-2015
3204
التاريخ: 4-8-2019
9813
التاريخ: 24-03-2015
16112
|
كل من يتابع جهود اللغويين في القرنين الثاني والثالث للهجرة يلاحظ توّا كثرة ما أدوه للعربية وشعرائها من دراسات متنوعة، فقد جمعوا مادتها الشعرية واللغوية جمعا مستقصيا صوّروه في مباحث مفردة كمبحث عن الإبل أو الشجر أو الكلأ أو النخل والكرم أو خلق الإنسان أو الميسر والقداح أو الأنواء، وكمبحث عن الاشتقاق أو عن علامات التأنيث أو الهمز وتحقيقه أو عن فعلت و أفعلت أو عن الأضداد، أو عن الوحش والسباع والطير والهوام وحشرات الأرض.
وكادوا لا يتركون موضوعا ولا صيغة لغوية فيها بعض الاشتباه إلا دوّنوا فيها الرسائل القصيرة والطويلة. ثم ألّفوا الكتب المجلدة. واستطاعوا منذ أواسط القرن الثاني للهجرة أن يضعوا قواعد النحو العربي وضعا نهائيّا وبالمثل قواعد الصرف والتصريف، وأيضا قواعد الأوزان الشعرية والقوافي، بحيث أصبح الشعر العربي ولغته جميعا مذلّلين منقادين للناشئة، وفي أثناء ذلك وضعت القواعد لوضع المعجم العربي، بحيث يضم بين دفّتيه كل الكلمات العربية المستعملة والأخرى المهملة، على نحو ما هو معروف عن معجم العين المنسوب إلى الخليل بن أحمد، وألّف على غراره بأخرة من العصر ابن دريد معجمه المشهور: الجمهرة، كما مرّ بنا في غير هذا الموضع.
وعلى هذا النمط أخذ اللغويون يجمعون للناشئة من الشعراء وغير الشعراء مادة اللغة، كما أخذوا يبسطون لهم قواعدها النحوية والصرفية والموسيقية، وقد مضوا منذ مطالع العصر العباسي يجمعون لهم عيون الشعر العربي في مجاميع كثيرة، غير ما جمعوه
ص181
من الدواوين القديمة الجاهلية والإسلامية، وما أخذوا يجمعونه من دواوين العصر العباسي للشعراء النابهين، وكانوا يشرحون ما يجمعونه من أشعار تلك الدواوين حتى تفقهه الناشئة فقها حسنا، وشاركهم الشعراء في هذا الصنيع على نحو ما مر بنا في الفصل السالف مما صورناه عند أبي تمام والبحتري، وقد يكون مما دفعهما إلى هذه المشاركة أنهما وجدا اللغويين يهتمون في كثير من الأمر بالشعر الغريب، ليتخذوا منه مادة للتعليم على نحو ما يلقانا في كتابات ابن السكيت وثعلب، فأرادا أن يقفا الناشئة بجانب ذلك على طرائف الشعر القديم والحديث، وكان كثير من اللغويين قد عنى بالترجمة للشعراء القدماء الجاهليين والإسلاميين، فانبرى بعض الشعراء والأدباء يترجم للشعراء العباسيين في كتب يفردها لهم، كما يلقانا في كتاب طبقات الشعراء المحدثين لابن المعتز وكتاب الورقة لمحمد بن داود بن الجراح، وجمع ابن قتيبة بين القدماء والمحدثين في كتابه «الشعر والشعراء». وكانت قد سبقت ذلك كله كتب في تراجمهم للأصمعي وأبي عبيدة ودعبل، وكتاب طبقات الشعراء لابن سلام مشهور.
وكل ذلك مكّن الناشئة من إتقان العربية والوقوف على كثير من أسرارها التركيبية والموسيقية، وزاد من وقوفهم على هذه الأسرار أن بيئة المتكلمين أخذت تعنى منذ القرن الثاني الهجري بتلقين الناشئة بعض قواعد البيان والبلاغة، حتى يحسنوا الجدل والحوار وحتى يخلبوا ألباب سامعيهم، وإذا هذه القواعد تتفجر على ألسنتهم عند بشر بن المعتمر وأمثاله، وإذا الجاحظ يؤلف في ملاحظاتهم وملاحظاته البيانية كتابه «البيان والتبيين» مصوّرا فيه كثيرا من أسرار البيان العربي تصويرا يتيح للشباب أن يقفوا في غير مشقّة على خصائص العربية وأن يتذوّقوا هذه الخصائص تذوقا دقيقا. وشارك الجاحظ في هذا المجال كثير من اللغويين، على نحو ما مرّ بنا في الفصل السالف أمثال أبي عبيدة والمبرد، ولم يلبث أن انبرى شاعر نابه هو ابن المعتز لتصوير فنون البيان الشعري الرائع في كتابه «البديع» واستطاع أن يضع لها المصطلحات التي كانت تجمعها في عصره، وأن يتيح لها من التعريف بها ووصف أساليبها ما لم يتح لمتكلم أو لغوي أو شاعر من قبله، باثا في ثنايا ذلك ملاحظات دقيقة في الفن الشعري وجماله المتنوع الذي لا ينضب معينه.
ص182
ومعنى ذلك كله أن العربية بخصائصها الجمالية والموسيقية والصرفية والنحوية وضعت تحت أعين الناشئة في القرن الثالث الهجري وضعا علميّا دقيقا حتى أصبح في ميسور كل ناشئ أن يتقنها، إذ يستطيع أن يقرأ أشعارها في غير عناء ويفهمها في غير مشقة ويتذوقها في غير تكلف، بحيث يستطيع أن يسيغها، بل أن يتمثلها تمثلا دقيقا. على أنه يحسن أن نعترف بأن عربية مولدة أخذت تشيع على ألسنة العامة بجانب العربية الفصحى، وكانت تتداولها الطبقات الدنيا وقد يشركها أفراد من الطبقات الوسطى، وكانت تنتشر في العراق على ألسنة النبط وأهل الذمة، وساعد على انتشارها تحول مقاليد الحكم العباسي من أيدي الفرس أصحاب الحضارة العريقة إلى أيدي الترك، وكانوا لا يعرفون أي حضارة ولم يكن يعنيهم أن يحسنوا العربية، فاستخدموا اللغة الدارجة في أحاديثهم، وكان ذلك عاملا مساعدا في إشاعتها لهذا العصر بين من يعلمون معهم في الدواوين وأعمال الدولة المختلفة، وليس ذلك فحسب، فقد كان نفر من كتابهم يستظهرون على ألسنتهم بعض الكلمات العامية، وعمّم ذلك بعض الباحثين في الشعراء، إذ رأوا ابن قتيبة يحيل كتابه «أدب الكاتب» إلى أسواط حامية يشوى بها وجوه الكتاب لعصره معلنا النكير عليهم لعنايتهم بالمنطق والفلسفة والهندسة وعلم الفلك، مسجلا قعودهم عن التثقيف ثقافة عميقة باللغة واشتقاقاتها وأبنيتها، وكيف أنهم لا يعرفون المدلولات الدقيقة للألفاظ ولا مواضع استخدامها، مع جهلهم بكثير من الصيغ وما بينها من الفروق» فهم لا يعرفون فرق ما بين اسم المرة واسم الهيئة في الصيغة، ولا كيف تتبادل الحروف أمكنتها، وكذلك الأفعال اللازمة والمتعدية، مع ما يلوكون من الكلمات الفارسية.
وطبيعي أن هذه الحملة التي شنّها ابن قتيبة على الكتّاب لا تشمل جمهورهم، إنما هي تشمل أفرادا منهم، لم يكونوا من بلغاء العصر ولا من كتّابه الممتازين، ومن أجل ذلك يجب ألا نعممها في الكتّاب فضلا عن الشعراء، ويجب ألا يغيب عن بالنا أن اللغويين كانوا لهم بالمرصاد، فمن انحرف منهم عن جادة الفصحى شنّعوا عليه وسقطوا به من حالق سقطة لا إقالة له منها أبدا، إذ كانوا يعدّون أنفسهم حماة الفصحى، وأن من نوّهوا به من الشعراء طار اسمه ومن أزروا به لم تقم له قائمة، وكان الشعراء يسلمون لهم بهذه المنزلة، فكانوا يعرضون عليهم أشعارهم
ص183
وخاصة في أول أمرهم، كما يحدثنا أبو الشبل أحد الشعراء لعصر المتوكل إذ يقول:
«لما عرض لي الشعر أتيت جارا لي نحويا هو المازني وأنا يومئذ حديث السنّ، فقلت له إن رجلا لم يكن من أهل الشعر ولا من أهل الرواية قد جاش صدره بشيء من الشعر، فكره أن يظهره حتى تسمعه، قال: هاته، وكنت قد قلت شعرا ليس بجيد، إنما هو قول مبتدئ، فأنشدته إياه فلما سمعه نهرني عليه وذمّه (1)»، ومنذ بشار بن برد في العصر العباسي الأول نجد اللغويين يتعقبون الشعراء في أساليبهم، فكلما بدا من أحدهم انحراف عن جادّة الفصحى أعلنوا النكير عليه، حتى لو كان في انحرافه الظاهر إنما يقيس على أمثلة الشعراء القدماء وأبنيتهم أو على بعض أبنية العرب المسموعة، ومما يصوّر ذلك عند بشار أنه رأى العرب يصوغون من الفعل فعلى للدلالة على السرعة فيقولون حجلى للدلالة على سرعة السير، فقاس على هذه الصيغة وجلى من الوجل قائلا:
والآن أقصر عن سميّة باطلي … وأشار بالوجلي علىّ مشير
فأخذ كثير من اللغويين يحمل عليه مخطئا له (2)، وبشار محق، لأن من حقه القياس، وإذا كان من حقنا أن نقيس في شئون الدين، كما قرّر ذلك الفقهاء المعاصرون له من أمثال أبي حنيفة فأولى أن يقيس الشعراء في أبنية اللغة واشتقاقاتها الصرفية، وارتضت كثرة اللغويين منهم أن يخضعوا أحيانا لضرورات الأوزان وأنغامها التي يصوغون عليها أشعارهم، وسمّوا ذلك ضرورات شعرية، غير أن بعض المحافظين المسرفين في محافظتهم كانوا يعدّون الضرورات عيوبا، وكانوا لا يزالون يحصونها على الشعراء كما يحصون عليهم بعض أقيستهم مما لم يسمع عن العرب، وظل ذلك دأبهم في هذا العصر كما كان دأبهم في العصر العباسي الأول حين كانوا يراجعون بشارا وأضرابه. واحتفظ كتاب الموشح للمرزباني بطائفة كبيرة من مراجعاتهم لمعاصريهم، من ذلك قول علي بن الجهم:
ونحن أناس أهل سمع وطاعة … يصحّ لكم إسرارها وعلانها
ص184
فقد ذكروا أنه أخطأ في قوله: «علانها» بكسر العين وإنما سمع عن العرب: «إعلانها» وكأن ابن الجهم صاغ من كلمة العلن عالنه كما قالوا أعلنه واشتق منها: عالنه علانا. وسمعه المبرد يقول في بعض حديثه: «أظنني مأزورا في قعودي»، فقال: لقد نقص في عيني حين سمعت منه هذا القول، إذ المسموع موزور لا مأزور (3)، وكأن ابن الجهم قاس هذه الصيغة على مثال مأجور ومأثور.
وهذان المثالان هما كل ما رواه اللغويون من أخطاء ابن الجهم، وحتى على فرض خطئه فيهما وأنه لم يصب في اجتهاده كان يحسن أن يغفروهما له وأن يشيدا بمدى معرفته للعربية وأمثلتها في البنية والصياغة، إذ لم يحدث أن أخطأ فيها-إن سلمنا لهما بهذا الخطأ-سوى مرتين. وشاعر ثان هو علي بن محمد العلوي الكوفي المعروف بالحمّاني فقد أخذوا عليه خطأين: خطأ نحويّا وخطأ اشتقاقيّا صرفيّا، فأما الخطأ النحوي ففي قوله:
وجه هو البدر إلا أن بينهما … فضلا تلألأ في حافاته النّور
في وجه ذاك أخاطيط مسوّدة … وفي مضاحك هذا الدرّ منثور
فقد قالوا إن حق كلمة «منثور» في آخر البيت الثاني النصب، لأنها في موقع الحال، والطريف أن المرزباني حاول إخراج الحماني من هذا الخطأ وردّه عنه، فقال إن رفع منثور جائز بمعنى هو منثور (4)، والمسألة لا تحتاج إلى كل هذا التأويل فإن الحماني تبادر إليه أن كلمة منثور خبر لكلمة الدر، وكلمة «في مضاحك هذا» متعلقة بها، ولا عيب ولا خطأ في ذلك. وأما الخطأ الاشتقاقي الذي عابوه على الحمّاني ففي قوله:
أرقت وما ليل المضام بنائم … وقد ترقد العينان والقلب ساهر
فقد قالوا إن الصواب مضيم بفتح الميم، إذ لا يقال أضمته وإنما يقال ضمته (5) فهي في غير حاجة إلى التعدية بالهمزة. وربما سمع الحماني من العرب من يقول أضام أو ربما قرأ ذلك في بعض الأشعار القديمة. وهو على كل حال خطأ واحد يشهد
ص185
بسلامة لغته. وحتى البحتري الذي اشتهر بفصاحته وإتقانه للعربية وعلمه بأسرارها وقدرته البارعة على استخدام مفاتيحها الموسيقية نجد اللغويين يتوقفون بإزاء بعض استعمالاته ليثبتوا عليه الخطأ في هذا الموضع أو ذاك، وقد زعموا أن من اللحن عنده قوله في بعض شعره:
يا عليّا بل يا أبا الحسن الما … لك رقّ الظريفة الحسناء
وواضح أن المنادى العلم، وهو علي، في أول البيت منصوب منون. وحقه الضم (6)، وهي مسألة يعرفها الناشئة ومن يشدون شيئا من النحو، وغريب أن يخطئ فيها البحتري، وهو فعلا لم يخطئ، فإن رواية الكلمة في الديوان «يا علي» وإذن لا خطأ، وقد يكون تقوّل عليه ذلك بعض خصومه. وأخذوا عليه قوله في الفتح بن خاقان:
يا مادح الفتح ويا آمله … لست امرأ خاب ولا مثن كذب
فقد قالوا إن كلة «مثن» في البيت كان حقها النصب، فيقال مثنيا، لأنها معطوفة على منصوب هو كلمة «امرأ» وفاتهم أن البحتري رفع الكلمة على إضمار مبتدأ محذوف أي: «ولا أنت مثن كذب» ومن حقه أن يصنع ذلك حين يريده.
وأخذوا عليه أيضا قوله:
ولو أنصف الحسّاد يوما تأمّلوا … مساعيك هل كانت بغيرك أليقا
فإنه سكّن كلمة «مساعيك» وكان حقها النصب: «مساعيك» لأنها مفعول به، وأنكروا عليه قوله في مطلع رثائه للمتوكل:
محلّ على القاطول أخلق داثره … وعادت صروف الدهر جيشا تغاوره (7)
وقالوا المروىّ: دثر مخلقة. ولا يقال: «أخلق داثره» لأن الداثر لا بقية له فتخلق أي تبلى وتستجد، وهم مبالغون في قولهم. لأن العرب يقولون أطلال داثرة، وهم يريدون بقاياها أو قل بقايا الديار قبل أن تمحى محوا نهائيّا.
ص186
ويلاحظ الصاحب بن عباد أنه ذكر الفعل الناقص: «نسيه» بإشباع الياء وإسكانها بدلا من فتحها في قوله (8):
أبو غالب بالجود يذكر واجبي … إذا ما غبىّ الباخلين نسيه
وكأن ابن عباد لم يلتفت إلى أن البحتري إنما صنع ذلك لضرورة القافية التي تنتهي بها قصيدة البيت، وأيضا فإنه لم يلتفت إلى أن هذه لغة معروفة لطيء قبيلة الشاعر إذ ينطقون مثل «رضى» بفتح الياء «رضى» بإسكانها وإشباعها. ومما يدل دلالة واضحة على تعنت اللغويين إزاء البحتري وغيره من الشعراء أن نجد صاحب خزانة الأدب يروي عنهم أنهم أنكروا عليه تسكين اللام في كلمة «طلحاته» من قوله مادحا:
عدلتم بطلحة عن حقّه … ونكّبتم عن موالاته
وكيف يجوز لكم جحده … وطلحتكم بعض طلحاته
قالوا كيف يسوّغ لنفسه تسكين اللام والوجه أن تكون مفتوحة (9)، وواضح أنه صنع ذلك لضرورة الشعر، ومعروف أنها تبيح للشاعر أن يخرج على القواعد النحوية والصرفية أحيانا، فما بالنا بالحركة والسكون حين يتبادلان مواضعهما وفي الحق أن كل ما أنكروه على البحتري مما يحق له ولا تجوز مؤاخذته عليه، وهي صورة من التزمّت وضيق الأفق عند بعض اللغويين. ومما يدخل في هذا الباب من التعنت القبيح أن نجد بعض اللغويين يستمع إلى ابن الرومي يمدح الموفق حين قضى على ثورة صاحب الزنج التي مرت بنا في غير هذا الموضع، فيقول في بعض مديحه مخاطبا الموفق:
ثناك له مقداره فكأنما … تقوّض ثهلان عليه وصندد (10)
فيعترض على نطقه: «صندد» بفتح الدال الأولى قائلا إنها «صندد» بكسرها (11). وإنما أطلنا في بيان ذلك كله لندل على أن اللغويين لم يكونوا يستطيعون
ص187
أن يتعلقوا في هذا العصر على الشعراء النابهين بأخطاء جوهرية في اللغة أو في التصريف، بل لقد كانوا لا يزالون يلتقطون بعض الضرورات الشعرية ليعدوها أخطاء، وحتى الحركات الداخلية في الكلمات وأبنيتها كانوا لا يزالون يتعقبونها على نحو تعقبهم لابن الرومي في كلمة «صندد». وكل ما ذكره المرزباني وسجله عن علماء اللغة في هذا الباب لا يعدو مثل هذه الصور التي وصفناها، ومثلها ما حاول بعض معاصريه أن يسجلوا مثل الصاحب بن عباد وأبي هلال العسكري، فإنهم لم يتجاوزا في الغالب الضرورات الشعرية، مما يدل دلالة قاطعة في العصر على سلامة اللغة وسلامة الألسنة، وحقّا كما قلنا كانت هناك لغة عامية تتداول في الحياة اليومية، ولكنها ظلت لا تجور على العربية، وظلت الناشئة في كل مكان تتغذى بالفصحى وتتلقنها على أساتذتها النابهين. وكان هناك كثيرون لا يزالون يستخدمونها في حياتهم اليومية العملية، كان ذلك يرفع منهم في أعين الناس، حتى ليقول إسحق (12) ابن خلف الطّنبوريّ:
النحو يبسط من لسان الألكن … والمرء تعظمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها … فأجلّها عندي مقيم الألسن
وإذا كان الإعراب في رأي بعض المغنين أو الضاربين على الطنبور يبلغ هذا المبلغ من المنزلة الرفيعة، فأولى أن تكون منزلته أرفع وأعلى شأنا عند الشعراء الذين عاصروه، وفي الحق أنهم ظلوا يحافظون بكل قوة على الصياغة العربية في المفردات والتراكيب وعلى قواعد الإعراب والتصريف، بحيث نجد شاعرا ضخما مثل البحتري أو ابن الرومي لا يكاد اللغويون يتعلقون عليه بشيء ذي بال، بل حتى الشعراء الذين اشتهروا بأنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون والذين لم يجالسوا العلماء لأخذ قواعد النحو والتصريف مثل الخبز أرزىّ، الذي كان يخبز بالبصرة خبز الأرز ويبيعه في دكان متكسبا به، والناس يزدحمون عليه لسماع شعره كان لا يعدو الفصحى في نظمه.
ولعل في كل ما قدمنا ما يصور من بعض الوجوه كيف كان الشعراء يتزودون بالعربية الفصيحة أزوادا مكّنتهم من الوقوف على خصائصها ودقائقها الإعرابية والصرفية، بحيث نفوا عن أساليبهم كل الشوائب التي كان من المفروض أن تسيل من العامية المتداولة إلى الفصحى، ولم ينفوها فحسب، بل عملوا جاهدين على أن يحتفظوا بالصياغة العربية الأصيلة بدون أن يدخل عليها نبوّ أو انحراف أو أي اعوجاج أو أي نقص في الأداء. ويكفي أن يكون همّ جماعة كبيرة من اللغويين أن يتعقبوا سقطات شاعر مثل البحتري فيعوزهم المثال، فيلجئون إلى بعض الضرورات الشعرية عنده يسجلونها، ومعروف أن شاعرا لم يكثر في هذا العصر كما أكثر ابن الرومي، ومع ذلك لم يسعفهم الفحص في أشعاره إلا أن يسجلوا في بناء عنده حركة داخلية على تقدير صحتها إن سلم لهم ذلك. فإذا قلنا إن الشعراء في هذا العصر تمثلوا العربية وأسرارها التركيبية أقوى تمثل وأروعه لم نكن مغالين ولا مبعدين، بل لقد تمثلوا أسرارها الجمالية كما مر بنا تمثلا بارعا، وهو تمثل جعل الشعراء يعنون عناية بالغة باختيار الألفاظ والملاءمة الصوتية بين اللفظة واللفظة في الجرس، بل بين الحروف نفسها، حتى يلذ الشعر الألسنة التي تنطق به والآذان التي تستمع له والأفئدة التي تصغي إليه، وما زال الشعراء مكبين على قيثاراتهم يستخرجون منها أعذب الأنغام، حتى استطاع البحتري أن يصل من ذلك إلى كل ما كان يحلم به الشاعر العربي منذ وجد امرؤ القيس حتى عصره، فإذا شعره يستحيل أنغاما وألحانا خالصة.
والبحتري إنما هو رمز لحركة التمسك بالصياغة العربية، بل التمثل لها بحيث تجري في نفس الشاعر سليقة الشعر العربي بكل سماتها وشاراتها وبكل معانيها وخواصها، بل بحيث يفقه ذلك كله فقها تامّا دقيقا، بما أتيح له عند العلماء وأصحاب البلاغة من ملاحظات جمالية، تنبع من الثقافة بالشعر السابق قديمه وحديثه ومن الذوق المصفى المتحضر ومن الشعور المرهف الرقيق. وإذا لغة الشعر تصبح تارة رصينة ناصعة كأتم ما تكون النصاعة والرصانة، وحينا تصبح عذبة خفيفة تكاد تطير لخفتها ورشاقتها عن الأفواه طيرانا. ومن هنا كنا نستطيع أن نقول إن أساليب الشعر في العصر ظل لها رونقها وبهاؤها، بل لقد ازدادت بهاء
ص189
ورونقا، بفضل تمثل الشعراء الفريد في العصر للصياغة العربية السليمة وبصرهم بأسرارها وحذقهم لخصائصها حذقا جعلهم يسوّون منها جواهر ولآلئ كثيرة.
وإذن فمن واجبنا أن نحترس أشد الاحتراس من حديث يوهان فك في كتابه «العربية» عن اتساع الضيم الذي دخل في العصر على لغة الشعر وصياغته، فإن هذا الضيم الذي ساقه حين يبحث لا يعدو ما لاحظناه آنفا عند البحتري ومعاصريه من أشياء تعدّ على الأصابع، وهي تدخل جملة في الضرورات الشعرية، وكأن كل الضيم الذي خاله إنما هو سراب ظنه ماء، ولا ماء هناك ولا ضيم حدث في الفصحى على ألسنة شعراء العصر، بل لقد كانوا يتقنون المعرفة بأسرارها ورسومها وصياغاتها الباهرة كأشد ما تكون المعرفة دقة وعمقا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأغاني (طبع دار الكتب المصرية) 14/ 196.
(2) أغاني 3/ 209.
(3) انظر الموشح للمرزباني (طبعة دار نهضة مصر) ص 528.
(4) الموشح ص 520.
(5) الموشح ص 544.
(6) انظر في هذا اللحن وما يتلوه مما أخذوه على البحتري الموشح ص 511 وما بعدها.
(7) المحل هنا: قصر المتوكل الذي قتل فيه وكان قد بناه على جدول القاطول بسامراء.
(8) الكشف عن مساوئ المتنبي للصاحب ابن عباد (طبعة القاهرة) ص 9.
(9) خزانة الأدب للبغدادي 3/ 394.
(10) ثهلان وصندد: جبلان.
(11) ديوان المعاني لأبي هلال العسكري (طبعة بغداد) 2/ 56.
(12) عيون الأخبار لابن قتيبة (طبعة دار الكتب المصرية) 2/ 157.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|