أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-09-2015
3532
التاريخ: 26-06-2015
1778
التاريخ: 26-1-2016
4305
التاريخ: 20-7-2019
8400
|
البحتري (1)
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد؛ طائىّ الأب شيبانىّ الأم غلب عليه لقب البحتري نسبة إلى عشيرته الطائية بحتر، ولد سنة 204 للهجرة بمنبج إلى
ص271
الشمال الشرقي من حلب على الطريق المؤدية منها إلى الفرات، وقيل: بل ولد بقرية تجاورها تسمّى «زردفنة» والرأي الأول أصح، لأن البحتري نفسه يكرّر كثيرا في شعره «منبج» مسقط رأسه، وكانت تنزلها عشائر من طيئ. وهي كما يقول ياقوت في معجم البلدان: مدينة كثيرة البساتين عذبة الماء باردة الهواء، أقطعها الرشيد عبد الملك بن صالح الهاشمي، وفي ديوان البحتري مدائح كثيرة لابنه محمد ولطائفة من أسرته عاشت في منبج وحلب.
وليس لدينا أخبار عن هيئته وصورته إلا ما روى عنه فيما بعد من أنه كان أسمر طويل اللحية. وقد نشأ في أحضان عشيرته يتغذى من فصاحتها ويبدو أنه اختلف مبكرا إلى الكتّاب، فحفظ القرآن أو شطرا كبيرا منه. كما حفظ كثرا من الأشعار والخطب، واختلف حين شبّ إلى حلقات العلماء في المساجد يأخذ عنهم اللغة والنحو وشيئا من الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. واستيقظت فيه موهبة الشعر مبكرة، وسرعان ما أخذ يكثر من نظمه في بعض من عرفهم من عامة أهل بلدته أو كما يقول ابن خلكان من أصحاب البصل والباذنجان، وامتد به طموحه فتجاوز به بلدته إلى بلاد أكبر من حولها، إذ نراه ينزل حلب، وهناك تعرّف على علوة بنت زريقة التي شغفته حبّا، ويبدو أن زريقة كانت مغنية، وتعرّف أيضا على صديق يسمى الذفافي مدحه ببعض شعره، وهجاه فيما بعد لاقترانه بعلوة، على شاكلة قوله (2):
نبّئتها زوّجت أخا خنت … أغنّ رطب الأطراف ليّنها
وظلت دار علوة قائمة بحلب، حتى عصر ياقوت إذ يقول: «وفى وسط البلد «حلب» دار علوة صاحبة البحتري». وقد يدل ذلك على يسار الذفافي وأنه شيد لها دارا فخمة. وظلت ذكراها لا تبرح ذاكرة البحتري حتى الأنفاس الأخيرة من
حياته. واتسع برحلاته إلى حمص، وكأنما كان السّعد معه على ميعاد، فإذا هو يسمع بأن أبا تمام بها والشعراء يعرضون عليه أشعارهم، فعرض عليه شعره، فأقبل عليه، وقال له: أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك، فشكا إليه خلّة، فكتب إلى أهل معرّة النعمان: «يصل كتابي مع الوليد أبي عبادة الطائي وهو على بذاذته "سوء حاله" شاعر فأكرموه» واستقبلوه استقبالا حسنا ووظّفوا له أربعة آلاف درهم (3). وفي رأينا أنه لم يصله بأهل معرة النعمان فقط، فقد وصله أيضا ببعض ممدوحيه إذ نراه يقبل على بعض من خصّهم بمديحه فيمدحهم، مثل آل حميد الطوسي في الموصل، وخالد بن يزيد الشيباني والى أرمينية والثغور، وأبي سعيد محمد بن يوسف الثغري الطائي الذي ولاه المعتصم حلب وثغور الشام والجزيرة، وقد لزمه ولزم ابنه يوسف، ويبدو أنه أول من اتصل بهم من ممدوحي أبي تمام.
وتخرج بعض الروايات ذلك مخرج القصص، فتذكر أنه دخل عليه وأبو تمام عنده، فأنشده قصيدته:
أأفاق صبّ من هوى فأفيقا … أم خان عهدا أم أطاع شفيقا
فردّها أبو تمام عليه من حفظه كأنها من نظمه، وعرّفه أبو تمام نفسه، ولزمه البحتري (4). ونظن أن الرواة زادوا فيها أنه لم يكن يعرف أبا تمام، فمعرفته به أسبق من ذلك كما أسلفنا، بل هو الذي حثه على مديح أبي سعيد الثغري ولقائه له وهو عنده. ولم يكتف أبو تمام بتقديم الشاعر الشاب إلى بعض ممدوحيه، فقد مضى يتعهد شاعريته، ويلقنه كيف يجيد الشعر ويحسنه، حتى خرّجه فيه شاعرا ممتازا راع معاصريه، ويصرّح بذلك البحتري معترفا بجميل أستاذه إذ يقول (5):
«كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه. . . حتى قصدت أبا تمام، فانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم. واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من
273 ص
النوم، فإذا أردت لنسيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي اياد، فأشهر مناقبه، واظهر مناسبه، وابن معاطه، وشرّف مقامه وتقاص المعاني واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزريّة.
وكن كأنك خيّاط يقطع الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك، ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى».
وكأنما وضع أبو تمام نصب عيني البحتري دستورا قويما لإحسانه صناعة الشعر، بل إن هذا بعض الدستور الذي وضعه؛ إذ لا بد أنه أوصى البحتري وصايا كثيرة حتى يتقن صناعته. وهو في هذا الجزء من وصاياه ينصحه أن يتخير أوقات إلهامه، ثم يصف له الجودة التي يقوم عليها النسيب والمديح جميعا، مع العناية بدقائق المعاني وجمال الألفاظ والأساليب، ونظن ظنّا أنه حين وجد في تلميذه حسن الاستجابة، واطمأن إلى أنه شاعر سيكون له شأن، أخذ يعرّفه لا على أهل معرة النعمان فحسب، بل أيضا على ممدوحيه في حلب والشام والجزيرة والموصل وأرمينية. وكاد محمد بن يوسف الثغري بطل حروب بابك قديما وحروب الروم حديثا أن يستخلصه لنفسه، وقد ظل يمدحه ويصف بلاءه في الثغور حتى توفى سنة 236 للهجرة، وتغنىّ طويلا بمدح كاتبه محمد بن عيسى القمي، ويتحول إلى ابنه يوسف الذى خلفه على إمارته الأخيرة في أرمينية وأذربيجان ويكثر من مدائحه. ونظن ظنّا أن من أوائل مدائحه لأبى سعيد محمد بن يوسف الثغري رائيته (6) التي يعزيه فيها عن المعتصم حين توفى سنة 227 للهجرة. ويبدو أن أبا تمام دفعه بعد هذا التاريخ لزيارة سامرّاء بعد أن وثق من براعته الشعرية، إذ نراه ينزل بها، ونرى أبواب الخليفة الواثق ووزيره ابن الزيات وكاتبه الحسن بن وهب مفتوحة أمامه، وكأن صداقة أبي تمام للأخيرين
ص274
هي التي فتحت له سريعا تلك الأبواب، وإذا هو يمثل بين أيديهم جميعا مادحا ممجدا.
ويتولى الخلافة المتوكل سنة 232 للهجرة ويعصف بابن الزيات ويظل البحتري بعيدا خوفا على نفسه، وخاصة أنه كانت قد جرت على لسانه بعض أبيات يتعصب فيها للمعتزلة وقولهم بأن القرآن مخلوق ضد أهل السنة من مثل قوله في بعض الخارجين على أبي سعيد الثغري:
يرمون خالقهم بأقبح فعلهم … ويحرّفون كلامه المخلوقا
وسأله سائل: أكنت معتزليّا، فأجابه: «كان هذا ديني في أيام الواثق ثم نزعت عنه في أيام المتوكل، فقال له: يا أبا عبادة! هذا دين سوء يدور مع الدول! » (7). فقد نزع عن نفسه لعهد المتوكل ثوب الاعتزال الذي كان يدين به الواثق ووزيره ابن الزيات، ولبس ثوب أهل السنة الذي فرضه المتوكل. وهو جانب سيئ في البحتري إذ كان متقلبا مسرفا في التقلب، يلتمس المنفعة لنفسه ما وجد إلى ذلك سبيلا. على كل حال أحسّ بادئ الأمر أن أبواب المتوكل موصدة من دونه، ولكن ذلك لم يدفعه عن طريقه، فقد أخذ يمدح بعض خاصّته وخاصّة وزيره الفتح بن خاقان وهو يحيى بن علي المنجم، الذي اشتهر بوصله الشعراء بهما وأخذه لهم الصلات السنية منهما، ووعده علي أن يصله بالفتح، ونراه يستنجز وعده في بعض شعره (8)، وينجح علي في وصله بالفتح لسنة 233 ويمدحه (9) وينال جوائزه، ولكن عينه لا تزال طامحة إلى مديح المتوكل، ويلوّح للفتح بطموحه ويعده الفتح ويتعجله أن يفي بوعده في غير قصيدة من مثل قوله (10):
وعدت فأوشك نجح وعدك إنه … من المجد إعجال المواعيد بالنّجح
وأنت ترى نصح الإمام فريضة … وإخباره عنى سبيل من النّصح
ص275
ويفتح له المتوكل بيد الفتح أبوابه، ويستمع إليه وتتواتر صلاته وإقطاعاته عليه، وكذلك إقطاعات الفتح وصلاته، فقد كان ديوان الخراج إليه. ونراه يمدح الوزير الثاني للمتوكل عبيد الله بن يحيى بن خاقان، ولم يكد يترك أحدا من معاوني الفتح ومساعديه إلا مدحه، فهو يمدح أبا نوح عيسى بن إبراهيم أحد كتّابه في دواوين الخراج وكان نصرانيّا، وكأن نصرانيته لم تمنعه من مديحه، وسنراه فيما بعد يكثر من مديح عبدون بن مخلد الراهب أخي صاعد وزير المعتمد. ويمدح أيضا من كتاب الخراج والدواوين أعوان الفتح من أمثال أحمد بن المدبر وأخيه إبراهيم، ويظل يمدحهما طويلا، حتى بعد خروج أحمد للعمل في دواوين مصر والشام.
وكان قد ترك زوجته في منبج وأنجب منها ابنه أبا الغوث فكان كثير الرحلة إلى مسقط رأسه، ويبدو أنه كان يقضى في وطنه الصيف كله فرارا من حر العراق ولفحه، يقول (11):
نصبّ إلى طيب العراق وحسنها … ويمنع منها قيظها وحرورها
هي الأرض نهواها إذا طاب فصلها … ونهرب منها حين يحمى هجيرها
وكان لا يترك وجيها ولا وليّا ولا صاحب خراج في طريقه من سامرّاء إلى منبج إلا ويقدّم إليه مدائحه ويأخذ جوائزه، من مثل بني حميد الطوس الطائي وأبي سعيد الثغري وابنه يوسف صاحبي أرمينية وأذربيجان وآل عبد الملك بن صالح الهاشمي، بل يبدو أنه كان يمد رحلاته في الشام فيمدح بعض العمال والولاة مثل مالك بن طوق صاحب دمشق والأردن وأبي مسلم الكجّى، كما كان يمد رحلاته إلى بغداد وما وراءها من مدن العراق، ونراه يكثر من مديح القائمين عليها من آل طاهر. فهو يمدح منهم إسحق المصعبي ومحمد بن عبد الله بن طاهر الذي حكم بغداد منذ سنة 237، وكذلك أخواه سليمان وعبيد الله، وله في الأسرة شعر كثير.
وممن أكثر من مديحهم لعهد المتوكل قائداه عبد الله بن دينار وابنه أحمد، وإبراهيم ابن الحسن بن سهل وله فيه نحو عشر قصائد، وله في الفتح بن خاقان تسع
ص276
وعشرون قصيدة، ومن عمال المتوكل الذين مدحهم دليل بن يعقوب النصراني (12).
وتحوّل إزاء أعمال المتوكل وكل ما حدث في عصره إلى ما يشبه آلة راصدة، فهو يسجل لسنة 235 عقده ولاية العهد لأبنائه الثلاثة: المنتصر والمعتز والمؤيد قائلا (13):
قدّامهم نور النبىّ وخلفهم … هدى الإمام القائم المحمود
ولا يترك نصرا على ثائر إلا ويدوّنه. وكان بطارقة أرمينية خلعوا الطاعة وفتكوا لسنة 237 بيوسف بن محمد بن يوسف الثغري والى إقليمهم، فوجه إليهم المتوكل جيشا سحقهم سحقا وألقوا عن يدوهم صاغرون، ونوّه البحتري بهذا الانتصار طويلا. وكانت قد حدثت في أواخر العقد الرابع من القرن أو أوائل الخامس حروب دامية بين قبائل ربيعة: تغلب وشيبان وغيرهما، واستطاع الفتح بن خاقان أن يحقن الدماء بينها وأن يردّها إلى الطاعة، ومن الغريب أن لا تعنى كتب التاريخ بهذا الحدث العناية المنتظرة، بينما نرى البحتري يسجلها، وقد بلغ به الأسى أقصاه إذ يرى هذه القبائل المنحدرة من أب وأصل واحد تفقد ما ينبغي أن يكون بينها من البرّ والعطف، فإذا هي تفزع إلى السيف وإلى القوة والقهر وسفك الدماء، يقول (14):
وفرسان هيجاء تجيش صدورها … بأحقادها حتى تضيق دروعها
تقتّل من وتر أعزّ نفوسها … عليها بأيد ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها … تذكّرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطّع بينهم … شواجر أرحام ملوم قطوعها (15)
فبعضهم يسفك دم بعض ويده لا تطاوعه، والدماء تفيض والدموع تسيل والرماح تقطع علائق الأرحام. وأعاد المتوكل ووزيره الفتح الأمر إلى نصابه من الأمن والسلم، فأغمدت السيوف وقرّت القلوب الخافقة ونامت العيون المسهّدة. ويثب أهل حمص بعاملهم (16) لسنة 240 ويعودون إلى الوثوب والثورة في سنة 241 وينكل
ص277
بهم المتوكل وسرعان ما يعفو عنهم، ويسجل البحتري الحادث منوّها بعفوه قائلا (17):
تداركت بالإحسان حمص وأهلها … وقد قارفوا فعل الإساءة والخرق (18)
وترسل تذورة إمبراطورة القسطنطينية إلى المتوكل لسنة 241 وفدا يطلب الفداء بين أسرى الروم والعرب، ويستقبل الخليفة الوفد في حفل كبير يصفه البحتري، ويطيل في وصف السماط الذى مدّ فيه وما علا وجوههم وسيماهم من ذهول وحيرة (19).
وكان المتوكل قد فكّر لسنة 243 في أن يجعل دمشق حاضرة الخلافة حتى يبتعد عن سامراء ومن بها من قواد الأتراك الطغاة، ورحل إليها في سنة 243 وتنبّهوا لمقصده فعملوا على العودة به إلى سامراء واضطرّ أن ينزل على إرادتهم، ويذكر البحتري خروجه إلى دمشق وقدومه منها في غير قصيدة (20). ويأخذ منذ سنة 245 في وصف قصوره التي سميت باسم المتوكلية والتي بلغت-كما مر بنا في الفصل الثاني- نحو العشرين، وكان من أهمها البرج الذى عرضنا له هناك، ويتوقف البحتري مرارا في مدائحه ليصف تلك القصور من مثل القصر المعروف بالجعفري والصبيح والمليح وشبداز (21)، وما يزال ينوه بها مباهيا الأمم والشعوب. وفى قصر الجعفري لقى المتوكل ووزيره الفتح مصرعهما لسنة 247 تحت بصر البحتري وسمعه، وهاله ما رأى، مما جعله يرثى المتوكل برائيته زاعما أنه دافع عنه بيديه، ويسجل على ابنه المنتصر-كما مرّ بنا في الفصل الماضي-اشتراكه في المؤامرة الباغية والفتك به، قائلا (22):
أكان ولىّ العهد أضمر غدرة … فمن عجب أن ولّى العهد غادره
وحرىّ بنا أن نذكر أن البحتري لم يتورط مثل ابن الجهم في هجاء المعتزلة إرضاء للمتوكل ولا في هجاء العلويين ولا في هجاء النصارى. وأظلمت الدنيا في عينيه بعد مقتل المتوكل وصاحبه الفتح، فخرج إلى المدائن يتعزى، وهناك نظم
ص278
سينيته مودعا فيها حزنه وأساه، وعاد إلى سامراء وتركها إلى منبج وأهله. ودفعه الطمع إلى أن يعود إلى المنتصر سريعا وأن يقف بباب وزيره أحمد بن الخصيب متوسلا إليه بكاتبه الحسن بن مخلد حتى يقرّبه منه ويسترضيه له، ويجيبه إلى أمنيته، فيعفو عنه المنتصر، ويستمع إلى قصيدته فيه، وكان قد رفع المحنة التي أنزلها أبوه بالعلويين ودفع الأذى عنهم والتعرض لشبعتهم، فأشار إلى ذلك البحتري منشدا (23):
وآل أبي طالب بعد ما … أذيع بسربهم فابذعر
ونالت أدانيهم جفوة … تكاد السماء لها تنفطر
وصلت شوابك أرحامهم … وقد أوشك الحبل أن ينبتر
ويتوفّى المنتصر بعد ستة أشهر من خلافته ويخلفه المستعين فيستبقي ابن الخصيب في الوزارة، وسرعان ما يغضب عليه قواد الترك فتستصفي أمواله وينفى إلى جزيرة إقريطش (كريت) وحينئذ نجد البحتري يتنكّر له، ويبالغ في تنكره إرضاء للمستعين وقواده، فيؤلبهم عليه، ويحثهم-كما مرّ بنا في الفصل الماضي- على قتله قائلا (24):
لابن الخصيب الويل كيف انبرى … بإفكه المردي وإبطاله
وهو جانب في البحتري لاحظه بعض معاصريه-كما مرّ في غير هذا الموضع-إذ تحدثوا عن كفره للإحسان وعدم وفائه، حين يقلب الدهر مجنّه لبعض ممدوحيه أو حين يسبق إليهم الموت، فإنه بدلا من أن يثير ذلك في نفسه ضروبا من الشفقة والرحمة، يسارع إلى الوقوف مع خصومهم الجدد أصحاب الحكم والسلطان ابتغاء ما في أيديهم من المال والنفع، ويضرب القدماء لذلك مثلا موقفه من الخليفة المستعين إذ كان يمدحه، وينال جوائزه حتى إذا خلعه قواد الترك وتولى المعتز الذى يرتجى نفعه أسرع إليه بقصيدة يمدحه فيها ويهجو المستعين هجاء مقذعا بمثل قوله (25):
ص279
بكى المنبر الشرقىّ إذ خار فوقه … على الناس ثور قد تدلّت غباغبه (26)
فكيف رأيت الحقّ قرّ قراره … وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
وكان المعتز من أقرب الخلفاء إلى نفسه، فأكثر من مديحه ووصف قصوره وتسجيل الأحداث لزمنه، ومدح معه ابنه عبد الله وتوثقت بينهما الصداقة، ومما سجله من الأحداث لعهده وعهد المستعين قتل القائد التركي أتامش وكاتبه شجاع (27) لسنة 249 وقتل بغا الشرابي (28) قاتل المتوكل لسنة 254 ونراه يمدح القائد التركي وصيفا (29) الكبير وابنه صالحا (30) ويكرر حينئذ تشوقه إلى وطنه، ويستأذن مرارا في الإلمام به. ويكثر من مديح الشاه ابن ميكال قائد المستعين ووزيره أبي صالح محمد بن يزداد وابنه عبيد الله وأخيه القاسم. ويضطر قواد الترك المعتزّ إلى خلع نفسه في سنة 255 ويتولى المهتدى بعده الخلافة لنحو عام واحد، ويغدو إليه ويروح بقصائده مصورا تقاه وزهده وانصرافه عن الملاهي ومتاع الحياة الزائل ونشره للعدل في ربوع دولته وإذلال جيوشه للروم ونزولهم على إرادته صاغرين. وسرعان ما ثار عليه الأتراك وخلعوه وولوا بعده المعتمد، وهو آخر الخلفاء الذين مدحهم البحتري، وكان الخليفة الحقيقي لعهده أخاه الموفق، وكان حازما شجاعا واسع التدبير، وهو الذى قضى على ثورة الزنج وهزم يعقوب الصفار الثائر بإيران هزيمة ساحقة. ويصور البحتري في مديحه للمعتمد بأس جيوشه وانتصاراتها الحربية، ويصف القصر الذى احتفل ببنائه وسماه المعشوق ونوّه به، وله قصيدة رائعة يهنئ فيها الموفق بقمعه لثورة الزنج، وفيها يخاطبه بقوله (31):
أخذت بوتر الدين مثنى وظفّرت … يداك فلم يفلت عدوّ تطالبه
ولم يترك حينئذ وزيرا ولا كاتبا كبيرا إلا ويمدحه ويأخذ جوائزه، وكان المعتمد استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان الذي وزر قديما لأبيه المتوكل، فلزمه البحتري، وفكّر في أن يرتجع منه الضياع الكثيرة التي كان المتوكل أقطعها إياه؛ فأكثر الشاعر من التوسل إليه، حتى يتركها له. وقصيدته (32):
(26) خار: صاح. الغباغب: ما تغضن من الجلد في منبت العثنون أو اللحية حول الذقن.
ص280
أمرتجع منى حباء خلائف … توليت تسيير المديح لهم وحدى
تصور جزعه المفرط، ويتوفّى عبيد الله سنة 263 ويخلفه الحسن بن مخلد، فيمدحه بقصائد مختلفة شاكيا ضارعا، فيجعل أمره إلى كاتبه السّيبى، ولا يسارع إلى استرضائه، فيشكوه إلى ابن مخلد بحائيته (33):
لك الخلائق فينا السهلة السّمح … والنّيل يسلس للرّاجي وينسرح
ولا يكاد يسمعها الحسن حتى يبلغ بالبحتري ما يريد، ويزيل المطالبة عنه.
ويترك الحسن الوزارة سريعا ويتولاها سليمان بن وهب الذي استوزره المهتدى من قبل، ويقدم إليه البحتري مدائحه، ويعصف به الموفق في سنة 265 فيحبسه ويصادر أمواله. ويخلفه على الوزارة أحمد بن صالح بن شيرزاد لمدة شهر واحد، وللبحتري فيه مدائح مختلفة، ويلي الوزارة بعده أبو الصقر إسماعيل بن بلبل بينما يلي الكتابة للموفق صاعد بن مخلد، ويكثر البحتري من مديح ابن بلبل، ويهجو له في بعض مديحه ابن شيرزاد الذي طالما مدحه، ويمدح كاتبه جرادة على حين يذم كاتبا آخر كان نصرانيّا يسمى إسرائيل، ويلحّ على ابن بلبل في قصائد كثيرة أن يأذن له بالرحيل إلى موطنه بمثل قوله (34):
وأعتقت الرّقاب فمر بعتقي … إلى بلدي وأنت به جدير
وأكثر حينئذ من مديح صاعد بن مخلد كاتب الموفق، وكان من وجوه النصارى، وحين استكتبه الموفق أعلن إسلامه وله فيه وفي أخيه عبدون الراهب وابنه أبي عيسى العلاء مدائح كثيرة. وكان أبو عيسى مثقفا ثقافة واسعة بعلم الفلك، مما جعل البحتري يكثر له في إحدى مدائحه من ذكر النجوم (35). ومن كبار الكتّاب الذين مدحهم حينئذ أبو العباس أحمد بن ثوابة صاحب ديوان الرسائل. وفي أثناء ذلك كان يمدح كثيرين من العمال والولاة وأصحاب الخراج والكتّاب والقواد مثل وصيف الصغير وأذكوتكين والهيثم بن عبد الله التغلبي والى الموصل وأحمد بن محمد بن بسطام والى الشام وسيما الطويل والى حلب والعواصم ورافع بن هرثمة والى الري
ص281
وكتّاب الجبل وأنفذ إليهم ذات مرة غلامه نصرا ليطالبهم برسومه (36). وممن كان يمدحهم كثيرا أبو جعفر أحمد بن محمد الطائي والى الكوفة وآل نوبخت. وكان كثير الإلمام ببغداد، وعنى بمديح كثيرين من آل طاهر حكّامها كما مرّ بنا، كما مدح بعض أعيانها وعلمائها مثل عبد الله بن الحسين بن سعد القطرّبلي والمبرّد النحوي، ومدح عبيد الله بن خرداذبة الجغرافي صاحب البريد بناحية الجبل. ويبدو أن أصحاب الخراج عادوا يتعقبون البحتري ويطالبونه بخراج إقطاعاته الكثيرة، مما جعله يسأل ابن بلبل المعونة في خراجه، كما يسأل المعتمد نفسه قائلا (37):
أخشى الخراج وقد دعوت لعظمه … ملك الملوك ورافد الرّفّاد
ومضى عمال الخراج يشقلون عليه، وهو كل يوم يمثل بين أيديهم شاكيا ملحّا في أن يحطّوا عن كاهله ما يطلبونه منه، ولا يكاد يظفر بما يبتغى منهم، فيفكر في مبارحة العراق، ويمدح ابن طولون صاحب مصر والشام حينئذ ويصرّح في مديحه له بما في نفسه قائلا (38):
فأصبحت في بغداد لا الظلّ واسع … ولا العيش غضّ في غضارته رطب
أأمدح عمّال الطّساسيج راغبا … إليهم ولى بالشام مستمتع رغب (39)
وكل شيء يؤكد أن البحتري كان قد أثرى ثراء فاحشا منذ عصر المتوكل، فإنه نثر عليه أموالا جمة وإقطاعات عديدة، بالإضافة إلى ما أغدق عليه الفتح بن خاقان وغيره من رجال الدواوين، وخاصة آل المدبر وفى مقدمتهم إبراهيم، وكان هو وأخوه أحمد من كبار الموظفين في دواوين الخراج والضياع، ويقول الصولي إنه كان يوجب على إبراهيم في كل سنة أن يسقط أكثر خراجه أو يؤديه عنه، وإنه استماحه مرة لشراء ضيعة فلامه لكثرة ضياعه، وقال له: تكفيك ضياعك فقد
ص282
كثرت وعظمت، غير أن البحتري تمادى في إلحاحه عليه، وأنشده قصيدته التي يقول فيها (40):
وما زالت العيس المراسيل تنبرى … فيقضى لدى آل المدبّر حاجها (41)
ولم لا أغالى بالضّياع وقد دنا … علىّ مداها واستقام اعوجاجها
إذا كان لى ترييعها واغتلالها … وكان عليك عشرها وخراجها (42)
فأمر له بالمال الذى يشترى تلك الضيعة به (43). وكلما تقدمنا مع البحتري في الزمن بعد المتوكل زادت ضياعه، وقد وصلته من المعتز ضياع وأموال كثيرة، وهو مع ذلك لا يزال يلحّ عليه بالطلب حتى ليستهديه خاتم ياقوت ويهديه إليه (44). وكان المعتز قد أهدى إلى ابنه عبد الله إقطاعا جاوره البحتري في بعضه، وكأنه لم يكتف بما صار في يده، فقد مضى يسأل عبد الله أن يهب له من إقطاعه الضيعة التي تجاوره، وتشفّع إليه بأبيه وصنع في ذلك أشعارا، منها قوله للمعتز:
يا واحد الخلفاء غير مدافع … كرما وأحسنهم ندى وصنيعا
فاتجه إلى ابنه عبد الله قائلا له: اقض حاجة البحتري، فوهبها له (45).
وتظل عنده شهوة تملك الضياع والإقطاعات؛ إذ نراه يطلب من صاعد بن مخلد إقطاعا (46) ومن ابنه أبى صالح ضيعة (47) ومن سليمان بن عبد الله بن طاهر حين أصبح حاكما لبغداد إقطاعا (48). ويكثر عنده أن يسأل ممدوحيه أفراسا (49) وسيوفا (50)
ص283
وشرابا (51) وثيابا (52) وغلمانا (53). وبذلك نستطيع أن نوفق بين شحّه وما يقال من أنه كان يمشى في موكب من غلمانه (54)، فقد كانوا جميعا هبات من ممدوحيه، وخصّ نسيما من بينهم بغزل كثير، وكان قد أهداه إليه محمد (55) بن عيسى القمي كاتب أبى سعيد الثغري، وفى الأغاني «أن البحتري جعله بابا من أبواب الحيل على الناس فكان يبيعه ويتعمد أن يصيّره إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب، فإذا حصل في ملكه شبّب به وتشوّقه ومدح مولاه حتى يهبه له، ولم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم فكفى الناس أمره» (56). وقد يكون أبو الفرج مبالغا في ذلك، فإنه لم يثبت أن أحدا اشتراه سوى إبراهيم بن الحسن بن سهل، وقد مدحه بأشعار كثيرة يصور فيها ندمه، فرده عليه (57)، ولعل في ذلك كله ما يصور مدى ثراء البحتري من جانب وشدة طمعه من جانب آخر، وقد ظلّ يلحف في سؤال العطاء والضياع فكان طبيعيّا أن يلفت إليه أنظار معاصريه، وحتى الخراج أو عشر الثمار كان ما يني يحتال في التخلص منه بالتضرع إلى وزير أن يدفعه عنه أو إلى كاتب كبير مثل إبراهيم بن المدبر. ويفكر في الإفادة من أحمد بن طولون -كما مرّ بنا في غير هذا الموضع-فيمدحه لسنة 269 ويمدح بعض كتابه وقواده مثل عفاص ويونس بن بغا وجعفر بن عبد الغفار ومحمد بن العباس الكلابي.
ويتوفّى ويخلقه ابنه أبو الجيش خمارويه لسنة 270 وترى البحتري في بعض قصيده (58) يجمع بين مديحه ومديح أبى الصقر إسماعيل بن بلبل وزير المعتمد.
وفى سنة 272 يغضب الموفق على صاعد كاتبه ويقبض عليه وعلى ابنيه أبى عيسى العلاء وأبى صالح وعلى أخيه عبدون ويصادر جميع أموالهم وأسبابهم (59)، ويتوفّى أبو عيسى العلاء في الحبس بعد ثلاثة عشر يوما ويكتئب البحتري، ويرثيه بقصيدة يقول فيها (60):
ص284
ولم أر كالدنيا حليلة وامق … محبّ متى تحسن بعينيه تطلق
تراها عيانا وهي صنعة واحد … فتحسبها صنعي لطيف وأخرق
وحين سمع بعض خصومه البيتين شنّعوا عليه بأنه ثنوى يؤمن بإلهى النور والظلمة، وشاع ذلك في عامة بغداد وكانت غالبة عليها حينئذ، فخافهم البحتري على نفسه وخرج إلى منبج. ويبدو أن إقامته بها لم تطل وأنه عاد منها إلى سامراء وبغداد بعد حين إذ يحكى الصولي أن أول ما رأى البحتري سنة 276 بمجلس المبرد في مسجده ببغداد. ونظن ظنّا أن رحلاته إلى العراق لم تنقطع إلا بعد قبض الموفق على صديقه إسماعيل بن بلبل سنة 277 وكأنما كانت هذه الحادثة سببا في أن يصمم على مبارحة العراق إلى الأبد. وربما ولّى وجهه حينئذ نحو مصر وصاحبها خمارويه (61). ويبدو أنه كان يلقاه في رحلاته بالشام، ثم مدّها إلى مصر للقائه.
ويؤكد نزوله بها كثرة مدائحه لكاتب خمارويه إسحق بن نصير. غير أنه كانت علته كبرة فلم يقم بمصر طويلا وعاد إلى منبج، وظل بها سنواته الأخيرة حتى لبّى نداء ربه لعام 284.
وكان البحتري يأخذ بحظوظ مختلفة من الثقافة الإسلامية والعربية في عصره، وليس معنى ذلك أنه تخصص في أحد فروعها، ولكنه كان يلم بها، إذ كانت حلقاتها مفتوحة للصادر والوارد في جميع أنحاء العالم العربي حينئذ، ويرمز إلى ذلك في شعره أننا نراه فيه يعرض لبعض اصطلاحات علم الحديث، إذ يقول في مديحه لإبراهيم بن الحسن بن سهل (62):
خلق أتيت بفضله وسنائه … طبعا فجاء كأنه مصنوع
وحديث مجد عنك أفرط حسنه … حتى ظننّا أنه موضوع
وفي ذلك ما يؤكد صلته بالدراسات الإسلامية لعصره من حديث نبوي وتفسير وفقه، وبالمثل كان على صلة بالدراسات العربية من تاريخية ولغوية ونحوية، وهذا طبيعي لأنه أعد نفسه ليكون شاعرا مرموقا، فكان لا بد له أن يتزوّد من اللغة ومن
ص285
النحو ومن التاريخ العربي الإسلامي، ونراه في بعض شعره يعرض لعالم لغوي في عصره هو الفضل بن محمد اليزيدي، رآه يزرى على جميل وكثيّر، فيقول إنه لا علم له بالشعر، وكل علمه إنما هو التعمق في الفاعل والمفعول (63).
وكان لا يبارى في ثقافته بالشعر، مما جعله يضع فيه ديوان حماسة مشاكلة ومشابهة لأستاذه أبي تمام في حماسته المشهورة، ويقول ابن النديم إن له كتابا ثانيا في معاني الشعر، غير أن هذا الكتاب سقط من يد الزمن. والكتاب الأول كاف في تصور إكبابه على الشعر القديم إكبابا منقطع النظير. وبالمثل كان يكبّ على دواوين الشعراء المحدثين، مما أتاح له ثقافة شعرية واسعة. ولكن هل نستطيع بذلك كله أن نقول إن البحتري كان مثقفا بالثقافة الحديثة لعصره وما يتصل بها من علوم الأوائل؟ حقّا له قصيدة، كما أسلفنا، أكثر فيها من ذكر النجوم، ولكن هذا لا يعنى أنه كان ملمّا بعلم الفلك والنجوم لعصره، فقد كان منصرفا عن هذا العلم وغيره من علوم الأوائل. وكان إذا ألم بها يلمّ من الظاهر إن صح هذا التعبير، فهو لا يتعمقها أو هو بعبارة أدق لا يستطيع أن بتعمقها إذ كانت نشأته نشأة بدوية كما لا حظ القدماء، وإن كان قد تحضّر فيما بعد، ولكنه ظل بعيدا عن الفقه بالثقافة الحديثة، وخاصة الثقافة الفلسفية والمنطقية.
وكانت قد أخذت تتكوّن في النقد والبلاغة-كما أشرنا إلى ذلك في غير هذا الموضع-ثلاث بيئات: بيئة محافظة مسرفة في المحافظة ترى أن الشعر ينبغي ألا يقاس إلا بالمقاييس العربية الخالصة، وهي بيئة اللغويين، وبيئة مجددة مسرفة في التجديد ترى أن يقاس الشعر بمقاييس البلاغة اليونانية، وهي بيئة المتفلسفة، ممن كانوا يترجمون عن اليونان أو يقرءون ما ترجم عنهم، وبيئة معتدلة، فهي لا تحافظ محافظة اللغويين ولا تجدد تجديد المتفلسفة، بل تقف موقفا وسطا، فهي تقرأ ما يترجم وهي تنظر فيما أثر عن العرب من ملاحظات بلاغية، ثم تحاول أن تنفذ من ذلك إلى مقاييس للبلاغة العربية تزنها موازين دقيقة، وهي بيئة المتكلمين، على نحو ما نعرف عن الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، وانحاز الشعراء غالبا إلى البيئتين المحافظة والمعتدلة، وقلما انحاز أحد منهم إلى البيئة الثالثة
لأنها كانت تجافي الذوق العربي. غير أن هذه البيئة أخذت تشنّ حسلات شعواء على بيئة المحافظين وخاصة على ممثلها البحتري الذي لم يكن يتقن الثقافة الفلسفية، ونرى بعض من يمثلون البيئة المعتدلة ينضمون إلى هذه الحملة بعامل المنافسة بينهم وبين البحتري وفي مقدمتهم ابن الرومي. وكانت قد ساءت العلاقة بين البحتري وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر صاحب شرطة بغداد، ونظن ذلك حدث في بعض فترات عزله عن وظيفته، وسارع البحتري فلمّح إليه في بعض شعره بما يشبه الذم، وردّ عليه عبيد الله يمدّه صديقه ابن الرومي بأشعار ملتهبة، ويبدو أنهما ندّدا بضعف ثقافة البحتري وأنه لا يعرف فلسفة ولا منطقا، مما جعله يهجو عبيد الله ببائية يقول فيها (64):
كلّفتمونا حدود منطقكم … والشعر يغنى عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو القروح يلهج بال … منطق ما نوعه وما سببه
والشّعز لمح تكفى إشارته … وليس بالهذر طوّلت خطبه
وحقا لم يكن امرؤ القيس الملقّب بذي القروح يعرف فلسفة ولا منطقا لا لأنه صدّ عن ذلك، ولكن لأن عصره كله لم يكن يعرفهما، ولو أنه تأخر به الزمن إلى عصر البحتري لعكف على الفلسفة والمنطق كما عكف ابن الرومي وأضرابه وغذّى بهما شاعريته غذاء رفيعا. وهو يلمّح في الشطر الأخير إلى ابن الرومي وما اشهر به من مطولات شعره.
وقد ساعد الذوق المحافظ الذي ساد في العصر كما أشرنا الى ذلك؟ ؟ ؟ مرارا-إلى أن ترجح كفّة البحتري المحافظ كفّة ابن الرومي المجدد، وأن يقف في صفّه لا علماء اللغة وحدهم من أمثال المبرد بل كثرة كثيرة من الشعراء، على حين كان ابن الرومي يعيش لعصره فيما يشبه عزلة من معاصريه مع تفوقه على زميله تفوقا واضحا بملكاته الشعرية الخصبة، ولكنه لم يكن يحتفظ للشعر بصياغته الموروثة وتقاليدها على نحو ما يحتفظ البحتري، فوقع بعيدا عن ذوق الكثرة الغالبة من الشعراء والنقاد.
وليس معنى ذلك أن البحتري انفصل تماما عن روح العصر، فقد كان يلائم بين شعره وبين تلك الروح عن طريق ثقافة واسعة بشعر أستاذه أبي تمام وشعر من سبقوه. . . أمثال مسلم وأبي نواس وبشار، المرة تلو المرة، والمرات تلو المرات، حتى أصبح ذلك جزءا لا يتجزأ من جوهر شعره، ولذلك نعته معاصروه طويلا بأنه يغير على أشعار من سبقوه فيسلبها لنفسه، وفي ذلك يقول ابن الرومي لأبي عيسى العلاء بن صاعد حين نشر الأمن في ربوع بغداد (65):
أيسرق البحتري الناس شعرهم … جهرا وأنت نكال الّلصّ ذي الرّيب
وأهم ديوان ألحّ على تمثله ديوان أستاذه أبى تمام، ولا حظ ذلك كله القدماء فأفردوا سرقاته بالبحث، وكان أول من عنى بذلك عنده معاصره أحمد بن أبى طاهر؛ إذ استخرج له ستمائة بيت ردها إلى أصولها عند الشعراء وخاصة عند أبى تمام، وقد بلغ ما سلبه منه في رأى ابن أبى طاهر مائة بيت. وتلاه بشر بن تميم بمصنف ذكر فيه سرقاته من أبى تمام، وعليه اعتمد الآمدي في الفصل الذى عقده لهذا الجانب من سرقات البحتري. وفى رأينا أنه استطاع بذلك أن يتلافى نقص ثقافته الحديثة، فقد خالط الشعراء المحدثين وخاصة أبا تمام مخالطة نادرة، بحيث تمثل المعاني والأخيلة الحديثة، بل قل بحيث استخلصها لنفسه، وأخذ يصدر عنها كما يصدر الضوء عن الشمس والشذى عن الزهرة. وحقّا أنه يوجد بون بعيد بين عرض هذه الأخيلة والمعاني عنده وعند أبى تمام، فقد كان أبو تمام يغمس أفكاره وأشعاره في ليقة المنطق، فإذا القصيدة عنده توشك أن تتحقق فيها الوحدة العضوية، فالمعاني والصور يتولد بعضها من بعض ولا خنادق ولا ممرات بين الأبيات، على حين تكثر هذه الممرات والخنادق عند البحتري، ولا حظ ذلك القدماء فقالوا إنه لا يحسن الخروج من موضوع إلى موضوع في الشعر (66)، لسبب بسيط وهو أنه لم يكن يخضع في شعره للمنطق على نحو ما صرّح بذلك آنفا. وظاهرة ثانية هي أنه جارى أستاذه في
ص288
الاحتفال بألوان البديع واستظهارها في أشعاره، ولكن حين نقرن أي لون عنده إلى أصله عند أبى تمام سنجد مفارق واسعة، فأبو تمام مثلا يجنح إلى استخدام نوافر الأضداد في أسعاره كما مر بنا في كتاب العصر العباسي الأول، ولم يكن البحتري يستطيع أن يتعمق هذا التعمق ولذلك نراه يكتفى بالطباق بحيث إذا ذكر الوصل مثلا ذكر معه الهجر، وإذا ذكر الذل ذكر معه الكبر، وإذا ذكرت السهولة ذكرت معها الوعورة، وإذا ذكرت الحرية ذكرت معها العبودية. ولون آخر يتعمقه أبو تمام هو الاستعارة على نحو ما مر بنا أيضا في حديثنا عن العصر العباسي الأول، ولم يكن البحتري يتعمق هذا اللون تعمقا من شأنه أن يبعده عن الذوق القديم، ولذلك كله قال النقاد إنه يحافظ على عمود الشعر العربي (67)، يريدون محافظته على أصوله الموروثة، ومن تتمة ذلك عنده أنه لم يكن يكثر من ألوان البديع إكثار أبي تمام، ولا كان يستطيع أن يتغلغل في دقائق الفكر والأخيلة على نحو ما كان يتغلغل أبو تمام بحكم ثقافته الفلسفية ومواردها التي لا تنضب في أشعاره، ولذلك كان يشيع في أشعاره الغموض، مما جعل القدماء يختلفون في فهم كثير من أبياته وتفسيرها وتأويلها، لكثرة ما توحى به من معان، وهو اختلاف لا يضيع منك هباء، بل إنك تجد في أثنائه ما يشبه أقواس قزح ممتدة في أشعاره، وهي أقواس بهيجة، تزهي بالفكر العميق والخيال الواهم البعيد.
ولكن إذا كان البحتري لم يستطع أن يحقق لنفسه هذا المدى الرائع من الشعر والفن، بسبب ضعف ثقافته الفلسفية، فإنه استطاع أن يحقق لنفسه مدى مقابلا لا يقل روعة، وهو مدى الجمال الصوتي البديع، بحيث استطاع أن يرتفع باصطفاء الكلمات والملاءمة بينها في الجرس! بل بين حروفها وحركاتها ملاءمة رفعته إلى مرتبة موسيقية لم يلحقه فيها سابق ولا لاحق، وكأنما كانت له أذن داخلية مرهفة، تقيس كل حرف وكل حركة وكل ذبذبة صوتية، فإذا به ينظم شعرا مصفى مروّقا، شعرا يلذ الألسنة والآذان والأذهان لذة لا تعادلها لذة. وقد وقفنا طويلا عند هذا الجانب في الفصل الثاني من كتابنا «الفن ومذاهبه في الشعر العربي» وأوضحنا مدى مشاكلته بين أصوات الألفاظ والقوافي في بعض القصائد وموضوعاتها كما أوضحنا
مدى التوافق الصوتي عنده بين الحروف والكلمات والحركات والسكنات، وكأنما أعطت الموسيقى الشعرية كل مفاتيحها وكل أسرارها للبحتري، فإذا هو يوقع على قيثارته أروع ألحان عرفتها العربية ((69)). وبذلك استطاع أن يتلافى بقوة قصوره الثقافي.
فإذا هو يوضع على قدم المساواة مع أبى تمام، وإذا النقاد يتقابلون في صفّين:
صفّ يرفع أبا تمام إلى الذروة، وهم المتفلسفة ومن يعنون بالتعمق في المعاني والأخيلة.
وصف يرفع البحتري إلى نفس المرتبة، وهم أصحاب الآذان المرهفة الذين يكبرون اللذة الصوتية، وكان ينضم إليهم طوائف من المحافظين واللغويين، وكان البحتري نفسه إذا سئل عنه وعن أبى تمام قال: جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه، وهو يريد بجيد أبى تمام معانيه وأخيلته الدقيقة التي لم يكن أحد من أهل زمانه يستطيع أن يحلق في آفاقها، أما رديئه فيريد به بعض أبياته التي يضطرب فيها اللفظ لأنه لم يكن يعنى بألفاظه وأصواته عناية البحتري:
والمديح أهم موضوع استنفد شعر البحتري، فقد عاش، كما مرّ بنا، يمدح الخلفاء العباسيين من المتوكل إلى المعتضد ووزراءهم وولاتهم وقوادهم وكتّابهم، وكأنما وقف نفسه على الإشادة بالدولة ورجالاتها، بحيث يعدّ الشاعر الرسمي لها، وكان طبيعيا لذلك أن ينتصر للعباسيين ضد خصومهم العلويين، وأن يتغنى بذلك في أشعاره، حتى يثبت ولاءه لهم وأنه يقف في صفوفهم مدافعا عنهم مناضلا بمثل قوله للمتوكل (70):
شرفا بني العباس إن أباكم … عمّ النبي وعيصه المتفرّع
إن الفضيلة للذي استسقى به … عمر وشفّع إذ غدا يستشفع
وأرى الخلافة وهي أعظم رتبة … حقّا لكم ووراثة ما تنزع
أعطاكموها الله عن علم بكم … والله يعطي من يشاء ويمنع
فالعباس جد العباسيين وعم الرسول صلى الله عليه وسلم من العيص ومنبت الشجر الضخم، يريد أنه من الأصول بينما على بن أبى طالب من الفروع، ويستدل على
ص290
فضله بأن عمر استسقى به في عام الرمادة حين أصاب الجزيرة القحط مستشفعا به لربه، ولم يستسق بابن أبى طالب، ويشير إلى حكم الميراث في الإسلام وما فرضه من حجب العم لابن أخيه، فالخلافة حق من حقوق العباسيين، كما تقرر ذلك الشريعة الإسلامية، وليس لأبناء على وحفدته أى حق في منازعتهم.
ويكرر البحتري في مديحه للمتوكل وغيره من الخلفاء العباسيين تقواهم، وعدلهم الذى ينشرونه في ربوع الدولة، ومدى رعايتهم للأمة ورفقهم بها ورقتهم لها وكيف يقومون على حمايتها بجنودهم وجموعهم الجرّارة. وكان ينتهز كل فرصة ليدبج قصائده فيهم، فمن ذلك قصيدته في وصف موكب المتوكل في أثناء خروجه لأداء الصلاة في عيد الفطر، وقد صوّر في فاتحتها قوة الإسلام حينئذ مجسمة في جيش ضخم كان يحفّ بالمتوكل وكأنه جبال تتحرك، فترجف الأرض وتهتز لضخامته وعدده الكثيفة، ويتحدث عن جلال الموكب وما استدار حول المتوكل من هالات قدسية ومن محبة للشعب وإعظام، يقول (71):
افتنّ فيك الناظرون فإصبع … يومي إليك بها وعين تنظر
يجدون رويتك التي فازوا بها … من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبي فهلّلوا … لما طلعت من الصفوف وكبّروا
حتى انتهيت إلى المصلّى لابسا … نور الهدى يبدو عليك ويظهر
فلو انّ مشتاقا تكلف فوق ما … في وسعه لسعى إليك المنبر
ولعل أهم وزير استصفاه لنفسه الفتح بن خاقان، فله ألف ديوانه الحماسة، وقد عاش نحو خمسة عشر عاما يمدحه منوها بسياسته وحزمه وشجاعته وأناته في تسديد الأمور، وعونه للضعيف ورده للمظالم ونشره للعدل الذي لا تصلح حياة الناس بدونه وبعد غوره ويقظته وكفايته لحمل أمانة الحكم على خير وجه ممكن، مع تقواه وتواضعه ومع صيانته للثغور وحطمه بجيوشه للثوار والأعداء حطما لا يبقى ولا يذر، ومع أخلاقه الرفيعة التي تتحلّى بها نفسه الأبية، وكان ربما بدر منه ما يجعل الفتح ينصرف عنه. فكان يعتذر له بأشعار رائعة، سبق أن صورناها في الفصل الماضي. ومديحه
فيه يكتظ بعاطفة حقيقية، فقد كان يكنّ له ودّا وحبّا وإخلاصا، وكان ما بنى يتغنّى بمديحه، ومن طريف قوله فيه مصورا هيبته (72):
إذا ما مشى بين الصفوف تقاصرت … رءوس الرّجال عن طوال سميدع (73)
وإن سار كف اللحظ عن كل منظر … سواه وغضّ الصوت عن كل مسمع
فلست ترى إلا إفاضة شاخص … إليه بعين أو مشير بإصبع (74)
ومرّ بنا أن أول نابه اتصل به وخصه بمديحه محمد بن يوسف الثغري ممدوح أبي تمام الذي كان في مقدمة من قعوا ثورة بابك الخرمي، كما كان في مقدمة جيوش المعتصم في غزوه لعمورية. وقد ظل ينازل الروم ويمحق جموعهم حتى وفاته سنة 236. وقد سجل البحتري حروبه وانتصاراته القديمة والحديثة جميعا، مجسما بأس جيوشه. وكيف كانوا يتهافتون على الوغى كما يتهافت الفراش على النار، إنهم أبناء موت يطرحون أنفسهم تحت رحاه، فلا تطحنهم وإنما تطحن أعداءهم طحنا، وله في تمجيد شجاعة محمد بن يوسف الثغري أشعار وقصائد كثيرة، ومن طريف ماله في تصوير رباطة قلبه وسكون نفسه في الحرب قوله (75):
لقد كان ذاك الجأش جأش مسالم … على أن ذاك الزّىّ زىّ محارب
تسرّع حتى قال من شهد الوغى … لقاء أعاد أم لقاء حبائب
وصاعقة في كفّه ينكفي بها … على أرؤس الأقران خمس سحائب
فجأشه مطمئنّ ونفسه هادئة، حتى ليظن من يراه أنه في سلم وأمن ودعة مع أن الزي زي محارب باسل. وإنه ليقبل على ميادين الحرب إقبال المحب على الحصى؟ ؟ ؟ معشوقته هانئا مغتبطا، وإن السيف في يده ليشبه أدق الشبه صاعقة تسقط على الأعداء بشواظها من أصابعه الحمس، وكأنها خمس سحائب مائتي ترسل عليهم الصواعق المدمرة. والبطل الثاني في ديوان البحتري هو أحمد بن دينار، وقد سجّل بطولته في معركة بحرية دمّر فيها بأسطوله الأسطول البيزنطي تدميرا ذريعا، ومن عجب أن الطبري وغيره من مؤرخي العرب لم يدونوا هذه المعركة الخطيرة،
ص292
ولا أشاروا إليها، والمظنون أنها كانت لعهد المتوكل، ولعل في تسجيل البحتري لها ما يؤكد ما قلناه مرارا من أن شعر المديح عند العرب يعدّ في بعض جوانبه وثائق تاريخية مهمة، وفيها يقول البحتري مصورا زحف ابن دينار بمركبه «الميمون» ومن حوله المراكب تغص بجنوده البحريين الذين محقوا الأسطول البيزنطي وجنوده محقّا (76):
غدوت على الميمون صبحا وإنما … غدا المركب الميمون تحت المظفّر
وحولك ركّابون للهول عاقروا … كئوس الردى من دارعين وحسّر (77)
صدمت بهم صهب العثانين دونهم … ضراب كإيقاد اللّظى المتسعّر (78)
يسوقون أسطولا كأن سفينه … سحائب صيف من جهام وممطر (79)
فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلّى … مقطّعة فيهم وهام مطيّر (80)
وكل شيء يشهد بأن الشعر كان لا يستصعب على البحتري، فقد كان يتدفق على لسانه تدفقا، ومع ذلك يقال إنه نقل كثيرا من مدائحه، حتى ليبلغ ذلك عشرين قصيدة، إلى مدح أناس جدد (81). وقد يكون في ذلك مبالغة، على أننا نجد في الديوان رائية مرددة بين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل، والخضر بن أحمد والى الموصل، واختلفت لذلك رواية بعض أبياتها (82). ويدخل في هذه الظاهرة عند البحتري ما قيل من أنه هجا كثيرين ممن مدحهم، حتى ليبلغ بهم بعض الرواة أربعين شخصا (83)، وقد عرضنا لذلك في غير هذا الموضع، ولا شك في أن في العدد مبالغة.
وفي ديوانه أهاج مختلفة ترجع إما إلى حرمانه من جائزة، وإما إلى كفران صنيعة عند بعض معاصريه، وإما إلى منافسة بينه وبين الشعراء وخاصة من كان منهم
ص293
يتعرض لشعره بالذم والنقد اللاذع. ويلاحظ أبو الفرج الأصبهاني في ترجمته أن بضاعته من هذا الفن قليلة، ويروى عن ابنه أبي الغوث أن السبب في ذلك أن أباه أحرق هجاءه في الناس خوفا من مغبة عداوتهم له ولأبنائه، وكأن هذه الرواية لم تعجب أبا الفرج، فقد عاد يؤكد أن أكثر هجائه ساقط غث الألفاظ ركيك لا يشاكل طبعه ولا يليق بمذهبه (84).
وبالمثل الفخر عند البحتري ضعيف، هو حقّا يفخر في بعض قصائده بآله وعشيرته بحتر وقبيلته طيئ ناعتا لهم بالكرم والشجاعة والكثرة والحصافة، ولكنه لا يصدر في ذلك عن إيمان قوى بالمجد، وكأنما كانت عصبيته القبلية ضعيفة، بل لقد كان إحساسه بعروبته أيضا ضعيفا، ومرت بنا في الفصل السالف قصيدته في إيوان كسرى وبكاؤه لأمجاد الفرس، وكأنما لم يكن يستشعر شيئا من الإحساس العميق بالأمجاد العربية في مقابل الأمجاد الفارسية، ولعله من أجل ذلك كان كثيرا ما يسترسل في إشادته بالأصول الفارسية لبعض ممدوحيه، على نحو ما يلقانا في مديحه للحسن بن سهل بمناسبة عيد المهرجان، وله يتوجه بالخطاب قائلا (85):
إن للمهرجان حقّا على ك … ل كبير من فارس وصغير
عيد آبائك الملوك ذوى التّي … جان أهل النّهى وأهل الخير (86)
ويعدّد طائفة من هؤلاء الملوك في مقدمتهم يزدجرد، وكسرى، وأردشير، ويصور ما كان لهم من أبهة الملك وما كانوا يغدون ويروحون فيه من السندس والحرير.
وحتى العاطفة الإسلامية بدورها نجدها ضعيفة عند البحتري، إذ امتدح كثيرين من النصارى على نحو ما مر بنا في غير هذا الموضع.
وذكرنا في الفصل السالف مرثيته للمتوكل، وأوضحنا كيف أعلنها ثورة مدوية على قاتليه وولى العهد الذى ناصرهم، وقد استهلها بوصف قصر الجعفري الذى قتل به الخليفة وما حلّ عليه من سواد وكآبة، حتى غدا كأنه مأتم كبير،
ص294
ويصور فزع سيداته الجميلات حين علمن بالخبر الفاجع وكيف انتهكت حرماته ثم يصف القتل والقتلة وصفا مؤثرا. وله مرثية رائعة يرثى بها طائفة من بنى حميد الطوسي خرّوا صرعى في ميادين الثغور دفاعا عن العرين العربي، وفيهم يقول (87):
قبور بأطراف الثّغور كأنما … مواقعهم منها مواقع أنجم
مضوا يستلذّون المنايا حفيظة … وحفظا لذاك السؤدد المتقدّم
وكلّهم أفضى إليه حمامه … أميرا على تدبير جيش عرمرم (88)
مساع عظام ليس يبلى جديدها … وإن بليت منهم رمائم أعظم
والمرثية بكاء حار لهؤلاء الأبطال الذين استشهدوا تحت ظلال السيوف فداء لوطنهم بأرواحهم واستبسالا بعد أن أذاقوا الأعداء كئوس الموت دهاقا.
واشتهر البحتري بإجادته للغزل، ومرّ بنا أنه أحبّ في شبابه علوة الحلبية وظلت ذكراها لا تبارحه، وظلت تستولي على قلبه، وكانت قد صبت إليه كما صبا إليها وبادلته ودا بود، ثم تزوجها الذفافي كما أسلفنا، فسلت عنه، ولكنه لم يسل عنها، وفي ديوانه مقطوعة يهجوها بها قد يكون نظمها فيها ساعة غضب انتابته، وإن كنا نظن ظنّا أنها منحولة عليه، فقد ظل قلبه لها في سامرّاء وبغداد كما ارتحل عنها، فهو لا ينى يذكرها بمثل قوله في مقدمة مدحه للمعتز (89):
كم ليلة فيك بتّ أسهرها … ولوعة في هواك أضمرها
وحرقة والدموع تطفئها … ثم يعود الجوى فيسعرها
يا علو علّ الزمان يعقبنا … أيام وصل نظلّ نشكرها
وكأن السنوات الطويلة التي مضت بين حبه لها في شبابه ومديحه للمعتز وهو في نحو الخمسين من عمره لم تطفئ لوعته وحرقته، فقد ظلت نار شوقه وحبه
ص295
لها مشتعلة بين جوانحه، وظل يصدر عنها في قطع مفردة وفى مقدمات مدائحه من مثل قوله (90):
وخلاف الجميل قولك للذّا … كر عهد الأحباب صبرا جميلا
لا تلمه على مواصلة الدّم … ع فلؤم لؤم الخليل الخليلا
على ماء الدموع يخمد نارا … من جوى الحبّ أو يبلّ غليلا
وكانت لدى البحتري قدرة بارعة في وصف مظاهر العمران، بما أتيح له من دقة في التصوير والتعبير، ولم يكد يترك قصرا بناه المتوكل دون أن يصفه موجزا أو مسهبا، وبالمثل وصف ما بناه الخلفاء بعده من قصور. ومرّ بنا وصفه الرائع لإيوان كسرى، ومن القصور التي أجاد في وصفها قصر الكامل الذى بناه المعتز وفيه يقول (91):
ذعر الحمام وقد ترنّم فوقه … من منظر خطر المزلّة هائل (92)
رفعت لمنخرق الرّياح سموكه … وزهت عجائب حسنه المتخايل (93)
وكأن حيطان الزجاج بجوّه … لجج يمجن على جنوب سواحل
لبست من الذهب الصقيل سقوفه … نورا يضئ على الظلام الحافل (94)
وقد مضى يصف رخامه وخطوطه المتقابلة وما امتد أمامه من بستان أنيق وما يجرى فيه من مياه دجلة المفضضة ومن نسيم الصّبا الحاني. وكان القدماء يعجبون أشد الإعجاب بوصفه لبركة أقامها المتوكل بأحد قصوره فكانت فتنة للناظرين، وفيها يقول البحتري (95):
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها … والآنسات إذا لاحت مغانيها (96)
تنصب فيها وفود الماء معجلة … كالخيل خارجة من حبل مجريها
ص296
كأنما الفضّة البيضاء سائلة … من السبائك تجرى في مجاريها
فرونق الشمس أحيانا يضاحكها … وريّق الغيث أحيانا يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانبها … ليلا حسبت سماء ركّبت فيها
ويتحدث عن السمك المحصور في البركة والصحن الممتد في أسفلها والبهو الممتد في أعاليها وتمثال الدّلفين الذى كان مقاما عليها، والبساتين والرياض التي تحف بها والأزهار التي تشبه ريش الطواويس في تلاوينها العجيبة. ولعل في كل ما قدمنا ما يصور شاعرية البحتري الرائعة وكيف أنه استطاع أن يتلافى بملكاته الخصبة القصور في ثقافته الحديثة، فإذا هو يملك من أدوات التعبير ما يستحيل به شعره إلى أنغام وألحان خالصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر في البحتري وشعره الأغاني (طبعة الساسي) 18/ 167، والموشح للمرزباني والموازنة بين الطائيين للآمدي، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 394، 458 والشريشي على مقامات الحريري 1/ 40 وعبث الوليد لأبى العلاء، وأخبار البحتري للصولي (طبع المجمع العلمي العربي بدمشق) وتاريخ بغداد 13/ 446، ومعجم الأدباء لياقوت 19/ 248، وابن خلكان، ومرآة الجنان لليافعي 2/ 202، وشذرات الذهب لابن العماد 3/ 186 والنجوم الزاهرة /993/، وحياة البحتري وفنه لأحمد أحمد بدوى، والفن ومذاهبه في الشعر العربي (الطبعة السابعة-طبع دار المعارف) وديوانه بتحقيق حسن الصيرفي ومقدمته (طبع دار المعارف).
(3) أخبار البحتري ص 56، والأغاني 18/ 169.
(4) أخبار البحتري ص 63، والأغاني 18/ 169.
(5) زهر الآداب للحصري 1/ 101.
(6)الديوان 2/ 882.
(7) أخبار البحتري للصولي ص 123.
(8) الديوان 2/ 1132.
(9) في أخبار البحتري للصولي ص 83 لن أول قصيدة مدح بها البحتري الفتح بن خاقان لسنة 233 هي: هب الدار ردت رجع ما أنت قائله وأبدى الجواب الربع عما تسائله انظر الديوان 3/ 1610.
(10) الديوان 1/ 446.
(11) الديوان 2/ 943.
(12) الديوان 3/ 1689.
(13) الديوان 2/ 701.
(14) الديوان 2/ 1299.
(15) الشواجر: المتشابكة المتداخلة
(16) تاريخ الطبري 9/ 197 وما بعدها.
(17) الديوان 3/ 1546.
(18) قارفوا: ارتكبوا. الخرق: الحمق.
(19) الديوان 3/ 1602.
(20) الديوان 2/ 707، 709، 991، 3/ 1514.
(21) انظر الديوان 2/ 1041، 3/ 2004.
(22) الديوان 2/ 1048.
(23) الديوان 2/ 850. ابذعر: تفرق.
(24) الديوان 3/ 1637.
(25) الديوان 1/ 215.
(27) الديوان؟ ؟ ؟ /524.
(28) الديوان 3/ 2019.
(29) الديوان 3/ 1403.
(30) الديوان 3/ 2174.
(31) الديوان 1/ 224.
(32) الديوان 1/ 493.
(33) الديوان 1/ 438 وأخبار البحتري ص 110.
(34) الديوان 2/ 916.
(35) الديوان 2/ 1268.
(36) الديوان 3/ 1856.
(37) الديوان 2/ 734.
(38) الديوان 1/ 123.
(39) الطساسيج: الإقطاعات والضياع، ويقال إن سواد العراق كان مقسما إلى ستين طسوجا. رغب: متسع.
(40) الديوان 1/ 427.
(41) العيس: الإبل. المراسيل: النوق السبلة السير.
(42) التربيع: الإيماء. والعشر: عشر الثمار وهو الحراج المفروض.
(43) أخبار البحتري للصولي ص 119.
(44) انظر التجف والهدايا للخالديين نشر سامى الدهان ص 73، وزهر الآداب 3/ 97، وأخبار البحتري ص 108 وقد عدد في القصيدة عطايا المعتز له من الدنانير والخلع وكيف أنه أمر بأن يزور بلده على خيل البريد الرسمي. انظر الديوان 3/ 1536.
(45) أخبار البحتري ص 105 والديوان 2/ 1309.
(46) الديوان 3/ 1524.
(47) الديوان 2/ 1008.
(48) الديوان 3/ 2041.
(49) انظر الديوان 1/ 399، 3/ 1485، 1744، 1989، 2030.
(50) الديوان 3/ 1741.
(51) الديوان 1/ 407، 427، 491، 559، والأغاني 18/ 171.
(52) الديوان 2/ 837، 892 وأخبار البحتري ص 115.
(53) انظر مثلا 2/ 986، 1067، 3/ 1485.
(54) راجع الأغاني 18/ 170 وقابل بالعمدة لابن رشيق 2/ 150.
(55) الديوان 1/ 527.
(6) الأغاني 18/ 171.
(57) أخبار البحتري ص 127 وما بعدها.
(58) الديوان 2/ 909.
(59) تاريخ الطبري 10/ 10.
(60) الديوان 3/ 1553.
(61) النجوم الزاهرة 3/ 97.
(62) الديوان 2/ 1316.
(63)الديوان 3/ 1817 وما بعدها.
(64)الديوان 1/ 209.
(65) ديوان ابن الرومي (نشر كامل كيلاني) ص 35.
(66) العمدة لابن رشيق 1/ 159.
(68)الموازنة للآمدي (طبعة الجوائب) ص 2.
(70) الديوان 2/ 1311.
(69) الفن ومذاهبه في الشعر العربي (الطبعة السابعة-نشر دار المعارف) ص 77 وما بعدها.
(71)الديوان 2/ 1072.
(72) الديوان 2/ 1239.
(73) السميدع: السيد الكريم الشجاع.
(74) الإفاضة: الاتجاه بالبصر.
(75) الديوان 1/ 178.
(76) الديوان 2/ 982.
(77) الردى: الموت. الدارع: لابس الدرع. الحاسر: عكس الدارع.
(78) صهب العثانين: شقر الحى، ويريد بهم الروم.
(79) السحاب الجهّام: الذى لا ماء فيه.
(80) رام يريم عن المكان: زال عنه وفارقه. الطلى: الأعناق. الهام: الرءوس.
(81) الموشح ص 336.
(82) الديوان 2/ 870 وما بعدها.
(83) الموشح ص 336.
(84) الأغاني (طبعة الساسي) 18/ 167.
(85) الديوان 2/ 886.
(86) الخير: الكرم والشرف.
(87) الديوان 3/ 1945.
(88) عرمرم: كثيف.
(89) الديوان 2/ 1074.
(90) الديوان 3/ 1767.
(91) الديوان 3/ 1648.
(92) المزلة: المزلق.
(93) منخرق الرياح: مهبها. سموكه: أعاليه.
(94) الحافل: الكثير.
(95) الديوان 4/ 2416.
(96) الآنسات هنا جواري المتوكل وكانت منازلهن تحفّ بالبركة.
دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) . |
جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) . وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً . |
الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل. |
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|