أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-02-02
1346
التاريخ: 2024-03-17
749
التاريخ: 2024-02-19
1074
التاريخ: 2024-02-17
1076
|
إنّ بحثنا لن يتّجه بحال من الأحوال إلى المخاطب عزّ وجل، ولكنّ بعض الباحثين اجتهد أن يعتبر المخاطب في مثل هذا الدرس من دروس تحليل الخطاب هوالرسول محمّد- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- فرأى د. محمد مفتاح مثلا أنّ الرسول الكريم قد عرفت سيرته جملة وتفصيلا، وأنّه كان يخاطب الناس بلسان عربيّ مبين، وأنّ سنن العرب في كلامها جزء من تشكيلة الثقافة التي يتّكئ عليها محلّل النصّ القرآني، وأنّ الرسول مبلّغ لمشيئة اللّه، ولذلك فهويخاطبهم بوسائل الخطاب المتاحة جميعا، وأنّه مؤهّل لتبليغ رسالة ربّه على الوجه الذي أراده سبحانه، فهوالمخاطب أمام الناس في هذه الرسالة" «1».
ولن تكون هذه وجهتنا، بل سنتحدّث عن النبيّ باعتباره المتلقّي الأوّل للنصّ، وباعتباره مبلّغا للرسالة كما وصفه اللّه عزّ وجل، والنبي الكريم كان جزءا من الواقع والمجتمع الذي تنزّل فيه النصّ، لم يكن معزولا أبدا، ولكنّه جزء مميّز من هذا الواقع، وتذكر كتب السيرة تفرّده وبعده عن اللهوحتّى قبل البعثة، وأخلاقه التي عرف بها بين العرب كالصادق والأمين " إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر" «2». إنّ هذه القولة التي ساقتها خديجة- رضي اللّه عنها- وهي تهدّئ من روعه بعد عمليّة الاتّصال الأولى مع الوحي تشير إلى جملة من مناشط الحياة التي كان يمارسها رسول اللّه، وهي تدلّ على انخراطه في مجتمعه مع الناس الذين عاشوا وإيّاه في واقعهم اليومي كلّه؛ وهذا مسوّغ إضافي لدرس هذا النصّ ضمن منهج اللّسان الاجتماعي، وقد عاب القرآن على كفّار قريش طلبهم أن يكون النبيّ المرسل ملكا، وعاب عليهم انتقادهم للنبيّ أنّه يمشي في الأسواق، ويمارس جميع مناشط الإنسان العادي من أكل وشرب ونوم و... وذلك لتكون الرسالة رسالة الحياة والواقع.
وفي سورة البقرة جرى الخطاب مرسلا أحيانا من غير نسبة إلى مخاطب مثل { ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}. ولكنه جاء في أحيان أخرى ليتحدّث عن النبيّ باعتباره مخاطبا ومخاطبا في آن مثل : " {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة : 25]. ومن مثل الآية (91) وفيها قوله تعالى : { وإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} فمن الطبيعي أنّ من قال هنا هوالرسول الكريم باعتباره المبلّغ عن ربّه، وكذلك الآية (94) { قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ ...}
وكذلك الآية (97) { قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ ...} وفي الآية 111 { قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ} وفي الآية (120) توجيه مباشر بالخطاب إلى بني إسرائيل " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة ..." وفي مجموعة من الآيات يسرد الخطاب توجّه الناس لرسولها بالأسئلة {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [البقرة : 215] " {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة : 217].... ويلاحظ أنّ الرسول في هذه الآيات كان (مخاطبا- مخاطبا) ممّا يجعل البحث عن الرسول باعتباره مخاطبا في هذه المواضع أمرا مشروعا.
ولكنّ آيات كثيرة أخرى جاءت لتتحدّث عن رسول اللّه باعتباره مخاطبا، شرحت موقفه وظروفه وتعامله مع الحوادث والوقائع ، صوّرت حركته الدائبة، ولهفته، وانفعاله، وإخباته. ومن أمثلة ذلك : آيات تحويل القبلة التي تأتي ضمن سياق الجزء الثاني من سورة البقرة ، والذي يتضمّن التركيز على إعداد الجماعة المسلمة لحمل الأمانة الكبرى ويتعلّق موضوع الآيات بقضيّة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستّة عشر شهرا من الهجرة، وقد كان توجّه المسلمين إلى بيت المقدس وهوقبلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى سببا وذريعة اتخذها اليهود للاستكبار عن الدخول في الإسلام، كما أطلقوا حول هذه المسألة الشائعات في أنّ دينهم هوالدين الحقّ وكان الرسول- صلى اللّه عليه وآله وسلّم - يقلّب وجهه في السماء متّهجا إلى ربّه دون أن ينطق لسانه بشيء تأدّبا مع اللّه وانتظارا لتوجيهه بما يرضاه «3». فنزلت الآيات الكريمة لتستجيب لما يعتمل في صدر الرسول {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة : 144]
وحين سمع المسلمون بتحويل القبلة إلى البيت الحرام، وكان بعضهم في منتصف صلاة حوّلوا وجوههم شطره، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة، عندئذ انطلقت أبواق يهود، وقد عزّ عليهم أن يتحوّل محمّد - صلى اللّه عليه وآله وسلّم - والجماعة المسلمة عن قبلتهم وأن يفقدوا حجّتهم التي يركنون إليها في تعاظمهم، وفي تشكيك المسلمين في قيمة دينهم، وقالوا للمسلمين إذا كان التوجّه إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم هذه الفترة، وإن كانت حقا فالتوجّه إلى المسجد الحرام باطل، وعلى أيّة حال فإن هذا التغيير للأوامر لا يصدر من اللّه وهودليل على أنّ محمّدا لا يتلوالوحي عن اللّه. هذا عن المقام الذي أحاط بآيات تحويل القبلة، فما ذا عن النصّ ؟
إنّنا سنضع هذا الجزء من النصّ ضمن إطاره الأوسع فهوجزء من سورة البقرة، وقد أحطنا بسياقها العام، ثمّ إنّ سورة البقرة جزء من القرآن الكريم الذي هوالنصّ الواحد الذي تتعالق كلّ أجزائه بروابط متينة، وهذا يعيدنا للّساني الذي قال : إنّ التحليل الدلالي الدقيق لجملة من كتاب يقتضيك قراءة الكتاب كلّه من الغلاف إلى الغلاف" «4».
وفي ضوء هذين الإطارين نقترب أكثر من السياق اللّغوي للآيات المعنيّة (142- 145) ونجد أنّها بدأت بالسين الدالّة على الاستقبال" سيقول" وأطلقت على جماعات المشكّكين اسم (السفهاء)، ومن السياق القرآني ومن سياق الأحداث في المدينة يتّضح أن المقصود بالسفهاء هم اليهود، فهم الذين أثاروا الضجّة حول تحويل القبلة، وكلمة السفهاء وإن تعلّقت باليهود مباشرة بواسطة ال (العهديّة) ولكنّها تحمل بعدا تأويليّا مفتوحا بوساطة شبة الجملة " من الناس".
فمن التبعيضيّة يمكن أن يكون السفه حالة متكرّرة وليس واقعة محدّدة، وهذا هوالنصّ في محوريه : الآني والتعاقبي، وهذا ما ينطبق على آليات النصّ في الحديث عن الواقعة المحدّدة، ثمّ الانتقال بها إلى الآفاق الرحيبة من التعبير عن كل حالة مشابهة. ثمّ ينتقل النصّ إلى طرح مقولة أولئك اليهود على شكل استفهام كبير" ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" وهي المسجد الأقصى، ويلاحظ أنّ صيغة الخطاب جاءت مليئة بالضمائر : التعبير عن المسلمين بضمير الغائب استبعادا وكرها، وإسناد القبلة للمسلمين" قبلتهم" رغبة في استمرار توجّههم لبيت المقدس، ويبدوفي صيغة الآية كلّها عمليّة التشكيك وتغيّر المواقف بين (عن) و(كانوا) و(عليها) كنوع من التأثير النفسي على المسلمين. ثمّ يبدأ النصّ في علاج آثار هذا التساؤل والردّ عليه بتلقين الرسول- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- ما يواجههم به" قل : { لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142]
إنّ النصّ يتوقّع اتهاماتهم، ولذلك جاء الأمر ب (قل)، ثمّ المقول جملة اسميّة فيها تقديم وتأخير سببه الدلالة المركزية في العبارة وهي أنّ الجهات والأماكن لا فضل لها في ذاتها، إنّما يفضّلها ويخصّصها اختيار اله وتوجيهه؛ ولذلك قدّم لفظ الجلالة مسبوقا باللام التي تدلّ على التملك والاختصاص (للّه)، واللّه الذي بيده الجهات هوالذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فإذا اختار لعباده وجهة، واختار لهم قبلة فهي إذن المختارة، وعن طريقها يسيرون إلى صراط مستقيم. أمّا علاقة الآية بما بعدها فإنّ الآيات الآتية تتحدّث عن حقيقة الأمّة الكبيرة في هذا الكون، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وعن مكانها العظيم ودورها الأساسي في حياة الناس ممّا يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصّة وشخصيّتها الخاصّة «5»."
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة : 143]. وتشتمل الآية (143) على الحديث عن الغاية والهدف من حادثة تحويل القبلة " {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ.. } [البقرة : 143] وذلك أنّ الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبّست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة، وشابت عقيدة جدّهم إبراهيم شوائب من الشرك، ومن عصيّه الجنس؛ إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدّس، واللّه يريده أن يكون بيت اللّه المقدّس؛ ولذلك فقد صرف المسلمون عنه فترة، ووجّههم إلى بيت المقدس ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبّس القديم، ثمّ ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول- صلّى اللّه عليه وسلم-" وإن كانت لكبيرة إلّا على الذين هدى اللّه" وبعد ذلك يبدأ النصّ بالحديث عن المتلقّي الأوّل {قد نرى تقلّب وجهك} ويصوّر مطلع الآية حال النبي- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- (قد نرى)، ثمّ التعبير عن وضع رسول اللّه بالمصدر (تقلّب) يشي برغبته القويّة في أن يوجّهه ربّه إلى قبلة غير القبلة التي كان عليها. إنّ النصّ يتفاعل مع انفعالات النبيّ ولقد أجابه ربّه إلى ما يرضيه، والتعبير عن هذه الاستجابة يشي بتلك الصلة الرحيمة الحانية الودود {فلنولينّك قبلة ترضاها}.
والفاء بما تحمله من تتابع وتعاقب ثمّ قوله {فولّ وجهك} أيضا ، مع أنّ فترة التقلّب كانت تبدوعصيبة صعبة، بدلالة التعبير عن رؤية اللّه لها بالمضارع وليس (قد رأينا).
وإشارة إلى دور رسول اللّه بالبلاغ وإيصال الخطاب يأتي ذكره أوّلا {فولّ وجهك} ثمّ {وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره} وهذا جزء من الخطاب يظهر على وجه التفصيل علاقة النصّ بالمخاطب الأوّل ؛ فهو يرصد حركته ، ويوجّه انفعاله ورغبته، ويستجيب له.
وبعد ذلك يوجه اللّه الخطاب إلى النبيّ- صلى اللّه عليه وآله وسلّم- بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة : 147]. ورسول اللّه ما امترى يوما ولا شك، ولكنّ توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه يحمل إيحاء قويّا إلى من وراءه من المسلمين، سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثّر بأباطيل اليهود وأحابيلهم، ومن يأتي بعدهم ممّن تؤثّر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم، وبعد ذلك يأتي الخطاب عامّا {ولكلّ وجهة هومولّيها فاستبقوا الخيرات ...} ثمّ يعود فيؤكّد الأمر بالاتجاه إلى القبلة الجديدة المختارة مع تنويع التعقيب, {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 149] , وقد بدأت الآية بخطاب مباشر إلى النبيّ وانتهت بخطاب شامل (تعملون) وجاء التحذير الخفيّ في الخطاب {وما اللّه بغافل عمّا تعملون} ليدلّ على أنّه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين، تقتضي هذا التحذير الشديد، ثمّ توكيد للمرة الثالثة بمناسبة غرض آخر جديد هوإبطال حجّة أهل الكتاب، وحجّة غيرهم ممّن كانوا يرون المسلمين يتوجّهون إلى قبلة اليهود فيميلون إلى الاقتناع بما يذيعه اليهود {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...} [البقرة : 150] فلما ذا جاء الأمر للرسول أوّلا ثمّ إلى المسلمين، ولما ذا تكرار الأمر بشأن القبلة ؟ إنّ في تكرار الأمر بشأن القبلة الجديدة معنى جديدا في كلّ مرّة ؛ في المرّة الأولى كان الأمر بالتوجّه إلى المسجد الحرام استجابة لرغبة الرسول بعد تقلّب وجهه في السماء وضراعته الصامتة إلى ربّه. وفي الثانية كان لإثبات أنه الحقّ من ربّه يوافق الرغبة والضراعة. وفي الثالثة كانت لقطع حجّة الناس والتهوين من شأن من لا يقف عند الحق والحجّة؛ فالتكرار هنا مرتبط بمقصد الخطاب وهدفه، ولكنّنا نلمح أيضا وراء هذا التكرار أنّه كانت هناك حالة واقعة في الصفّ الإسلامي تستدعي هذا التكرار، وهذا التوكيد ، وهذا البيان وهذا التعليل ممّا يشي بضخامة الحملة التي كان يشنّها اليهود وأثرها في بعض القلوب والنفوس ،، هذا الأثر الذي كان يعالجه القرآن الكريم" ثمّ تبقى النصوص بعد ذلك على مدى الزمان تعالج مثل هذه الحالة في شتّى صورها " «6».
أمّا لما ذا جاء الأمر للرسول أوّلا ثمّ إلى المسلمين؛ فقد أشرنا إلى دور الرسول في البلاغ والبيان، فتخصيصه بالخطاب هوتخصيص له بالرسالة؛ ثمّ إنّه عليه السلام كان بحاجة إلى لفتة خاصّة، وذلك لما اعتراه من قلق وحيرة نتيجة للتشويش والتحريض، فجاءت هذه اللفتة الحانية الرحيمة لتحقّق له الرضى والسكينة، ومن جانب آخر فإنّ الرسول الكريم هو قائد الجماعة المسلمة؛ ففعله وعمله ورضاه واستقراره هومصدر اقتداء للبقية من المؤمنين؛ ولذا فقد جاءت الضمائر وطريقة الخطاب تترجم هذه الرعاية وهذا المنهج في التربية. ثمّ يتوجه اللّه إليه بخطاب خاصّ آخر {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة : 145] فالنبيّ يريد لهم الهداية ، وهويحاول معهم مرّه بعد أخرى ، ولعلّ إصراره على هداهم وتنكّبهم في كلّ مرّة كان يزيد في أرقه وضيقه ، فيأتي الخطاب بجواب قاطع بأسلوب الشرط فمهما أتيت من آية مقنعة فسيكون الجواب {ما تبعوا قبلتك} ومع أنّ القبلة ليست لمحمّد وحده فقد نسبها الخطاب إليه، والمقصود منهجك الذي تدعوإليه والذي ترمز إليه هذه القبلة. وفي مقابل إصرارهم على الغيّ يأتي موقف النبيّ وإصراره {وما أنت بتابع قبلتهم} ولاحظ وجود أداة العطف (الواو) مع أنّ النفي يلازم الجملتين وذلك لوجود التغاير بين معنى الجملتين؛ فالجمل لا تحتاج إلى أداة رابطة إذا كان بعضها بيانا لبعض، ونحتاج الأداة إذا حدث تغاير في اتجاه الدلالة، فالفرق بين موقفه وموقفهم قد عبّر عنه النص بضمير المخاطب (قبلتك) وضمير الغائب (قبلتهم) فهما اتّجاهان مختلفان، ثمّ لاحظ الباء المزيدة" بتابع" التي إذا اقترنت بالنفي زادت المعنى قوّة والموقف صلابة، أي ليس من شأنك أن تتّبع قبلتهم أصلا، ثمّ استخدام الجملة الاسميّة المنفيّة هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول- صلى اللّه عليه وآله وسلم- تجاه هذا الأمر، وفيه إيحاء قويّ للجماعة المسلمة من ورائه بأن لا تختار غير ما اختار لها ربّها، وما كان النبيّ وقد علم الحق أن يتّبع أهواءهم {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة : 145]
ونفاجئ بهذا الخطاب الصارم إلى نبيّه الذي حثّه منذ لحظة ذلك الحديث الودود ، " إنّ الأمر هنا يتعلّق بالاستقامة على هدى اللّه، ويتعلّق بقاعدة التميّز والتجرّد إلّا من طاعة اللّه ونهجه، ومن ثمّ يجيء الخطاب بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير" «7».
{ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} ؛ فالآية تحدّد المواقف إزاء المنهج؛ ولذا تكرّر أسلوب الشرط مرّة بعد أخرى { ولَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ ...} {ولَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ}. ولأنّ موقف الرسول مركزيّ ومحوريّ وغاية في الأهميّة ، فإنّ جواب الشرط جاء في هذه الآية مركّبا وليس بسيطا كما في آية موقف أهل الكتاب التي جاءت بسيطة {ما تبعوا قبلتك} فهي جملة خبرية بسيطة مسبوقة بنفي. أما هنا { إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فهي خطاب فرديّ مباشر (أنت). وهوأشدّ تأثيرا في الدلالة على التبعة والمسئوليّة ، ثمّ إنّه جاء جملة خبرية إنكارية (تشتمل على أكثر من مؤكّد)، و(إذا) الظرفيّة ارتبطت بفعل الشرط ؛ وهي أبلغ في التعبير عن ترتّب جواب الشرط على فعله، وتوحي صيغة الجمع (لمن الظالمين)- على الرغم من ابتداء العبارة بخطاب فردي- بتحوّل هذا القائد العظيم من موقع التفرّد والتميّز والقيادة إلى أن يكون مجرد واحد من أولئك الذين اختاروا ألّا يتبعوا القبلة- المنهج فيما لواتبع أهواءهم- لا قدر اللّه-.
وفي مجموعة الآيات التي تبدأ بقوله {ويسألونك} وهي كثيرة في هذه السورة تطالعنا مواقف شتّى يسأل فيها المسلمون نبيّهم عن شئون مختلفة تصادفهم في حياتهم الجديدة، ليسلكوا إزاءها ما يتطلّبه منهج الإسلام المتفرّد؛ فسألوا عن ظواهر الكون (الأهلّة)، وعن الإنفاق{ ما ذا يُنْفِقُونَ} ومن أيّ نوع من مالهم ينفقون؟ وأيّ قدر وأيّ نسبة؟، وعن القتال في الشهر الحرام، وعن الخمر والمحيض، وهي أسئلة ذات دلالات شتّى، فهي دليل على تفتّح وحيويّة ونموفي الحياة وعلاقاتها؛ وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي بدأ يأخذ شخصيّته الخاصّة، كما أنّها تعكس علاقتهم بنبيّهم، ورغبتهم واستعدادهم للتلقّي والتغيير. وسنقف مع سؤالهم عن الخمر وقفة متأنّية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة : 219] .
إنّ هذه الآية جاءت لتبيّن للمسلمين حكم الخمر والقمار، وكلتاهما لذّة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها، وكانت تستغرق مشاعرهم وأوقاتهم، وإلى ذلك الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر، ولكنّ نصّا في القرآن كله لم يرد بحلّهما، إنّما كان اللّه يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها، ويهيّئها للدور الذي قدرّه لها والذي لا يتلاءم معه ذلك الضياع في الخمر والميسر. وهذا النصّ الذي بين أيدينا كان أوّل خطوة من خطوات التحريم، ويظهر هذا النصّ خصيصة من خصائص النص القرآني في معالجة الواقع؛ فحين يتعلق التوجيه القرآني بقاعدة من قواعد التصوّر الإيماني والعقيدة؛ فإنّه يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى، وإذا تعلّق الأمر أوالنهي بعادة أوتقليد أوبوضع اجتماعي معقّد فإنّه يرفق ويتدرّج، ويهيّئ الظروف الواقعيّة التي تيسّر التنفيذ والطاعة، وقد كان الخمر والميسر أمر عادة وإلف، فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي بأنّ الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأنّ تركهما أولى، ولاحظ سياق الآية { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ، قُلْ ...} فسؤالهم عن الحكم قد يعني استعدادهم للقبول بأيّ حكم يأتي، ومع ذلك، فإنّ علم اللّه بأحوالهم واستحكام هاتين العادتين فيهم جعل التحريم الصريح يتأخّر وجاء الجواب (قل)، ومضمون هذا القول {فيهما إثم كبير ومنافع} وهوجواب فيه تقديم وتأخير ليسلّط الضوء على موضع السؤال من جهة (الخمر والميسر)، وليعلّق السائل بموطن الإثم الكبير في هذه الحالة، وليضع نوعا من النفور بينهم وبينه، حيث إنّ الخمر والميسر هما مناط هذا الإثم، وجاء الإثم موصوفا بوصف تضخيمي (إثم كبير)، وجاءت المنافع منكّرة، وجاءت كلمة الإثم الدالّة على المفرد لتوحي بجنس الإثم كلّه، بينما جاءت منافع بصيغة الجمع ليدلّ على أنّها مهما كثرت فهي معدودة؛ أمّا الإثم فهوتوالدي، كلّ إثم يفضي إلى آثام عديدة غير متناهية، ثمّ جاء الإثم سابقا للمنفعة لتعليق الذهن بالإثم وليس بالنفع؛ فالإثم هوالقاعدة، والمنفعة هي الجزء العارض اليسير؛ فالإثم أكبر من النفع، وقد يكون ربط هذه الآية بالآيات الأخرى التي نزلت في الموضوع نفسه مفيدا في تبيّن استراتيجيّات النصّ في معالجة الواقع؛ ففي الخطوة الأولى تحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في سورة البقرة، ثمّ جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء : 43].
وفي هذا تضييق لفرص مزاولة عادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلّق بمواعيد التعاطي لتقارب أوقات الصلاة، وبذا تفتر حدّة العادة، وبعد ذلك جاء النهي الحازم الأخير { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة : 90]. وهذه الآية في سورة البقرة وإن بدأت بخطاب مع المتلقّي الأوّل (قل) إلّا أنّه تحوّل بعد ذلك إلى خطاب للجماعة كلّها وتربية شاملة لها.
ومن الأمثلة كذلك على خطاب المتلقّي الأول في سورة البقرة الآية (252 {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة : 252]، وقد جاءت هذه الآية بعد سياق طويل يذكر بني إسرائيل يبدأ من الآية (243) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ...}
وفيه بعض قصصهم مع أنبيائهم، وقصّة طالوت وجالوت ....، ثمّ دعاء الفئة المؤمنة بالصبر والثبات، ثمّ انتصارهم، ثمّ أتت هذه الآية كالتعقيب النهائي على القصّة، لتقول : نحن نتلوعليك هذه الآيات، ونزوّدك بهذه التجارب البشريّة، وتجارب الموكب الإيماني كلّه في جميع مراحله، ونورثك ميراث المرسلين أجمعين. أمّا اتصالها بما قبلها فهوقوله عزّ وجل { ولكِنَّ اللَّهَ ذُوفَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} ومن فضله أن زوّدك بكلّ هذه التجارب، ومن فضله أنّك مرسل جديد إلى هذه البشريّة، وهي أيضا تذكير للمتلقّي الأوّل بدوره في تبليغ الرسالة، ولذلك خصّ فيها بالخطاب (عليك، وإنّك) وتترابط هذه الآية بما سبق من الآيات عن طريق الإحالة الإشارية (تلك) وهي اسم إشارة للبعيد، مع أنّ الخطاب يبدوالآن مباشرا حاضرا (عليك وإنك) وكأنّ الخطاب كان أصلا مع المخاطب الأول، وجاء القصّ في ثنايا الحديث ليثبّته ويقوّي عزائمه، وييئسه من إيمانهم ثم عاد إليه مرة أخرى ليقول له : {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
هذه أمثلة حسب عن تعامل النصّ مع المتلقّي الأول، ونخلص منه إلى أن النصّ قد خاطبه بأكثر من طريقة؛ أولها باعتباره مخاطبا ومخاطبا معا، وذلك في الآيات التي فيها (قل) وأحيانا باعتباره مخاطبا فقط كما في آيات تحويل القبلة، وحين يخاطب كذلك فهوجزء من المخاطبين، والرسالة الموجّهة إليه تكون موجّهة للجميع، ولكنّه يخصّص باعتبار مكانته في رأس الجماعة المسلمة، وتوجيه للمسلمين بالاقتداء والاتباع، وقد رأينا أن للنصّ آليات عديدة في إيضاح موقف المخاطب الأول ومراعاة مكانته، وتبدّى ذلك من خلال روابط النصّ (الضمائر) وتنويعها على سبيل الالتفات، ثم في أسماء الإشارة، وتركيب الخطاب وأساليبه وصيغته من حيث نوع الجملة وترتيب عناصرها وأسلوبها.
_________________________
(1) محمّد مفتاح، دنيامة النصّ ، ص 193.
(2) تهذيب سيرة ابن هشام ، ص 12.
(3) انظر أسباب النزول للواحدي ، ص (23- 24).
(4) إمبرتوإيكو ، القارئ في الحكاية ، ص 13.
(5) سيّد قطب ، في ظلال القرآن ، ص 36.
(6) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، 1/ 37.
(7) في ظلال القرآن ، 1/ 38.
|
|
دور في الحماية من السرطان.. يجب تناول لبن الزبادي يوميا
|
|
|
|
|
العلماء الروس يطورون مسيرة لمراقبة حرائق الغابات
|
|
|
|
|
ضمن أسبوع الإرشاد النفسي.. جامعة العميد تُقيم أنشطةً ثقافية وتطويرية لطلبتها
|
|
|