أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-6-2019
5875
التاريخ: 1-6-2019
4023
التاريخ: 27-6-2019
6003
التاريخ: 13-6-2019
1848
|
قال تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف : 50 ، 53] .
قال تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف 50-51} .
ذكر سبحانه كلام أهل النار ، وما أظهروه من الافتقار ، بدلا مما كانوا عليه من الاستكبار ، فقال {ونادى} أي : وسينادي {أصحاب النار} وهم المخلدون في النار ، وفي عذابها {أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء} ، أي :
صبوا علينا من الماء نسكن به العطش ، أو ندفع به حر النار {أو مما رزقكم الله} أي : أعطاكم الله من الطعام ، عن السدي ، وابن زيد {قالوا} يعني أهل الجنة جوابا لهم {إن الله حرمهما على الكافرين} .
ويسأل ، فيقال : كيف ينادي أهل الجنة ، وأهل النار ، وأهل الجنة في السماء على ما جاءت به الرواية ، وأهل النار في الأرض ، وبينهما أبعد الغايات من البعد ؟
وأجيب عن ذلك بأنه يجوز أن يزيل الله تعالى عنهم ما يمنع من السماع ، ويجوز أن يقوي الله أصواتهم فيسمع بعضهم كلام بعض .
{الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا} أي : أعدوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به للهو واللعب ، دون التدين به وقيل : معناه اتخذوا دينهم الذي كان يلزمهم التدين به والتجنب من محظوراته لعبا ولهوا ، فحرموا ما شاؤوا ، واستحلوا ما شاؤوا بشهواتهم ، {وغرتهم الحياة الدنيا} أي : اغتروا بها وبطول البقاء فيها ، فكأن الدنيا غرتهم {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} أي : نتركهم في العذاب ، كما تركوا التأهب والعمل ، للقاء هذا اليوم ، عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقيل :
معناه نعاملهم معاملة المنسي في النار ، فلا نجيب لهم دعوة ، ولا نرحم لهم عبرة ، كما تركوا الاستدلال حتى نسوا العلم ، وتعرضوا للنسيان ، عن الجبائي {وما كانوا بآياتنا يجحدون} ما في الموضوعين بمعنى المصدر ، وتقديره كنسيانهم لقاء يومهم هذا ، وكونهم جاحدين لآياتنا .
واختلف في هذه الآية ، فقيل : إن الجميع كلام الله تعالى ، على غير وجه الحكاية ، عن أهل الجنة ، وتم كلام أهل الجنة عند قوله {حرمهما على الكافرين} . وقيل : إنه من كلام أهل الجنة ، إلى قوله : {الحياة الدنيا} ، ثم استأنف تعالى الكلام بقوله : {فاليوم ننساهم} .
- {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف : 52 - 53] .
لما ذكر حال الفريقين ، بين سبحانه أنه قد أتاهم الكتاب والحجة ، فقال : {ولقد جئناهم بكتاب} وهو القرآن {فصلناه} بيناه وفسرناه {على علم} أي : ونحن عالمون به ، ولما كانت لفظة عالم مأخوذة من العلم ، جاز أن يذكر العلم ، ليدل به على العالم ، كما أن الوجود في صفة الموجود كذلك {هدى ورحمة لقوم يؤمنون} أي : دلالة ترشدهم إلى الحق ، وتنجيهم من الضلالة ، ونعمة على جميع المؤمنين ، لأنهم المنتفعون به {هل ينظرون الا تأويله} أي : هل ينتظرون إلا عاقبة الجزاء عليه ، وما يؤول مغبة أمورهم إليه (2) ، عن الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي . وإنما أضاف إليهم مجازا ، لأنهم كانوا جاحدين لذلك ، غير متوقعين له .
وإنما كان ينتظر بهم المؤمنون لإيمانهم بذلك ، واعترافهم به . وقيل : إن تأويله ما وعدوا به من البعث والنشور ، والحساب والعقاب ، عن الجبائي {يوم يأتي تأويله} أي : يوم يأتي عاقبة ما وعدوا به {يقول الذين نسوه من قبل} أي : يقول الذين تركوا العمل به ، ترك الناس له ، وأعرضوا عنه ، عن مجاهد ، والزجاج {قد جاءت رسل ربنا بالحق} اعترفوا بأن ما جاءت به الرسل كان حقا ، والحق ما شهد بصحته العقل . {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} تمنوا أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب {أو نرد ، أي : أو هل نرد إلى الدنيا {فنعمل غير الذي كنا نعمل} من الشرك والمعصية {قد خسروا أنفسهم} أي : أهلكوها بالعذاب {وضل عنهم ما كانوا يفترون} على الأصنام بقولهم : إنها آلهة ، وإنها تشفع لنا .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 264-267 .
2 . المغبة : عاقبة الشئ .
جاء في الحديث : ان فرحة أهل الجنة بالخلاص من الجحيم تزيدهم نعيما على نعيم ، وان حسرة أهل النار على ما فاتهم من النعيم تزيدهم عذابا على عذاب ، وهم يعلمون ان أهل الجنان في نعيم مقيم ، ولذا {نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فأجابهم أهل الجنة {إِنَّ اللَّهً حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ} .
وبعد اليأس من أهل الجنة يستغيث أهل النار بخزنتها ، كما في الآية 49 من غافر : وقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فيجيب الخزنة : {أَولَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} .
وبعد اليأس من الخزنة يستغيثون باللَّه رب العالمين ، وقد كان أهون شيء عليهم في ساعة اليسر والرخاء : {قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ} . {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ} فيجيبهم الباري جل اسمه : {اخْسَؤُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون - 108] .
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً ولَعِباً وغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} تقدم تفسيره في سورة الأنعام الآية 70 {فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ} المراد بالنسيان هنا الإهمال : وما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا والمعنى يهملهم اللَّه يوم القيامة كما أهملوا العمل له ، وكما جحدوا ما أنزل على رسله من الآيات والحجج .
{ولَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . ذكر سبحانه فيما سبق أهل الجنة ، وأهل النار ، وأهل الأعراف ، وهذه الآية والتي تليها مختصتان بأهل النار الذين غرتهم الحياة الدنيا . . قال سبحانه : لقد جئنا هؤلاء بالقرآن يهدي إلى الرشد ، ويبين عن علم ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم ، وضمن لمن آمن وعمل بتعاليمه الهداية إلى الخير في الدنيا ، ورحمة اللَّه وثوابه في الآخرة .
أما من أعرض ، واتبع هواه فمآله جهنم وساءت مصيرا {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ينظرون أي ينتظرون ، وضمير تأويله يعود إلى الكتاب ، ومعنى تأويله هنا ان كل ما نطق به القرآن يؤول أمره إلى الوقوع لا محالة {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} بوقوع ما أخبر عنه ، ويتبين للكافرين صدقه بالعيان {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ} قالوا هذا بعد أن شاهدوا العذاب ، ومن قبل قالوا للرسل : سحرة مفترون . . وأيضا قالوا بعد أن رأوا العذاب : {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا} عند اللَّه في غفران خطايانا ، ولا يعاملنا بما نستحقه من الخزي والعقوبة .
{أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} . لو استجاب اللَّه لدعوتهم هذه لبطلت جميع المقاييس والقيم ، وتساوى الخبيث الذي لا يؤمن إلا والسيف مصلت على رأسه مع الطيب الذي يؤمن بالحق بملء إرادته ، ويضحي في سبيله بالنفس والنفيس {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} . وهكذا تذهب أعمال المبطلين سدى ، ويغيب عنهم الشفعاء والأولياء الذين كانوا يعملون من أجلهم ، ويدخرونهم لساعة العسرة .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 334-337 .
قوله تعالى : {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف : 46] الحجاب معروف وهو الستر المتخلل بين شيئين يستر أحدهما من الآخر .
والأعراف أعالي الحجاب ، والتلال من الرمل والعرف للديك وللفرس وهو الشعر فوق رقبته وأعلى كل شيء ففيه معنى العلو على أي حال ، وذكر الحجاب قبل الأعراف ، وما ذكر بعده من إشرافهم على الجميع وندائهم أهل الجنة والنار جميعا كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بالأعراف أعالي الحجاب الذي بين الجنة والنار وهو المحل المشرف على الفريقين أهل الجنة وأهل النار جميعا .
والسيماء العلامة قال الراغب : السيماء والسيمياء العلامة ، قال الشاعر : له سيمياء لا تشق على البصر .
وقال تعالى : {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح : 29] وقد سومته أي أعلمته ، ومسومين أي معلمين انتهى .
والذي يعطيه التدبر في معنى هذه الآية وما يلحق بها من الآيات أن هذا الحجاب الذي ذكره الله تعالى إنما هو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار فهما مرجع الضمير في قوله : ﴿وَبَيْنَهُمَا﴾ وقد أنبأنا الله سبحانه بمثل هذا المعنى عند ذكر محاورة بين المنافقين والمؤمنين يوم القيامة بقوله : {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد : 13] ، وإنما هو حجاب لكونه يفرق بين الطائفتين ويحجب إحداهما عن الأخرى لا أنه ثوب منسوج مخيط على هيئة خاصة معلق بين الجنة والنار ثم أخبر الله سبحانه أن على أعراف الحجاب وأعاليه رجالا مشرفين على الجانبين لارتفاع موضعهم يعرفون كلا من الطائفتين أصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلامتهم التي تختص بهم .
ولا ريب في أن السياق يفيد أن هؤلاء الرجال منحازون على الطائفتين متمايزون من جماعتهم فهل ذلك لكونهم خارجين عن نوع الإنسان كالملائكة أو الجن مثلا ، أو لكونهم خارجين عن أهل الجمع من حيث ما يتعلق بهم من السؤال والحساب وسائر الشئون الشبيهة بهما فيكون بذلك أهل الجمع منقسمين إلى طوائف ثلاث : أصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، وأصحاب الأعراف كما قسمهم الله في الدنيا إلى طوائف ثلاث : المؤمنين والكفار والمستضعفين الذين لم تتم عليهم الحجة وقصروا عن بلوغ التكليف كضعفاء العقول من النساء والأطفال غير البالغين والشيخ الهرم الخرف والمجنون والسفيه وأضرابهم ، أو لكونهم مرتفعين عن موقف أهل الجمع بمكانتهم؟ .
لا ريب أن إطلاق لفظ ﴿رِجَالٌ﴾ لا يشمل الملائكة فإنهم لا يتصفون بالرجولية والأنوثية كما يتصف به جنس الحيوان وإن قيل : إنهم ربما يظهرون في شكل الرجال فإن ذلك لا يصحح الاتصاف والتسمية ، على أنه لا دليل يدل عليه .
ثم إن التعبير بمثل قوله : {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ } [الأعراف : 46] إلخ ، وخاصة بالتنكير يدل بحسب عرف اللغة على اعتناء تام بشأن الأفراد المقصودين باللفظ نظرا إلى دلالة الرجل بحسب العادة على الإنسان القوي في تعقله وإرادته الشديد في قوامه .
وعلى ذلك يجري ما يوجد في كلامه تعالى من مثل هذا التعبير كقوله تعالى : {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور : 37] ، وقوله : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة : 108] ، وقوله : {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب : 23] ، وقوله : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف : 109] حتى في مثل قوله : {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص : 62] ، وقوله : {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن : 6] .
فالمراد برجال في الآية أفراد تامون في إنسانيتهم لا محالة ، وإن فرض أن فيهم أفرادا من النساء كان من التغليب .
وأما المستضعفون فإنهم ضعفاء أفراد الإنسان لا مزية في أمرهم توجب الاعتناء بشأنهم ، وفيهم النساء والأطفال حتى الأجنة ، ولا فضل لبعضهم على بعض ، ولرجالهم على غيرهم حتى يعبر به عنهم بالرجال تغليبا فلو كانوا هم المرادين بقوله {رِجَالٌ يَعْرِفُونَ} [الأعراف : 46] إلخ ، لكان حق التعبير أن يقال : قوم يعرفون إلخ ، أو أناس أو طائفة أو نحو ذلك كما هو المعهود من تعبيرات القرآن الكريم في أمثال هذه الموارد كقوله تعالى : {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} [الأعراف : 164] ، وقوله : {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف : 82] ، وقوله : {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف : 14] .
على أن ما يصفهم الله تعالى به في الآيات التالية من الأوصاف ويذكرهم به من الشئون أمور تأبى إلا أن يكون القائمون به من أهل المنزلة والمكانة ، وأصحاب القرب والزلفى فضلا أن يكونوا من الناس المتوسطين فضلا أن يكونوا من المستضعفين .
فأول ذلك : أنهم جعلوا على الأعراف ووصفوا بأنهم مشرفون على أهل الجمع عامة ، ومطلعون على أصحاب الجنة وأصحاب النار يعرفون كل إنسان منهم بسيماه الخاص به ويحيطون بخصوصيات نفوسهم وتفاصيل أعمالهم ، ولا ريب أن ذلك منزلة رفيعة يختصون بها من بين الناس ، وليست مشاهدة جميع الناس يوم القيامة وخاصة بعد دخول الجنة والنار أمرا عاما موجودا عند الجميع فإن الله يقول حكاية عن قول أهل النار : {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص : 62] ، وقولهم : {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت : 29] ، وقال : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 37] .
وليس معنى السيماء أن يعلم المؤمنون والكفار بعلامة عامة يعرف صنفهم بها كل من شاهدهم كبياض الوجه وسواده مثلا فإن قوله تعالى في الآية التالية : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف : 48 ، 49] يفيد أنهم ميزوا خصوصيات من أحوالهم وأعمالهم من سيماهم ككونهم مستكبرين أولي جمع وقد أقسموا كذا وكذا ، وهذه أمور وراء الكفر والإيمان في الجملة .
وثانيا : أنهم يحاورون الفريقين فيكلمون أصحاب الجنة ويحيونهم بتحية الجنة ، ويكلمون أئمة الكفر والضلال والطغاة من أهل النار فيقرعون عليهم بأحوالهم وأقوالهم مسترسلين في ذلك من غير أن يحجزهم حاجز ، وليس التكلم بمجاز يومئذ إلا للأوحدي من عباد الله الذين لا ينطقون إلا بحق ، قال تعالى : {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ : 38] ، وهذا وراء ما يناله المستضعفون .
وثالثا : أنهم يؤمنون أهل الجنة بالتسليم عليهم ثم يأمرونهم بدخول الجنة في أمر مطلق على ما هو ظاهر السياق في الآيات التالية .
ورابعا : أنه لا يشاهد فيما يذكره الله من مكانتهم وما يحاورون به أصحاب الجنة والجبابرة المستكبرين من أصحاب النار شيء من آثار الفزع والقلق عليهم ولا اضطراب في أقوالهم ، ولم يذكر أنهم محضرون فيه مختلطون بالجماعة داخلون فيما دخلوا فيه من الأهوال التي تجعل الأفئدة هواء والجبال سرابا ، وقد قال تعالى : {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 127 ، 128] ، فجعل ذلك من خاصة مخلصي عباده ، ثم استثناهم من كل هول أعد ليوم القيامة .
ثم إنه تعالى ذكر دعاءهم في قوله : {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 47] ولم يعقبه بالرد فدل ذلك على أنهم مجازون فيما يتكلمون به مستجاب دعاؤهم ، ولو لا ذلك لعقبه بالرد كما في موارد ذكرت فيها أدعية أهل الجمع ومسائل أصحاب النار وأدعية أخرى من غيرهم .
فهذه الخصوصيات التي تنكشف واحدة بعد واحدة من هذه الآيات بالتدبر فيها وأخرى تتبعها لا تبقي ريبا للمتدبر في أن هؤلاء الذين أخبر الله سبحانه عنهم في قوله : {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف : 46] جمع من عباد الله المخلصين من غير الملائكة هم أرفع مقاما وأعلى منزلة من سائر أهل الجمع يعرفون عامة الفريقين ، لهم أن يتكلموا بالحق يوم القيامة ولهم أن يشهدوا ، ولهم أن يشفعوا ، ولهم أن يأمروا ويقضوا .
وأما أنهم من الإنس أو من الجن أو من القبيلين مختلطين؟ فلا طريق من اللفظ يوصلنا إلى العلم به غير أن شيئا من كلامه تعالى لا يدل على تصدي الجن شيئا من شئون يوم القيامة ولا توسطا في أمر يعود إلى الحكم الفصل الذي يجري على الإنسان يومئذ كالشهادة والشفاعة ونحوهما .
ولا ينافي ما قدمناه من أوصافهم ونعوتهم أمثال قوله تعالى : {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار : 19] ، فإن الآية مفسرة بآيات أخرى تدل على أن المراد بها إنما هو ظهور ملكه تعالى لكل شيء وإحاطته بكل أمر لا حدوث ملكه يومئذ فإنه مالك على الإطلاق دائما لا وقتا دون وقت ، ولا يملك نفس لنفس شيئا دائما لا في الآخرة فحسب لنفسه ؟ والملائكة على وساطتهم يومئذ ، والشهداء يملكون شهادتهم يومئذ ، والشفعاء يملكون شفاعتهم يومئذ وقد نص على ذلك كلامه تعالى قال : {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء : 103] ، وقال : {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر : 51] ، وقال : {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف : 86] .
فلله سبحانه الملك يومئذ وله الحكم يومئذ ، ولغيره ما أذن له فيه كالدنيا غير أن الذي يختص به يوم القيامة ظهور هذه الحقائق ظهور عيان لا يقبل الخفاء ، وحضورها بحيث لا يغيب بغفلة أو جهل أو خطأ أو بطلان .
وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى الآية حتى ساق بعضهم إلى أقوال لا تخلو عن المجازفة فقد اختلفوا في معنى الأعراف :
1- فمن قائل : أنه شيء مشرف على الفريقين .
2- وقيل : سور له عرف كعرف الديك .
3- وقيل : تل بين الجنة والنار جلس عليه ناس من أهل الذنوب .
4- وقيل : السور الذي ذكره الله في القرآن بين المؤمنين والمنافقين إذ قال : {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد : 13] .
5- وقيل : معنى الأعراف التعرف أي على تعرف حال الناس رجال .
6- وقيل : هو الصراط .
ثم اختلفوا في الرجال الذين على الأعراف على أقوال أنهيت إلى اثني عشر قولا :
1- أنهم أشراف الخلق الممتازون بكرامة الله .
2- أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يترجح حسناتهم حتى يدخلوا الجنة ولا غلبت سيئاتهم حتى يؤمروا بدخول النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة والنار ثم يدخلهم الجنة برحمته .
3- أنهم أهل الفترة .
4- أنهم مؤمنوا الجن .
5- أنهم أولاد الكفار الذين لم يبلغوا في الدنيا أوان البلوغ .
6- أنهم أولاد الزنا .
7- أنهم أهل العجب بأنفسهم .
8- أنهم ملائكة واقفون عليها يعرفون كلا بسيماهم ، وإذا أورد عليهم أن الملائكة لا تتصف بالرجولية والأنوثية قالوا : إنهم يتشكلون بأشكال الرجال .
9- أنهم الأنبياء (عليهم السلام) يقامون عليها تمييزا لهم على سائر الناس ولأنهم شهداء عليهم .
10- أنهم عدول الأمم الشهداء على الناس يقومون عليها للشهادة على أممهم .
11- أنهم قوم صالحون فقهاء علماء .
12- أنهم العباس وحمزة وعلي وجعفر يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ، ومبغضيهم بسوادها ذكر الآلوسي في روح المعاني ، أن هذا القول رواه الضحاك عن ابن عباس .
قال في المنار ، ولم نره في شيء من كتب التفسير المأثور ، والظاهر أنه نقله عن تفاسير الشيعة ، وفيه أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم فيميزون بينهم أو يشهدون عليهم فأي فائدة في تمييز هؤلاء السادة على الصراط لمن كان يبغضهم من الأمويين ومن يبغضون عليا خاصة من المنافقين والنواصب ؟ وأين الأعراف من الصراط ؟ هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدا .
أقول : أما الرواية فلا توجد في شيء من تفاسير الشيعة بطرقهم إلى الضحاك ، وقد نقله في مجمع البيان ، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الضحاك عن ابن عباس ، وسيأتي ما في روايات الشيعة في رجال الأعراف في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى .
وأما طرحه الرواية فهو في محله غير أن الذي استند إليه في طرحها ليس في محله فإنه يكشف عن نحو السلوك الذي يسلكه في الأبحاث المتعلقة بالمعاد فإنه يقيس نظام الوقائع التي يقصها القرآن والحديث ليوم القيامة إلى النظام الجاري في النشأة الدنيوية ، ويعده من نوعه فيوجه منها ما لاح سبب وقوعه ، ويبقي ما لا ينطبق على النظام ، الدنيوي على الجمود وهو الجزاف في الإرادة فافهم ذلك .
ولو جاز أن يغني تمييز أهل الأعراف عن تمييز أهل الصراط فتبطل فائدته فيبطل بذلك أصله - كما ذكره - لأغنى الصراط نفسه عن تمييز أهل الأعراف ، وأغنى عن المسألة والحساب ، ونشر الدواوين ، ونصب الموازين ، وحضور الأعمال ، وإقامة الشهود وإنطاق الأعضاء ، ولأغنى بعض هذه عن بعض ، ووراء ذلك كله إحاطة رب العالمين فعلمه يغني عن الجميع ، وهو لا يسأل عما يفعل .
وكأنه فرض أن نسبة الأعراف وهي أعالي الحجاب من الصراط الممدود هناك كنسبة السور والحائط الذي عندنا إلى الصراط الممدود الذي يسلكه الطراق السالكون لا يجتمع هاهنا الصراط والسور ولا يتحدان فلا يسع لأحد أن يكون سالك صراط أو واقفا عليه وواقفا على السور معا في زمان واحد ، ولذلك قال : وأين الصراط من الأعراف ؟ فقاس ما هناك إلى ما هاهنا ، وقد عرفت فساده .
ثم الوارد في ظواهر الحديث أن الصراط جسر ممدود على النار يعبر منه أهل المحشر من موقفهم إلى الجنة فينجي الله الذين آمنوا ويسقط الظالمون من الناس في النار فما المانع من أن يكون الحجاب الموعود مضروبا عليه والأعراف في الحجاب ؟ .
على أنه فات منه أن أحد الأقوال في معنى الأعراف أنه الصراط كما رواه الطبري في تفسيره ، عن ابن مسعود ورواه في الدر المنثور ، عن ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال : زعموا أنه الصراط .
وأما قوله : هذا بعيد عن نظم الكلام وسياقه جدا فأوضح فسادا فسياق هذه الأنباء الغيبية والنظم المأخوذ فيها يذكر لنا أمورا بنعوت عامة وبيانات مطلقة معانيها معلومة ، وحقائقها مبهمة مجهولة إلا المقدار الذي تهدي إليه بياناته تعالى ، ويوضع بعض أجزائه بعضا ، ولا يأبى ذلك أن يقصد ببعض النعوت المذكورة فيها رجال معينون بأشخاصهم إذا انطبقت عليهم الأوصاف المذكورة فيها ، ولا أن ينطبق بعض البيانات على بعض في موارد مع تعدد البيان لفظا كالعدل والميزان مثلا .
فهذه اثنا عشر قولا ويمكن أن يضاف إلى عدتها قولان آخران : أحدهما : أنهم المستضعفون ممن لم تتم عليهم الحجة ولم يتعلق بهم التكليف كالضعفاء من الرجال والنساء والأطفال غير البالغين ، ويمكن أن يدرج في القول الثاني المتقدم بأن يقال : إنهم الذين لا تترجح أعمالهم من الحسنات أو السيئات على خلافها سواء كان ذلك لعدم تمام الحجة فيهم وتعلق التكليف بهم حتى يحاسبوا عليه كالأطفال والمجانين وأهل الفترة ونحوهم أو لأجل استواء حسناتهم وسيئاتهم في القدر والوزن فحكم القسمين واحد .
الثاني : أنهم الذين خرجوا إلى الجهاد من غير إذن آبائهم فاستشهدوا فيها فهم من أهل النار لمعصيتهم ومن أهل الجنة لشهادتهم! وعليه رواية ، ويمكن إدراجه في القول الثاني . والأقوال المذكورة غير متقابلة جميعا في الحقيقة فإن القول بكونهم أهل الفترة والقول بكونهم أولاد الكفار إنما ملاكهما عدم ترجح شيء من الحسنات والسيئات على الآخر فيرجعان بوجه إلى القول الثاني وكذا القول بكونهم أولاد الزنا نظرا إلى أنهم لا مؤمنون ولا كفار ، وكذا رجوع القول التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى القول الأول بوجه .
فأصول الأقوال في رجال الأعراف ثلاثة : أحدها : أنهم رجال من أهل المنزلة والكرامة على اختلاف بينهم في أنهم من هم؟ فقيل : هم الأنبياء ، وقيل : الشهداء على الأعمال ، وقيل : العلماء الفقهاء ، وقيل : غير ذلك كما مر .
والثاني : أنهم الذين لا رجحان في أعمالهم للحسنة على السيئة وبالعكس على اختلاف منهم في تشخيص المصداق .
والثالث : أنهم من الملائكة ، وقد مال الجمهور إلى الثاني من الأقوال ، وعمدة ما استندوا إليه في ذلك أخبار مأثورة .
وقد عرفت أن الذي يعطيه سياق الآيات هو الأول من الأقوال حتى أن بعضهم مع تمايله إلى القول الثاني لم يجد بدا من بعض الاعتراف بعدم ملاءمة سياق الآيات ذلك كالآلوسي في روح المعاني .
قوله تعالى : {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف : 46] المنادون هم الرجال الذين على الأعراف - على ما يعطيه السياق - وقوله : ﴿أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ يفسر ما نادوا به ، وقوله : ﴿لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ جملتان حاليتان فجملة ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ من أصحاب الجنة ، وجملة ﴿ وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ حال آخر من أصحاب الجنة والمعنى : أن أصحاب الجنة نودوا وهم في حال لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون في أن يدخلوها ، أو حال من ضمير الجمع في ﴿ لَمْ يَدْخُلُوهَا﴾ وهو العامل فيه ، والمعنى أن أصحاب الجنة نودوا بذلك وهم في الجنة لكنهم لم يدخلوا الجنة على طمع في دخولها لأن ما شاهدوه من أهوال الموقف ودقة الحساب كان أيأسهم من أن يفوزوا بدخول الجنة لكن قوله بعد : ﴿أهؤلاء الذين﴾ إلى آخر الآية يؤيد أول الاحتمالين وأنهم إنما سلموا عليهم قبل دخولهم الجنة .
وأما احتمال أن تكون الجملتان حالين من ضمير الجمع في ﴿نادوا﴾ فيوجب سقوط الجملة عن الإفادة كما هو ظاهر ، وذلك لرجوع المعنى إلى أن هؤلاء الرجال الذين هم على أعراف الحجاب بين الجنة والنار نادوا وهم لم يدخلوا .
وعلى من يميل إلى أن يجعل قوله : ﴿لم يدخلوها وهم يطمعون﴾ بيانا لحال أصحاب الأعراف أن يجعل قوله : ﴿لم يدخلوها﴾ استئنافا يخبر عن حال أصحاب الأعراف أو صفة لرجال والتقدير : وعلى الأعراف رجال لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا . . . إلخ كما نقل عن الزمخشري في الكشاف .
لكن يبعد الاستئناف أن اللازم حينئذ إظهار الفاعل في قوله : ﴿لم يدخلوها﴾ دون إضماره لمكان اللبس كما فعل ذلك في قوله : ﴿ونادى أصحاب الأعراف رجالا﴾ إلخ ، ويبعد الوصفية الفصل بين الموصوف والصفة بقوله : ﴿ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم﴾ من غير ضرورة موجبة .
وهذا التقدير الذي تقدم أعني رجوع معنى قوله : ﴿لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم﴾ إلى آخر الآية ، إلى قولنا : وعلى الأعراف رجال يطمعون في دخول الجنة ويتعوذون من دخول النار - على ما زعموا - هو الذي مهد لهم الطريق وسواه للقول بأن أصحاب الأعراف رجال استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يترجح لهم أن يدخلوا الجنة أو النار فأوقفوا على الأعراف! .
لكنك عرفت أن قوله ﴿لم يدخلوها﴾ إلخ ، حال أصحاب الجنة لا وصف أصحاب الأعراف ، وأما قوله : ﴿ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ﴾ إلخ ، فسيأتي ما في كونه بيانا لحال أصحاب الأعراف من الكلام .
قوله تعالى : {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف : 47] التلقاء كالبيان مصدر لقي يلقى ثم استعمل بمعنى جهة اللقاء ، وضمير الجمع في قوله : ﴿أبصارهم﴾ وقوله : ﴿قالوا﴾ عائد إلى ﴿رجال﴾ والتعبير عن النظر إلى أصحاب النار بصرف أبصارهم إليه كأن الوجه فيه أن الإنسان لا يحب إلقاء النظر إلى ما يؤلمه النظر إليه وخاصة في مثل المورد الذي يشاهد الناظر فيه أفظع الحال وأمر العذاب وأشقه الذي لا يطاق النظر إليه غير أن اضطراب النفس وقلق القلب ربما يفتح العين نحوه للنظر إليه كان غيره هو الذي صرف نظره إليه وإن كان الإنسان لو خلي وطبعه لم يرغب في النظر ولو بوجه نحوه ، ولذا قيل : ﴿وإذا صرفت أبصارهم﴾ إلخ ولم يقل وإذا نظروا إليه أو ما يفيد مفاده .
ومعنى الآية : وإذا نظر أصحاب الأعراف أحيانا إلى أصحاب النار تعوذوا بالله من أن يجعلهم مع أصحاب النار فيدخلهم النار ، وقالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين .
وليس دعاؤهم هذا الدعاء دالا على سقوط منزلتهم ، وخوفهم من دخول النار كما يدل على رجائهم دخول الجنة قوله ﴿وهم يطمعون﴾ وذلك أن ذلك مما دعا به أولوا العزم من الرسل والأنبياء المكرمون والعباد الصالحون وكذا الملائكة المقربون فلا دلالة فيه ولو بالإشعار الضعيف على كون الداعي ذا سقوط في حاله وحيرة من أمره .
هذا ما فسروا به الآية بإرجاع ضميري الجمع إلى ﴿رجال﴾ .
لكنك خبير بأن ذلك لا يلائم الإظهار الذي في مفتتح الآية التالية في قوله : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ} [الأعراف : 48] إذ الكلام في هذه الآيات الأربع جار في أوصاف أصحاب الأعراف وأخبارهم كقوله : ﴿يعرفون كلا﴾ إلخ ، وقوله : ﴿ونادوا أصحاب الجنة﴾ إلخ وقوله : ﴿لم يدخلوها﴾ إلخ ، على احتمال ، وقوله : ﴿وإذا صرفت أبصارهم﴾ إلخ ، فكان من اللازم أن يقال : ﴿ونادوا - أي أصحاب الأعراف - رجالا يعرفونهم﴾ إلخ ، وليس في الكلام أي لبس ولا نكتة ظاهرة توجب العدول من الإضمار الذي هو الأصل في المقام إلى الإظهار بمثل قوله : ﴿ونادى أصحاب الأعراف﴾ .
فالظاهر أن ضميري الجمع أعني ما في قوله : ﴿أبصارهم﴾ وقوله ﴿قالوا﴾ راجعان إلى أصحاب الجنة ، والجملة إخبار عن دعائهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار كما أن الجملة السابقة بيان لطمعهم في دخول الجنة ، وكل ذلك قبل دخولهم الجنة .
قوله تعالى : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف : 48] إلى آخر الآية ، في توصيف الرجال بقوله : ﴿يعرفونهم بسيماهم﴾ دلالة على أن سيماءهم كما يدلهم على أصل كونهم من أصحاب الجنة يدلهم على أمور أخر من خصوصيات أحوالهم ، وقد مرت الإشارة إليه .
وقوله : {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف : 48] تقريع لهم وشماتة ، وكشف عن تقطع الأسباب الدنيوية عنهم فقد كانوا يستكبرون عن الحق ويستذلونه ويغترون بجمعهم .
قوله تعالى : {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف : 49] إلى آخر الآية .
الإشارة إلى أصحاب الجنة ، والاستفهام للتقرير أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولا أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير ، وأصابه الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة ووقوع النكرة - برحمة - في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس ، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير .
وقوله : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، أمر من أصحاب الأعراف للمؤمنين أن يدخلوا الجنة بعد تقرير حالهم بالاستفهام ، وهذا هو الذي يفيده السياق .
وقول بعضهم في الآية : إنها بتقدير القول أي قيل لهم من قبل الرحمن : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم ، ولا أنتم تحزنون من شيء ينغص عليكم حاضركم ، وحذف القول للعلم به من قرائن الكلام كثير في التنزيل وفي كلام العرب الخلص .
مدفوع بعدم مساعدة السياق ودلالة القرائن عليه بوجه كما تقدم بيانه ، وليس إذا جاز تقدير القول في محل لتبادر معناه من الكلام جاز ذلك في أي مقام أريد ، وأي سياق أم أية قرينة تدل على ذلك في المقام ؟
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج8 ، ص 123-134 .
الأعراف معبر مهم إلى الجنّة :
عقيب الآيات السابقة التي بيّنت جانبا من قصّة أهل الجنّة وأهل النّار ، تحدث في هذه الآيات حول «الأعراف» التي هي منطقة في الحد الفاصل بين الجنّة والنّار مع خصوصياتها .
وفي البداية يشير إلى الحجاب الذي أقيم بين أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ يقول : {وَبَيْنَهُما حِجابٌ} .
ويستفاد من الآيات اللاحقة أنّ الحجاب المذكور هو «الأعراف» وهو مكان مرتفع بين الفريقين يمنع من رؤية كل فريق الفريق الآخر ، ولكن وجود مثل هذا الحجاب لا يمنع من أن يسمع كل منهما صوت الآخر ونداءه ، كما مرّ في الآيات السابقة .
فلطالما رأينا جيرة يتحادثون من وراء الجدار ، ويستجلي أحدهما حال الآخر دون أن يراه ، على أنّ الذين يقفون على الأعراف ، أي على الأقسام المرتفعة من هذا المكان المرتفع ، يرون كلا الفريقين (تأملوا جيدا) .
ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم ، مثل الآية (55) من سورة الصافات ، أن أهل الجنّة ربّما تطّلعوا من أماكنهم وشاهدوا أهل النّار ، ولكن مثل هذه الموارد الاستثنائية لا تنافي ما عليه وضع الجنّة والنّار أساسا ، وأنّ ما قلناه آنفا يعكس ويصور الكيفية لهذين المكانين ، وإن كان لهذا القانون ـ أيضا ـ بعض الاستثناءات ، فيمكن أن يشاهد بعض أهل الجنّة أهل النّار في شرائط خاصّة .
إنّ ما يجب أن نذكر به مؤكدين قبل الخوض في بيان كيفية الأعراف هو أن التعابير الواردة حول القيامة والحياة الأخرى لا تستطيع ـ بحال ـ أن تكشف القناع عن جميع خصوصيات تلكم الحياة ، بل للتعابير ـ أحيانا ـ صفة التشبيه والتمثيل .
وأحيانا تكشف بعض تلك التعابير عن مجرّد شبح في هذا المجال ، لأنّ الحياة في ذلك العالم تكون في آفاق أعلى ، وهي أوسع بمراتب كثيرة من الحياة في هذا العالم ، تماما مثل سعة الحياة الدنيا هذه بالقياس إلى عالم الرحم والجنين .
وعلى هذا فلا عجب إذا كانت الألفاظ والمفاهيم المتداولة في هذا العالم لا تستطيع أن تعكس بصورة كاملة ومعبّرة تلك المفاهيم .
ثمّ إنّ القرآن الكريم يقول : {وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ} يرون كلّا من أهل الجنّة وأهل النّار ويعرفونهم بملامح وجوههم .
و «الأعراف» في اللغة جمع «عرف» بمعنى المحل والموضع المرتفع ، ولهذا يطلق على شعر ناصية الفرس ، والريش الموجود على عنق الديك لفظ العرف ، فيقال «عرف الفرس» أو «عرف الديك» ، ومن هذا المنطلق يطلق على المكان المرتفع من البدن لفظ العرف أيضا (وسوف نتحدث بتفصيل حول خصوصيات منطقة الأعراف التي جاء ذكرها في هذه الآية بعد الفراغ من تفسير الآيات) .
ثمّ يقول : أنّ هؤلاء الرجال ينادون أهل الجنّة ويسلّمون عليهم ، ولكنّهم لا يدخلون الجنّة وإن كانوا يرغبون في ذلك {وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.
ولكن عند ما ينظرون إلى الطرف الآخر ويشاهدون أهل النّار يصطلون فيها ، يتضرعون إلى الله طالبين أن لا يجعلهم مع الظالمين {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (2) .
والجدير بالذكر أنّه استخدم في رؤية أهل النّار في الآية لفظة {وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ} يعني عند ما تعطف أبصارهم نحو جهنم لمشاهدة أهلها ، وهذه أشارة إلى أنّهم يكرهون مشاهدة أهل النّار ، وكأنّ نظرهم إليهم مقرون بالإكراه والإجبار .
وفي الآية اللاحقة يضيف : إنّ أصحاب الأعراف ينادون فريقا من الجهنميين الذين يعرفونهم بملامح وجوههم ويلومونهم قائلين : أمّا ترون أنّ جمعكم للأموال والأفراد والتجبّر والتكبّر عن قبول الحق لم ينفعكم شيئا ، فأين تلك الأموال وأولئك الأعوان ؟ وماذا حصدتم من تلك المواقف والصفات السيّئة ؟!
{وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} .
ومرّة أخرى يقولون موبخين ومعاتبين ، وهم يشيرون إلى جمع من ضعفاء المؤمنين المستقرين فوق الأعراف : {أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ} .
وفي المآل تشمل الرحمة الإلهية هذه الطائفة من ضعفاء المؤمنين ، ويقال لهم {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} .
من كل ما قلنا اتضح أنّ المراد من ضعفاء المؤمنين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ولكنّهم بسبب تورطهم في بعض الذنوب كانوا موضع ازدراء من قبل أعداء الحق في الدنيا ، وكانوا يركزون على هؤلاء ويقولون : كيف يمكن لمثل هؤلاء أن تشملهم الرحمة الإلهية ؟ وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يسعدوا ؟ ولكن روح الإيمان والحسنات التي كانت عندهم فعلت فعلتها ـ في المآل ـ وفي ظلّ اللطف الرّباني والرحمة الإلهية ، فسعدوا ودخلوا الجنّة .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 379-381 .
2. «تلقاء» في الأصل ـ حسب قول بعض المفسّرين وأهل الأدب ـ مصدر ، وهو بمعنى المقابلة ، ولكن استعمل فيما بعد في معنى ظرف المكان ، أي في المكان المقابل والمحاذي .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|