أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-7-2017
772
التاريخ: 13-3-2018
1498
التاريخ: 23-5-2018
1237
التاريخ: 31-7-2017
997
|
عظمة بغداد
وبغداد هذه مدينةٌ خطَّها المنصورُ مدورة، وجعَل لها أربعة أبواب، سمَّاها بأسماء المدن التي تتجه نحوها، وهي أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وحفَر حولها خندقًا، وبنى على كل باب قُبة عالية تسمح بدخول الفارس وهو شاهر رمحه، وسوَّرَها بثلاثة أسوار، وبنى في الوسط قصرًا ذهبيٍّا يُعرف بقصر الذهب.
وبنى على مقربةٍ من هذا القصر المسجدَ الجامعَ، وقصورَ الأمراء والأشراف، ودواوينَ الحكومة، وكانت ضواحي المدينة مليئة بالحدائق والمتنزهات، والأسوار العامرة، والحمامات الجميلة، والجوامع الفخمة على جانبي النهر، وقد بلغ سُكَّانها في أوْج عظمتها نحو مليونين، وتخترق المدينةَ على جوانب النهر شوارعُ فسيحةٌ تبلغ أحيانًا أربعين ذراعًا، وقد قُسِّمَتْ إلى مربعات، ويقوم على حراستها ليلَ نهار حُرَّاس يقفون في الأبراج المشيدة، والماء يصل إلى الدُّور في جداول، وتُكنس الشوارع، وتُنظف على نظام مُعَيَّن، فكان يعلو قصرَ الذهب قبةٌ خضراء، ويبلغ ارتفاعها ثمانين ذراعًا، وعلى القبة تمثالُ فارسٍ، وبيده رمح طويل، ويُعدُّ هذا القصرُ بزينته رمزَ العباسيِّين.
وكانت بغدادُ مدينة زاخرة بكل العلوم والفنون، بناها المنصور، وما لبِثَت أن ازدهرت واحتوت على كل أسباب الترف والنعيم، وبعد مدة قصيرة من بنائها، كانت عروسَ الأقطار الإسلامية والأوروبية، فلم يكُنْ على وجه الأرض أزهر منها، وليست تقاس عاصمة البيزنطيين، ولا عاصمة شارلمان بها في الصناعة أو في العلم، ولم تساوها الشام ولا فارس في عهد الدولتين الرومانية والفارسية، ويحدثنا مؤرخو بغداد بعظمة هذه الحضارة، حتى إذا قرأناها فكأنما نقرأ وصْفًا للحضارة العصرية.
وكثرت الرحلات منها إلى البلاد الأخرى: كالبلقان، والصين، وسيبيريا؛ يدعوهم إلى هذه الرحلات حب التجارة، والتبشير بالإسلام، وكانوا إذا وصلوا إليها احتقروها بالنسبة لمدينتهم مستسهلين الصعاب والمخاطرة بالنفس، فإذا قورنت هذه المدنيات بمدنية المسلمين — وخاصة في بغداد — سادت المدنية الإسلامية، وكانت هي موضعَ التقليد للغربيين حتى إنهم كانوا يستمدون في تشريعهم من التشريع الإسلامي، وكان العالم الأوروبي وقتئذ في جهل كبير.
ويقول الخطيب البغدادي: إنه أحصى السميريات — وهي نوْع من القوارب بدجلة — فكانت ثلاثين ألْفًا، تُدِرُّ على مَلَّاحيها في كل يوم تسعين ألف درهم، وكان عدد الحمامات ستين ألف حمام، وبإزاء كل حمام خمسة مساجد.
وكانت بغداد تنقسم إلى مَحَلَّات، كل مَحَلَّة بقعة من الأرض بها مبان وقصور وشوارع ومساجد وأسواق وجوامع، وكل مَحَلَّة عليها باب كبير يقف عليه الحراس يمنعون دخول المَحَلَّة ليلًا إلا بإذن، كما كان هناك أسواق متعددة … فَسوق القطن، وسوق السلاح، وسوق الثلاثاء، إلى آخره … كما أقيمت فيها القصور الضخمة العالية، ويتبعها بيوت صغيرة للحاشية، وكل قصر فيه بستان، وقد يكون فيه مسجد لأهله … واشتهر في بغداد أسماء قصور كثيرة، منها قصر الخلد، وقصر زبيدة، وقصر التاج، وقصور البرامكة، وقصر الخصيب، وقصر المهدي.
بساتين بغداد
كما انتشرت فيها البساتين … استجلبوا أشجارها من كل الأقطار، واختاروا منها ما يصلح لجو بغداد، وعرفوا موسم كل نبت وكل شجرة، وانتشرت بينهم الزهور، وأعُجبوا بها أَيَّما إعجاب، وكان بعضهم يهيم بالورد، وبعضهم يهيم بالنرجس، حتى كان بعضهم يغلق دكانه في موسم الورد، وبعضهم يهيم بالورد الأبيض الخالص أو الأحمر الخالص فتعددت أنواع الورد، وكثر عُشاقه، وبعضهم يميل إلى الورد الملون نصفه أحمر ونصفه أصفر، وسمَّوه الورد الموجه.
وكانت في بغداد حدائق للورد خاصة، وحدائق خاصة للأزهار الأخرى، وعُرفت لديهم لغات الورد، فلكل نوع منه لغةٌ خاصة للعشيق أو العشيقة، كما اشتهرت بغداد في تلك الأيام برِقة أهلها وظُرْفهم، كما تشتهر باريس في فرنسا اليوم، وأصبح للظرف عندهم قوانين، وأصيب أهل بغداد بالغرور والإدلال ببلدتهم، حتى قالوا: فلان تبغْدَدَ أي تلطَّف وترقَّق، وشاعت هذه الكلمة إلى عصرنا هذا، قال المقدسي: (ولا أحسن حسانًا من أهل بغداد)، وقال أيضًا: (هي مِصر ٌللإسلام)، ولهم خصائص من ظرافة وقرائح ولطافة … هواء رقيق، وعِلم دقيق، وكل صَيْد بها، وكل حسن فيها، وكل حاذق منها، وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وقال غيره في وصف أهلها: ندماء ظرفاء نِظاف يتناشدون الأشعار، ويتجاذبون أهداب الآداب، ويقولون على من ليس بغداديٍّا إذا كان ظريفًا: (فلان ليس من الرقعة، ويتظرف بظرفهم).
وجاء في وصف عريب — المغنية البغدادية — قول بعضهم فيها: " وكانت عريب مغنيةً محسنةً، وشاعرةً صالحةً للشِّعر، وكانت مليحة الحفظ والمذهب في الكلام والظرف، وحُسن الصورة، والرواية للشعر والأدب، والملاحة والمُماجنة مما لم يتعلق به أحد من نظرائها، ولا رُئِي في النساء نظير لها)، وهذا وصف يكاد يكون المَثَلَ الأعلى للبغداديات، وكان يكثر فيهم لثغة الراء بالغين كلثغة الباريسيِّين اليوم، وصارت لثغتهم لغةً مِن بعدهم، ويعدون هذه اللثغة علامة الرقة.
وقال الجاحظ في وصف البغداديين: (إنهم يستملحون الثغاء إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة)، وقد رُوِيت لهم الأمثال الكثيرة الظريفة، يقولون: فلان كبش من كبش، مجلس بلا ريحان، كشجرة بلا أغصان، مواعيد الفتيان الآل في الفيافي، كلام يكتب بالغالية على خدود الغانية، من كلام النساء ما يقوم مقام الماء … إلخ.
الغزل والزينة
ونَشَر بشار فيما بينهم الغزل المتهتك، ونَشَر أبو نواس الغزل بالمذكر، وقيدوا قوانين الظرف بوصفهم الظريف بأنه: لا يتدخل في حديثٍ بين اثنين، ولا يتكلم فيما لا يفهمه، ولا يتثاءب، ولا يستنثر، ولا يتجشأ، ولا يتمطى في المجالس، ولا يمد رجليه، ولا يمس أنفه، ولا يسرع في المشي، ولا يجلس إلا حيث يجلس أمثاله، ولا يأكل مما يُتَّخَذُ في الأسواق، ولا يأخذ شَعره في دكان حلاق، ولا يماكس في الشراء، ولا يشارط صانعًا، ولا يصاحب وضيعًا، وأن يكون طيب الرائحة نظيف البدن، ولا يطول له ظفر، ولا يسيل له أنف. ومن أثر بغداد ما وُصف به ابن جرير الطبري فقيل: كان إذا جلس لا يكاد يُسمع له تنخيم أو تبصق، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله، ومسح جانب فيه، ومن قولهم:
لا خير فـي حشو الكلا *** م اذا اهتديت الى عيونه
والصمت اجمل بالفتى *** من منطق في غير حينه
ويساوي ابن بغداد ما يسمي عندنا اليوم بابن البلد، وهم يكثرون من التزين: زينة الشَّعر، وقد تفننوا فيه، وكان للجواري تفنُّنٌ في شَعرهن: فمنهن من يجعلنه فوق رأسهن كالتاج، ومنهن من يجعلنه كالعناقيد، ومنهن من تسدل شعرها على أذنها، وتقطع ما بينها وبين وجنتيها، ومنهن من يستعمل الطرة الهلالية: وهي أن يُسدل جميعُ الشعر فوق الجبهة ثم يُقطع منه مثال نصف دائرة فتكون كأنها الهلال.
واستكثَروا من الدهن للشَّعر، قال الجاحظ في أيامه: (ذهبت الفتيان، فما ترى يفرق الشعر بالدهن) وغلف النساء شعورهن بعد غسلها بالمسك، والعنبر، واستعملن الحناء والخضاب، وكتبن على الأكف والأيدي بالحناء، قال الماوردي: قرأت على راحة قائد جارية لبعض جواري المأمون على اليمنى بالحناء:
فديتك قد جبلت على هواكا *** فقلبي ما ينازعني سواكا
وعلى اليسرى:
احبك لا ببعضي بل بكلي *** وان لم يبقى حبك من جواكا
وكَتَبَتْ سَيِّدَة على كَفِّ جاريتها بالحناء:
ابـــي الحب الا أكـون معذبا *** ونيرانـــه في الصــدر الا تلهبــــا
فواكبدا حتى مات انا واقف *** بباب الهوى القى الهوان وانصبا
واستكثروا من التعطر والطيب … فاستعملوا المسك الممزوج بماء الورد المحلول، والعود المعنبر بالقرنفل، والعنبر البحراني … إلخ، كما استعملوا بخار العود، وخشب الصندل، وكذا البخور المندلي، وهو خليط من العود والمسك واللبان، واشترطوا لجودته أن يكون فحْمه الذي يُحرق فحمًا خشبيٍّا من شجر الغضا؛ لأنه عديم الدخان، والمتأنقون منهم يستعملون فحمًا يسمى فحم بختيشوع الطبيب؛ وهو الذي اخترع تركيبه.
كثرة الدعابة
وكَثُرَت فيهم الدعابة، ورُويَ لهم فيها الشيء الكثير في أخبار الجاحظ وغيره، وكان في بغداد كثير من المضحكين، وحفاظ النوادر كأبي العبر، وابن المغازي، من ذلك ما حُكي أن ابن المغازي هذا وقف على باب دار الخلافة يومًا يُضحك الناس ويتنادر، وأخذ يومًا في نوادر الخدم حتى ضحك الخادم، ودخل على الخليفة وهو يضحك، فأنكر الخليفة ذلك وقال: ( ويلك ما بك) فقال: (على الباب رجل يتكلم بحكايات ونوادر مضحكة) فأمر الخادمَ بإحضاره، فاشترط الخادم أن يكون له نصف الجائزة، فقال الخليفة: (بلَغني أنك مليح الفكاهة وعندك نوادر مُجونية مضحكة)، فقال: (يا أمير المؤمنين الحاجة تفتق الحيلة)، قال الخليفة: (هات ما عندك! فإنْ أَضْحَكْتَنِي أعطيتُك ألفَيْ درهم، وإن لم تضحكْني فما لي عليك؟ قال: (افعل بي ما أردتَ)، قال الخليفة: (أنصفْتَ، أصفعك بهذا الجراب خمس صفعات) وكان هذا الجراب من أديم لين، فظن المضحك أنه منفوخ وليس فيه إلا هواء.
فقال: (قَبِلْتُ ) ثم أَخَذَ في النوادر والحكايات، فما ترك حكاية إلا أتى بها، ولم يَتْرُكْ حكاية لعربي ولا نحوي ولا نبطي ولا زنجي ولا شاطر إلا قصها، والخدم يكادون يهلكون من الضحك، والخليفة مقطب لا يبتسم فقال المضحك: (قد نفد ما عندي)، قال: (أهذا كل ما عندك؟) قال: (نعم … بقيت نادرة واحدة، وهي أن تجعل الصفعات عشْرًا بدلًا من خمس) فأراد الخليفة أن يضحك فأمسك، فمد المضحك قفاه فصُفع صفعةً كادت أن تقطع أنفاسه؛ إذ كان الجراب مملوءًا بالحصى، فصاح المضحك: ( يا سيدي نصيحة) قال الخليفة: ما هي؟ )( ليس أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، إن لي شريكًا في الجائزة قد ضمنت له نصفها، أرغب أن يحضره أمير المؤمنين).
قال: من هو شريكك: قال: الخادم الذي احضرني وقد اخذت حقي فأعطوه حقه)... فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|